الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي- (37)

جاسم الحلوائي

2008 / 4 / 26
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


انتقال الحزب الشيوعي إلى المعارضة
131

في إثر القمع الوحشي الذي مارسه حزب البعث ضد الحزب الشيوعي غادر الوطن الالوف من الشيوعيين وعوائلهم، بوثائق رسمية أو مزورة، أو عبر سبل التهريب. وكان أغلب المغادرين من هؤلاء هم من العناصر المثقفة من صحفيين وكتاب وشعراء وفنانين وأساتذة وطلبة جامعيين ومدرسي ثانوية وأطباء ومهندسين. وقد تجمع الكثيرون منهم في لبنان وسوريا واتجه بعضهم إلى البلدان الاشتراكية السابقة، وخاصة جيكوسلوفاكيا وبلغاريا، في حين توجه آخرون إلى الجزائر واليمن والمغرب وبلدان أخرى. وكان تدبير أمر معيشتهم وإقامتهم، هم وعوائلهم، أو انخراطهم في أعمال تتناسب مع قدراتهم ومهاراتهم، أمر في غاية الصعوبة في أغلب الأحيان. وكادت أن تستنفد تلك الصعوبات طاقات وقدرات المنظمات الحزبية في الخارج وأدخلتها في دوامة من المشاكل التنظيمية والاجتماعية (1). وعاد الكثيرون ممن هاجروا إلى الوطن لاحقاً، وفي مقدمتهم أعضاء في اللجنة المركزية ليواصلوا النضال ضد النظام الدكتاتوري سواء في المساهمة في حركة الأنصار في كردستان أو التسلل إلى المدن وخاصة العاصمة بغداد.

وتشتت أعضاء اللجنة المركزية أيضا، ولم يبق في الداخل سوى عدد قليل منهم وباتت صلاحياتهم محدودة. لذلك فإنهم لم يبتوا في طلب البعث لإعادة التحالف، وإنما أحالوا ذلك الى قيادة الحزب في الخارج. فعقد المكتب السياسي اجتماعاً في براغ في شباط 1979، حضره أعضاء في اللجنة المركزية الموجدون في براغ أيضاً (*). ناقش الاجتماع طلب حزب البعث، وتوصل إلى كتابة مذكرة حملها عبد الرزاق الصافي عند عودته الى الوطن. وكان أحد شروط الحزب لعودة التحالف مع البعث هو الغاء "مجلس قيادة الثورة"، كما مر بنا. وفي الحقيقة شكلت المذكرة، وبوعي من محرريها، المسمار الأخير في نعش الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، بعد أن لفظت الجبهة أنفاسها بطعنات حزب البعث المميتة.

وبناء على مامر بنا، فإن انتقاد عزيز سباهي لباقر إبراهيم ومن بقي معه في الداخل، لعدم تغييرهم سياسة الحزب اوائل عام 1979، هو انتقاد غير صحيح. فلم يتمتع من بقي في الداخل بهذه الصلاحيات. فقد جاء في الصفحة 170 من كتاب سباهي ما يلي: "طوال الأشهر الأخيرة من عام 1978 وأوائل عام 1979 تزايدت دعوات المنظمات الحزبية وأعضاء الحزب، إلى اتخاذ الاجراءات الضرورية لانتقال الحزب إلى سياسة مغايرة تحفظ له كرامته. لكن هذه الدعوات لم تجد ما يقابلها من الاهتمام لدى من بقي يقود العمل الحزبي في الداخل،الذي بات يتزعمه الآن باقر إبراهيم.."

على أي حال، كانت مذكرة الحزب أيضا بمثابة رسالة لبعض الرفاق في الداخل والخارج، الذين كانوا يأملون بعودة التحالف، لتقطع أملهم. ويمكنني القول بأنه لم تكن هناك ، منذ هذا التاريخ، معارضة واضحة لانتقال الحزب إلى صف المعارضة للنظام ومن ثم العداء له. ولكن سباهي يشير الى وجود تيار معارض لتحوّل الحزب إلى معارضة النظام بعد الأشهر الأولى من 1979 يقوده باقر إبراهيم، ويشير الى مثل هذه المعارضة حتى في اجتماع اللجنة المركزية في عام 1980. لم تكن هناك مثل هذه المعارضة، ولا حتى من جانب باقر إبراهيم. ينبغي التعامل بحذر مع شروحات باقر لمقالاته ومواقفه بعد خروجه من الحزب وتحوله لمجاملة النظام. وكذلك فمن غير الصحيح الاستناد إلى مقال له نشر في عام 1977 للبرهنة على مواقفه في عام 1979 (**).

لم تكن هناك معارضة لسياسة الحزب الجديدة. كانت هناك نزعة للتدرج في تغيير سياسة الحزب بهدف أولاً: تجنيب الكادر الحزبي وبقايا المنظمات في الداخل من السحق التام برفع يقظتها وتعزيز تدابيرها الصيانية أكثر فأكثر. ثانياً: كي تكون هذه السياسة مفهومة لدى أشقاء الحزب من الاحزاب الشيوعية وأصدقائه في حركة التحرر الوطني العربية. ثالثاً: من أجل الحفاظ على وحدة الحزب، حيث تبرز مخاطر محتملة على هذه الوحدة عادة في حالات الانعطاف السياسي الحاد. إن ما شهدناه لاحقاً من انشقاقات محدودة في الثمانينات كان من الممكن أن تكون أخطر لو جرى تجاهل ذلك التدرج قي تغيير سياسة الحزب. وكان يقود سياسة التدرج سكرتير اللجنة المركزية عزيز محمد، وكان هو ذاته يشجع ويدعم الخطوات العملية وتوفير الامكانيات لانتقال الحزب الى صفوف المعارضة واستعداده لاستخدام مختلف أشكال الكفاح بما في ذلك الكفاح المسلح.

وفي حينها تم الشروع بتنفيذ الاجراءت العملية لانتقال الحزب الى المعارضة وذلك بتوجه بعض العناصر القيادية إلى كردستان، مثل الرفاق كريم أحمد وبهاء الدين نوري والكادر المتقدم قادر رشيد وغيرهم، لتعزيز إمكانيات بناء قواعد للأنصار والتي باشر الشيوعيون الأوائل، الذين لاذوا بالجبال وعلى رأسهم الرفيق أحمد بانيخيلاني، ببناء أول قاعدة أنصارية في شباط 1979 في ناوزنك. وبعد حوالي الشهر وصل إلى هذه القاعدة عدد من أعضاء اللجنة المركزية وهم كل من توما توماس وفاتح رسول ويوسف حنا. وفي هذا الوقت بوشر بتدريب الشيوعيين في معسكرات المنظمات الفلسطينية في بيروت وكانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الجهة الرئيسية في تقديم مثل هذه المساعدة. ولم تكن جميع هذه الاجراءات بمعزل عن معرفة وموافقة وتوجيه قيادة الحزب وعزيز محمد بالذات.

132

عقد أول احتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بعد القمع الوحشي الذي تعرض له الحزب في تموز 1979 في المانيا الديمقراطية ـ برلين، وصدر عن الاجتماع بيان يدعو إلى انهاء الدكتاتورية، وبذلك أنهت اللجنة المركزية رسميا تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث، بعد أن انتهى التحالف عملياً في آذار من نفس العام، كما مر بنا. وحددت اللجنة المركزية المهام التى تواجهها وتحركت بهمة لانجازها وهي:
1ـ تفعيل الإعلام المركزي للحزب.
2ـ السعي لتوحيد القوى الوطنية والديمقراطية المعارضة للنظام الدكتاتوري.
3ـ تفعيل الدور القيادي للمكتب السياسي ودعم تنظيمات الداخل
4ـ تعزيز الجهود لتأسيس قواعد أنصارية في كردستان،استعداداً لاستخدام مختلف أشكال الكفاح بما في ذلك الكفاح المسلح.

1ـ الإعلام، سعت قيادة الحزب إلى إصدار صحيفة "طريق الشعب" قبل الاجتماع، إلا أنها اقتنعت برأي الرفاق الإعلاميين الذين ارتأوا التريث وانتظار نتائج اجتماع اللجنة المركزية المزمع عقده ليكون هناك حدثاً مثيراً في العدد الأول من الجريدة بعد استئناف صدورها. فصدرت "طريق الشعب" في اوائل آب 1979 في بيروت ويتصدرها المانشيت التالي: "في سبيل جبهة وطنية ديمقراطية لانهاء الحكم الدكتاتوري وإقامة نظام ديمقراطي في العراق"، وهو عنوان التقرير الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الذي نشرته الجريدة بالكامل. واستمرت "طريق الشعب" بالصدور شهرياً وبشكل منتظم. ومن ثم صدرت في بيروت مجلة الحزب "الثقافة الجديدة"، وكانت الجريدة و كذلك بعض مقالات "الثقافة الجديدة" تطبع طبعة خاصة للداخل على ورق شفاف وبحجم صغير جداً.

خاض الحزب، كما يشير سباهي، معركة إعلامية لتوضيح أسباب ما حدث في العراق، وانتقال الحزب من التحالف إلى العداء. كانت تلك معركة كبيرة بحق. فالنظام الحاكم، بما يملك من أموال طائلة قد "مد يده في أفواه الكثيرين"، من عرب وغيرهم، وحتى في أوساط بعض الاشقاء الشيوعيين. وكان على الحزب، أن لا يكسب قناعة اصدقائه وأشقائه ونيل تأييدهم لسياساته فحسب، بل كان يتوجب عليه أحياناً، أن يصد ضغطهم المعاكس في عديد من الحالات. وتولى الناطق الرسمي باسم المكتب السياسي للحزب، علي عبد الخالق ( فخري كريم العضو المرشح للجنة المركزية ومسؤول منظمة الحزب في بيروت)، في تصريحات عديدة، توضيح مواقف الحزب الشيوعي في مختلف الشؤون السياسية وبالتنسيق مع قيادة الحزب، وكان لهذا النشاط الإعلامي تأثير إيجابي ملموس على معنويات أعضاء الحزب ومؤازريه (2).

2ـ وانطلاقاً من ايمان الحزب بضرورة تجميع كل القوى المعارضة للدكتاتورية وذات المصلحة في بناء عراق ديمقراطي تقدمي، تحرك الحزب نحو توحيد هذه القوى. فعلى الرغم من كل ما كان يبذله حزب البعث الحاكم من جهد ومال لكسب تأييد شرائح مختلفة من المجتمع، تظل هناك تناقضات طبقية يؤججها نزوع البرجوازية البيروقراطية والطفيلية التي يمثلها الحزب الحاكم إلى المزيد من الإثراء والنهب على حساب الطبقات والفئات الاجتماعية الاخرى. وهي تناقضات متأصلة لايمكن محوها (3). كانت دمشق مركزا رئيسياً آنذاك لممثلي العديد من الأحزاب والقوى الوطنية وانيطت مهمة التحرك في هذا الميدان للرفيقين كريم أحمد ومهدي عبد الكريم.

3ـ حتى اجتماع اللجنة المركزية وبعدها كان رفاق المكتب السياسي مشتتين، ولتفعيل دور المكتب كان لابد من استقراره ولو مؤقتاً. وطرحت مدينتي موسكو وكذلك براغ، كأمكانيات محتملة لتصبحا مقراً للمكتب السياسي، ولكن سرعان ما استبعدتا. وتم اختيار المكان الصحيح وهو دمشق بأفضلياتها العديدة وأهمها قربها من ساحة النضال الأساسية. وقرر المكتب السياسي، وحتى قبل أن يلتئم شمله في الشام، تشكيل لجنة من الرفاق باقر ابراهيم ومهدي عبد الكريم وكاتب هذه السطور سميت (ناظم) وذلك في بداية 1980. كانت لجنة (ناظم) بمثابة لجنة تنظيم مركزية ترتبط بها جميع المنظمات خارج الوطن والعقد التنظيمية في الداخل بما في ذلك المنظمة التي تقودها الرفيقة عائدة ياسين، باستثناء كردستان، التي كانت تحت إشراف المكتب السياسي ضمن الاستعداد للتهيئة للكفاح المسلح. وكانت إحدى مهام اللجنة تطوير عمل الداخل بما يملكه أعضاؤها من خبرة في العمل السري. وقدمت هذه اللجنة مساهمة في تنظيم علاقات المنظمات بقيادة الحزب وتمكين اشراف الأخيرة عليها ، كما قدمت مساهمة ملموسة في تحسين وضع التنظيمات في الداخل ، لاسيما ضمان ايصال أدبيات الحزب وبعض التوجيهات وتبادل المعلومات. ويورد سباهي معلومات عن كراس سري للغاية يعود للأمن عن تلك الفترة يشير الى ما ذهبنا اليه من تحسن، دون أن يخلو الكراس من مبالغة.

ويذكر سباهي، مستنداً الى الكراس، ما يلي:" كذلك مالت أوضاع الحزب (1980) في الداخل، أو في منظمات الخارج، إلى شيء من الاستقرار، وهذا ما تقر به مصادر دوائر الأمن العامة...وهي تتحدث عن ان"الصلات التنظيمية كانت تجري بشكل جيد واهتمام العناصر الشيوعية بالتنظيم بهمة عالية"، وتُرجع هذه المصادر ذلك إلى "وجود عدد كاف من الكوادر الذي ينظم الصلات الحزبية" و"وجود مواد للتثقيف وأخبار النشاطات وما تكتبه الصحافة في الخارج بشكل مستمر من خلال وصول البريد الحزبي بشكل منتظم"، وإلى اتباع اساليب صيانة غير مألوفة من جانب تنطيمات الحزب، وأقيمت الصلات التنظيمية على أساس فردي والعلاقة بالكادر الحزبي عبر مراسلين حزبيين، وتجنب اللقاءات في البيوت واستبدالها بلقاءات الشوارع والمحلات العامة، وتلعب المرأة الدور الأبرز في تنفيذ المهمات الحزبية، واستخدام أساليب أكثر اتقاناً في التمويه لإخفاء المواعيد الحزبية، واستعمال الشفرة في كتابة الرسائل الحزبية، والتوسع قي تزوير الوثائق والهويات والكتب الرسمية".

ويواصل سباهي فيضيف: " وانتظمت العلاقة ما بين تنظيم الداخل وقيادة العمل الحزبي في إقليم كردستان بعد أن قررت اللجنة المركزية في اجتماعها في حزيران 1980 أن تتوقف هذه العلاقة بقيادة الحزب في الخارج، واستبدالها بالعلاقة مع لجنة (هندرين) في كردستان، التي صار يقودها عمر علي الشيخ"(4) . ومن الجدير بالذكر أن التنظيمات في الداخل لم تكن متمركزة لاتباعها مبدأ اللامركزية في التنظيم، فلم تنتقل علاقة بعض العقد التنظيمية الى الداخل بعد هذا الاجراء بل وحتى بعد حل لجنة (ناظم) بعد اجتماع اللجنة المركزية في حزيران 1980، فقد بقيت عقد تنظيمية ذات صلة بالخارج، منها عقدتين بكاتب هذه السطور.

وباعتقادي بأن اللوحة، التي يرسمها كراس الأمن السري للغاية، زاهية أكثر من اللازم. (***) ففي هذه الفترة بالذات تلقى الحزب ضربة موجعة باعتقال الكادرين الشيوعيين البارزين د. صفاء الحافظ، رجل القانون البارز وعضو لجنة العلاقات الوطنية، ود. صباح الدرّة، الاقتصادي البارز وعضو مكتب منطقة بغداد، وذلك في شباط 1979. وقد تم تغييبهما ومن ثم القضاء عليهما على الرغم من الحملة العالمية حول اعتقالهما والمطالبة بإطلاق سراحهما، وبذلك خسر الحزب كادرين كان يمكن أن يكون لهما مستقبل واعد في قيادة الحزب، وخسر الشعب عالمين جليلين كان يمكن أن يلعبا دوراً هاماً في تطوير البلد. وكانت الضربة المؤلمة الثانية للحزب في هذه الفترة قد حصلت جراء اعتقال أبرز مسؤول حزبي في الداخل في 15 تموز 1980، وهي الرفيقة عائدة ياسين العضو المرشح للجنة المركزية، التي قادت منظمتها في ظروف شاقة بدأب وعزم راسخ وشجاعة منقطعة النظير. لقد خسرها الحزب والشعب.. و ذهبت أم علي، عايدة ياسين، ابنة البصرة الرائعة، وهي في عز شبابها، رافعة الرأس. وبالرغم من الحملة الواسعة التي ظل الحزب يواصلها للمطالبة بالكشف عن مصيرها وإطلاق سراحها، إلا أن حكم البعث ظل يتكتم عليها.. ولم يعثر على أثر لها حتى الان (5).

4ـ أمأ ما يتعلق بتعزيز الجهود لتأسيس قواعد أنصارية في كردستان، فمن المناسب تناول الموضوع منذ بدايته وهذ ما قام به سباهي أيضاً. ولكنني هنا سأعتمد بالأساس على "وثيقة تقييم حركة الانصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في الفترة ما بين 1979 – 1988" وقد درس مسودة هذه الوثيقة الرفاق الأنصار كافة في هيئاتهم الحزبية وهي تحمل بصماتهم. وقد أقرت من قبل المؤتمر الوطني السادس للحزب.

133

بعد مقدمة سياسية مختصرة تشير الوثيقة الى القمع الوحشي الذي تعرض له الحزب فتقول: "في ظل هذه الاجواء (النصف الثاني من عام 1978) برزت فكرة اللجوء الى العمل الانصاري المسلح في كردستان لحماية الكادر والرفاق عموماً وابعادهم عن غدر أجهزة النظام. وانطلقت هذه الفكرة من ادراك باستحالة بقاء كادر الحزب القيادي وجمهرة واسعة من الاعضاء في المدن دون التعرض لخطر التصفية الجسدية والسياسية.

ولم تحسم قيادة الحزب رسمياً قضية الانتقال الى العمل الانصاري في تلك الظروف، نظراً لاستحالة عقد اجتماع ل . م، إلا ان عدداً من الرفاق في ل.م ومن الكادر المتقدم الموجودين داخل الوطن آنذاك بادروا الى تقديم المقترحات بأعتماد العمل الانصاري في منطقة كردستان دون تصور متكامل لابعاد هذا الاسلوب وشكل الانتقال اليه. واتخذت خطوة اولية بوجهتي الانتقال الى العمل السري والانصاري. ولم يتم اللجوء الى مواقع البيشمركة في الجبال في تموز 1978 بمعزل عن مفاتحة مسبقة لبعض العناصر القيادية المجربة في الحركة الانصارية وتشخيص بعض العناصر المؤهلة في هذا المجال وابعادها عن خطر الوقوع في قبضة السلطة وتحديد بعض المواقع الملائمة للعمل الانصاري في الاقليم وتوفير بعض المستلزمات الاولية البسيطة لهذا العمل.

وقد نشأت النواتات الانصارية الاولى بجهود دؤوبة وشاقة ونكران ذات من قبل قياديي وكوادر واعضاء الحزب الذين ساهموا في التهيئة وتوفير مستلزمات العمل الانصاري من سلاح وتدريب ومال وجهاز بث اذاعي إلى جانب حرص مجموعة الرفاق واخلاصهم للحزب وتفانيهم في سبيل اهدافه. وقامت قيادة الحزب ايضاً بمفاتحة الاشقاء والاصدقاء في اكثر من بلد، الذين قدموا دعمهم ومشورتهم للحزب سواء كانوا مع هذا النهج ام ضده. وكانت الظروف الموضوعية بمجملها ملائمة نسبياً لهذه الانتقالة بالرغم من ان الحزب لم يكن مهيئاً لمثل هذا العمل الكبير.

وكانت ظروف كردستان الجغرافية والقومية ملائمة الى جانب تواجد القوى المسلحة- البيشمركة التابعة للقوى الكردستانية وقواعدها في الشريط الحدودي. كما كانت لحزبنا تجارب لا بأس بها في مجال العمل الانصاري في كردستان.

وقد ساهمت التغيرات السياسية الجذرية في الوضع في ايران عام 1978، وسقوط نظام الشاه ـ حليف صدام حسين في اوائل عام 1979، وتحرر مناطق واسعة من كردستان ايران، وسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني الصديق عليها ومساعداته [إلى جانب المساعدات التي قدمها حزب توده ايران] في خلق ظهير جيد لحركتنا الانصارية، بالرغم من انه لا يرتقي الى مستوى امكانيات دولة كقاعدة خلفية.

وهكذا توجهت المجموعات الاولى من الانصار الى الجبل في اواخر عام 1978 واوائل عام 1979... ولقد توجهت المجموعات الانصارية الاولى الى الجبال وهي تفتقر الى المال والسلاح والمؤن، وتعاني من الارتباك وضعف الثقة بقيادة الحزب، ورغم ذلك فإن العمل اخذ يتسع ويتوطد وتزايد الجهد لتوفير المستلزمات المادية والفنية واعداد الكوادر المدربة بالاستفادة من الدعم الاممي ومن مساعدة المقاومة الفلسطينية وبعض القوى العربية التقدمية . واتسم هذا العمل بروح جهادية عالية ونكران ذات كبير من قبل الرفاق الذين ثبّتوا النواتات الاولى ولعبت مفرزة الطريق دوراً بارزاً وبطولياً في نقل الرفاق والسلاح من الخارج الى الداخل.

لقد اقتصر العمل الانصاري في هذه الفترة على بناء المواقع الانصارية وتعزيزها وتشكيل مكتب عسكري، وتنظيم الانصار المتواجدين في تشكيلات انصارية وتدريبهم على السلاح، استناداً الى تجربة الحزب السابقة. ولم يكن لدى الانصار في بداية تشكيل الحركة سوى بضع قطع من السلاح.

ويعود تأريخ نشاط اول مفرزة شيوعية انصارية الى نيسان 1979. وتم تحريك المزيد من المفارز الانصارية نحو العمق في كردستان بهدف النشاط الاعلامي والتنظيمي وايصال الرفاق الملتحقين الى القواعد، واضطرت المفارز الاولى هذه الى الدخول في معارك غير متكافئة وغير محسوبة مع العدو، مما سبب وقوع ضحايا غالية. وكانت ملحمة قزلر اولى هذه المعارك البطولية.

وفي الايام الاولى وضع الرفاق في الحركة الانصارية نظاماً داخلياً اتسم بالتشدد، كما اتسم بالطابع العسكري الذي يفقد الحركة الانصارية المرونة المطلوبة. وتكونت (3) مراكز انصارية في (3) مناطق اعتمدت اساساً على ابناء المناطق نفسها وعلى النحو التالي:
أ- قاعدة حلبجة لقيادة منطقة هورامان والسليمانية، تأسست في 31/آذار/1979.
ب- قاعدة بهدينان لقيادة منطقة دهوك ونينوى، تأسست في 5/تشرين الأول/1979.
ج- القاعدة الاساسية في ناوزنك التي نشأت قبل ذلك، حيث كان مقر القيادة الحزبية، بعد ان توفر بعض مستلزمات العمل من مال وسلاح وكادر.

وتعززت ل. هندرين (التي تشكلت من بعض اعضاء مكتب اقليم كردستان، وهم اعضاء في ل. م، وبينهم رفاق قدامى كانوا يعملون خارج منطقة كردستان، واخذت على عاتقها مهمة قيادة العمل الانصاري إلى جانب مهامها الأخرى) بعناصر قيادية اخرى من اعضاء (ل. م)، واعيد توزيع العمل اكثر من مرة تبعاً للمهام الاساسية: المكتب العسكري، مكتب اقليم كردستان، الاعلام، العلاقات... الخ.

وجرى الاهتمام بتطوير العمل الاعلامي وبدأ صدور جريدة "ريكاي كوردستان" ونشرات اخبارية وانصارية، كما توفرت اذاعة وبدأت تبث باللغتين العربية والكردية وصدرت جريدة " نهج الانصار" فيما بعد باللغتين العربية والكردية ايضاً وفي فترة لاحقة تم نقل جريدة الحزب المركزية " طريق الشعب" من الخارج الى كردستان.

ولم تكن جولات المفارز في العمق تهدف الى خوض المعارك مع قوات السلطة ولكنها اضطرت الى خوض معارك مع قوات النظام العسكرية الكبيرة نسبياً والمدعومة بالطائرات. وعزز ذلك معنويات الرفاق والجماهير لما شهدته المعارك من بطولات نادرة، دوت اصداؤها في مناطق واسعة من كردستان ورفعت من هيبة الحزب وبعثت الامل لدى الجماهير.

وبرزت في وقت مبكر من العمل التناقضات بين المسؤولين العسكريين والمستشارين السياسيين في الوحدات الانصارية وكذلك بين العاملين في المجال الانصاري والناشطين في مجال التنظيم المدني. ونجم عن هذه التناقضات التقليل من اهمية العمل التنظيمي المدني والخلل في موازنة وتنسيق العملين الانصاري والتنظيمي بسبب الظروف الموضوعية او لاسباب ذاتية، ولم يتمكن الحزب من حل هذه التناقضات وتذليلها لاحقاً.

وتميزت الحركة الانصارية التابعة لحزبنا منذ البدء بتركيب انصارها المتنوع وضمها منتسبين من مختلف القوميات، وبسرعة تطورها التي عكست هيبة الحزب ونفوذه وعلاقاته الاممية. وقد نالت احترام الاحزاب والقوى الاخرى والجماهير.

ولاول مرة في تأريخ نشاط الحزب الانصاري شاركت المرأة في الكفاح المسلح، فقد التحقت عشرات من الرفيقات في صفوف الانصار، ومنهن من زاول العمل العسكري ضمن مفارز قتالية وعملت اخريات في مجالات المخابرة والتمريض والاعلام.. الخ ومنهن من استشهدن في طريق الكفاح فجسدن التضحية والفدء امثال الشهيدتين احلام وانسام" (6).

134

يتوقف سباهي عند الاجتماع الكامل للجنة المركزية في موسكو في حزيران 1980 (وليس في برلين كما يذكر سباهي)، ويخلط مع محتوى هذا الاجتماع قضية أساسية تناولهأ وأقرها الاجتماع الكامل للجنة المركزية في تشرين الثاني 1981 والذي عقد هو الآخر في موسكو في بيت جوزيف ستالين الصيفي، وقد حضر كاتب هذه السطور كلا الاجتماعين. يذكر سباهي في كتابه (ص 314) ما يلي: "لم يحسم الحزب الشيوعي العراقي أمر التحوّل إلى العنف الثوري أو الكفاح المسلح حتى الاجتماع الكامل للجنة المركزية في برلين [موسكو] في حزيران 1980. واعتبر الاجتماع المذكور احدى مهام الحزب هي: "أعتماد الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي في النضال إلى جانب أساليب الكفاح الجماهيري الأخرى". وهذا غير صحيح، والصحيح هو ماجاء في "وثيقة تقييم حركة الانصار" وعلى النحو التالي: " ولكن في اوائل تشرين الثاني عام 1981 فقط تقرر رسمياً تبني الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي في النضال من اجل الاطاحة بالنظام الدكتاتوري واحلال البديل الديمقراطي"، أما الاستعداد لمختلف أساليب الكفاح بما في ذلك المسلح، فجرى تبنـّيه في اجتماع اللجنة المركزية في عام 1979(7).

في اجتماع 1980 في موسكو صعّد الحزب معارضته لنظام الحكم. وقد صاغ البيان الصادر عنه موقفاً قاطعاً، إذ دعا إلى السعي لتجميع القوى الوطنية المعارضة في جبهة واحدة لاسقاط النظام الدكتاتوري القائم في بغداد، والحاجة إلى البديل اليمقراطي، والبرنامج الذي يتعين على الحكم الديمقراطي تطبيقه في الميادين المختلفة، لاسيما فيما يتعلق بالديمقراطية السياسية والحقوق الديمقراطية للمواطنين وحقوق الشعب الكردي. وأكد الاجتماع على أهمية تحالف القوى الوطنية والديمقراطية والقومية التقدمية لاسقاط النظام (8). وكانت هذه القوى قد توصلت الى ميثاق وقواعد عمل للجبهة، وكانت تناقش آلية اتخاذ القرارات، فاتخذ الاجتماع قراراً حاسماً بعدم الدخول في أي جبهة إن لم تكن قراراتها بالإجماع.

لم يجر إنتخاب للمكتب السياسي في هذا الاجتماع رغم أن الاجتماع كان كاملاً ومن صلاحيته القيام بذلك وتوفر اقتراح بذلك من قبل بعض الرفاق. ولكن لم يطرح مقترحهم للتصويت من قبل سكرتير اللجنة المركزية الذي كان يدير الجلسة، ربما لتفادي تصفية حسابات شخصية في أجواء ذلك الاجتماع الذي اتسم بالتوتر في جزء منه. ولكن هل كانت مثل هذه الدوافع مبررا لعدم التصويت على مقترح نظامي لإجراء الانتخاب؟. على أي حال، لقد باتت مثل هذه الأساليب المنافية للديمقراطية، في حياة الحزب الداخلية، في طي الماضي بعد المؤتمر الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد.

135

توجت جهود الحزب الشيوعي العراقي والقوى الأخرى إلى إعلان قيام الجبهة الوطنية القومية الديمقراطية (جوقد) قي 12 تشرين الثاني 1980 في دمشق. وقد ضمت إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي كل من الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) والحركة الاشتراكية العربية (جواد دوش) وحزب البعث العربي الاشتراكي (قيادة قطر العراق) المقيم في دمشق والحزب الاشتراكي الكردستاني (حسك). وبسبب رفض ( أوك) وقيادة قطر العراق انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) إليها، سارعت لجنة هندرين إلى تجميع القوى في كردستان وأسفرت الجهود المشتركة عن قيام جبهة ثانية بعد بضعة أسابيع من قيام (جوقد) وسميت الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) وضمت الجبهة إلى جانب الحزب الشيوعي كل من (حدك) و(حسك). اعتبرت أطراف (جوقد) إقامة (جود) محوراً منافساً وبادرت إلى تجميد عضوية كل من الحزب الشيوعي و(حسك) في (جوقد)ومنذ ذلك الحين انفتح أمام الحزب الشيوعي مجال جديد للمشاكل، تطور فيما بعد إلى مجابهات خطيرة كما سنرى لاحقاً (9).
________________________________________
(1) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 172.
(*) حضر الاجتماع الرفاق عزيز محمد وزكي خيري وثابت حبيب العاني وعبد الرزاق الصافي وبهاء الدين نوري وآرا خاجادور ونزيهة الدليمي وغيرهم. يعتبر سباهي هذا الاجتماع اجتماعًاً للجنة المركزية، وهذا غير صحيح، فلم يصدر عن هذا الاجتماع أي بيان. وينسب سباهي لهذا الاجتماع محتوى وتركيب وبيان اجتماع اللجنة المركزية في برلين تموز 1979. (سباهي ص 176 والهامش 208). ويذكر سباهي أسماء باقر إبراهيم وجاسم الحلوائي من بين الحاضرين في حين لم يحضر الاثنان لا اجتماع شباط ولا اجتماع برلين في تموز 1979، فالأول غادر العراق في آب 1979 و الثاني في تشرين الثاني من نفس العام. لقد توثقت من مجريات اجتماع شباط في براغ وبرلين في تموز 1979 من عبد الرزاق الصافي (من خلال محادثة تلفونية في أواسط آذار 2008) الذي حضر الاجتماعيين. وقد خصص باقر إبراهيم فصلاً مستقلا (رقمه 32) لاجتماعات اللجنة المركزية في المهجر، ومعلوماته تتطابق مع معلوماتي.
(**) في ص 165 من كتاب سباهي الثالث، يقتبس سباهي تعبير من كتاب لباقر إبراهيم صادر في عام 1997 يقول فيه إن "التيار الأكثر تعقلاً وبعد نظر في قيادة الحزب الشيوعي ارتأى بذل كل ما يمكن من الجهود لتفادي الأزمة" المقصود بعد اعدامات 1978. وهذا غزل مفضوح مع النظام يأتي بعد تسع سنوات من الحادث . ولم يكن يصرح به باقر إبراهيم عند وجوده داخل الحزب، بل وربما كان يعتبرها تهمة مغرضة باعتبار أن المقال الذي كتبه في حينه، ويقدم شرحاً له هنا، لايخرج عن الهدف المقرر في اجتماع اللجنة المركزية وهو "وقف التدهور" لتغطية التراجع وليس لتفادي الأزمة. وفي ص 173 يقتبس سباهي أقوالاً لباقر إبراهيم منشورة في مطبوع فلسطيني يعود إلى عام 1977، هناك ما يضاهيها في وثائق المؤتمر الثالث، وذلك للتدليل على وجود من "يبحث عما يمكن أن يعيد المياه إلى مجاريها" وذلك بعد الأشهر الأولى من عام 1979. إذا كان بداية آذار يدخل ضمن الأشهر الأولى من السنة، فإن من كان "يبحث..." بات متيقناً بأن التحالف انهار ولا رجعة له.
(2) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 187 وما يليها.
(3) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 189.
(4) عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 190 والهامش 217.
(***) أعتقد من الضروري عدم أخذ معلومات تقارير الأمن كأمور مسلم بها ، فقد تنطوي على الكثير من المبالغات، ربما بدوافع مهنية لتسجيل إنجازات أو لتبرير تقصير. واحد الأمثلة على ذلك هو ما ورد في الصفحة 175 من الجزء الثالث من كتاب سباهي بأنه "جرت محاولة لاعتقال جاسم الحلوائي، عضو اللجنة المركزية، ودوهم بيتان لهذا الغرض، كان فيهما الحلوائي، وفي يوم واحد، إلا أنه استطاع أن يفلت في الحالتين". عندما استفسرت من سباهي عن مصدر هذه المعلومة، أفاد بأنها وثائق الأمن التي عُثر عليها بعد سقوط النظام. المعلومة مبالغ فيها لقد جرى تحري بيتين بهدف القاء القبض عليّ بفارق حوالي ثلاثة أشهر وكنت بعيداً عن البيتين، بفترة طويلة عن البيت الأول، وبمدة ثلاثة أيام عن البيت الثاني. والمبالغة هنا لتبرير التقصير فقد كنت مطلوباً بشدة من قبل الأمن في تلك الفترة، وفقاً للمعلومات التي كانت تصلنا ممن يطلق سراحهم.
(5) عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 193.
(6) وثائق المؤتمر الوطني السادس تموز 1997، ص 83 ـ 86. راجع كذلك عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 183 ـ 187.
(7) وثائق المؤتمر الوطني السادس، ص 84 وكذلك ص 99. أنظر أيضاً الثقافة الجديدة، العدد 170، شباط 1968 ص 60.
(8) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 191.
(9) راجع عزيز سباهي. مصدر سابق، ص 192.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر باريس حول السودان: ماكرون يعلن تعهد المانحين بتوفير مس


.. آلاف المستوطنين يعتدون على قرى فلسطينية في محافظتي رام الله




.. مطالبات بوقف إطلاق النار بغزة في منتدى الشباب الأوروبي


.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: هجوم إيران خلق فرص تعاون جديدة




.. وزارة الصحة في غزة: ارتفاع عدد الضحايا في قطاع غزة إلى 33757