الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سليلة الملائكة

هاشم تايه

2007 / 6 / 23
الادب والفن


حين أنهيت سنتي الدراسيّة الأولى في الجامعة، شرعتُ أهيّئ نفسي لإتمام السنوات الثلاث المتبقيات من عمري الدراسيّ في قسم اللغة الإنجليزيّة؛ كانت إنجليزيتي تبدو لي مُرْضية، تؤهلني لدخول هذا القسم وتبرّر وجودي فيه. لكنّ موجة أصدقاء طيبين حملتني بعيداً عنه.. قال لي محرّر تلك الموجة ودافعها، وهو قرين ذكيّ وموهوب: إلى أين أنت ماضٍ ؟! تعال معنا ستدّرسنا نازك الملائكة عروض الشعر !
وكان هذا الإغراء كافياً لركوب الموجة التي أقلّتني إلى قسم اللغة العربيّة بجامعة البصرة.
دخلت علينا نازك الملائكة بسمت الأكاديميّات الجادّات... مظهر تدريسيّة حريصة على الدرس حرصاً دفع بروح الشاعرة المبدعة بعيداً.. شعر ملموم وراء الرأس، ووجه كما براه الله ، إلاّ من أحمر خفيف على الشفتين، وثوب بسيط ، لكنه عصريّ، وحذاء ممسوح من دون كعب ، رفيق بالأرض التي يمشي عليها ، وكأنّه مصنوع خصيصاً لمن تعمل في وسط يتطلّب الهدوء...
أكثرنا لم يكن يعرف عن الملائكة نازك سوى (النهر العاشق) قصيدتها التي كتبتها في فيضان دجلة، وكانت ضمن مفردات منهج كتاب الأدب والنصوص للصف الثالث المتوسّط.
ومنذ اللحظة التي اعتلت فيها منصّة الدرس ، وحتى نهاية العام الدراسي، كافحت الأستاذة نازك الملائكة من أجل أن يستوعب تلامذتها عروض الشعر، هذه المادة التي كانت جديدة، كلّ الجدّة، على معظمنا، فقطّعت عشرات الأبيات في هواء الصفّ، وعلى السّبورة، واستعانت براحة يدها، فأوقعتها بقوّة على سطح طاولتها وأخرجت أصواتاً موقّعة تساوي (مستفعلن ، ومتفاعلن، وفاعلاتن....)، وصدح لسانها بـ (تُمْ َتَمْ تِتُمْ) مُسْتَفْعِلُنْ ! وحين يخلط أحدنا بين هذه وتلك من التفعيلات تصرخ الملائكة: (أُذُني تُوجعني )! لا للتقريع، ولكن من أجل التنبيه على ضرورة الاستعانة بالأذن، وتنمية ملكتها على التقاط الأصوات والتمييز بينها، ومن ثمّ الاعتماد عليها للتوصّل إلى تفعيلات البيت الشعريّ ونسبته إلى بحره الخاصّ بسرعة، بدلاً من الاعتماد على تقطيعه باستخدام القلم والورقة. وخلال عامنا الدّراسي ذاك أوقفتنا الملائكة على بحور شعرنا العريق كلّها مستوفيةً أحوالها، وما يعرض لها من علل، في درس نظري وتطبيقي لم يفتر... ولم يكن بين مئات الأبيات الشعريّة التي استعانت بها في درسها بيت واحد من شعرها، ولم أسمعها في الصفّ تشير من بعيد أو من قريب، إلى شعرها، أو إلى ريادتها كمبدعة، كانت معنية بدرسها تنجزه على أكمل وجه مثل نحلة مثابرة... وكنّا نجد في أوراقنا الامتحانية التي تعيدها إلينا مصححة، ما يلفت أنظارنا إلى أغلاطنا في اللغة، حتّى لو كانت قليلة الشأن في نظرنا، فكنّا نرى دائرة بخط أحمر تحيط بكلمة تنتهي بتاء مربوطة بلا نقطتين، وأحياناً كانت تغضب إذا جمع أحدنا بين (سوف) و(لن) وتقول بنبرة مستنكرة: من الخطأ، كلّ الخطأ الجمع بين (سوف) و (لن). ولم يكن عدم تساهلها مع أخطائنا إلاّ من قبيل الحرص على تكامل عُدّتنا... وإذا كنّا، أحياناً، نجد ما نعتبره ثغرة في علم هذا الأستاذ، أو ذاك، من أساتذتنا، فلم يكن هذا بمتاح لنا مع الأستاذة نازك التي سمعتها، مرّة تقول، إنّها، في أحد أعوامها، حفظت عن ظهر قلب، مواد باب كامل من أحد قواميس اللغة.
وفي الحالات النادرة التي خرجت فيها على درسها، أتذكّر أنها، وصفت مصائف بلادنا بأنها أجمل المصائف التي زارتها في أكثر من بلد. وفي مرّة أخرى تحدّثت عن فيروز والرّحابنة...
كانت روح نازك تنطوي على ترفّع ينسجم مع قوّة شخصيتها، وعمق ثقافتها، وأعتقد، أو لأقُل إنني، إلى الآن أحسبُ أنّ عالماً يودّ أن يقترب من الملائكة لا بدّ أن يتمتّع بقدر كبير من النظافة والاكتمال..
هل يعبّر هذا البيت الذي ورد في إحدى قصائدها عن ذلك:
" حتّى حبُّكَ، حتّى آفاقُكَ تؤذيني " !
وأظنّها كانت تدافع عن كيانها الذي يبدو من الخارج صلداً بقولها في قصيدة أخرى:
" ونفوسٍ تُحسُّ أعمقَ إحساسٍ
وتبدو كأنّها لا تُحسُّ
وشفاهٍ تموتُ ظمأى
ولا تسألُ أين الرّحيقُ ،
أين الكأس... ".
بقيت نازك الملائكة، في التفكير، والرّؤية الفنيّة، والسلوك، أمينة، إلى حدّ بعيد، على الجمع العضويّ بين ما هو عصريّ وما هو خصوصي.
وعلى الرغم من أنّني كبرتُ كثيراً إلاّ أنني، تلميذ نازك الملائكة التي نزلت من سرير الشيخوخة وذهبت إلى النهاية، ما زلت أراها أمّي التي سيوحشني كثيراً رحيلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق