الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول شرعية الفن الاخلاقية

مصدق الحبيب

2007 / 8 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


‏* يبدو ان لدينا نوعان من الاخلاقية: ان ننصح بمالانطبق، ونطبق ما لا ننصح به.‏
برتراند رسل(1872-1970)‏

‏* اذا كنا ندعي خدمة المعرفة، علينا ان نكون احرارا في اتباع ماتهدي المعرفة اليه. والعقل الخلاق الحر لايمكن ‏ان يعامل كالكلب المسعور النابح الذي يحتاج ان يوثق بسلسة لكبح جماحه.‏
عدلي ستيفنسن، مرشح الرئاسة الامريكية الديمقراطي لعامي 1952 و1956‏
‏_____________________________________________________‏

أخلاقية الفـن وقيـم المجتمع:‏

يدور النقاش في هذا المجال حول دور الفن في المجتمع من الناحية الاخلاقية. فاذا سلمنا بان ‏الفن هو التعبير الشخصي للفنان عما يراه وعما يجول في ذهنه، وان هذا التعبير سيتجسد على ‏شكل نتاج فني يطرح امام المجتمع، ستبدر الى الذهن اسئلة كثيرة وملحة من قبيل: ‏
‏-‏ هل سيترك ذلك النتاج تأثيرا ايجابيا ام سلبيا على المجتمع؟ ‏
‏-‏ هل من واجب الفنان ان يقصر تعبيره عن الاشياء على ما سيكون له تأثير ايجابي فقط ‏على المجتمع ؟ ‏
‏-‏ هل سيكون تقدير هذا التاثير الايجابي بيد الفنان ام بايادي اخرى؟ ‏
‏-‏ هل سيعني مثل هذا الاقتصار على التأثيرات الايجابية بان المجتمع سيغض النظر عن ‏سلبياته؟ ‏
‏-‏ هل من حق المتلقي ألا يتوقع إلا المردودات الايجابية للفن؟ ‏
‏-‏ هل من حق المجتمع في عقله وضميره الجمعي ان يحاسب الفنان اذا كان لفنه مردود ‏سلبي؟
‏-‏ من ذا الذي سيمثل هذا العقل والضمير الجمعي؟ ‏
‏-‏ هل من الحكمة ان يسمح المجتمع للسلطة السائدة ان تمثل عقله وضميره الجمعيين؟ ‏
‏-‏ وماذا اذا كانت تلك السلطة ظلامية جاهلة، او استبدادية متوحشة، او شوفينية متعصبة؟ ‏
‏-‏ هل بامكان المجتمع ان يختار من يمثل عقله وضميره الجمعي بغض النظر عن مشيئة ‏السلطة السائدة؟ ‏
وقبل كل تلك الاسئلة علينا ان نسأل السؤال المحوري وهو: هل هناك اي اثبات علمي لايقبل ‏الجدل بان للفن دوراً قوياً في تقويم المجتمع او افساده، اعتمادا على جودة الفن او ردائته؟ ‏الحقيقة الساطعة هي ان الاجابة الشافية على هذا السؤال وبالتالي على الاسئلة السابقة لم ‏تتم بعد! وليس من السهل بمكان فض هذا الموضوع العويص الذي يعود بنا الى المربع ‏الاول الذي هو: علينا اولا ان نعرف كيف يتم حساب قيمة الفن بين طرفيها السلبي ‏والايجابي؟ وعلينا ايضا ان نحدد بشكل تطبيقي طبيعة التأثيرات التي تتركها حصيلة الفن، ‏الايجابية او السلبية، على المجتمع.‏

هناك زاويتا نظر فلسفيتان متعارضتان لقيمة الفن وعلاقتها بشرعيته الاخلاقية:‏

زاوية النظرالاخلاقية: التي تقر بضرورة استناد تقييم الفن على الاعتبارات الاخلاقية وتعير ‏كثيراً من الاهتمام الى المعنى الذي يقصده الفنان، والانطباع الذي يتولد لدى المتلقي ازاء العمل ‏الفني ، وبالتالي الرسالة التي يحملها الفن للمجتمع ككل: مالذي يريد الفن قوله، ومن اي ‏منطلق، ولصالح من، وماهي التأثيرات الاجتماعية المتوقعة لذلك الفن. من اقطاب هذا الاتجاه ‏اولئك الذين يؤمنون بالفلسفة التولستوية الذين يرون ان تولستوي انما وضع رسالة الفن ‏الاجتماعية فوق كل شئ. ومن اقطابه ايضا بيير بوردو وروجر تيلر.‏

زاوية النظر الجمالية: التي لاتقر بضرورة استناد تقييم الفن على الاعتبارات الاخلاقية ولاترى ‏اي ضرورة في ربط قيمة الفن بالمعنى المقصود، الظاهر والخفي، انما ترى في الفن تعبيرا ‏شخصيا حرا للفنان ليس بالضرورة ان يخضع في تقييمه لاية اعتبارات اخرى سوى الاعتبار ‏الجمالي. من اقطاب هذا الاتجاه ريتشارد بوزنر الذي يعتقد بان النظرة الاخلاقية تعتمد على ‏السطحية الفكرية والتي تشترط "المنهج السببي" و"المنهج العواقبي" في تحليلها لتتابع الظواهر ‏الاجتماعية من دون اثباتها ببراهين تجريبية. ففي بحثه الموسوم "ضد التقييم الاخلاقي: ادب ‏وفلسفة" المنشور عام 1997 يؤكد بوزنر على ان الموقف الاخلاقي الحقيقي هو الموقف ‏الجمالي الذي يركز على فردانية التعبير الفني الشخصي ويعول على حرية القرار الخاص، ليس ‏فقط بالنسبة للفنان انما للاخرين ايضا، الامر الذي يتضمن القدر الاعظم من نفاذ البصيرة ‏والتسامح وتقدير الاختلافات، وليس هناك التزام اخلاقي اكثر من ذلك.‏

لابد لنا هنا من ذكر الفرق بين الموقف المتطرف والموقف المعتدل في الفلسفتين. فالاخلاقية ‏المتطرفة لاتدع اي مجال للمعيار الجمالي في التقييم الفني بل تعتقد ان منبع القيمة الجمالية هي ‏القيمة الاخلاقية. وبالمقابل فان الجمالية المتطرفة تنكر بالمرة اي حاجة للمعيار الاخلاقي لسبب ‏جوهري هو ان كلا القيمتين ذاتيتان وليس من الحكمة زعم الموضوعية في علاقتهما ‏أوحشرهما بروابط سببية يتعذر اثباتها عمليا. يذهب هذا الاتجاه الى مدى ابعد فيعتبر التيار ‏الاخلاقي عاملا في خفض قيمة الفن الى درك الخطاب السياسي او التقرير الحزبي المفعمين ‏بالدعائية والترويج. أما الموقف المعتدل فهو الذي لاينكر الجانب الاخر بالمرة انما يقر ‏بمحدودية وجوده. تقوم هذه النظرة التوافقية الوسيطة على قبول امكانية وجود اعمال فنية، ‏لاسيما تلك التي تتميز بطبيعتها السردية، التي تحتمل التحليلات القائمة على التقييم الاخلاقي، ‏الا ان هذا الاتجاه يعترف بمحدودية هذه الحالات اولا، ويستبعد ادعاءات التأثير السلبي لها، أما ‏تحفظا، أوخشية مما قد تجره من عواقب تنشيط الدعوة الى الرقابة والتدخل الحكومي او ‏السلطوي. من ذلك نستخلص بان بامكان الفنون غير التشخيصية وغير السردية، كالتجريدية ‏مثلا، ان تقفز طبيعيا واتوماتيكيا بعيدا عن كماشة المعيار الاخلاقي، وهذه حجة قوية بيد ‏اصحاب الفلسفة الجمالية لتعزيز موقفهم كما يرى نويل كارول في بحثه "مبدأ الاخلاقية المعتدلة" ‏المنشور في مجلة علم الجمال البريطانية عام 1996، والذي يؤكد فيه بان مروجي موقف ‏الاستقلالية الذاتية من اصحاب الفلسفة الجمالية يتكئون على سؤال مهم حول انواع الفنون ‏الخاضعة للمبدأ الاخلاقي. ومثل هذا الاتكاء يتبرر بكونهم يعرفون الجواب الحتمي المؤيد ‏لموضوعتهم القاضية بقصور التفسير الاخلاقي عن التعبير عن كل انواع الفنون. يذهب كارول ‏ابعد الى التأكيد بان بعض الاعمال الفنية، وبحكم طبيعتها السردية ، تقوم على ترك المجال ‏التأويلي للمتلقي بخصوص اكمال فحواها او صياغة الرسالة المتضمنة فيها استنادا على ‏الموقف الاخلاقي للمتلقي. على ان ذلك سيعطينا نموذجا واحدا من الاعمال الفنية التي تؤلف ‏المثال الكلاسيكي للفن الذي لايترك اي مهرب من التقييم الاخلاقي، ومن الامثلة التي يوردها ‏كارول على هذه الاعمال رواية اوسكار وايلد الشهيرة "صورة دوريان كَري" المنشورة عام ‏‏1891. يحدث احيانا ان يطغى ثقل العنصر الاخلاقي في العمل على جماليته او بالعكس، ‏وعندئذ يبدر احتمالا مشروعا يتقيم ازاءه العنصر الاقل وزنا بموجب سيطرة العنصر الاكثر ‏وزنا، ويسري ذلك في الحالتين سواء كان العنصر الطاغي ايجابيا ام سلبيا. يمكن تصور ذلك ‏في اعمال فنية ناقشت قضية وطنية او انسانية مصيرية او جاءت في زمن ومكان مناسبين او ‏كانت الرائدة في مجال معين واصبحت شهيرة ومعززة لتلك الاسباب وبغض النظر عن مستواها ‏الفني، ولنا في الفن التشكيلي المعاصر امثلة عديدة على ذلك، من لوحة علبة الحساء لأندي ‏وورهول الى لوحة الكَورنيكا لبيكاسو. وقد يحدث العكس اذا تصورنا اعمالا فنية متفوقة في ‏فنيتها لكن اخلاقيتها الفاسدة تتسبب في هبوط تقييمها الفني ، ولنا في ذلك مثالا محليا ساطعا ‏اذا ما أخذنا حقبة طويلة من شعر عبد الرزاق عبد الواحد. ليس هناك مغالاة في التقدير اذا ‏راهنا بان الغالبية العظمى من العراقيين، من جاهلهم الى عالمهم، تشعر بالقرف والاشمئزاز ‏من قراءة اوسماع ملاحم شعرية جعلت من الطاغية المتوحش الذي كان المسؤول الاول عن ‏تدمير البلاد إلهاً منزلاً! فمن ذا الذي يبدي الاستعداد للاعتراف بشعرية عبد الواحد المتفوقة ‏فنيا؟ ناهيك عن الاستمتاع بجماليتها، حتى اذا اعتبرنا آراء اولئك الذين يتصفون بالموضوعية ‏والانصاف .‏
استنادا الى ماجاء في احد بحوث منظري الموقف الجمالي المعتدل، جي اندرسن وجي دين، ‏المنشور في مجلة دراسات علم الجمال البريطانية عام 1998، والموسوم "الاستقلالية ‏المعتدلة"، يقف معتدلو الفلسفتين، الاخلاقية والجمالية، على طرفي نقيض في جوابهما على ‏السؤال الافتراضي التالي: اذا كان هناك عمل فني يتسم برسالته الاخلاقية السيئة ( ولنفترض ‏تمجيده للارهاب على سبيل المثال) لكنه عمل فني جميل ومتقن ومتفوق، هل تستطيع سلبية ‏هذه الرسالة وعدم قبولها من قبل الاغلبية الساحقة ان تلغي جمالية العمل؟ وبالمقابل، اذا ‏افترضنا ان هناك رسالة انسانية واجتماعية عظيمة متضمنة في عمل فني ركيك يفتقر للحد ‏الادنى من الجمالية او الكفاءة والاتقان، هل تستطيع تلك الرسالة الايجابية رفعه الى مصاف ‏الاعمال الفنية المتفوقة؟ الجواب سيكون (لا) على شقيّ السؤال من قبل اصحاب الفلسفة ‏الجمالية المستقلة وسيكون (نعم) على شقيه ايضا من قبل اصحاب الفلسفة الاخلاقية، وهذا ‏التضاد كاف لتأشير الفيصل في موقفهما المتعارضين.‏

الفـن ونظرية المعرفة (الابيستمولوجيا)‏

تعنى الابيستمولوجيا بطبيعة ومصداقية المعرفة الانسانية، وتبحث في نطاقها ومصادرها وطرق ‏اكتسابها، وتدرس معاييرها ومحدداتها. منذ قرون ومسألة تحديد ماهية الحقائق والتفريق بينها ‏وبين المعتقدات وفرز ما يمكن اعتباره معرفة حقيقية تحتل مساحة واسعة في مجال الجدال ‏الابيستمولوجي. ومن هذه المسألة الجوهرية تبرز اسئلة عديدة في مقدمتها السؤال عن الفرق ‏بين ان نعرف حقيقة ما وبين كيفية الوصول الى تلك الحقيقة. فعلى سبيل المثال يستطيع ‏شخص أُمي ان يتوصل الى حقيقة ان ثلاثة رجال يحتاجون ستة ارغفة اذا اكل كل منهم ‏رغيفين، وذلك من دون ان يدرك هذا الشخص فحوى الكيفية التي يتوصل بموجبها لتلك المعرفة ‏بسبب عدم معرفته بعمليات الاضافة او الضرب الحسابية. ينبثق كل من مفهومي "الاعتقاد" ‏و"الحقيقة" من محيط الافتراض المعرفي. وبينما يستند الاعتقاد الى معرفة حدسية مبنية على ‏التنبؤ الذاتي، تتميز الحقيقة بكونها الاعتقاد المبرر والمسبَب منطقيا وعلميا. قد يعتقد شخص ‏ما بأن السماء ستمطر اليوم، وهذا هو اعتقاد محض لايتحول الى معرفة أكيدة حتى لو امطرت ‏السماء فعلا! الا ان تنبؤ خبير الانواء الجوية بالمطر يشكل معرفة غير حدسية وغير افتراضية، ‏انما معرفة حقيقية مبنية على تسبيب علمي واستنتاج منطقي يجعل من حدث هطول المطر ‏متوقعا بنسب احتمال عالية تقارب المئة في المئة. يحدث احيانا ان تكون المعرفة افتراضية في ‏البداية، وهي مايساوي عمليا الاعتقاد، لكنها قد تتحول الى حقيقة مثبتة اذا ماجرى تحقيق ‏شروط الافتراض واستبعاد مستلزمات رفضه بطرق منطقية واحصائية ورياضية. يشير المخطط ‏التالي لمحيط الافتراض الى فكرة تكون نطاق المعرفة مابين الحقائق والمعتقدات. على ان ‏مايحيط بهذا النطاق مباشرة هو المساحة التي قد تحوي اما شيئا من الحقائق او شيئا من ‏المعتقدات او كلاهما، ولكنها لاتدخل ضمن نطاق المعرفة الذي يبقى متميزا كمجال ضمني حسب‏
تفسيرنظرية الطقم الرياضية ( ‏Set Theory‏ ).‏



أما من جانب الفن، فان الجدال حول فيما اذا كان للفن دور في توليد المعرفة، وحول الهيئة ‏والطريقة التي تتولد بموجبها المعرفة لم يتوقف، كما انه لم يصل الى اي تسوية منذ ايام ‏افلاطون ولحد الان. هناك شبه اجماع على ان تعامل الجمهور وتفاعله مع النتاجات الفنية انما ‏هو ليس بفعل حسي عاطفي مجرد بل يمكن ان يكون، اضافة الى ذلك، فعلا ادراكيا ومعرفيا. ‏فمن الواضح ان يؤثر الفن في احاسيسنا ومشاعرنا وردود افعالنا، وقد يؤثر في تجاربنا، ولكن ‏ليس من الواضح ان تنتج تجربة التفاعل مع النتاج الفني اي معرفة حقيقية غير افتراضية مثلما ‏يفعل التعامل مع الظواهر والتفسيرات العلمية. على ان كثيرا من الناس يعتقدون ان بمقدور ‏الفن تغيير المفاهيم وصياغة المواقف، كما ان له القابلية على تحديد زوايا النظر الى الاشياء ‏مما يؤدي الى ادراكها بشكل مختلف، وبالتالي يمكن الاشارة الى قابلية الفن في تغيير المعتقدات ‏والافكار وربما استحداثها ان لم يكن لها وجود مسبق. واذا تصورنا اخذ مثل هذا الاعتقاد بشكله ‏المتطرف يتضح لنا جليا لماذا تعول الانظمة الاستبدادية على مصادرة الفنون وتفعيلها كسلاح ‏لمسخ منظومة المعارف السائدة واستبدالها بالمنظومة البديلة التي غالبا مايحرص الاستبداديون ‏على تسميتها بـ "الثورية والوطنية والشعبية والجماهيرية".‏
ينقسم المهتمون بدور الفن في تكوين المعرفة الى فريقين متناقضين في الرأي. يعتقد الفريق ‏الاول بأن الفن يثير عواطفا معينة من شأنها تسهيل عملية اكتساب ونقل المعارف الانسانية ‏تماما كما يحدث عند توسيع وعي وادراك المتلقي حول قضية معينة وتغيير وجهة نظره حولها. ‏أما الفريق الثاني فلا يعتقد بان للفن اي قابلية على توليد المعرفة ذلك ان ليس بمقدورالفن ان ‏يخلق حقائق جديدة، وذلك ماذهب اليه جيروم ستولنتز في مقالته الموسومة "ابتذال المعرفة ‏عبر الفن" المنشورة عام 1992 في مجلة علم الجمال البريطانية. واستنادا الى تصنيف آخر ‏للمعرفة ينقسم فلاسفة المعرفة والاكاديميون ونقاد الفن في خصوص دور الفن الى ثلاث كتل ‏رئيسية هي كتلة العقلانيين وكتلة التجريبيين وكتلة الرومانسيين. تنقسم المعرفة بموجب هذا ‏التصنيف الى نوعين رئيسيين:‏
‏-المعرفة السابقة ( ‏Priori‏ )‏‎ ‎وهي المعرفة الذاتية المتأصلة في الدواخل والناشئة عن السليقة ‏وغير المتأتية عن طريق التجربة.‏
‏- المعرفة اللاحقة (‏Posteriori‏) وهي المعرفة التي ليس لها وجود مسبق بل يكتسبها الانسان ‏عن طريق التجربة.‏
يتسبب هذا التصنيف في اختلاف تلك الكتل الفلسفية على الشكل التالي:‏
‏-‏ يتمسك العقلانيون بان المعرفة مشروطة باكتشاف الحقائق غير الافتراضية وانتهاج ‏السبيل الى تبريرها وتفسيرها. والفن لايتمتع بأي امكانية من هذا النوع. تزعم هذا ‏الاتجاه الفيلسوف الفرنسي ديكارت والفيلسوف الهولندي سبينوزا والفيلسوف الالماني ‏ليبنز.‏
‏-‏ يركز التجريبيون، وفي مقدمتهم الفلاسفة الانكَليز فرانسز بيكن وجان لوك وديفد هيوم، ‏على ان اسس المعرفة الجوهرية هي الملاحظة والاختبار ولايؤمنون ايما ايمان بدور ‏السليقة أو حتى بوجودها. وبذلك يعمدون الى التعميم المطلق حول مصدر المعرفة. وقد ‏يتجلى ذلك التعميم واضحا في تصريحاتهم بأن كل المعرفة تنشأ من التجربة وليس ‏بأمكان اي جزء منها ان يتولد خارج نطاق التجربة، سواء اكانت تلك التجربة فردية ‏ذاتية ام جمعية عامة. ولان الفن يعتمد بالدرجة الاساسية على الخيال، فلايمكن للخيال ‏ان يولد الحقيقة، انما العكس هو الصحيح : يستمد الخيال ابعاده الاولية من الحقيقة ‏الموضوعية، فيصبح الفن انعكاسا للواقع الذي لايمكن له ان يتشكل بفعل محاكاته للفن. ‏وبهذا الموقف يخلص التجريبيون الى الاستنتاج الى عجز الفن عن الاتيان بالمعرفة. ‏
‏-‏ ينطلق الرومانسيون في صياغة موقفهم من ثلاثة مبادئ:‏
‏1) ليس هناك بالضرورة وجهة نظر او طريقة واحدة لمعرفة الحقيقة
‏2) يهتم الفن بالعموميات اكثر من اهتمامه بالتفصيلات‏
‏3) يتفوق الفن على العلم في اكتشاف خبايا الواقع بواسطة سعة ‏ نطاقه وتعدد اساليبه وتمتعه بزوايا نظر مختلفة.‏
ومن هذه المبادئ يخلص الرومانسيون الى ضرورة اعتبار التصور كعنصر اضافي يدعم ‏التسبيب المنطقي ويفسح المجال لتضمين تظافر وتفاعل تسبيبات منطقية اخرى مختلفة، الامر ‏الذي ينتج عن نمو المعارف واتساع نطاقها.‏
يذكر ان الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت حاول التوفيق بين العقلانية والتجريبية وميز بين ‏نوعين من المعرفة: "المعرفة التحليلية" المشابهة لمعرفة السليقة التي تبدو اكيدة لصاحبها لكنها ‏لاتفضي بالكثير من المعلومات عن العالم الذي يحيط بمنبعها ، والمعرفة التركيبية التي تأتي في ‏صيغتين، "التركيبية بالسليقة" وهي معرفة حدسية خالصة، و"التركيبية بالتجربة" التي تفضي ‏بالكثير من المعلومات لكنها عرضة لخطأ الاحاسيس وفشل ردود الافعال. ‏
واخيرا، وليس آخرا، فان ماتخطى التقسيم الكلاسيكي الانف الذكر للمعرفة هو الاتجاه الذي بدأه ‏الفيلسوف النمساوي لودفك ويتنستين والذي شاع ابتداءً من اربعينيات القرن العشرين، والذي ‏يفيد بأن هناك معرفة حقيقية واحدة لاغير، وهي المعرفة العلمية التي يمكن بموجبها تحقيق ‏المعتقدات عن طريق التجربة العملية التي تسمح بضم كل مايجسد الافتراض ورفض كل ما ‏يخالفه.‏
‏ وعودة الى شرعية الفن ، فلاظير في الجدال المستمر حول ماهية المعرفة وعلاقتها بالفن مالم ‏يتشبث المتطرفون بالمنطق احادي الجانب ويتخذون من وجهة نظر واحدة سلاحا لتحقيق ‏مآربهم الفردية. يصبح مثل هذا الاتجاه خطيرا اذا اقترن بالسلطة وتعزز بالقدرة على اتخاذ ‏القرارات المصيرية في حياة المجتمع. الخطر المحدق في هذا المجال هو تحميل الفن والثقافة ‏بشكل عام مهمات رسمية لتصيير ونشر المعرفة، مما ينشأ عن الاستخدام السئ لقنوات الثقافة ‏في نشر معرفة السلطة ومحاربة المعرفة المضادة، الامر الذي سينجم لامحالة عن التضييق ‏على حرية الثقافة وتحجيم نشاطاتها مؤسسيا بواسطة اداة السلطة التقليدية في هذا المجال ‏والمتجسدة بالرقابة الثقافية. ‏

الرقابـة الثقافيـة:‏

يعود تاريخ مفهوم الرقابة الى العصر الروماني، وبالتحديد الى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث ‏كان المصطلح مقتصرا على مراقبة الاداء الاحصائي وبخاصة مايتعلق بالاشراف على التعداد ‏والتصنيف والتقييم السكاني. الا ان المفهوم تغير بمرور الزمن واخذ يكتسب معان سلبية مع ‏تطور الاستبداد السلطوي على الشعوب وابتداع موضوعة السيطرة الجسدية والفكرية التي ‏مارستها السلطات الدينية والسياسية على اوليائها. وفي عصرنا الحالي يشير مفهوم الرقابة الى ‏طبيعة النظم الدينية والسياسية التوليتارية القسرية والاستبدادية التي تمارسها هذه النظم وتتخذ ‏منها كأداة اساسية من ادوات الحكم، خاصة حين تتحول الرقابة الى عصا غليظة بيد الحاكم ‏المستبد الذي يمكن له ان يهش بها على غنمه من الشعب ويحقق فيها مآربه في السيطرة ‏الكاملة. وبذلك ترقى مسألة الرقابة، بالمنطق المدني المتحضر، الى ان تكون خرقا من خروقات ‏حقوق الانسان ووسيلة للتضيق على حرياته، وبخاصة حرية التعبير. وبهذا المنطق تتجسد ‏الرقابة الثقافية في جميع عمليات واساليب حظر وتحريم الكلام والكتابة والصورة وكل ما يأتي ‏بوسائل مسموعة او مرئية او محسوسة والتي قد تعبر عن افكار اومواقف او ايحاءات تعتبرها ‏السلطة مخالفة لاعرافها وخارجة عن حدود ما تقر به مسموحا. اتخذت الرقابة الحكومية ادق ‏وابشع صورها تحت الانظمة التوليتارية المعروفة مثل الفاشية والنازية والشيوعية وكل من حذا ‏حذوها. تشير التقارير التي صدرت بعد سقوط النظام الشيوعي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية ‏الى ان حكومة موسكو كانت قد اسست اعتى نظام للرقابة الحكومية في التاريخ البشري والذي ‏تجسد في عمل ومسؤولية الوكالة العملاقة المسماة "كَلافلت" او الوكالة الوطنية للحماية ‏العسكرية واسرار الدولة، والتي ضمت70000 موظف يدققون في كل شاردة وواردة من ‏الكلمات المطبوعة على سدادة قنينة الحليب او بطاقة الباص الى الكلمات التي يغنيها فلاح جذل ‏في براري سيبيريا، ناهيك عما يكتب في الصحف والكتب والمناهج او مايقال في الاذاعة او ما ‏يشاهد في التلفزيون والسينما والمسرح ومعارض التشكيل وصالات العروض. ولايخفى على ‏احد كيف زُرِعت الآذان المتصنتة والعيون المتلصصة على الجدران والطرقات والارصفة في ‏زمن البعث في العراق حتى بات المواطن مرتابا من ظله واصبح الطفل رقيبا على والديه في ‏عقر دارهما.‏
اذا حدث ان تبنت السلطة الدينية او السياسية في مجتمع ما مبدأ الرقابة الثقافية، سيبدو الحال ‏وكأن العقل والضمير الجمعي لذلك المجتمع سيكون هو المسؤول الرسمي امام القانون والتاريخ ‏على حجب او ازالة معلومات معينة والحيلولة دون وصولها الى عامة الناس بحجة الحفاظ على ‏المصلحة العامة. ان منطقا مثل هذا سيقود المرء العاقل، والاخطر ان يقود الاجيال التي تترعرع ‏في ظل الرقابة، الى الاستنتاج بان المعلومات المحظورة هي معلومات ضارة فعلا وحقيقةً ، ‏ودفع الضرر عن المجتمع مهمة وطنية مقدسة!! لكن سهولة وبداهة وعقلانية هذا الاستنتاج ‏لاتتوازى مع صعوبة وتعقيد مسألة تشخيص وتحديد واثبات ضرر تلك المعلومات ونتائجها ‏السلبية على المجتمع. ومن هذا فان خطورة الرقابة لاتكمن في الاساس في حرمان الشعب من ‏الاطلاع على تلك المعلومات او التمتع بها، انما تتأتى الخطورة الكبرى من قضية اقرار وصياغة ‏المسؤولية الاجتماعية وطبيعتها وهوية ونوعية من يضطلع بها. باختصار، ستكون الخطورة ‏متجسدة في تصور الاجابة على السؤال " من ذا الذي يشخص تلك الاضرار والاخطار التي تحيق ‏بالمجتمع؟ وياترى من هذا الذي سيمثل العقل والضمير الجمعي بأهلية ونبل واخلاص؟ ومن ذا ‏الذي يتمتع بتفويض الشعب للاضطلاع بهذه المسؤولية الكبرى التي تتجاوز حدودها قابليات اي ‏شخص او اي لجنة. هل هو رجل الدين؟ ام رجل السياسة؟ ام رجل العسكر؟ ام شيخ العشيرة؟ ‏ام مختار الطرف؟ ام ابن الرئيس؟ او ابنة مسؤول الحزب؟!! ‏
عند تأمل طبيعة الانظمة الاستبدادية سيكتشف المرء العاقل في الحال ان تلك الانظمة لاتتعب ‏نفسها في التفكير بهذا الشأن، ولاتوجع رأسها في ايجاد الشخص الملائم. ستلجأ بكل بساطة ‏وثقة وممنونية الى تعيين موظف او تشكيل لجنة من جلاوزتها لتنفيذ الحظر المطلوب الذي ‏يقره الدين او الحزب السياسي او شخص المستبد الفردي وحاشيته. وبهذه الصورة تكتمل ‏كارثة الكوارث وهي تنقيص آمال وتطلعات الشعب وسعيه الحر للتقدم والازدهار الى قرار فردي ‏يضع الحكم الاخير بيد فرد او مجموعة صغيرة من الافراد غالبا مايكونون اقرب الى الجهل ‏والانانية والظلم منه الى العقل والموضوعيةوالانصاف. ولنتأمل احدث مثال في عالمنا التطبيقي ‏الحاضر، المثال الحي الذي سيبقى شاخصا في الذاكرة العراقية لزمن قادم طويل، وهو قرار ‏الحكومة "الوطنية الشعبية الديمقراطية" في العراق الجديد الى اسناد جميع امور الثقافة والفن ‏والاعلام في بلد الثقافة والفنون والعلوم والابداع الى وزير جاهل، اهون مايمكن قراءته في ‏اضبارة سيرته الذاتية "الفذة" انه تخرج من مدارس قطع الرؤوس في افغانستان وترقىّ في سلم ‏خبرته الجليلة من خطيب جامع الى ارهابي صنديد يختفي تحت بدلة ورباط عنق مستوردين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قميص -بركان- .. جدل بين المغاربة والجزائريين


.. مراد منتظمي يقدم الفن العربي الحديث في أهم متاحف باريس • فرا




.. وزير الخارجية الأردني: يجب منع الجيش الإسرائيلي من شن هجوم ع


.. أ ف ب: إيران تقلص وجودها العسكري في سوريا بعد الضربات الإسرا




.. توقعات بأن يدفع بلينكن خلال زيارته للرياض بمسار التطبيع السع