الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باكستان العسكر: هل ينقلب الفقه الأصولي إلى حاضنة اجتماعية؟

صبحي حديدي

2007 / 7 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لعلّنا بحاجة إلى مراقب باكستاني رصين، علماني وماركسي وعالي المصداقية، مثل الناقد الأدبي والمعلّق السياسي إعجاز أحمد ـ صاحب العمل الشهير "في النظرية: الطبقات، الأمم، الآداب"، والعمل الجسور "العراق، أفغانستان، وإمبريالية عصرنا"، بين أعمال أخرى مميّزة هامة ـ لكي نتيقّن من أنّ تطبيق الشريعة الإسلامية أو استهداف محالّ الفيديو ودور البغاء ليست الأهداف الوحيدة الأوحد للحركات الجهادية والأصولية الباكستانية. إنها، بالقدر ذاته، منظمات سياسية تعطي الصدارة للبرامج الاجتماعية، وتنهمك بقوّة في فضح مختلف أشكال الفساد السياسي والمالي والإداري، وتطوّر خطّ معارضة متقدماً وأنساق تحالف مرنة مع قوى وأحزاب أخرى في وجه النظام الحاكم.
أو لنقرأ ما يقوله فريد إسحق ـ وأحد أبرز رفاق نلسون ماديلا في النضال ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وأستاذ الفقه الإسلامي في جامعة هارفارد، وصاحب العمل الرائد "القرآن: التحرير والتعددية" ـ تعليقاً على معركة "المسجد الأحمر"، الذي كان قد زاره قبيل اقتحامه: "في وسعنا أن نرفض الجوانب الجهادية والبطريركية [كما يبشّر بها أئمة من امثال عبد الرشيد غازي ومحمد عبد العزيز]، ونعترف في الآن ذاته أنّ هذه الفلسفة الأصولية تتضمن دعوة جلية إلى العدل الاجتماعي، تنطوي على تحدّي النخب السياسية الجشعة إلى السلطة والمتصارعة من أجل النفوذ وعلى حساب الشعب". ويضيف إسحق: "حين تحدّثت مع غازي بدا واضحاً أنّ هذه الجوانب كانت شديدة الأهمية في تفكيره، تماماً كما بدا واضحاً أنّ جاذبية هذا اللاهوت عند الناس إنما تتعاظم بفعل غياب دعوات صادقة وذات معنى من أجل العدل الاجتماعي".
غير أنّ نظام الجنرال برويز مشرّف، الذي يحكم الباكستان منذ العام 1999 نتيجة انقلاب عسكري أطاح بالحكم المدني، على كلّ شفة ولسان هذه الأيام: ليس تباكياً على ما تبقى من علائم الديمقراطية في دولة نووية، وفي بلد يُعدّ أحد أكبر بلدان العالم الإسلامي (حيث الديمقراطية مستحيلة أو عزيزة المنال، كما يقول لنا نطاسيو الإستشراق من أمثال برنارد لويس)، بل ابتهاجاً بانتصار الجنرال على... المسجد الأحمر! صحيح أنّ أخبار الأفعال الإرهابية المنسوبة إلى "القاعدة"، من العراق إلى المغرب إلى اليمن إلى بريطانيا، تضفي بريقاً خاصاً على واقعة كسر العصيان في مسجد متعاطف تاريخياً مع الطالبان، أو كان أحد أبرز معاهد تخريجهم، ولكن... هل تخفي الشجرة الواحدة مشهد الغابة؟ وحتى حين يضع المرء في الحساب مفاعيل سلسلة الأعمال الإرهابية التي شهدتها الباكستان مؤخراً، سواء استهدفت الجيش أو المدنيين من أنصار القاضي المقال افتخار شودري مثلاً، يظلّ السؤال الكبير الآخر شاخصاً ملحّاً: هل هذا هو المحتوى، أو حتى الواجهة وحدها، في سلسلة مآزق نظام مشرّف؟
ومنذ الأشهر الأولى بعد استيلائه على السلطة، حين أعلن أنه سوف يعيد الديمقراطية إلى الشعب، من خلال الإنتخابات التشريعية الأولى في عهده، حرص الجنرال مشرّف على تثبيت هذه المقولة المقدّسة: «سوف أحتفظ على الدوام بسلطة واحدة، لن أقبل فيها أية مساومة، وأعني تضامن وسلامة الباكستان وإدارة الحكم بعيداً عن الفساد وانعدام النزاهة». في عبارة أخرى، وبعد غضّ النظر كثيراً كثيراً عن اللغة الأخلاقية الجوفاء الكاذبة، لم يكن الجنرال ينوي تسليم ما يملك بالفعل من سلطات مدنية ـ عسكرية، على رأسها إقالة رئيس الوزراء وحلّ البرلمان. وهكذا فإنّ حاكم باكستان العسكري، الجنرال ـ الرئيس، كان يذكّرنا بما لا نستطيع نسيانه أو التغافل عنه: العسكرتاريا هي العسكرتاريا، رغم نأي المسافات وتباعد الثقافات وتباين التواريخ في هذا «العالم الثالث» القديم الجديد، والإنقلاب العسكري مستمرّ، بوسائل أخرى... «ديمقراطية».
الجانب الآخر في الأمر، وهو الجانب الأكثر إثارة في الواقع، يخصّ موقف الديمقراطيات الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا بصفة خاصة) من هذه المهزلة. ذلك لأنّ ما يهمّ الساسة في واشنطن ولندن ليس البتة عواقب استمرار الدكتاتورية العسكرية أو حجب وجهها القبيح بقناع ديمقراطي انتخابي، بل احتمالات تقدّم الأحزاب الإسلامية المعادية لسياسات أمريكا وبريطانيا، في صناديق الاقتراع أساساً وليس في أيّ مسجد أحمر أو أبيض أو أخضر! وكما نسي الرئيس الأمريكي جورج بوش، ذات يوم غير بعيد، اسم الجنرال الذي يحكم الباكستان بانقلاب عسكري، فإنّ الساسة في واشنطن ولندن، ومعهم الغالبية الساحقة من الصحافيين والمعلّقين هنا وهناك في أمريكا وبريطانيا، يتناسون أنّ ديمقراطية مشرّف زائفة، وأنّ الحكم الدكتاتوري متواصل مستمر.
والحال أنه مضى زمن كانت فيه الإنقلابات العسكرية شراكة أمريكية ـ عالمثالثية، يمتهن التخطيط لها خبراء في البيت الأبيض أو في مقرّ وكالة المخابرات المركزية أو في دوائر البنتاغون، ويمتهن تنفيذها العسكر من مختلف الرُتب هنا وهناك في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وموخراً جاءنا زمن لاح فيه أنّ هذا الطور الصاخب انطوى مع وضع الحرب الباردة أوزار الشدّ والجذب بين واشنطن وموسكو، وأنّ «أخلاقيات» اقتصاد السوق والليبرالية المعمّمة والمعولَمة لم تعد تتسع لمغامرات العسكر، إلاّ في حدود ضيّقة تماماً يكون فيها الجنرال ـ العسكري محطة قصيرة لا بدّ من التوقف عندها قبل مجيء الجنرال ـ المدنيّ.
لكنّ انقلاب مشرّف العسكري، الذي وقع أواخر عام 1999 واستُكملت فصوله بعد هزّة 11/9 وأثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان، استُكمل مع مهزلة الانتخابات التشريعية خريف العام التالي، وبدا وكأنّ الانقلاب وجنراله يَجُبّان الكثير من تلك «الأخلاقيات»، على نحو بسيط تماماً في تقنيات التخطيط والتنفيذ. لقد كان، أيضاً، أشدّ بساطة في مفردات «السياسة» التي تكتنف تحرّك العسكر، وفي التصالح المذهل مع المقاربة الجيو ـ استراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة بصدد التعامل مع ذلك الشطر الفريد من شبه القارّة الهندية، حيث تمتزج التجارب الديمقراطية بالتجارب النووية، والنزاع الهندي ـ الباكستاني بالنزاعات الإثنية والدينية والثقافية.
وللتذكير، والإنصاف، كان الجنرال مشرّف قد تعشّى برئيس الوزراء نواز شريف بعد أن ظنّ الأخير أنه يستطيع تناول العسكر لقمة سائغة على مائدة الغداء. ولقد تبيّن سريعاً أنّ الجيش منحاز إلى العشاء العسكري أكثر من الغداء المدني، وأنّ المؤسسة الأمنية (هذه التي اعتمد عليها شريف في قمع الصحافة والأحزاب المعارضة والشارع العريض، وكانت بمثابة سيف مسلط على عنق المؤسسات المدنية)، ليست قادرة على تنفيذ مناورة مضادّة لهجوم الجيش. وهكذا وجد الجنرال ضياء الدين بوط (رئيس الإستخبارات آنذاك، والفرس التي راهن عليها نواز شريف) أنه تحت الإقامة الجبرية إسوة بسيّده رئيس الوزراء، ولم تتحرّك مفرزة واحدة من آلاف مفارز الأمن الموضوعة تحت تصرّفه. تلك تقنيات تنفيذ سلسة، بل إنّ جدواها كانت مدهشة بالغعل لأنّ طلقة واحدة لم تُطلق دفاعاً عن حكومة شريف.
وأمّا البساطة في مفردات «السياسة» التي استخدمها العسكر في عام 1999 فقد كانت ناجمة عن حقيقة كراهية الشارع لحكومة شريف، إلى جانب عشرات الحقائق الأخرى ذات الصلة بالفساد والتقصير والتسلّط والمحسوبية العائلية والقبائلية، فضلاً عن حقيقة كبرى حديثة العهد هي تعريض المؤسسة العسكرية (وربما الوجدان الباكستاني القومي والشعبوي بصفة عامّة) إلى مهانة انسحاب الجيش والميليشيات من سفوح هيملايا لصالح الهند... تحت ضغط أمريكي! وكان طبيعياً أن تهيمن البساطة ذاتها على خطاب مشرّف حين استتبع الإنقلاب العسكري بما لزمه من تتمات مدنية ودستورية: حلّ البرلمان ومجلس الشيوخ والمجالس المحلية، إعفاء الرئيس محمد رفيق ترار من مهامّه (بطريقة تخلو تماماً من اللياقة واللباقة!)، وتنصيب الجنرال نفسه رئيساً وقائداً للجيش وزعيماً مطلق الصلاحيات، قبل استفتاء الشعب على بقائه رئيساً للبلاد بصلاحيات خرافية، وفتح صناديق الإقتراع أمام تزوير جديد لإرادة الشعب.
هذه هي «سياسة» العسكر التي يمكن أن تكون بسيطة المفردات وشديدة الترهيب في آن، الأمر الذي مارسه الجنرال مشّرف في كلمته المتلفزة الأولى بعد الانقلاب، حين اتهم رئيس الوزراء بتخريب استقرار البلاد. وفي بلد مثل الباكستان عاش 25 سنة تحت حكم العسكر (قرابة نصف سنوات التجربة الديمقراطية منذ الإستقلال) لا يجادل اثنان في أنّ العبث باستقرار الجيش هو عبث باستقرار البلاد بأسرها، فكيف إذا كانت البلاد غير مستقرّة أصلاً. وهذه هي سياسة العسكر التبسيطية والمبسطة، والتي تقول اليوم إنّ الجنرال مشرّف سوف يعيد السلطة إلي الشعب، فتبدو وكأنها مجرّد ترجيع فيزيائي طبق الأصل لما قاله دكتاتور الباكستان السابق الجنرال ضياء الحقّ: إنه سيمكث سنة واحدة فقط، فبقي ممسكاً بجميع أعنّة السلطة طيلة أحد عشر عاماً!
ذلك لا يعني غياب «السياسة» عن المجتمع الذي يبسّط العسكر علاقاته ومعادلاته وتوازناته. فمن المعروف أنّ لعبة تبادل السلطة بين «حزب الشعب» وبنازير بوتو من جهة، و«حزب الرابطة الإسلامية» ونواز شريف من جهة ثانية، كانت قد تحوّلت إلى لعبة كراسٍ موسيقية: لا تذهب الأولى إلا لكي يأتي الثاني، ثم لا يذهب الثاني إلا لكي تأتي الأولى! شروط الفساد والتردي الاقتصادي وسوء المعيشة هي التي كانت تمنح شريف فرصة الإنقضاض على حكومة بوتو، والشروط ذاتها تماماً كانت تمنح الأخيرة فرصة الإنقضاض على حكومة الأوّل، وهكذا...
كان التاريخ يعيد نفسه في كلّ مرّة، التاريخ الباكستاني الحديث الذي اتصف على الدوام بمزيج من الديمقراطية الناقصة والإستقرار السياسي الغائب. ويكفي القول إنه، على امتداد نصف قرن من عمر التجربة الديمقراطية الباكستانية، لم يتمكن سوى رئيس وزراء واحد من إكمال فترة حكم تامّة بين دورتين انتخابيتين؛ وإذا لم يتدخل الجيش عبر إنقلاب عسكري مباشر، فإن رئيس الدولة نفسه كان يبادر إلى خلع رئيس الوزراء والدعوة إلى انتخابات جديدة. وفي كل مرّة كانت تتعالى الإتهامات والإتهامات المضادة حول التلاعب بالإنتخابات وعدم شرعيتها، وفي معظم الحالات كانت النسبة المتدنية للإقبال على الإقتراع تجعل البرلمان المنتخب أبعد ما يكون عن تمثيل المجتمع.
ومنذ طيّ ملفّات الحرب الباردة أخذت المقاربة الأمريكية للعلاقات مع الباكستان صيغة تمتين الصلات السرّية مع الشرائح العليا من ضباط الأجهزة الأمنية، الذين كانت قد تعاملت معهم أساساً في أطوار «تدريب السحَرَة» أثناء الإحتلال السوفييتي لأفغانستان. وهذا الإنفتاح على ضباط الأمن والنُخب العليا السياسية والإقتصادية اقترن بإهمال ضبّاط الجيش والتشكيك في ولاءاتهم، وأسفر عن تغريب قيادة الجيش الباكستاني، ودفعها أكثر فأكثر إلى الحاضنات الأخرى المؤهلة لاستيعاب هواجس العسكر: الحاضنة القومية (وتكفلت بها مسائل النزاع مع الهند حول حقوق الباكستان في كشمير)، والحاضنة السياسية التي كانت تجد مرجعية دائمة في انعدام الإستقرار السياسي، والحاضنة الإسلامية (التي تكفّلت بها الثقافة غير العلمانية لمؤسسات الجيش).
وإذا كانت معايير 11/9 قد فرضت على بوش أن يحفظ اسم مشرّف عن ظهر قلب، فإنّ المعايير ذاتها (منقلبة، هذه المرّة، على الرئيس الأمريكي والجنرال الباكستاني في آن معاً) توشك على إطلاق حاضنة جديدة رابعة، توحّد الاجتماعي بالإسلامي، ولا تستثني الجيش من المعمعة: استهدافاً أو استمالة، سواء بسواء!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك