الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوش الإيديولوجي: مشعل الحرّية أم تصنيع الحزام الناسف؟

صبحي حديدي

2008 / 1 / 19
الارهاب, الحرب والسلام


شاء الرئيس الأمريكي جورج بوش أن يقلق عظام الكاتب اللبناني أمين الريحاني (1876ـ1940) حين جعله مسك الختام في الخطاب الشامل الذي ألقاه في أبو ظبي مؤخراً، فاقتبس الجزء الأوّل من عبارة الأخير الشهيرة أمام تمثال الحرّية في نيويورك: "متى تحوّلين وجهك نحو الشرق أيتها الحرّية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كلّ شعب مظلوم"؟ أمّا في غزّة، ليس على مبعدة بحار أو قارّات من فندق "قصر الإمارات" حيث تشدّق بوش طويلاً عن الحرّية، فقد كانت البربرية الإسرائيلية ترتكب المزيد من المجازر: ليس بأوامر من مجرمي حرب أمثال إيهود باراك وإيهود أولمرت فحسب، بل انطلاقاً من غمزة التفويض التي منحها بوش نفسه، هذا المتيّم بمجازات الحرّية عند الريحاني!
ولو قًيّض لفتى فلسطيني في مقتبل العمر أن يتابع خطاب بوش، الذي زعم انحياز أمريكا إلى الحرّية (بوصفها مستقبل العرب وحقّهم وحلمهم وقدرهم، كما جاء بالحرف)، وأن يبصر في الآن ذاته مشهد القيادي في "حماس"، محمود الزهار، وهو ينحني ليلثم جبين ابنه الشهيد، القتيل على يد جيش الإحتلال الإسرائيلي؛ فإلى أيّ الخيارين سينحاز ذلك الفتى الفلسطيني، أو ربما أيّ فتى عربي سواه: إلى مشعل الحرّية، أم إلى الحزام الناسف؟ وكيف يمكن أن يُلام إذا رجّح ثقافة الإستشهاد ـ التي لا يراها سلاحه الوحيد فحسب، بل الأمضى في نظره ضدّ أحد أعتى جيوش العالم ـ على ثقافة الأمل في العدل والحقّ والحرّية، التي تبدو أضغاث أحلام وأوهام؟
ولأنّ بوش كان في طريقه إلى السعودية، المحطة التالية في جولته الشرق ـ أوسطية الماراثونية الأولى، فقد كان من اللائق تذكيره باقتباس آخر من الريحاني، على مبدأ الشيء بالشيء يُذكر: المعارضة الإسلامية المسلّحة التي يواجهها آل سعود اليوم ليست بعيدة عن إعادة إنتاج معاصرة لتلك المعارضة التي تعيّن على ابن سعود أن يواجهها في مطالع القرن الماضي (مفارز فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، كبار زعماء حركة «الأخوان» الوهابية المتشددة، أي الميليشيات الدينية المسلحة التي شيّدت العمود الثاني في السلطة السعودية)، وأن يقاتلها قتالاً لم يكن أقلّ ضراوة ممّا تفعل السلطة السعودية اليوم؛ وفي وصف هؤلاء كتب الريحاني: إنهم «رُسُل الهول ورسل الموت في كل مكان»...
فهل يتحدّث بوش عن هذه المملكة العربية السعودية، أم عن مملكة أخرى لم تبصرها سوى أليس في بلاد العجائب، حين يشير إلى حقبة جديدة "يقوم بناؤها على مفهوم أنّ السلطة أمانة يجب ممارستها (من قبل الحاكم) بموافقة المحكومين، وأن تتحقق المساواة في العدالة بموجب القانون"؟ وأين، في أربع رياح أرض العرب، نعثر على نظام يوفّر "أملاً للملايين التي تتوق في الشرق الأوسط إلى مستقبل يعمّه السلام والتقدم وتتاح فيه الفرص"؟ وهل تتعرّض أماني شعوب المنطقة إلى الخطر على يد "متطرفين عنيفين يقتلون الأبرياء في سعيهم إلى السلطة" فقط، كما يزعم يوش، أم أيضاً ـ وأكثر بما لا يُقاس ـ على يد أنظمة الإستبداد الغاصبة للسلطة، المتشبثة بها توريثاً أو تخليداً، الناهبة لثروات البلاد، بعد وأد كرامة العباد؟
وهل يسعى المتطرفون وحدهم إلى "فرض عقيدتهم الشمولية الإستبدادية على الملايين، فهم يبغضون الحرية ويكرهون الديمقراطية لأنها تتبنى التسامح الديني وتسمح للناس بأن يخطّوا مستقبلهم الخاص بهم"، كما يقول بوش، أم يستبقهم ويسبقهم في هذا البغض للحرّية حكّام الاستبداد والفساد هنا وهناك، سواء أكانوا في صفّ أمريكا راهناً، أو على لوائح انتظار الإنضمام إلى صفّها مستقبلاً؟ أليست ذروة التمثيل الكاريكاتوري أن يتهم بوش هؤلاء المتطرفين بأنهم "يكرهون حكوماتهم لأنها لا تشاركهم رؤياهم المظلمة، وهم يكرهون الولايات المتحدة لأنهم يعلمون أننا نقف إلى جانبكم في التصدي لمطامعهم الوحشية"؟ ما هي الرؤية المستنيرة لتلك الحكومات، مقابل الرؤية المظلمة للمتطرفين؟ ومتى، وأين، وقفت الولايات المتحدة إلى جانبنا: في مجزرة غزّة الأخيرة، أم في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أم في آخر فيتو استخدمته واشنطن لتعطيل أيّ قرار يعكّر صفو البربرية الإسرائيلية؟
ولكي يصطبغ الكاريكاتور بدماء الأبرياء، ضحايا برامج الحرّية الزائفة التي تبشّر بها هذه الإدارة، لم يكن في وسع بوش إلا أن يتوقف عند المحطة العراقية، في اللفظ على الأقلّ، ما دامت أرض الرافدين لم تُدرج رسمياً على جدول جولته. ليس في الوسع، أيضاً، أن لا ينغمس الخطاب أكثر في روحانيات الحرّية وتصوّف التحرير: "إن الحرب ضدّ قوى التطرف هي الكفاح الإيديولوجي العقائدي الكبير في زماننا. وتملك بلادنا في هذه الحرب سلاحا أشد قوة من القنابل أو الرصاص. إنه الرغبة في الحرية والعدل اللذين أدخلهما الله القدير في قلوبنا ولن يستطيع انتزاعهما أي إرهابي أو طاغية". حسناً، وما أمثلة بوش على هذه الرغبة؟ 1): عند "12 مليون عراقي غمسوا أصابعهم بالحبر الأرجواني عندما أدلوا بأصواتهم متحدين القاعدة"؛ و2): عند "الفلسطينيين الذين انتخبوا رئيسا ملتزما بالسلام والمصالحة"؛ و3): عند "آلاف اللبنانيين الذين أدت احتجاجاتهم إلى تخليص بلدهم من محتلّ أجنبي"؛ و4): عند "المنشقين والصحافيين الشجعان الذين يجرؤون على المجاهرة بآرائهم ضدّ الإرهاب والقمع والظلم"؛ و5): عند "الناس العاديين عبر الشرق الأوسط الذين ملّوا العنف وملّوا الفساد وسئموا الوعود الجوفاء واختاروا مستقبلاً حرّاً أينما لاحت لهم فرصة".
ولكن... أهي أيضاً ذات الرغبة في الحرّية، عند مواطني المملكة العربية السعودية، مثلاً؟ وهل كان انتخاب رئيس فلسطيني ملتزم بالسلام والمصالحة هو، وحده، السلوك الديمقراطي للفلسطينيين، بما يعني أنّ منح "حماس" أغلبية مطلقة في التشريعي الفلسطيني لم يكن ممارسة ديمقراطية؟ وهل يعزّي لبنان الراهن ـ السائر إلى حافة عطالة مستديمة أو حرب أهلية ـ هذا التوصيف الركيك الإبتساري لمحنة تتجاوز بكثير معادلة خروج الجيش السوري واستمرارية هيمنة النظام الأمنية والسياسية، ليس جرّاء أمراض القوى اللبنانية ـ موالاة ومعارضة، على حدّ سواء ـ فحسب، بل أيضاً بسبب من أنساق التواطؤ أو الصمت أو الغزل أو نفض اليد التي اعتمدتها الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الأطراف الإقليمية صانعة لعبة الأمم التي يشهدها لبنان؟ وهل بين الصحافيين الشجعان، الفئة 4 في تصنيف بوش، عشرات الكتّاب والصحافيين السعوديين الذين مُنعوا من الكتابة أو تمّ إيقافهم عن العمل أو مُنحوا إجازات قسرية طويلة الأمد؟ وهل بعض الناس، أبناء الشرق الأوسط الذين يصفهم بوش في البند 5، يمكن أن يكونوا من قاطني السعودية؟
إلى هذا، ولأنه كان يخطب من أرض عربية وخليجية على الأرجح، مال بوش إلى مقدار وافر من تلطيف العبارة عند الحديث عن الإسلام المتشدّد، دون أن يكبح جماح الإعراب عن افتتانه بالإسلام غير المتشدّد، أو "الدين الإسلامي الكريم" حسب تعبيره. لكنّ أقلّ من ثلاث سنوات تفصلنا عن خطابه الأشهر في هذا الصدد، بتاريخ 6 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2005، في "المعهد الوطني للديمقراطية"، حين استخدم مراراً صفة "الإسلامي الفاشيّ" مع تنويع ثانٍ لها هو "الإسلامو ـ فاشية"، وكانت تلك البرهة واحدة من ذرى التقاء الخطّ المتشدّد للمحافظين الجدد إزاء الإسلام، مع الجانب التبشيري شبه العصابي في مزاج بوش الشخصي.
في مستهلّ خطاب هذاك قلّب بوش الرأي في سلسلة من التسميات والمصطلحات التي تصف الشرّ، وأهل الشرّ، في محور الشرّ أو خارجه، قبل أن يستقرّ على الصيغة المفضّلة عنده: "البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَن يسمّيه إسلامو ـ فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغلّ الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والإنحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كلّ حرّية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة للإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضاً ضدّ المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة".
بعد هذا الإستهلال، الذي مزج المقدّمات الديماغوجية بنتائج تبسيطية وظيفتها الأولى هي تلفيق حقّ يُراد منه الباطل وحده، ختم بوش تلك الخطبة (التي لم تجانب أسبوعية "نيوزويك" الأمريكية الصواب حين اعتبرتها "قنبلة عقائدية") على نحو يجعل المرء يظنّ اللغة قادمة مباشرة من قاموس الحرب الباردة: "إنّ الراديكالية الإسلامية، مثل الأيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الأيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة".
هل ينتمي هؤلاء إلى عصور غابرة، إذاً، وكيف تمكنوا من منازلة أهل الحديث والحداثة والعلوم والتكنولوجيا؟ هنا إجابة بوش: "إنّ الشيء الوحيد الحديث في رؤيا هؤلاء المتشددين هو الأسلحة التي يستخدمونها ضدّنا. وأمّا ما تبقى من رؤيتهم السوداء فلا تعرّفه إلا الصورة الزائغة عن الماضي، وإعلان الحرب على فكرة التقدّم بذاتها. وأياً كانت الحصيلة القادمة في الحرب على هذه الأيديولوجيا، فإنّ النتيجة ليست محطّ شكّ: أولئك الذين يكرهون الحرّية والتقدّم قد حكموا على أنفسهم بالعزلة، والانحسار، والانهيار. ولأنّ الشعوب الحرّة هي التي تؤمن بالمستقبل، فإنّ الشعب الحرّ هو الذي سيمتلك المستقبل".
وبين الاستهلال والخاتمة، ولكي لا تنقطع سلسلة التداعيات المذكّرة ببلاغة الحرب الباردة ويتمّ رشقها سريعاً على مستقبل هذه القرن بأسره، أعاد بوش التشديد على ما يستهويه أكثر فأكثر في حكاية الحرب على الإرهاب: "أنّ الأيديولوجيا الإجرامية للإسلاميين الفاشيين هي محكّ القرن الجديد الذي نعيشه. غير أنّ هذه المعركة تشبه، في أوجه كثيرة، الكفاح ضدّ الشيوعية خلال القرن المنصرم. فالراديكالية الإسلامية، تماماً كالأيديولوجيا الشيوعية، تتصف بأنها نخبوية، تقودها طليعة تعيّن ذاتها بذاتها، تنطق باسم الجماهير المسلمة. بن لادن يقول إنّ دوره تعليم المسلمين ما هو خير لهم وما هو ليس بخير. وما يعتبره هذا الرجل، الذي تربى في الرخاء والثراء، خيراً لفقراء المسلمين ليس سوى أن يصبحوا قتلة وانتحاريين. وهو يؤكد لهم أنّ طريقه هو وحده الدرب إلى الجنّة، رغم أنه لا يسير فيه هو نفسه".
ولا مناص، مجدداً، من استدعاء مشهد سوريالي يبدو فيه جورج بوش (السفّاح الأوّل خلف كلّ ما حاق بأهل فلسطين والعراق ولبنان من عذابات في الحقبة الراهنة) نصيراً لفقراء المسلمين ضدّ أغنيائهم! وليس الأغنياء من طراز فاسدي الأنظمة العربية من حكّام وزبانية، بل ذلك الغنيّ الذي تربّى في الرخاء والثراء، أسامة بن لادن! تخيّلوه، قبلها، نصيراً لجماهير المسلمين ضدّ نخبوية الراديكاليين منهم، ثمّ تخيّلوه وهو يزاود على بلاشفة روسيا مطالع القرن الماضي، في التعبئة الطبقية لفقراء المسلمين مطالع القرن الحالي! وأخيراً، أنصتوا إليه يقف بالأمس على مبعدة أميال من مجازر غزّة ومذابح بغداد، فيخاطب العرب هكذا: "أصدقائي، إنّ مستقبلاً من الحرّية يقف أمامكم. إنه حقّكم. وهو حلمكم. وهو قدركم. ليبارككم الله"!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان