الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مديرية الآثار والمتاحف على حافة الانهيار

أحمد حسن

2008 / 1 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تناولت وسائل الإعلام السورية العامة والخاصة، الورقية والالكترونية، في الآونة الأخيرة موضوع آليات العمل في المديرية العامة للآثار والمتاحف، كأحد المحاور الأساسية في حياة القطر كغيره من المواضيع السياسية والاقتصادية التي تلعب دوراً هاماً في هذه المرحلة من التغيرات المحلية والدولية سترسم مستقبل سورية في السنوات القادمة.. وقد كان لتناول تلك المواضيع في الإعلام بعض النتائج الإيجابية أدت إلى تغيير واضح في سياسة الحكومة تجاهها، وقد رأينا مؤخراً تعديل بعض القوانين أو المشاريع المقترحة اعتماداً على ما طرح في وسائل الإعلام، وكان آخرها موضوع رفع الدعم (أو إعادة توزيعه) عن جزء من المواد الضرورية في حياة المواطن..
في هذا المقال نحاول أن نلخص النقاط الأساسية التي تناولتها وسائل الإعلام عن أهم العثرات التي تعيق تطور العمل الأثري في سورية سواء نتيجة قلة الإمكانات المتاحة أو عدم قدرة الإدارة الحالية لمديرية الآثار على الاستفادة من تلك الإمكانات ووضعها في الطريق الصحيح لتطوير العمل الأثري ومواكبته للمعايير المطلوبة منه بحيث يصبح أحد أهم القطاعات السورية التي تعكس هويتنا الحضارية بصورتها الصحيحة، وتساهم في الدخل الوطني من خلال استثمارها بالشكل الأنسب في قطاع السياحة الذي يجب أن يكون الدخل الوطني الأول في سورية بغياب شبه كامل لأي قطاع آخر قادر أن ينافس الآخرين على الصعيد العالمي.

إن المتابع لما كتب عن مديرية الآثار، والأجوبة الخجولة وغير المقنعة التي ردت فيها أحياناً إدارة الآثار، يتساءل عن السر الذي يكمن وراء بقاء تلك الإدارة في موقعها وإصرارها على متابعة عملها بنفس الآليات المشكوك بسلامتها، بل يتوقع وجود طريقة سحرية تدار بها تلك المديرية بمهارة فائقة تبقيها على حافة الانهيار في أي لحظة، رغم وجود العوامل المساعدة للتقدم، لكن تم الاكتفاء بذر الرماد في العيون والتركيز على اكتشاف أثري حدث هنا أو معرض أقيم هناك أو ندوة عقدت في مكان ما، بينما المواقع الأثرية تعاني الويلات على أرض الواقع نتيجة الإهمال والتقصير، وتاريخنا نائم لا يحاول أحد إيقاظه وإن تم ذلك فبطرق خاطئة، وحضارتنا مهملة لا يحاول أحد نشر ثقافتها وإن تم ذلك فبطرق خجولة، والعاملون في مديرية الآثار يتخبطون نتيجة محاصرتهم بكل ما يكبح طموحاتهم بالعمل الجاد والمثمر.. كل ذلك ضمن إدارة تغيب عنها استراتيجيات العمل الحالي والتخطيط الفعلي للعمل المستقبلي.. وكل ذلك يدعو للتساؤل:
هل هو أمر مقصود ومخطط له لتغييب الآثار السورية على الصعيد العالمي، وعدم دراستها ونشر المعلومات عنها بالشكل الصحيح، وعدم إدخالها بمحور دعم الاقتصاد الوطني.. ؟!

بداية، سنعرض المهام الملقاة على عاتق مديرية الآثار ضمن القوانين والأنظمة المتعلقة بطريقة عملها، وبعد ذلك سنعرض المواضيع التي تناولتها وسائل الإعلام وألقت الضوء من خلالها على الطريقة التي تتعامل بها مديرية الآثار لتنفيذ المهام المطلوبة منها، وسنرى الفرق الهائل بين ما هو عليه الحال وبين ما يجب أن يكون..

حددت مهام مديرية الآثار من خلال قانون الآثار السوري والنظام الداخلي للمديرية بالعمل على الاهتمام بالمواقع الأثرية المعروفة من خلال إحصائها ودراستها ونشر المعلومات عنها وترميمها وصيانتها وتوظيفها بالشكل المناسب، والكشف عن المواقع الأثرية غير المكتشفة من خلال أعمال التنقيب السورية والإشراف على أعمال التنقيب الأجنبية ونشر المعلومات المتعلقة بنتائج تلك الاكتشافات، وترميم وتخزين اللقى المكتشفة وعرض الهام منها في المتاحف التي يجب تطويرها والاهتمام بها، إضافة إلى أعمال نشر الثقافة الأثرية داخل وخارج القطر من خلال الندوات والمؤتمرات والمعارض والمنشورات العلمية التي تساهم بكتابة تاريخ سورية وإلقاء الضوء على الجوانب الغامضة منه، ومع هذه الأعمال تترافق أعمال الحفاظ على الثروة الأثرية داخل القطر من خلال التعاون مع كافة الجهات المحلية والدولية.. وتنفذ تلك الأعمال بواسطة كوادر المديرية العامة للآثار التي يجب أن تطبق عليها المعايير السليمة لتوفير أجواء العمل المريحة والحوافز اللازمة لبذل الجهود والإبداع في تنفيذ سياسة المديرية.

نبدأ من العامل البشري الذي تقع على عاتقه مهمة تنفيذ تلك الأعمال، ونقتطف مما نشرته جريدة الثورة في مقال بعنوان (مسلسل من 264 حلقة اسمه مديرية المتاحف) في عدد 5 أيلول 2007 (عندما تفند وتخرق حرمة المراسيم التشريعية والقوانين التي جاءت كعصارة للفكر البشري لخدمة الإنسان, يتحول محيط هذا الإنسان إلى غابة. وعندما تحفظ له تلك القوانين حقوقه, وكرامته, يشعر أنه إنسان قادر على العطاء, إذا قام بواجبه أخذ أجره, وإذا قصر في عمله عوقب, وإذا أبدع كوفئ.‏‏ في مديرية الآثار, يتحول القانون إلى قصيدة شعر سريالية يفسرها المدير كما يريد, ويطورها دائماً كلما يريد, فيضيف لها أبياتا جديدة ويحذف منها أخرى حسب المكان الذي يريد أن يستعرض فيه شاعريته). ويتابع المقال عرض عشرات الاختراقات التي تحدث في مديرية الآثار بتوزيع المكافآت حسب آليات غير سليمة تتبع أهواء المدير العام والتناقضات الصارخة التي تسيء إلى مسيرة العمل الأثري وتكاد توقفه.. ليصل المقال إلى تساؤل هام فحواه (نتساءل, بماذا سيشعر أي آثاري يقضي أكثر من نصف وقته في العراء تحت الشمس ومع الغبار كي يكتشف شيئاً جديداً يضيف صفحة لامعة لتاريخ هذا الوطن. وكيف سيشعر أي مهندس يقضي أكثر من نصف وقته غارقاً في الأرقام والحسابات, والنصف الآخر من وقته في الورشة بين العمال والمواد لإنجاح مشروع ترميم أحد الأبنية الأثرية. وكيف سيشعر العشرات من الذين يقومون بأعمالهم بإخلاص ونشاط طيلة العام.‏‏ ما هو شعورهم عندما يعلمون أن المكافآت توزع بالطريقة المذكورة, وأن سائق المدير وآذن المدير ومدير مكتب المدير هم أشخاص أكثر منهم أهمية وتقديراً في نظر الإدارة.. هل سيندفعوا أكثر في عملهم ويزداد حماسهم, أم سيحبطوا ويبدؤوا باللامبالاة).
ومن خلال رد مدير عام الآثار على هذا المقال بمقال نشرته جريدة قاسيون الالكترونية في عدد 7 أيلول 2007، يفتخر بأن السيد وزير الثقافة يلومه دائماً لأن مديرية الآثار أصبحت جمعية خيرية تهب المكافآت يمنة ويسرة، ويتابع تبريراته حول صرف المكافآت بأن الراتب الشهري للسائق لا يكفي فرداً من أفراد عائلته، وأنه من أكثر المديرين العامين الذين يدعمون الطبقة الكادحة ويجزلون لها العطايا بسخاء، وكلنا لدينا أطفال صغار نريد تربيتهم وتنشئتهم.
هكذا يتحول مفهوم المكافآت، من دعم لذوي الإبداع إلى دعم خيري لحاشية السيد المدير العام.

وفي نفس الرد يقول المدير العام بأن معظم موظفي المديرية العامة للآثار يتقاضون منحاً أجنبية بإشراف رئاسة مجلس الوزراء.. وهنا نذكر السيد المدير العام بأن الذين يتقاضون تلك المنح باليوروات والدولارات هم قلة قليلة من حاشيته، وإلا كيف يفسر توزيع تعويضات المشروع الإيطالي الحالي التي تقضي بصرف ألف يورو كراتب شهري له لمدة ثلاث سنوات، ونفس الأمر راتب شهري ألف يورو لكل مدير من مدراء إدارته المركزية، إضافة إلى عدة مئات أخرى من اليوروات لبعض الأشخاص الذين توضع أسماؤهم في ذلك المشروع بدون أسباب مقنعة وأحياناً لا علاقة لهم بالمشروع.. نتساءل بأي منطق سيقوم موظفو المديرية البالغ عددهم عدة مئات بمهامهم بشكل سليم وهم يرون أن السيد المدير العام وعدة أفراد من حاشيته يتقاضى كل منهم شهرياً ألف يورو أو عدة مئات.. مهما كانت المبررات أو الحجج أو القوانين، والأكثر من ذلك أن أولئك الأشخاص هم أنفسهم الذين يسافرون خارج القطر إلى مؤتمرات وندوات لا علاقة لبعضهم فيها ولا يجيدون حتى تحدث أي لغة أجنبية، ويأخذون مهمات السفر الخارجية والداخلية، وتوضع أسماؤهم كباحثين في المعاهد الأجنبية داخل القطر ليتقاضوا أجوراً إضافية.. وكأن مديرية الآثار خلت من الكوادر والعقول باستثناء تلك القلة القليلة.
إن ما يحدث حالياً في مديرية الآثار بهذا التوزيع العشوائي وغير المنطقي لتلك الكميات الهائلة من الأموال الأجنبية بحيث يتقاضى البعض أكثر من ألف يورو شهرياً نتيجة إدراج اسمه في أكثر من مشروع أوربي، بينما يبقى البعض على راتبه الشهري الذي لا يتجاوز مائة وخمسين يورو في أفضل الأحوال، ينشر حالة من الاستنكار وعدم الارتياح والإحباط والقرف.. بين معظم موظفي المديرية، مهما كانت مرجعية توزيع تلك الأموال، إضافة إلى أن هذه الطريقة من صرف أموال الدعم الأوربي التي تتحول إلى رواتب وأجور وهمية لا تؤدي في النهاية إلى مظاهر تطوير حقيقية لواقع الآثار تعني بشكل أو بآخر أننا نهدر تلك الأموال بدون فائدة، ونتحمل شائعة الدعم الأوربي والمنح الأجنبية لتطوير قطاع الآثار.. ويكفي أن نعلم أن ميزانية المشروع الإيطالي لوحده تجاوزت عدة ملايين من اليوروات (حوالي نصف مليار ليرة) معظمها يصرف كرواتب وأجور للأشخاص المشاركين في المشروع، وفي النهاية سيقال أن الحكومة الإيطالية منحت سورية تلك الملايين لتطوير آثارها بينما في الحقيقة ذهبت تلك الملايين لجيوب بعض العاملين في الآثار سواء كانوا من سورية أو من الخبراء الأجانب، ونحن بأمس الحاجة لترميم مبنى أو تأهيل موقع أو نشر مجلة.. أو حتى بناء تواليت في موقع أثري.

وفي مقال بعنوان (العاملون في مديرية الآثار يستنجدون: أنقذوا الآثار من القائمين عليها) نشرته جريدة الجمل الالكترونية في عدد 16 شباط 2007 يذكر أن مديرية الآثار تعاني دائماً من قلة الكوادر الفنية، وأن المدير العام استغل هذه الناحية لتوظيف عدد كبير من الناس الذين تربطه بهم أو بأقربائهم أو بوساطاتهم علاقات خاصة (نهمس بإذن المدير العام، كم هو عدد الذين قام بتوظيفهم خلال العامين الماضيين في مديرية الآثار وخاصة بطريقة عقود الثلاثة أشهر، علماً أن تلك الطريقة سمح بها القانون لبعض الحالات الاستثنائية، ولم يسمح بها كحالة تعمم يوظف من خلالها أكثر من ألف موظف مؤقت. ولن نكون من الدعاة لتطبيق القانون بحرفيته، وسنغفر له أنه تجاوز النص القانوني لو كان في سبيل تحقيق أهداف المديرية والمصلحة العامة عندما وظف أولئك المئات في مختلف محافظات القطر دون أن يكون لهم عمل حقيقي أو حاجة حقيقية، إذ جاؤوا وذهبوا كما جاؤوا دون أن يقدموا شيئاً للمديرية اللهم إلا إرضاء المدير العام من خلال إرضائه لعشرات الواسطات التي كانت خلف تلك التعيينات الوهمية في مكاتب المديرية، ونتساءل أيضاً عن عشرات الحالات المضحكة في تلك التعيينات بسبب اختصاصاتها التي لا تحتاج إليها المديرية لا من قريب ولا من بعيد.. ولا نبالغ، فالقوائم والأعداد متوفرة.. علماً أن المديرية كانت وما زالت بحاجة ماسة لتوظيف مئات الحراس المؤقتين لحراسة بعض المواقع الأثرية التي يتجاوز عددها الآلاف.. لكن هدرت عدة ملايين من الليرات قد تصل إلى أكثر من 15 مليون ليرة على تعيينات وهمية لا حاجة لها إلا إرضاء البعض). وهنا لا بد من الربط مع قول المدير العام في جريدة قاسيون المذكورة (يكفيني فخراً أن الإحصاءات تقول أن أكثر جهة عامة يقصدها الباطلون عن العمل هي مديرية الآثار)؟!
وفي نفس مقال الجمل المذكور يتساءل عاملو المديرية عن عدة أنواع من الفساد تعاني منها مديريتهم كعدم العدل بتوزيع تعويضات السفر الداخلي بين الموظفين إذ أن بعضهم أخذ تعويضاته كاملة وبعضهم أخذ نسبة بسيطة جداً منها، والتوزيع غير العادل للسيارات، والمكافآت، ومنح المعاهد الأجنبية، والأسفار الخارجية..
مما سبق نستنتج الآلية التي يعامل بها موظفو الآثار، وهي بالنهاية طريقة تؤدي إلى إحباط العاملين وعدم قيامهم بالمهام الموكلة إليهم، مما يعني أن مديرية الآثار غير قادرة على تنفيذ الهدف الذي وجدت من أجله.

وأمام هذا الواقع المظلم، لا بد لمديرية الآثار من تبييض صورتها أمام الرأي العام المحلي والجهات الحكومية المختصة، بأنها مديرية فعالة ونشيطة وتنفذ أعمالها بكل جد ونشاط، وتصرف ميزانيتها بنسبة 99% كل عام، وهنا نورد بعض ما جاء في مقال (نظرية جديدة في علم الاقتصاد تتوصل إليها مديرية الآثار) نشرته جريدة الجمل الالكترونية في عدد 26 آذار 2007 حيث قامت المديرية بالتلاعب بأساليب صرف الميزانية لتصبح 99% بدلاً من النسبة الحقيقية وهي 70% (بعض الإدارات لم ترض إلا أن تكون في الصدارة من حيث صرف الميزانية، فآلت على نفسها أن تصرف ميزانيتها مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الطرق المتبعة، قانونية أو غير قانونية، منطقية أو غير منطقية، المهم أن تصرف الميزانية ولا يعود أي قرش إلى خزينة الدولة في نهاية العام. أهم الطرق التي تتبعها بعض الإدارات، هي تنفيذ الأعمال بطريقة سريعة ودون مراقبة، مما يعطي في النهاية مشاريع منفذة في وقتها، لكنها بنوعية سيئة. وطريقة أخرى هي تحويل بنود الموازنة من المشاريع الصعبة التي تحتاج لجهود حقيقية لصرف ميزانيتها إلى مشاريع سهلة وسريعة تصرف كثيراً من الأموال وبزمن قصير.. وقد تحول تلك الأموال إلى بنود لشراء معدات وتجهيزات قد تكون الإدارة ليست بحاجة حقيقية لها. ومن الطرق غير القانونية صرف كشوف مالية لبعض المشاريع لأعمال لم تنفذ بعد، على أمل تنفيذها لاحقاً خلال الوقت الضائع بين نهاية العام وبداية العام الجديد.. تجاوزت مديرية الآثار في عام 2006 كل تلك الطرق التقليدية لصرف ميزانيتها الاستثمارية، وكانت النتيجة في نهاية العام أن نسبة التنفيذ حوالي 99%.. لم تستنفر مديرية الآثار لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية، ولم تتعب نفسها بالبحث عن حلول جدية لتسريع وتيرة العمل، ولم تضطر لإجراء مناقلات بين بنود الميزانية لشراء معدات أو أجهزة أو شراء أراض لبناء متاحف أو غيرها، أو لتنفيذ مشاريع سهلة.. بل لجأت لطريقة أسهل بكثير، وأبسط بكثير، طريقة سحرية، أقل ما يمكن القول عنها أنها طريقة "التنابل" أو "قليلي المروة".. لكن تلك الطريقة، رغم بساطتها، وسذاجتها، تحمل بين طياتها مهارة إدارية لا يستهان بها، وتستحق أن تأخذ عليها براءة اختراع يجب تعميمه على كافة مؤسسات الدولة لتستفيد منه في الأعوام القادمة لتصبح كافة تلك المؤسسات ناجحة، وبالتالي يصبح هذا الوطن معافى)، وقد كانت تلك الطريقة ببساطة هي إيقاف قسم كبير من مشاريع الترميم غير المكتملة وتحويل ميزانيتها إلى بند الاستملاك لتقوم مديرية الآثار باستملاك عقارات بالمبلغ المتوفر عن عدم تنفيذ المشاريع.
هذه الطريقة في تبييض صورة المديرية أمام الحكومة والرأي العام، هي نفسها المتبعة في بقية النشاطات المعلن عنها، ويكفي هنا أن نذكر بالضجة الإعلامية التي تفتعلها المديرية مع كل معرض آثاري تقيمه خارج سورية، ففي كل عام تجند المديرية كوادرها لتنفيذ حوالي ثلاثة معارض خارجية، تقوم خلالها بترحيل عدد من القطع الأثرية لتجوب أنحاء الأرض، ورغم كل ما يقال عن أهمية هذه المعارض في الدعاية لسورية وللآثار السورية، إلا أن الأخطار التي تتعرض لها تلك القطع الأثرية كالتلف أو التحطيم أو السرقة لا يمكن غض النظر عنها، وقد تناولت هذا الموضوع جريدة النور في عدد 12 تشرين ثاني 2003 في مقال عنوانه (آثارنا على بساط الريح.. تجوب العالم وترجع إلينا وهي رميم) ومجلة الاقتصاد العالمي في العدد 9 عام 2004 في مقال عنوانه (الجهل والتقصير يحكمان الآثار السورية.. سرقة الآثار تقودها أياد محترفة) ونشرة كلنا شركاء الالكترونية في عدد 21 كانون أول 2003 في مقال عنوانه (الآثار السورية في دائرة الخطر)، ورغم محاولة الإدارة الحالية تفادي بعض أخطاء الإدارات السابقة إلا أن آليات العمل المتبعة خلال تنفيذ هذه المعارض ما تزال لا ترقى للمستوى الذي يخدم فعلاً نشر الثقافة الآثارية السورية في الخارج، إذ أن معظم هذه المعارض لا تتوفر عنها كتب (أدلة) لتوثيقها ووضعها في أيدي القارىء السوري، وبعض الأدلة لا يشارك في كتابة بحوثها أحد من السوريين، حتى أن عدة معارض أقيمت سابقاً مثل معرض "أنا زنوبيا" ومعرض "صلاح الدين"، كتبت في أدلتها بأيدي باحثين أجانب مقالات تسيء للتاريخ العربي وتشوه رموزه، كما جاء في مقال (تزييف التاريخ ممهوراً بتوقيع السيد المدير المهذب الطيب القلب) الذي نشرته جريدة الجمل في عدد 29 كانون الثاني 2007 ويعتمد أيضاً على عدة مقالات نشرت في مجلة أبيض وأسود وجريدة تشرين (إلا أن الإشارة للمقالة التي استهليت بها مقالتي تكفي لمعرفة ما آل إليه وضع المديرية العامة للآثار، والتي يفهم منها أن هذا الصرح يدمر تدميراً منهجياً مدروساً في الوقت الذي يسعى فيه المسؤولون عنه لتقديم صورة براقة مزيفة لإخفاء الأخطاء التي ترتكب بسوء نية أو بالإهمال كما حدث في معرض "أنا زنوبيا" ومعرض "صلاح الدين" في فرنسا منذ عدة سنوات حيث عرضت القطع الإسرائيلية بجانب القطع السورية وفي خزانة واحدة أحياناً، فضلاً عما احتواه دليلا المعرضين من أخطاء ومغالطات مقصودة بحق تاريخنا وتراثنا وهويتنا، تصل إلى حد الإساءة الكبيرة للعرب، والترويج لأفكار توراتية صهيونية "فالجيش الذي رافق صلاح الدين في ذاك العهد كان بمعظمه من الأتراك والأكراد، أما العرب فكانوا وحدة صغيرة فيه وأغلبهم من اللصوص وقطاع الطرق"، "وصلاح الدين كان من أصل كردي، وشخصيته عنيفة ودكتاتورية، وكان يكره العلماء ويحمل كرهاً شديداً للشيعة وحاول القضاء عليهم"، "وزنوبيا ملكة تدمر حكمت تدمر في فترة ازدهارها، أما من أسس تدمر فهو الملك التوراتي سليمان الذي بناها عندما كانت خراباً في البرية"، "وزنوبيا كانت ميالة للديانة اليهودية وربما اعتنقتها، وقد عاشت الطائفة اليهودية في عهدها حرية كبيرة خلال القرن الثالث الميلادي"، "وزنوبيا لم تكن أبداً ذات أصل عربي، ولكنها كانت على علاقة ما بالقبائل العربية..."، تلك هي بعض الأفكار التي وردت في دليلي المعرضين المذكورين، وتلك هي الأفكار التي خرج بها عشرات الألوف من زوار المعرضين الذين جاؤوا ليعرفوا حقيقة تدمر وزنوبيا وصلاح الدين، أفكار كتبت وطبعت وقدمت لهم باللغة الفرنسية وبموافقة المديرية العامة للآثار والمتاحف...). وقد كان رد مديرية الآثار على هذا الموضوع رداً سطحياً مليئاً بعبارات الإساءة إلى اسم الموقع، والمطالبة بفرض القيود على المواقع الالكترونية، والإشارة إلى أن نقد المدير العام يعني نقد السلطات العليا التي عينته، إضافة إلى إثارة قضايا شخصية تتعلق بصاحب الموقع ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالموضوع المطروح.
والخوف كل الخوف أن تكون بقية المعارض تحوي مثل تلك الأخطاء القاتلة التي تخدم أعداء الأمة أكثر مما تقوم بالدعاية لمصلحتها، وفي هذا الصدد لا بد من لفت الانتباه إلى المعرض الحالي المقام في معهد العالم العربي في باريس عن الفينيقيين والبحر المتوسط الذي افتتح في 5/11/2007 ويستمر حتى نيسان 2008، وقد ذكر البعض ممن زاروه أن شروحات المعرض مليئة بالاستشهاد بكتاب التوراة، وبسبب أو بدون سبب أقحمت ذكر اسرائيل وازدهارها في تلك الفترة وتجارتها القوية مع المدن الفينيقية.. مما يستدعي التحقق من تلك الأقوال والتدقيق بالآلية التي توضع بها تلك الشروحات والمسؤولين عنها.
يشار إلى أن المقال المذكور (تزييف التاريخ) أشاد بطيبة قلب المدير العام وحسن نواياه، إلا أن المستوى العلمي له لا يرقى لمستوى شخصية مدير عام وهو ما لوحظ من خلال لقاء تلفزيوني معه (أول ما يلفت النظر هو المستوى العلمي السطحي الذي ساد جو ذلك الحوار، والطريقة البدائية التي تم بها تناول المواضيع المطروحة، والتي يفترض أن تكون بأعلى المستويات لأن الضيف يمثل وجهة النظر الرسمية والعلمية لكل ما يتعلق بالآثار السورية وهو الذي يرسم السياسة السورية على صعيد الآثار.. عذراً فنحن لا نعرف المدير العام شخصياً ولا تربطنا به أي علاقة مصلحة أو عداوة، بل على العكس عندما سألنا عنه من يعرفونه، اجتمعت الإجابات على أنه من الناس الطيبين المهذبين، ولكن هل هذا يكفي.. أليس من حقنا أن نتساءل هل نضب بحر الكفاءات السوري لنكتفي بالطيبة والتهذيب لإدارة مؤسسة أقل ما يقال عنها أنها هامة وحساسة وهي المسؤولة عن رسم تاريخنا وتقديمه بأفضل صورة للعالم).. ويبدو أن ما ذكر في المقال يمكن ربطه مع بعض الإجابات السطحية جداً التي قدمها السيد المدير العام خلال الندوة التي أقامتها معه جريدة الثورة في عدد 5 أيلول 2007، فعندما سئل عن غياب الآثار السورية عن قائمة عجائب الدنيا السبعة الجديدة، قال: والله تدمر عجيبة، وصلاح الدين عجيبة، وبصرى ومدرجها عجيبة.. وفي إجابته لسؤال حول استعادة آثارنا المهربة إلى متاحف العالم قال بأن تنفيذ معاهدة لاهاي سيفرغ المتاحف العالمية من محتوياتها، تخيلوا حجم الكارثة وكأن هذا القول يعني أن مدير عام الآثار يضفي المشروعية للقطع الأثرية المسروقة من القطر، بدلاً من أن يكون من أشد المدافعين عن إعادة الآثار المهربة والمسروقة، وفوق ذلك يضم الجواب جهلاً بالاتفاقيات الدولية، فاتفاقية لاهاي تتعلق بحماية الممتلكات الثقافية أثناء الحروب، بينما الاتفاقية التي تتعلق بالتدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بظروف غير مشروعة هي اتفاقية باريس 1970.
وفي نفس الندوة المذكورة، أشار المدير العام إلى أن 99.99% من الآثار المسروقة من سورية هي آثار مزيفة، هل يحتاج هذا الكلام إلى تعليق، وهل هناك عاقل أو مجنون في سورية أو في العالم يمكنه تصديق هذا الكلام.
ومن أشكال تبييض صورة المديرية، التركيز على المعارض التي تقيمها في سورية لتلقي الضوء على المكتشفات الأثرية الناتجة عن أعمال التنقيب، ولكن ما جاء في مقال (كنز قطنا المشرفة: أهم الاكتشافات الأثرية في سورية منذ السبعينات: حين نبني أمجادنا على أكتاف الآخرين) المنشور في جريدة مرآة سورية الالكترونية في عدد 13 تموز 2005 الذي يوضح الطريقة التي اكتشفت فيها البعثة الألمانية العاملة في الموقع كنز المدفن الملكي ليقوم مدير التنقيب بتنفيذ معرض عن الكنز الملكي يحيطه بضجة إعلامية كبيرة ويلغي فيه دور البعثة الألمانية ويوحي للجميع بأن السوريين هم من اكتشفوا ذلك الكنز، كل ذلك بطريقة بعيدة كل البعد عن أخلاقيات العمل الأثري تذكرنا بالطرق التي يسرق فيها البعض أعمال البعض الآخر ويدعونها لأنفسهم.. لذلك فقدت مديرية الآثار مصداقيتها في تلك المعارض ومدى الدور الذي تساهم به في الاكتشافات الأثرية التي ينفذ قسم كبير منها على أيدي بعثات التنقيب الأجنبية..
وضمن هذا السياق يمكن ذكر التباهي بعدد بعثات التنقيب الأثرية العاملة في سورية والتي بلغ عددها هذا العام 137 بعثة أثرية، نتساءل من يتابع عمل هذه البعثات وكيف يمكن السيطرة عليها في ضوء الإمكانات القليلة لمديرية الآثار وغياب نشر نتائج تلك الأعمال في ظل سياسة نشر ميتة لمديرية الآثار إذ أن مجلة الحوليات الأثرية التي تنشر فيها نتائج أعمال التنقيب متوقفة عن الصدور منذ عام 2003، وكذلك مجلة الوقائع الأثرية السورية متوقفة عن الصدور منذ عام 1998، علماً أن أي عمل أثري أو كشف أي حضارة ليس له معنى إذا لم تنشر الدراسات الكافية عنه بحيث يأخذ مجراه في كتابة تاريخ سورية وفق المعطيات الجديدة، وإلا فما فائدة الاكتشافات إذا اقتصر الحديث عنها في الأخبار ووسائل الإعلام فقط. وهنا يمكن الربط مع الشكل الوهمي لبعثات التنقيب الأثرية الوطنية إذا علمنا أن مدير التنقيب هو مدير حوالي 15 بعثة تنقيب وطنية تجوب كل أنحاء سورية وتعمل في مختلف العصور، علماً أنه على الصعيد الميداني لا يمكن لأي شخص مهما كانت قدراته العلمية والمهنية خارقة إدارة أكثر من ثلاث أو أربع بعثات في العام إذا كان متفرغاً لها بشكل كامل.
إن هذا الوضع المأساوي لمديرية الآثار، جعلها تتخلى تدريجياً عن المهام الموكلة إليها، وقد اتضح ذلك أكثر ما يمكن من خلال طريقة التعامل مع المسائل التنظيمية والاستثمارية في المناطق التي تضم مواقع أثرية، وهو ما حدث في قضية توظيف بيوت السباعي ونظام في دمشق القديمة التي تنوي مؤسسة الآغا خان تحويلهما إلى فنادق خمسة نجوم، وما حدث في السوق العتيق حيث قامت المحافظة بإزالته دون أن تقوم مديرية الآثار باتخاذ الإجراءات المناسبة لدراسته وتوثيقه والوصول إلى نتيجة علمية بشأن موضوع هدمه أو الإبقاء عليه، ونفس السيناريو تكرر في موضوع شارع الملك فيصل الذي تتعامل معه المديرية إلى حد ما بموقف المتفرج دون أن يكون لها الرأي الحاسم به، وفي موضوع عمريت وأرواد ومعلولا وغيرها من المواقع الأثرية.. وقد كتبت عن هذه المواضيع مئات المقالات في الصحافة الورقية والالكترونية كلها تشير إلى تقصير مديرية الآثار بلعب دور حاسم في هذه القضايا منها ما نشر في جريدة تشرين عدد 18 كانون أول 2004 (تدويل التراث الوطني)، وعدد 29 كانون ثاني 2005 (لا لإلغاء التاريخ)، وعدد 16 كانون أول 2006 (تحت مقصلة ايكوشار)..
وآخر الفضائح المخزية هي الاتفاقية التي تمت مع وزارة السياحة وفيها تتنازل مديرية الآثار عن دورها في استثمار وتوظيف وإدارة أهم المواقع الأثرية في سورية لصالح وزارة السياحة علماً أن موضوع التوظيف والاستثمار هو من صلب عمل مديرية الآثار وفيها مديرية متخصصة بإدارة المواقع الأثرية يبدو أن عملها اقتصر فقط على متابعة متطلبات وزارة السياحة. وفي هذا الموضوع صدرت عدة صيحات احتجاج من قبل كثير من المثقفين السوريين ذهبت كلها أدراج الرياح.

وهكذا نجد أن مديرية الآثار تنازلت عن دورها في الأعمال المطلوبة منها، واكتفت بممارسة سياسة إعلامية فاشلة في محاولة تبييض صورتها أمام الآخرين، والضحية هي الآثار السورية.. فالمواقع الأثرية غير محمية، وغير مصانة، وغير مدروسة، ولا توجد منشورات عنها.. وبعثات التنقيب الأجنبية تعمل دون رقابة، ومعظم بعثات التنقيب الوطنية شكلية، ومتاحفنا تعاني مما تعانيه، وموظفو الآثار يعانون مما يعانوه، والإدارة الحالية متفرغة لممارسة أحدث طرق الإدارة في التوظيف العشوائي، والصرف العشوائي للمكافآت، والتوزيع العشوائي للمنح الأجنبية.. العشوائية تسيطر على كل شيء، والنظام والقانون والمنطق هم الأعداء الرئيسيون لمديرية الآثار التي أصبحت محكومة بالعشوائية وهي على حافة الانهيار بانتظار إعادة تطبيق النظام والقانون والمنطق فيها.

وفي خطوة استباقية لإلغاء دور وسائل الإعلام في الإشارة إلى الأخطاء، قام مدير عام الآثار وكأنه يشعر أنه ملاحق بشكل دائم من قبل تلك الوسائل، بالتعميم على مديريته ومدرائه (تعميم رقم 168 تاريخ 17/7/2007) بضرورة عدم نشر أي تصريح في وسائل الإعلام بأنواعها دون إذن مسبق من المديرية العامة للآثار والمتاحف تحت طائلة المساءلة، ونعتقد أن هذا التعميم يكفي لإعطاء صورة واضحة عن العلاقة الشفافة بين الإدارات التي تعمل بصدق وإخلاص وبين وسائل الإعلام التي تتابع عمل تلك الإدارات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية


.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر




.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع


.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام




.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب