الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادات الأمّة الأمريكية: ليس رحم التاريخ، بل برميل النفط العراقي

صبحي حديدي

2007 / 7 / 7
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يبدأ أحد نهارات عالمنا الراهن بخطبة للرئيس الأمريكي جورج بوش، في يوم الإستقلال وأمام عائلات الحرس الوطني تحديداً، تقول ببساطة بذيئة إنّ معركة الولايات المتحدة في العراق هي "حرب ثورية" أوّلاً، وهي أيضاً استمرار لـ"المعارك الخالدة التي صنعت ولادة الأمّة"... الأمّة الأمريكية بالطبع، وليس العراقية! وإذا كان قد أعاد العزف المكرور إياه، حول مخاطر الانسحاب من العراق قبل إتمام المهمّة (التي كنّا نظنّ أنه أعلن إتمامها، بل زفّ بشرى الإنتصار، منذ 1/5/2003 حين هبط بطائرة مقاتلة على ظهر الحاملة أبراهام لنكولن)، فإنه عاد مجدداً إلى الأسطوانة المملّة المشروخة: أنّ المنتصر لن يكون أمريكا هذه المرّة، بل الإرهاب الذي لن يلقي السلاح، وسيطارد الأمريكي الطيب إلى عقر داره.
وفي العراق ذاته، وبمعزل عن المجازر اليومية التي ترتكبها جيوش الاحتلال وعصابات الإرهاب الأعمى والقوى المذهبية والطائفية السوداء، ومهازل االسياسة الرخيصة والاستقطابات المذهبية والتحالفات الطيّارة الرخيصة، وسير البلاد الحثيث نحو التفكك الوطني، ثمة مؤشّر واحد على الأقلّ يمثّل انتصاراً أمريكياً من نوع ما: قانون النفط والغاز الجديد، الذي أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي إقراره وإحالته إلى مجلس النوّاب (رغم المعارضة المعلنة للكتلة الصدرية والنوّاب السنّة)، معتبراً أنه "أخطر وأهمّ قانون يتعلق بمصلحة العراق الحاضر والمستقبل". ويكفي أن يتذكّر المرء حقيقة أنّ احتياط النفط العراقي يتراوح بين 115 و215 مليار برميل، وإنتاجه يمكن أن يبلغ ستة مليارات برميل يومياً بعائدات سنوية لا تقلّ عن 130 مليار، لكي ينظر بعين الريبة الشديدة إلى قانون يسقط عن الحكومة العراقية الحقّ في احتكار التنقيب عن النفط، ويمنحه إلى شركات أجنبية، بعض عقودها يمتدّ على عشرات السنين؛ كما يترك الباب موارباً، أو مفتوحاً في حالات عديدة، أمام خيار ما يُسمّى بـ "اتفاقيات تقاسم الإنتاج".
وفي جانب آخر لا يقلّ خطورة، سوف يسفر إقرار القانون الجديد عن إبطال جميع الاتفاقيات السابقة التي وقّعها العراق، في عهد صدّام حسين أو العهود السابقة، مع شركات فرنسية أو روسية أو صينية، ولن تحظى للشركات الأمريكية بحصّة الأسد في التنقيب والاستثمار فحسب، بل سوف تستاثر أو تحتطر تماماً جميع ميادين صناعة النفط العراقية. ومنذ الآن، وحتى قبل مناقشة القانون أو إقراره، تسابق المسؤولون العراقيون في تأكيد هذا الامتياز، وكأنه مفخرة وليس تفريطاً، فأعلن وزير النفط أنّ 65 من الـ 80 بئراً تحت التطوير سوف يُعهد بها إلى شركات أمريكية.
ألهذا وجدنا سيّد البيت الأبيض يطوي مؤقتاً استياءه الشديد من المالكي، فيسارع إلى مهاتفته وتهنئته على تمرير قانون النفط والغاز، رغم أنّ إقراره في البرلمان لا يبدو البتة مؤكداً في ظلّ الانقسامات والانسحابات والاعتراضات؟ أليس هذا ثمناً معقولاً، من وجهة نظر البيت الأبيض، لما يُقارب 700 ألف ضحيّة من أبناء الشعب العراقي، و4000 من جنود الاحتلال، وتخريب البلد ووضعه كلّ يوم أدنى فأدنى من حافة الحرب الأهلية؟ وهل يكون هذا المعنى بالضبط هو الذي دار في خلد بوش حين ألمح إلى أنّ العراق يواصل معارك روّاد استقلال أمريكا، من أجل استمرار ولادة الأمّة... في برميل النفط قبل، وربما دون الحاجة إلى، رحم التاريخ؟
ولا تكتمل جائرة هذا النهار الأمريكي ـ العراقي إلا مع الخبر الذي يقول إنّ مجلس الأمن الدولي، بقرار رعته الولايات المتحدة وبريطانيا، أعلن حلّ أعمال هيئة المراقبة والتفتيش والتحقق من أسلحة الدمار الشامل في العراق (يونموفيك)، لأنّ " كافة الاجراءات المناسبة قد تم اتباعها في هذا الصدد"، كما جاء في رسالة إلى المجلس بتوقيع وزيرتا الخارجية الامريكية والبريطانية، كوندوليزا رايس ومارغريت بيكيت. والحال أنّ المرء ينبغي أن تصيبه الدهشة، للوهلة الأولى، لأنّ هذه الهيئة كانت تعمل طيلة السنوات الأربع التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق: ماذا كانت تفعل؟ أين كانت تشتغل؟ بأمرة مَن، وجيوش الاحتلال الأنغلو ـ أمريكية هي الآمرة الناهية؟ وما مبرّر بقائها، خصوصاً بعد لجنة التفتيش الأمريكية الخاصة التي قادها دافيد كاي، ثمّ شارلز دولفر من بعده، وأعلنت فشلها الذريع منذ مطلع 2004؟
وامّا في الوهلة الثانية فإن الدهشة ينبغي أن تخلي مكانها لسلسلة الحقائق المروّعة حول أنساق نهب العراق وطرائق استنزاف أمواله أو سرقتها أو هدرها أو تبذيرها، حيث تأتي أسئلة عائدات النفط العراقي في الطليعة: ما قيمتها، فعلياً؟ مَن يتحكّم بها؟ أين تذهب، وكيف تُصرف؟ متى، وهل، ستوضع في خدمة العراقيين؟ المعلومات الرسمية بعد سنة الاحتلال الأولى تقول إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز العراقيين، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من "برنامج النفط مقابل الغذاء"، ذهبت إلى صندوق تنمية العراق الذي تمّ إنشاؤه قبل أكثر من عام بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483. والقرار ذاك نصّ على وضع الصندوق في عهدة الاحتلال، بغرض "استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي". كذلك توجّب أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال وقانونية العقود التي تبرمها سلطات الاحتلال مع مختلف المتعاقدين.
ما يجهله الكثيرون، ولكن يعرفه أهل السلطة في العراق معرفة كافية وافية، هو أنّ هيئة المحاسبة لم تتمكن أبداً من أداء عملها كما ينبغي (وعلى سبيل المثال فقط، لم تفلح مرّة واحدة في تدقيق عقود الاحتلال مع الشركة العملاقة هاليبرتن، ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني)، وجابهت في المقابل عشرات العراقيل البيروقراطية. ومنظمة "مراقبة مداخيل العراق"، التابعة لـ "معهد المجتمع المفتوح"، ذهبت أبعد في توجيه أصابع الاتهام، واعتبرت أنّ أفراد هيئة المحاسبة تلك مُنعوا حتى من دخول "المنطقة الخضراء"، وذلك حين حُجبت عنهم التراخيص الأمنية لدخول تلك المنطقة والقيام بعملهم في الحدّ الأدنى! والآن، مع الرحيل التدريجي لمعظم عناصر الجهاز المدني للاحتلال، بات من المحال عملياً تنفيذ أيّ نوع من أنواع المحاسبة على أوجه صرف مئات مليارات الدولارات من أموال الشعب العراقي.
في المقابل، ونحن ما نزال في إحصائيات سنة الاحتلال الأولى، لم تنفق السلطات الأمريكية سوى 500 مليون دولار من مبلغ الـ 18.7 مليار التي وضعها الكونغرس في تصرّف البيت الأبيض بهدف إنفاقها في العراق، حسب معلومات صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية. صحيفة "نيويورك تايمز" كانت خفّضت المبلغ إلى 400 مليون، وأوضحت أنّ معظم الصرف ذهب لصالح متعاقدين أمريكيين وشركات أمريكية، وهذه لم تشغّل أكثر من 15 ألف عامل عراقي (حصّة وزارة الثقافة العراقية من عائدات النفط تلك كانت 20 ألف دولار فقط!)...
ومن الضروري، أخلاقياً ثمّ سياسياً وحقوقياً، التذكير مجدداً بما كشفه محمد القيسي، في الجزء الثالث من دراسته الممتازة "المخططات الأمريكية لاستنزاف ثروات العراق وسرقة أمواله: أرقام وحقائق"، وهو الجزء الذي يفصّل القول في طرائق النهب المباشر عن طريق الإستيلاء أو وضع اليد، والتي تبلغ شأو السطو الصريح، ولا يمكن أن تندرج في الخانة المألوفة للفساد المألوف فقط. هنا ثلاثة أمثلة:
ـ تمّ وضع اليد، بقرار مباشر صدر عن البيت الأبيض سنة 2003 أثناء العمليات العسكرية لغزو العراق، على الأموال العراقية المودعة هنا وهناك في مصارف العالم، والتي تقدّر بأكثر من 13 مليار دولار، أضيفت إليها أموال العراق في الولايات المتحدة، البالغة أكثر من ثلاثة مليارات.
ـ بمصادقة من مجلس الأمن الدولي، استولت سلطات الاحتلال الأمريكية على الرصيد المتراكم من أموال برنامج "النفط مقابل الغذاء"، والتي كانت في حساب العراق حتى آذار (مارس) 2003، بقيمة 21 مليار دولار.
ـ جمعت سلطات الاحتلال سيولات مالية متفرقة، عُثر عليها في القصور الرئاسية والمقرّات الخاصة، لا تقلّ عن ستة مليارات، تُضاف إلى أربعة مليارات من الدولارات كانت في المصرف المركزي العراق.
وغنيّ عن القول إنّ هذه الأموال لم تذهب إلى خزينة إنماء الشعب العراقي أو تطوير الديمقراطية أو بناء المشافي والمدارس ورياض الأطفال والجامعات، بل جرى صرفها لصالح الشركات الأمريكية الكبرى، وشراء الذمم السياسية، وتوزيع الهبات والأعطيات على الأزلام والموالين، أفراداً وقوى سياسية ومذهبية على حدّ سواء. وكانت هيئة الـ BBC قد أجرت تحقيقاً مثيراً حول اختفاء مبلغ 11.300 مليار دولار قبيل ساعات معدودات من مغادرة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر العراق نهائياً، كما أشارت تقارير صحفية أخرى إلى أنّ المبلغ "طار" ـ بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلى ظهر حوّامة عسكرية! ـ إلى جهة مجهولة في كردستان العراق، قبل أن يسافر من جديد إلى بنك مغمور في سويسرا، كما رجحت صحيفة الـ "فايننشيال تايمز" آنذاك.
ولكي لا يكون اقتصاد النهب هذا منفصلاً، حتى في الشكل فقط، عن الإيديولوجيا والسياسة أو الاقتصاد السياسي تحديداً، ها أنّ المرء يجد ضالته في أحدث تنظيرات هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، والأشهر حتى إشعار آخر طويل ربما. ففي مقالة بعنوان "دروس من أجل ستراتيجية مخرج"، سوف تظلّ كلاسيكية من حيث نطقها بالمسكوت عنه في التفكير العقائدي الأمريكي شبه الرسمي، توقف كيسنجر عند التماثلات المتزايدة بين التورّط العسكري الأمريكي في فييتنام، والاحتلال الأمريكي الراهن للعراق؛ ومآلات الهزيمة العسكرية هناك، وعواقب استعصاء المخرج الأمريكي هنا؛ فضلاً، من جهة ثالثة، عن ذلك الدرس العتيق الكلاسيكي الصائب أبد الدهر: كسب أية حرب لا يعني بالضرورة كسب سلامها، أو أيّ سلام في الواقع.
غير أنّ فقرة واحدة في تلك المقالة، لافتة للغاية بل صاعقة أيضاً، كانت تقول كلّ ما ينبغي أن يُقال: "من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة، وأمّا العراق فهو أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري (...) الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام. فلو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم".
احتلال العراق كان محض "أحدوثة" في صراع الغرب ضدّ التحدّي الإسلامي، ولتذهبْ إلى مزبلة التاريخ كامل التنظيرات العقائدية الأمريكية المحافظة (قديمها وجديدها، فضلاً عن تخرّصات أمثال البريطاني توني بلير، والإسباني ماريا أثنار، والأسترالي جون هوارد...) التي بشّرت بأنّ "تحرير" العراق محطة فاصلة كبرى في تارخ الحملات الصليبية الأمريكية، بل والغربية إجمالاً، من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع ذلك، فإنّ هذه الأحدوثة تتساوى في ناظر الرئيس الأمريكي مع حرب استقلال الولايات المتحدة، والمقاتل الأمريكي فيها هو من طينة "الثوريين الذين أسقطوا المذراة وحملوا البندقية للقتال من أجل الحرّية".
وعامداً، بالطبع، اقتفى بوش أثر كيسنجر في إغفال أنهم يولدون في قاع برميل النفط، إسوة بالأمّة جمعاء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان