الحوار المتمدن - موبايل - خليل الجنابي
الموقع الرئيسي
للمزيد - الموقع الرئيسي للكاتب-ة

المهنة – طبيب أسنان أخصائي ( تقويم أسنان )  - متقاعد -
الحالة الإجتماعية – متزوج ولديَّ ولي عهد واحد – والله الواحد , وإليكم أصل الحكاية من ( طأ طأ الى السلام عليكم ) .
ولدت في بغداد عام 1940 م , ولكن لجدتي رحمها الله القول الفصل في ذلك , فتقول : بأني ولدت في الأسبوع الأول من مقتل الملك ( غازي ) رحمه الله في حادث سيارة , لأنه كان يحب ( عمامنا الألمان ويكره خوالنا الإنكليز ) , ولا أدري إذا كنت محظوظاً أو منحوساً , لأن تأريخ ميلادي تزامن مع تأريخ قتل الملوك والأٌمراء , ومن هذا المنطلق تصورت نفسي بأنه لي الحق بألمطالبة بحصتي من ( نفط العراق !! ) , حيث لم أحصل على قطرة واحدة منه لحد الآن , رغم أنه أصبح مُباحاً للقاصي والداني من تجار الحروب والميليشيات المحلية والعصابات الدولية , وأصبح يوم ( 1 تموز ) عيداً لميلادي من كل عام كحال العراقيين من جيلي والأجيال السابقة واللاحقة التي ليست لديها شهادات رسمية تُشير الى يوم مجيئها الى الحياة الدنيا !! .
تعلمت القراءة والكتابة في مدينة الموصل الحدباء , ودرست في مدارسها , وشربت عصير ( حُب الوطن والشعب ) من معاصرها العتيقة , ونشأت في أوساطها العمالية المسحوقة , وقرأت على شموعها وفوانيسها  ولالاتها , ألف باء ( وطنُ حرُ وشعبُ سعيد ) , وتعلقت بألوطن منذُ ذلك الحين , وقدمت كما قدم الآلاف غيري نصيبهم من الإعتقال والسجن والفصل .
وصبيحة يوم الإثنين المصادف 14 تموز عام 1958 , خرجت من البيت صباجاً مبكراً للذهاب مع الرفيق الدكتور ( أحمد قاسم النعمان ) الى أخيه البناء لنشتغل عنده ( عمال بِناء ) في ذلك اليوم الأغر الذي لن ننساه ,
فحدثت الثورة العظيمة , فتركنا جميعاً العمل , وساهمنا مع الآلاف المؤلفة من أبناء الموصل الحدباء , إحتفالاً بألثورة ألمجيدة والوقوف الى جانبها ... والذي أود أن أذكره في هذا السياق , أن اُمي رحمها الله الى يوم وفاتها كانت تتهمني  وتقول لمعارفها أن إبني يعرف بألثورة , لأنه ( شعجب إختار ذاك اليوم حتى يروح يشتغل عَمالة  !! ) .
وبعد الثورة الخالدة كانت هجرتي الاولى داخل الوطن , وكانت بغداد الحبيبة مكاني الأول بحثاً عن العمل وأنا في مقتبل العمر , وتقدمت الى العديد من المعاهد والدورات المهنية , ولم يُحالفني الحظ , وفي الأخير عَرفت اُصول اللعبة ( الواسطة ) قاتلها الله , لكنها كانت مجانية في ذلك الوقت , وأفلحت في الدخول الى دورة نواب ضباط مركبي الأسنان الأولى في مستشفى الرشيد العسكري , وهناك بين أوساط الكادحين من جنود وضباط صف الجيش العراقي الباسل , وضعت مع العديد من الرفاق وفي مقدمتهم الشهيد البطل ( نافع عبد الرحمن شخيتم ) الذي سقط برصاص طائرات الإنقلابيين , وضعنا اللبُنات الأولى للتنظيمات الحزبية العسكرية المتواجدة في معسكر الرشيد والمعسكرات الاُخرى في بغداد , وتم إفتتاح مكتبة متواضعة في مستشفى الرشيد العسكري تحتوي على العشرات والمئات من الصحف والمجلات والكتب والقصص الثورية , وكان الهدف منها تنوير أبناء القوات المسلحة , وجعلهم درعاً حصيناً للشعب والوطن .
وفي 8 شباط 1963 , يوم الإنقلاب الفاشي الأسود , إنقلب كل شئ , آلاف من المدنيين والعسكريين إستشهدوا وآلاف اُخرى دخلوا السجون والمعتقلات , وبعدها دخلوا صفوف البطالة الإجبارية , ومنذ ذلك الحين رفع العسكر شعار ( قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق ) , وكان نصيبي من هذه المحرقة سنتين سجن زائد ستة أشهر
( مرحمة !! ) , على أثر قيام الحركة البطولية التي نفذها الشهيد ( حسن سريع ) ورفاقه الشجعان في يوم
3 / 7 / 1963 , وجاءت هذه الزيادة لكل العسكريين من الحاكم العسكري العام ( رشيد مُصلح ) والمعروف ببيانه المشؤوم بيان رقم ( 13 ) , الذي أباح فيه قتل الشيوعيين والوطنيين الآخرين . وبخصوص العسكريين المطرودين من الجيش توزعوا في أرض الله الواسعة , واُعيد الى الخدمة المدنية بعض الضباط الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين , أما الآخرين فقتلهم الجوع والمرض والهَم والحرمان من أبسط مقومات الحياة وحُرموا من كل الحقوق بما فيها الحقوق التقاعدية .
سجن الحلة المركزي ... وهناك في هذا السجن المزدحم كما في السجون الاُخرى التي كانت تملأ العراق شرقاً وغرباً , شمالاً وجنوباً وصولاً الى ( سجن نقرة السلمان ) , تعلمت الصبر , وأكلت الحنظل , وتباركت بطيبة أهل مدينة الحلة الكرام , وتعاونهم مع السجناء وذويهم وأهاليهم حين الزيارات وتسهيل أمر مجيئهم وسفرهم الى أطراف المدن والقرى البعيدة , إنها مواقف نبيلة فيها من الشهامة والكرم ما يعجز اللسان عن وصفها , إنها طيبة العراقي الحقيقية سواء كان في الجنوب أو الوسط وحتى ذُرى كردستان الحبيبة مروراً بكل المدن العريقة الاُخرى , ودوماً كنا  نسمع عزف ( الناي ) من راعي الشمال , ليجيبه على ( الربابة ) راعي الجنوب , والجميع ينشد بفرح وسرور اُغنية ( هربجي هربجي كُرد وعرب رمز النضال ) .
وفي سجن الحلة أيضاً تعلمنا صناعة ( الشنط والجزادين والأحزمة ) وهي طبعاً تختلف عن ( الأحزمة الناسفة ) , وكذلك القلائد والأساور وغيرها , وإدخال الألوان الزاهية من ( النمنم ) في تشكيلاتها الجميلة , وكنا نهديها الى من نُحب , اُم أو اُخت أو زوجة أو خطيبة أو قريبة , وكثيراً ما كنا نكتب الأسماء أو الأحرف الأولى منها والتأريخ للذكرى , حرفة نسائية عشقناها , وللضرورة أحكام كما يقولون . وفي هذا السجن إلتقيت بأسماء لايمكن نسيانها تقاسمنا السراء والضراء , وكذلك لُقمة العيش , وأصبح أحدنا لايفارق الآخر ليل نهار , إنهم كثيرون , والقائمة طويلة  وسأفرد لها فصلاً خاصاً في كتاباتي اللاحقة . ولا بأس من ذكر بعض الأسماء الحبيبة ,
الرفيق الشهيد حميد شلتاغ , اُختطف من الشارع من قِبل أجهزة المخابرات وإختفى أثره ولم يُعرف لحد الآن    بأي مقبرة جماعية دُفن .
الرفيق الشهيد حليم أحمد البغدادي , صاحب معرض البغدادي للنجارة , شارع السعدون , قُتل بتحريض من قِبل أجهزة المخابرات .
الرفيق الشهيد الدكتور قاسم ناجي حمندي , توفي في حادث إصطدام ودُفن في نيوزيلنده .
الرفيق علي عرمش شوكت لا زال حياً يُرزق .
صوفيا – بلغاريا ... الهجرة القسرية كانت بعد أن ضاقت سُبل العيش , وكأي عاطل عن العمل لا بد من البحث عن مخرج , وكان هذه المرة أن أهجر الأرض والأهل والأحباب , وأن أهجر مضطراً أعز شيء , الوطن , النخل , ماء الفراتين , منارة الحدباء , التي طالما تطلعت في إنحنائها وهي الاُخرى تُصارع الزمن القاسي بكل إباء وشموخ , صورة ونفق طويل لا يمكن أن ترى فيه ما هو ( المستخبي ) , وهكذا تم الرحيل وفي قلبي لوعة , وفي عيني دمعة وفي صدري يعتصر الألم , لأن الوطن أخذ مُكراهاً يدفع أبنائه خارج الحدود , الى المجهول , والتسكع بقارعة الطريق !! .
سافرت إلى بلغاريا يوم 7 / 9 / 1970 , وفي يوم 9 / 9 / 1970 , ساهمت مع الشعب البلغاري الصديق إحتفالاته الكبرى في ذكرى إنتصار ثورته الأشتراكية المجيدة , وكانت مناسبة عزيزة حيث وضعت باقة زهور على ضريح ( جورجي ديمتروف ) القائد العمالي الذي قاد الشعب البلغاري الى الإنتصار , والذي فضح النازية والهتلرية إبان محاكمته المشهورة ( محاكمة ديمتروف ) , وقرأت له كراساً خاصاً عن سير المحاكمة عام 1957 , فألدفاع عن الوطن شيء مقدس عند الثوريين , لذا فإن الأسترشاد بتعاليمهم وحبها كان من أسباب إختياري بلد ( ديمتروف ) , فإلى جانب تحصيلي العلمي على ( طب الأسنان ) , وكذلك الإختصاص في ( تقويم الأسنان ) , إلا أنني تعلمت معنى الاُممية , وكيف أن الأصدقاء البلغار شأنهم شأن باقي الأصدقاء في المعسكر الإشتراكي وفي طليعته الأتحاد السوفيتي آنذاك , وكيف كانوا يقدمون المساعدة السخية لشعوب العالم الثالث , ومساعدة طلابهم للحصول على شهادات الطب والهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والزراعة ومختلف العلوم الأجتماعية والإقتصادية وفي الرسم والنحت والزخرفة , وكثير من الدراسات المهنية , وأن يعودوا إلى أوطانهم للنهوض بها , وبألنسبة للعراقيين رفعت جمعيات الطلبة في الخارج شعار ( التفوق العلمي والعودة للوطن ) , وعاد المئات الى أحضان الوطن , ولكن للأسف لم يُرَحب بهم , ولاقوا الأمرين وهم يبحثون عن العمل , إختصاصات نادرة وشهادات عالية بما فيها حَملة ( الدكتوراة ) , والذي جرى لهم يصفه أحد العائدين فيقول : أول ما وطأت قدماي أرض بلادي , سجدت وقبَّلت التراب , ودخلت كأني دخلت الجنة  ... ومضت الأيام والأسابيع والشهور , وثلاث سنين عجاف بين دوائر الدولة المحترمة لغرض التعيين , لكن دون جدوى , وكنت أشحذ مصروفي اليومي من اُخوتي وأقربائي وأصدقائي , ولم أستطع الصمود أكثر , فقررت العودة من حيث أتيت , وشهادة ( الدكتوراة ) التي معي ( لفيت بها سندويشات الفلافل ) , وأكلتها علّها تغنيني من جوع .
وعند محاولتي السفر , قالوا لي يجب الحصول على موافقة الجهات المختصة لأنني من الكوادر العلمية , وبحثت في كل مكان من دوائر الدولة لإجد حلاً لمشكلتي , ولم أجدها إلا عند سائق تاكسي عرّفتني به الأقدار عن طريق الصدفة , وبعد أن تفهم مشكلتي , قال لي جهز نفسك للسفر بعد ثلاثة أيام , وفي البداية لم أكن مُصدقاً الأمر , لكنني في الموعد المحدد وجدت نفسي وسط مجموعة من المسافرين الى الأردن , وفي الحافلة كنت قريباً منه وأنا أتوجس الحذر , وعند وصولنا الى نقطة الحدود العراقية الأردنية الأخيرة , أخذ السائق جوازات سفرنا جميعاً ,لكن دقات قلبي لم تهدأ , وتصبب العرق من جسمي غزيراً , وبد مرور ساعتين من الوقت , عاد السائق ووزع جوازات السفر على أصحابها مختومة , وأعطاني جواز سفري وفيه ختم الخروج أيضاً , فتنفست الصعداء , وحمدت الله على ذلك . وفي الطريق حاولت أن أفهم منه بعض الشيء , ولماذا لم يأتِ أحد إلى سيارتنا للتفتبش !؟ . فقال لي مبتسماً ( كلشي بحسابه ! ) , الشخص المسؤول هنا له هوايَّة
( البيع والشراء ) , فيرسل الى الأردن أشياء من العراق لبيعها , ومن الأردن يجلب أشياء اخرى ماشي سوكها بالعراق ليبيعها , وأنا أقوم له بألواجب , وهو أيضاً يساعدني بتمشية اُمور المسافرين بدون مشاكل وبألسرعة الممكنة , وآخرين الذين لا يعرفون هذا الطريق ينامون ليالي جميلة على الحدود !! .
وصلنا الأردن وأنا في غاية الفرح والسرور , عانقت الرجل وشكرته على معروفه الذي لم ولن أنساه , وقبلته من ( صلعته ) التي توحي على الطيبة والشهامة , وحاولت أن أعطيه بعض النقود , لكنه رفض , وقال لي لا شكر على واجب , وآني بألخدمة لمثلك وأمثالك , ودس في جيبي مبلغ خمسون دولاراً , وودعني راجياً لي النجاح والموفقية . هذه فقط للتذكير , وللذين يعتبون على الذين لم يعودوا إلى أرض الوطن من أصحاب الكفاءات , لأن الوطن في الزمن ( النحس ) لفظ أبناءه , ولا زالوا يحنون إليه ويبكونه دماً  .
المحطات كانت عديدة , فمنها للدراسة , ومنها للعمل والهجرة , وكانت على التوالي , بلغاريا , الكويت , الإمارات العربية المتحدة , اليمن الديمقراطية الشعبية , الجزائر , تونس , ليبيا , وأخيراً وليس آخراً نيوزيلنده , ومنذ عام 1970 , ولحد الآن أبحث عن الوطن كما يبحث غيري , والجميع بإنتظار أن تشرق الشمس من جديد , وأن يعود الصفاء الى سمائه  ومياهه العذبة , وأن تخرج قوات الإحتلال من أرضه الطاهرة , وأن تعود البسمة الى شِفاه أطفاله ونسائه المفجوعات , وأن تعود بغداد كما كانت , بغداد الحبيبة .


معرف الكاتب-ة: 1731
الكاتب-ة في موقع ويكيبيديا



اخر الافلام

.. في اليوم العالمي للمسرح.. أين حامل -لواء مسرح خيال الظل- في


.. أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي تعترض عددا من الصواريخ تم إطلا




.. -بعيدة المدى-.. الجيش الأميركي يعلن تدمير 4 مسيّرات حوثية فو


.. اتفاق بين بغداد وطهران لاستيراد الغاز لمدة خمس سنوات| #الظهي




.. قصف البناية التي يوجد بها مكتب سكاي نيوز عربية في غزة| #عاجل