الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الايبيجينيتكس(Epigenetics) نظرية علمية فذة واضافة مهمة للماركسية

توما حميد
كاتب وناشط سياسي

2007 / 8 / 24
الطب , والعلوم


الايبيجينيتك تعني الصفات الموروثة عبر سلسلة من الانقسامات الخلوية ومن جيل الى اخر دون حدوث تغير في تسلسل لبنات الدنا- DNA. الايبيجينتكس هو علم دراسة التغيرات الموروثة في تركيب ووظيفة الخلية او العضو وفي وظيفة ومظهر الفرد ككل دون احداث تغير في ترتيب لبنات المادة الجينية. ان التغيرات الايبيجيينتكية تمنع الجين من التعبير عن نفسه او تحور الطريقة التي يعبر عن نفسه دون احداث تغير في تسلسل ال DNA فيه.
يضيف علم الايبيجينتكس مستوى جديد ومهم لفهمنا للوراثة وتاثير البيئة على الانسان وسبب الاختلاف بين البشر. ويشير بان بعض الامور في حياة البشر مثل نوع وكمية التغذية والقلق والتعرض الى السموم وامور اخرى كثيرة يمكن ان يكون لها تاثير على الكائن الحي تورث من جيل الى جيل اخر.
دون الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقية، توجد في كل خلية لجسم الانسان عدا البيض والحيمن وكريات الدم الحمر 23 زوج من الكروموسومات اثنان منها هي كرموسومات جنسية تحدد جنس الانسان والتي بمجوعها تسمى المادة الصبغية. تتكون الكروموسومات من 5 سلسلات بروتينة تسمى الهستون ومادة الدنا- DNA . مادة الدنا- DNA تتكون من عدد كبير من لبنات تسمى نيكوليوتايد ( (nucleotide تكون شريطين ملتفين إلتفاف لولبي في اتجاهين متعاكسين. النيوكلوتايد الواحد يتكون من :قاعدة نيتروجينية و سكر ديوكسي رايبوز ومجموعة فوسفات. القواعد النيتروجينية هي الأدنين-A و والثايمين- T والسايتوسين – C والجوانين-G. بينما تتكون سلاسل البروتين من 20 وحدة ثانوية تسمى اماينو اسيد. سلسلتي الدنا- DNA ترتبط ببعضها البعض من خلال ارتباط القواعد ببعضها. ترتبط دائما الادينين مع الثايمين و الجوانين مع السايتوسين.ان المادة الصبغية تحزم في وحدات ثانوية تسمى نيوكليوسومس تشبه خرزات السبحة و التي تضغط الدنا في نواة الخلية الصغيرة. تتكون النيكوليوسم من الدنا-DNA التي تلتف حول اربعة ازواج من البروتينات-الهستون و هي H2A, H2B, H3 ، H4 . والنيوكليوسومات ترتبط ببعضها من قبل هستون اخر هو H1. ان تسلسل القواعد في شريط ال DNA تكون شفرات معلوماتية. مثلا ان شفرة AGC لها معنى مختلف عن شفرة TAC وهكذا. الجين او الموروثة التي تلعب دورا في انتقال الصفات الوراثية هو جزء محدد من سلسلة الدنا- DNA التي تحمل اوامر لتنفيذ وظيفة محددة. والجينات تقسم الى مناطق تسمى اكزون واخرى تسمى انترون. عندما يكون الجين فعالا فان الاكزونات فيه تستنسخ الى الرنا-RNA الذي يوجه بدوره عملية انتاج البروتينات التي تؤدي وظائف معينة في الخلية. الاكزونات تمثل 1.5% فقط من طول الدنا-DNA. تحذف الانترونات من مادة الرنا-RNA عند الاستنساخ في عملية تسمى splicing. ان الجين الواحد قد يؤدي الى انتاج بروتينات متعددة من خلال تغير ترتيب الاكزونات في الجين اثناء الاستنساخ. نعرف الان بان الانترونات اي اجزاء الجين التي لاتعمل كقوالب لانتاج الرنا-RNA تلعب دور في تنظيم الطريقة التي يعبر الجين عن نفسه.
اخر التقديرات تقدر عدد جينات الانسان ب 20488 وحوالي 100 جين اخر ينتظر الاكتشاف بدلا من 100000 جين كما كان يعتقد. كل المعلومات الموروثة للكائن الحي والمشفرة في الدنا-DNA تسمى الجينوم وتتضمن الجينات واجزاء الدنا التي لاتعمل كقوالب لاستنساخ الرنا-RNA. اي ان الجينوم هو مجموع سلسلة الدنا في كرموسوم واحد من كل زوج من الكرموسومات الجسمية وواحد من كل نوع من الكرموسومات الجنسية ويتضمن الجينات واجزاء سلسلة الدنا بين الجينات التي لانعرف لحد الان وظيفتها والتي تسمى “junk DNA” اي الدنا- "الخردة". ان نسخة واحدة لمادة الجينوم تحتوي على 3 بلايين قاعدة. يؤدي تغير قاعدتين متقابلتين ومرتبطتين في سلم ال DNA إلى إحداث تغير حاد في المورثة الذي بدوره يؤدي الى تغير الخصائص الوراثية التي تحملها تلك المورثة.
الموروثات او الجينات مسؤولة عن المظهر و الملامح الجسدية مثل شكل الوجه والانف والفم والعين ولون الشعر والجلد والعين وطول القامة وحجم اليد والقدم وغيرها وعن انتقالها من جيل الى لاخر. كما انها مسؤولة عن السلوك والمهارات والمواهب والصفات الفكرية والعاطفية والطباع وتوريثها من جيل لاخر. وهي مسؤولة ايضا عن توريث الكثير من الامراض بين الاجيال. هناك اكثر من 4 الاف مرض وراثي ولحد الان تم اكتشاف الجينات التي تسبب العشرات منها والعلماء يتقدمون بخطوات سريعة جدا لكشف الجينات المسؤولة عن الامراض الاخرى.
لوقت قريب كان يعتقد بان مادة الدنا- DNA تحمل كل المعلومات الموروثة وان تسلسل القواعد في مادة الدنا- DNA هي التي تحدد صفات الانسان والفوارق بين الناس. كان يعتقد بان كل صفة هي نتيجة موروثتين، يرث الانسان احدها من ابيه والاخر من امه وتكون احداهما مهيمنة والاخرى منحسرة. كما كان يعتقد بان مامن شيئ يقوم او يمر به الافراد طوال حياتهم سينتقل عن طريق الوراثة الى اطفالهم. ولكن وجد بان هذا الافتراض ليس صحيحا.
ان الاختلاف في تركيب مادة الدنا- DNA للبشر الذي لايتجاوز نسبة 0.1 % لايفسر كل الفروقات بين البشر. كما ان كل الخلايا في الجسم لها نفس المعلومات الجينية ولكنها تتميز الى انسجة و اعضاء مختلفة لها وظائف مختلفة جدا. اذ يحتوي جسم الإنسان على حوالي (800 نسيج مختلف).
وتسلسل الدنا ايضا لايفسر الكثير من الامراض وقابلية الاصابة بها. ان الطفرة الجينية تطفئ الجين او تغير الطريقة التي يعبر الجين عن نفسه عن طريق تغير ترتيب جزء من مادة الدنا-DNA فيه وبذلك يتغير RNA المستنسخ والبروتينات المنتجة، ولكن الطفرات هي مسؤولة عن عدد قليل نسبيا من الامراض.
هناك صفات تورث عند انقسام الخلية وعبر الاجيال دون وجود تغير في ترتيب القواعد في مادة الدنا- DNA. هناك تغيرات اخرى غير تسلسل القواعد تؤثر على الطريقة التي تعبر المادة الجينية عن نفسها وهذه التغيرات تسمى بالتغيرات الايبيجينيتكية. ان التغير الايبيجينيتكي قد يكون على الجينات او في اجزاء اخرى من الخلية. لقد تم الكشف عن الكثير من التغيرات الايبيجينتكية مثل الميثيلايزيشن اي اضافة مجموعة ميثايل الى هيكل الدنا- DNA او الهستون، او اضافة مجاميع اخرى الى الهستون مثل ايثل اواسيتايل اوفسفوريك وكلها تودي الى تحويرات ايبيجينتكية تؤثر على الطريقة الذي يعبر الجين عن نفسه او تؤدي الى اطفاء او اضاءة الجين. ان اضافة مجموعة الميثايل الى الهستون هي اكثر علامات الايبيجينتك التي درست و فهمت لحد الان.
من الميكانيزمات الايبجينتكية الاخرى هو مايسمى بالدمغ الجيني-Gene-Imprinting. الدمغ الجيني يعني مصدر الموروثة المقموعة نسبيا. ان الموروثة التي يرثها الوليد من احد الوالدين تكون مقموعة نسبيا اوكليا بالمقارنة مع الموروثة التي يشارك بها الوالد الثاني. هذا القمع النسبي للمورثة التي يشارك بها احد الوالدين تؤثر على ظاهر الفرد. فمثلا ان تاثير الجين الخاص بالذكاء الموروث من الام يفوق تاثير الجين الذي يعطيه الأب لنسله. للدمغ الجيني دور كبير في الاورام السرطانية والامراض التي تشمل على نمو غير طبيعي للنسيج ايضا. هناك جينات معينة تقوم النسخة الموروثة من الام بكبح نمو نسيح معين بينما تشجع النسخة الموروثة من الاب نمو النسيج. الفرد الذي تكون النسخة الموروثة من الاب فعالة يكونون اكثر عرضة للاصابة بسرطان معين وبالعكس. في سرطانات محددة بعض الجينات الكابحة للسرطان هي جينات موروثة من الام يفترض بها ان تكون مشتعلة ولكن تكون مقموعة بشكل خاطئ الامر الذي يمنعها من انتاج البروتين الذي يكبح النمو. لقد تم الاكتشاف عن عشرات الجينات المدموغة. ان عملية الدمغ الجيني تحدث عن طريق اضافة مجموعة ميثايل الى الجين او منطقة قريبة منه. هذه العلامات تميز نسخ الجين ويامر الخلية اي من النسختين يجب ان تستخدم. ان اهم الحالات المعروفة عن اضطرابات الدمغ الجيني في الانسان هو متلازمة انجيلمان ومتلازمة برادر-ويللي. كلا المتلازمتين يمكن ان تحصل نتيجة نفس الطفرة في مكان محدد من كرموسوم 15 وان المتلازمة التي تنتج تعتمد على مصدر الكرموسوم الذي يحتوي على الطفرة فيما اذا كان من الاب او الام.
ان الكائن الحي يجب ان يشعل او يستخدم كل جيناته في فترة معينة خلال مسيرة تطوره لكي يعيش. ولذك عند البلوغ تكون كل الجينات بما فيها المقموعة قد ادت وظيفتها ولكن لايمكن ان تعمل كل الجينات معا. ان الفعالية المتزامنة لكل الجينات سوف تنتج فوضى عارمة تمنع تميز الخلايا الى انسجة وتمنع تطور وعمل الكائن الحي. لذلك العديد من الجينات يجب ان تطفئ بشكل مؤقت او دائمي بعد ان تؤدي وظيفتها.
كما قلنا ان التغيرات الايبيجينيتكية تلعب دور في عملية تميز الخلايا لتكون اعضاء مختلفة ذات صفات ووظائف خاصة رغم احتوائها على نفس المادة الجينية. الذي يجعل الخلايا والانسجة والاعضاء مختلفة هو مجموعة الجينات التي تشغل او تقمع في كل خلية او نسيج او عضو. تضمن التغيرات الايبيجينتكية انتقال الاسلوب التي تعبر الجينات عن تفسها من خلية الى سليلاتها و تغير التعبير الجيني خلال تميز نوع معين من الخلية الى انواع اخرى.
وتضمن التغيرات الايبيجينتكية تاثير العوامل البيئية على التعبير الجيني اي على اطفاء او اضاءة الجينات وهو ما يهمني في هذا البحث. ان الدراسة التي قام بها هاس بين دون على سكان غرب هولندا كانت الخطوة الاولى في عملية ترسيخ علم دراسة البيئة على الايبيجينوم. لقد درس هاس سجل الولادات للفترة التي تسمى بشتاء الجوع الهولندي لتحليل التاثير الصحي البعيد المدى للتعرض للمجاعة. اذ قامت المانيا في نهايات الحرب العالمية الثانية بوضع حصار غذائي على غرب هولندا كثيفة السكان حينها والتي كانت تمر بفترة صعبة من نقص المؤون الغذائية نتيجة شتاء ثقيل وتدمير الاراضي الزراعية الامر الذي ادى الى موت 30000 انسان جوعا. وجد هاس بان تعرض السكان الى المجاعة تسبب في وزن ولادي دون الطبيعي في الجيل الرابع. كما وجد بان التعرض للمجاعة يؤدي الى طيف واسع من امراض مرحلة البلوغ مثل الداء السكري والسمن وامراض الشرايين التاجية وسرطان الثدي وسرطانات اخرى. ان هذا الاكتشاف يوحي بان تغذية المراة الحاملة يمكن ان يؤثر على صحتها بطريقة بحيث ليس فقط اطفالها بل احفادها لا بل حتى ابناء احفادها يورثون نفس المشاكل الصحية.
وفي دراسة اخرى وجد الباحثون علاقة بين غذاء الوالدين في فترة ماقبل البلوغ وامراض السكري وامراض القلب في الاحفاد. ففي دراسة لسجلات الولادات والوفيات وسجلات المحاصيل الزراعية في مواسم الحصاد واسعار المواد الغذائية في القرن التاسع عشر لقصبة صغيرة في شمال السويد تسمى اوفيركاليكس وجد مرقص بيمبري البروفسور في علم الجينات السريري في معهد صحة الطفل في لندن بتعاون مع الباحث السويدي لارس اولوف بايجرن دلائل على انتقال تاثير العامل البيئي عبر الاجيال. لاحظوا بان التذبذب في وفرة المواد الغذائية قد يكون له تاثيرات صحية يمتد على الاقل لجيلين. اذ وجدوا بان المجاعة في مراحل معينة من حياة الاجداد يمكن ان تؤثر على مدى حياة الاحفاد. فاحفاد الاشخاص الذين عاشوا في وقت الوفرة كانوا اكثر عرضة للاصابة بداء السكري. كما ان الابناء عاشوا اطول اذا كان كمية الاكل المتوفر للاجداد قليلة خلال هذه الفترة بالتحديد. لقد وجد بان تاثير كمية الاكل كان خاصا بالجنس. ان الاكل المتوفر للجد اثر على معدل وفياة احفاده الذكور فقط وليس حفيداته من الاناث. كما ان كمية الاكل المتوفر للجدة من طرف الاب اثر على معدل وفيات حفيداتها وليس احفادها. هذا الامر حدا ببيمبري ان يعتقد بان جينات معينة على الكروموسومات الجنسية X و Y هي التي تاثرت بالاشارات الايبيجينتكية. تحليلات اضافية اكدت اعتقاده هذا، فعندما اعاد الباحثون فحص معطيات اوفيركاليكس وجدوا بان التاثير مرتبط بالجنس بشكل ملفت للنظر.
وتمكنوا من اكتشاف اي المراحل من تطور الاجداد كان بامكانها اطلاق هذه التأثيرات عبر الاجيال. ان اهمية مرحلة النمو البطي اي فترة ما قبل المراهقة قد اثبت في كل من الاجداد والجدات ولكن التاثير الاكبر لتوفر الغذاء في الجدات حدث عندما كن في المرحلة الجنينية. اي ان الحفيدات الاكثر تاثرا كن هؤلائي اللواتي حصلن جداتهن على كميات وافية من الاكل وهن في بطون امهاتهن اي المرحلة الجنينية اي بالتحديد في المرحلة التي كانت البويضات تتكون في الجدات. بينماالاحفاد من الذكور الاكثر تاثرا كان هولاء الذين توفر لاجدادهم كميات وافرة من الاكل في المرحلة التي تسمى بمرحلة النمو البطيئ، اي قبل المراهقة وهي فترة مهمة جدا في تكوين الحيامن.
هذه التوقيتات تدل بان المعلومات الايبجينتكية تمسك من قبل البيضة والحيمن في المراحل الاساسية في تكوينها.
لاستقصاء الموضوع اكثر قام باحثو دراسة سميت ب ALSPAC في جامعة برستول بتحديد 166 اب من مجموع 5000 اب مدخن الذين قالوا انهم بداوا التدخين قبل سن 11 سنة. وقارنوا نمو نسلهم. فوجدوا بان اطفال الاباء المدخنين الذين بدأوا بالتدخين مبكرا كانوا اكبر بكثير من بقية الاطفال. بعد الاخذ بعين الاعتبار العوامل الاخرى وجدت الدراسة بان التدخين المبكر للاباء ادى الى BMI اكبر في الابناء وليس البنات في سن التاسعة .
و لوحظ في الانسان ارتباط عكسي بين الوزن الولادي ومجموعة من الامراض الايضية الذي تعرف بمتلازمة اكس و التي تتظمن السمن وارتفاع ضغط الدم وارتفاع الدهون في الدم والداء السكري. لقد تمكن العلماء من احداث نفس التغيرات في معظم اللبائن مثل الماعز والخنازير والفئران عن طريق التلاعب بالاكل والنظام الهرموني.
يقول البروفسور بيمبري " نحن نعتقد بان نتائج اوفيركاليكس و ALSPAC معا تقدم برهان لمبدا ينص على وجود نظام استجابة خاص بالجنس عبر الاجيال في الانسان من طرف الذكر."
" كنا دائما نعرف بان اشارات كيمائية تنتقل من الام الى الجنين في الرحم عبر المشيمة ولكن الشيئ الجديد هو ان تاثيرات عبر الاجيال تنتقل من الذكر ايضا والذي يجلب مستوى جديد تماما من الوراثة. هناك فترات من العمر يطلق فيها المحيط استجابة يكون لها تاثيرات موجية عبر الاجيال. ان فوائد فهم هذه الفترات واضحة جدا من وجهة نظر الصحة العامة.ان دراستنا وجدت منطقة جديدة من البحث التي قد يكون بامكانها ان تساهم بشكل كبير في الصحة العامة ويكون لها تاثير كبير على الطريقة التي ننظر الى مسؤولياتنا تجاه الاجيال القادمة.على سبيل المثال: النظر الى اسباب الوباء الحالي للسمنة_ ربما يجب ان لانلوم نمط حياة الجيل الحالي فقط. ربما ان السمنة حاليا هي استجابة لنمط حياة الاجيال السابقة."
ان دليل اخر على تاثير العامل البيئي على الطريقة التي تعبر الجينات عن تفسها هو مرض ذهان الهوس والاكتئاب او الاضطراب القطبي-Bipolar affective disorder. من المؤكد بان هذا المرض هو مرض وراثي يؤرث من خلال خلل في جين معين ولكن حوالي 30-70% من التوائم المتطابقة يصاب احد التوأمين فقط بمرض ذهان الهوس والاكتئاب. ان قوانين الوراثة التقليدية لاتفسر هذا الامر ولكن الايبيجينتكس تفسره. ان التوائم المتطابقة لهم نفس مادة الدنا-DNA ولكن مادتهم الايبيجينتكية قد تكون مختلفة. وبينما تكون فوارق الدنا-DNA دائمية وثابتة تكون التغيرات الايبيجينتكية في عملية تغير متواصل وتتراكم عبر الوقت. وهذا مايفسر ظهور اعراض ذهان الهوس والاكتئاب بين عمر ال 20-30 سنة و 45-50 سنة وهي المراحل العمرية التي ترافقها تغيرات هرمونية كبيرة التي قد تؤثر بشكل كبير على عمل الجينات من خلال تحويرات ايبيجينتكية.
صرف البروفسور ولف ريك في كابرج سنوات لدراسة التغيرات الايبيجينتكية في الفئران. لقد وجد بان التلاعب باجنة الفئران قد يؤدي الى ايجاد ازرار تضيئ او تطفئ جينات معينة. وقد وجد بان تلك الازرار يمكن ان تورث. هذا يعني بان ذاكرة حدث معين قد تنتقل من جيل الى جيل اخر. بكلمات اخرى ان تاثير بيئي بسيط قد يضيئ او يطفئ جين معين وهذا التاثير يمكن وراثته.
ان الدراسات المختبرية على الفئران اوضحت كيف ان احداث تغيرات في غذائها قد يؤثر على نسلها. اذ وجد هذا العالم بان تغذية الامهات في فترة الحمل باضافات غنية بمادة ميثايل مثل الفولك اسيد وفيتامين ب 12 ادت الى ان تنمو لدى ابنائهن فروة قهوائية اللون. بينما اكثر الفئران التي ولدت من مجموعة الضبط (فئران لم تعطى اضافات غذائية) كانت فروتها صفراء.
وفي تجربة اخرى، عرض العلماء فئران حاملة في منتصف مرحلة الحمل وهي مرحلة تحديد الجنس وتطور الخصيتين الى مادة سمية ( تقوم بتعطيب النظام الهرموني). وجد بان الجيل الاول من الذكور كان له تعداد واطئ من الحيامن وعملية تكوين مني غير طبعية. في حين ان 10% من الحيوانات كانت عقيمة تماما. لقد مرر الذكور بعد تزاوج الجيل الاول هذه النسبة الواطئة من الحيامن والخصوبة الواطئة كحالة مرضية الى الجيل الثاني من الذكور. في الحقيقة قد لوحظ انتقال هذه الحالة المرضية الى الجيل الرابع. ان انتقال المرض عبر الاجيال حدث في 90% من الذكور. لايمكن تفسير انتقال المرض من خلال طفرات في تسلسل مادة الدنا-DNA والتي كانت ستحدث في اقل من 1% من الفئران. تشير التحليلات الى ميكانزم ايبيجينتكي الذي يتمثل بميثلايزيشن لجين محدد.
وفي تجربة اخرى وجد العلماء بان تعريض المؤقت للفئرن الحوامل في مرحلة تحديد الجنس الى مادة معطبة للهرمون الذكري تسمى فينكلوزولين vinclozolin والتي تستخدم كمبيد للفطريات في الزراعة ادى الى ظهور نسب عالية من سرطان الثدي، وامراض البروستات، و امراض الكلية، واختلال النظام المناعي والشيخوخة المبكرة في فترة البلوغ لفئران الجيل الاول. هذه الامراض انتقلت خلال الحيامن الى 85% من الذكور الاجيال اللاحقة التي درست.
ان الميكانزم الذي يفسر هذه الظاهرة ايضا هو ميكانزم ايبيجينتكي الذي يؤدي الى اضافة مجموعة الميثايل الى مادة الدنا في الحيمن والتي ادت الى الدمغ الجيني وبالتالي الى تغير في الايبيجينوم. اعادة البرمجة للايبيجينوم تصبح دائمية وتسمح بانتقال الحالة المرضية عبر الاجيال الى كل الفئران اللاحقة.
مايكل ميني المختص في علم البايولوجي في جامعة ماك جيل (Mc Gill) درس مفهوم اخر وهو ان بعض التغيرات الايبيجينتكية يمكن احداثها بعد الولادة من خلال سلوك الام الفيزيائي تجاه وليدها. في عمل مشترك مع اين وويفر، قارن ميني نوعين من الامهات من الفئران: هؤلائي اللواتي لحسن اولادهن بصبر بعد الولادة وهؤلائي اللواتي اهملن اولاهن. لقد وجدوا بان الوليد الذي لحس كبر ليكون شجاع وهادئ، بينما الوليد المهمل كبر ليكون فأر خائف ينسحب الى اكثر الزوايا ظلامية عندما وضع في محيط جديد.
بعد تحليل انسجة دماغ الفئران في المجموعتين وجد الباحثون اختلاف واضح في اسلوب الميثايليزيشن لمادة الدنا في خلايا منطقة الهايبوكمبس في دماغ المجموعتين. كان تاثير عملية لحس الامهات لوليدهن ازالة مفاتيح في الموروثة التي تصوغ مستقبلات القلق في دماغ الفئران حديثة الولادة. ان الفئران التي لحست بشكل جيد كانت منطقة الهايبوكمس اكثر تطورا وتفرز كمية اقل من هرمون الاجهاد مما جعلها اكثر هدوءا عندما جفلت. في المقابل ان الفئران التي اهملت كانت تفرز كميات اكبر من الكورتيزون وكانت منطقة الهايبوكمبس اقل تطورا وكان رد فعلها مصحوب بقلق اكثر عندما اجفلت او عندما وضعت في محيط جديد. هذا يعني ان سلوك بسيط للامهات من الفئران تصوغ ادمغة نسلهن.
الدراسات التي قام بها بيمبري وعلماء الايبجينتك الاخرون تشير الى ان لاكلنا وسلوكنا ومحيطنا البيئي والاجتماعي والعواصر العائلية والسموم الامكانية على تغير شفراتنا الجينية والطريقة التي تعبر جيناتنا عن نفسها اليوم وقد يكون لها تاثير اكبر بكثير مما اعتقدنا على صحة نسلنا البعيد. اي انهم اثبتوا بوجود وراثة بيئية.

ويفتح هذا الاكتشاف الباب امام دراسات اخرى مبنية على استنتاجات منطقية مثلا ان التدخين ونوع الاكل واستخدام المواد المخدرة والوزن وقلة الرياضة ونوع العمل والعلاقات الاجتماعية وتعريض التفس للاجهاد وغيرها من الامور في حياة الفرد قد تترك اثر على ايبيجينومه بشكل ينتقل الى نسله.
سيكون للايبيجينتكس تطبيقات مهمة جدا في مجال الزراعة والطب. سيلعب علم الايبيجينتكس دور كبير في فهم و تفسير الامراض وعلاجها وفي تباين استجابة المرضى للدواء. ان الاحداث التاريخية لها دور في بعض الامراض المعاصرة لذا فان نوع المجتمع والصحة العامة تصبح اكثر اهمية. للايجينتكس تاثيرا صحية انية مثل اكتشاف الكثير من المركبات التي تعتبر عوامل ايبيجينتكية مسرطنة تؤدي الى زيادة السرطانات ولكنها لاتسبب في طفرة جينية مثل النيكل وهيكساكلوروبينزين وارسينايد وغيرها.
رغم ان بعض الصفات الايبيجينتكية التي تؤرث قد تفقد فعاليتها عبر عدة اجيال الا ان تاثرها قد يصبح دائمي من خلال عدة ميكانيزمات منها استجابة الانسان للتغير الايبجينتكي. هناك دلائل متزايدة على دور الايبجينتك في عملية تطور الانواع. الايبيجينتك هي في الحقيقة نوع من تكيف عبر الاجيال مع العوامل البيئية ويضمن التطور القصير الامد للانواع.
يقول مرقص بيمبري على المدى الطويل تضمن عملية التطور الداروينية عن طريق الاخطاء العشوائية في مادة الدنا بان يتكيف الجنس البشري مع التغيرات البيئية ولكنها تاخذ اجيال عديدة. الان هناك دلائل على وجود ميكانزم اخر.
ان نظرية البروفسور بيمبري تشير الى ان نظام الاستجابة القصير الامد هذا والذي يضبط في المحصلة النهائية الطريقة التي تتصرف جيناتنا يسمح للاجيال القادمة الاستجابة للتهديدات التي واجهت ابائنا واجدانا. حيث يقول بيمبري " انا اعتقد بان نتائجنا هي علامات على ميكانزم استجابة يتطور في الانسان والذي يسمح لنا التكيف مع اوضاع مختلفة من جيل الى اخر."
باختصار ان تجارب بيئية يمر بها الانسان قد تساهم في اعادة برمجة الفعالية الجينية بحيث تؤدي الى اضاءة او اطفاء مجموعة معينة من الجينات حسب حاجة الجسم. ان البرمجة الجينية هذه تنتقل عبر الاجيال. هذا يعني بان سلوكنا له تاثير على الاجيال القادمة. ان انماط الاستجابة الايبجينتكية هي استجابة تطورية تمكن الاجيال من الاستجابة للعامل البيئي. وربما ان التغير الايبجيينتكي يجعل الجين اكثر عرضة للطفرات التي توجه عملية التطور الداروينية.
ان الايبيجينتكس تعزز نظرية الداروينية للتطور لانها بعكس التطور الدارويني الذي ياخذ فترات زمنية طويلة تمكننا من ملاحظة استجابة تطورية لعوامل بيئية في فترة قصيرة نسبيا. ولكن الاهم من هذا تثبت نظرية الايبيجنتكس بان معظم الاختلافات بين البشر هي نتيجة البيئة. لقد وجد بان عدد جينات الانسان اقل بكثير مما كنا نعتقد وان الجينات المختلفة بين مجتمعين يعيشان في بيئتين مختلفتين جدا اجتماعيا وجغرافيا مثلا سكان السويد وقبيلة في افريقيا لاتتجاوز ال 700 جين. هذا يدل على ان الانسان اكثر تحررا من الجينات واكثر خضوع للبيئة. لذا فان الاختلافات بين البشر هي بيئية اكثر مما هي بايولوجية. ان المسالة ليست حول ضرورة ان يكون البشر متشابهين او مختلفين. ان الايبيجنوم لايجعل الانسان اكثر تشابها بل ربما يجعلهم اكثر اختلافا. مثلا ربما ان تخصص شخص في مجال معين يؤثر على طبائع ابنائه واحفاده وعلى الاختصاص الدراسي و العمل الذي سيختارونه بغض النظر عن كل العوامل الاخرى. ان التاثير البيئي السلبي او الايجابي على الانسان سيؤثر على نسله. ان الذي نتسنتجه من الايبجينتكس هو ان لاشرعية للاسس التي يتم على اساسها التميز بين البشر في المجتمعات الطبقية وخاصة النظام الرأسمالي.
في التحليل النهائي تستند الرسمالية ومنظومتها الفكرية على ان البشر غير متساويين ويجب ان يكونوا كذلك لانهم مختلفين بايولوجيا وخلقوا من قبل اللة او الطبيعة هكذا. يقولون ان الناس مختلفين لان الحياة بحاجة الى ان يكونوا مختلفين. فاذا كان جميع البشر نابغة فمن يقوم باعمال تعتبر اليوم في نظر البشر واطئة وحقيرة وبالنتيجية كيف يمكن للحياة ان تستمر اذا تساوى البشر في كل شيئ. وكان هذا الطرح الى حد اليوم يبدوا نوعا ما مقنعا. رغم ان التحرريين ودعاة مساواة البشر لم يقبلوا بالتفريق بين البشر على اساس اختلافات مثل طول القامة ولون البشرة والجنس والطبقة الاجتماعية والديانة والعرق ومكان الولادة وغيرها الا انه كان عليهم القبول بحيقيقة ان البشر اليوم مختلفين الى درجة كبيرة حتى من الناحية البايولوجية بما فيها الناحية الجينية. هناك الذكي و الغبي، القوي والضعيف، المغرور والمهزوز، الشجاع والجبان، و الهادئ و المتوتر، الرزين والمتهور والقائمة لاتنتهي. وهذه الاختلافات تعطي اساس شرعي من وجه نظر الرأسمالية لوجود التمايز الاقتصادي والاجتماعي بين الافراد وبالتالي التمايز الطبقي.
كان قبل عدة عقود كل الامال لدى الاخصائين لتفسير هذا الفوارق في الكشف عن الخريطة الجينية للانسان ومن ثم الكشف عن الفروقات الجينية التي تودي الى الفروقات الفيزيائية والاجتماعية بين البشر، ولكن تمكن العلماء من الكشف عن الجينوم او الخارطة الجينية للانسان دون ان تؤدي الى تحليل كل هذه الفروقات بين البشر، بل عقدها هذا الاكتشاف اكثر. البشر رغم كل الاختلافات الظاهرية تشارك في 99.9 من الجينات. بالنسبة للمحافظين والرجعيين حتى بين العلماء كان هذا 0.1 من الاختلاف الجينيى كافيا لكي يستكين ويقر بالفروقات الموجودة بين البشر ويدعو الى خلود النظام الرأسمالي الذي يستند على عدم مساواة فظيعة بين البشر. ولكن نطرية الايبيجينتكس تشير الى تفسير اخر لهذه الاختلافات والتي هي في معظمها من صنع البيئة والظروف التي هي من صنع النظام الطبقي نفسه. ان اختلاف البشر ليس امرا سيئا ولكن قابلية الانسان للتأثر بالعوامل البيئية والاختلاف يجب ان يستفاد منه بشكل ايجابي يخدم البشر. كما ان هذه الاختلافات لاتعطي اي شرعية للتميز بين البشر. مثلما اثبتت النظرية الداروينية اصالة اداعات الماركسية بخصوص تفسيرها المادي لتاريخ الانسان تضيف الايبجينتكس دليل اخر مهم على اصالة الادعاءات الماركسية بخصوص تساوي البشر بغض النظر عن كل الاختلافات الظاهرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب الفضاء لم تعد خيالا.. حرب خفية أميركية روسية صينية تهدد


.. سقط بلا أضرار.. العثور على بقايا صاروخ باليستي إيراني في صحر




.. متسلقون يعثرون على بقايا صاروخ إيراني في صحراء جنوب إسرائيل


.. سماء أثينا تتحول للون البرتقالي بسبب الغبار القادم من الصحرا




.. -الحب الجوال- ألبوم جديد للموسيقي والطبيب عبدلله المصارع