الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي- (42)

جاسم الحلوائي

2008 / 5 / 31
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


الديمقراطية والتجديد في الحزب الشيوعي العراقي
152

تناول الرفيق عزيز سباهي هذ الموضوع بفصلين مستقلين، الأول هو الفصل الثامن عشر الذي حمل العنوان التالي: "البريسترويكا.. وانعكاساتها على الحزب الشيوعي العراقي". والثاني هو الفصل الواحد والعشرون، وهو الفصل الأخير من كتابه، والذي حمل عنوان: "نحو الديمقراطية والتجديد". وقد آثرنا تناول محتوى الفصلين سوية نظراً لارتباطهما الوثيق وتوخياً للاختصار.

"في البدء، نؤكد أن البريسترويكا..جوهرها، وميادينها، ومنجزاتها، والنتائج التي أسفرت عنها، والآثار التي أحدثتها في العالم، وانعكاساتها على الحركات السياسية والاجتماعية، والتطور الفكري في العالم.. هو موضوع واسع جداً، نشير اليه هنا باختصار شديد جداً، مكتفين من آثاره بتلك التي مست الحزب الشيوعي العراقي وحده".

بهذه الفقرة يفتتح الرفيق عزيز سباهي الموضوع فيستعرض البريسترويكا مستنداً إلى مؤشراتها الأولى التي طرحت في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في عام 1984. ويتوقف عند اجتماعها التالي المنعقد في نيسان 1985، الذي تصدى إلى مراجعة المسيرة الماضية لبناء "الاشتراكية" بروح انتقادية جريئة، وأشار إلى أنه قد جرى باسم الاشتراكية والبناء الاشتراكي، التجاوز على القوانين الموضوعية لتطوّر المجتمع، والدعوة إلى استباق الزمن وحرق المراحل، وفرض الاشتراكية بأوامر إدارية فوقية، دون مراعاة مستويات النضج المادي والروحي للمجتمع. وكل هذا يُشّكل خروجاً على الاشتراكية العلمية التي نادى بها ماركس. وأكد الاجتماع على أن مسيرة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي فقدت وتائرها، وتباطأت بشكل ملحوظ، وأنها بلغت شوطاً يمكن وصفه بالركود من سبعينات القرن الماضي، ولاسيما منذ الثمانينات. وعند مناقشة الاجتماع المذكورعلاقات الاتحاد السوفييتي ودوره الدولي، خرج الاجتماع بما عرف بـ"التفكير السياسي الجديد".

كما يشيرالكاتب إلى المؤتمر 27 للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتى المنعقد في آذار 1986 والذي أكد على ما توصلت اليه اللجنة المركزية، ومضيفاً أن النهوض بالاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، لا يمكن أن يتم دون التخلص من البيروقراطية التي تهيمن على الحزب والدولة، ودون إشاعة الديمقراطية وتخليص الفرد السوفييتي من حالة الخمول السياسي، وتحفيزه على الإبداع والمبادرة، واعتماد العلنية...الخ (1).

ويتطرق سباهي إلى المناقشات التي جرت على صفحات مجلة الأحزاب الشيوعية " قضايا السلم والاشتراكية" ومجلة "النهج" التي كانت تصدر في سوريا وتحمل عنوان (النهج، دفاتر الماركسية ـ اللينينية في العالم العربي)، وإلى ردود فعل مختلف الأوساط السياسية الرسمية والشعبية دولياً وعربياً. ويشير الكاتب كذلك إلى أن البريسترويكا مرت بطورين، الأول : "أشاعة العملية، وما اقترن بها من حديث عن التفكير السياسي الجديد، آمالاً عريضة...الخ". أما "في الطور الثاني، بدت بوادر الارتداد تلوح في أطراف المعسكر الاشتراكي [...]. وهكذا شهدت نهاية الثمانينات تتابع انهيار الحكم في بولونيا وهنغاريا والمانيا الديمقراطية، ثم تبعتها الدول الاشتراكية الاوروبية الأخرى. وقد زاد سقوط الأنظمة الاشتراكية من الضغط الهائل على الحكم "الاشتراكي" في الاتحاد السوفييتي وأدى إلى سقوطه هو أيضاً".

ويشير الكاتب سباهي أيضاً إلى سبب "ارتداد" البريسترويكا، فيقول " لكن ظهر لاحقاً، ان غورباتشوف وأصحابه، الذين قادوا حملة التجديد هذه، لم يكونوا يدركون جيداً أنهم مقدمون على أمر يفوق قدراتهم الفعلية كثيراً...إذ ظهر أن "اشتراكية الدولة" التي أرسى ستالين أسسها، وسار عليها خلفاؤه بعده، قد أوجدت مصالح اجتماعية واسعة للفئات البيروقراطية [...]. فلم تمضي سوى سنتين أو ثلاثة، على انتعاش الآمال في إمكانية الإصلاح، والارتقاء بوتيرة البناء، وتجديد الحياة العامة، حتى شرعت هذه البيروقراطية تكشر عن أنيابها، وراحت تعمل بكل ما توفر لديها من الوسائل، للحد من المبادرة الشخصية، وأخذت البلاد تفقد وتائر حركتها، وباتت المشاكل المعلقة تتراكم [...] وإن الأداة التي يعوّل عليها في احداث الانقلاب المنشود في المجتمع، ونعني بها الحزب الشيوعي، هو ذاته قد تحوّل إلى ماكنة أتلفها الصدأ، ولم تعد تتحرك، وعشعشت فيه البيروقراطية والنفعية بشكل فظ"(2) .

153

البريسترويكا تعني إعادة بناء، وكان المقصود منها في حينه إعادة بناء النظام "الاشتراكي" في الاتحاد السوفيتي وتبعاً لذلك في الدول "الاشتراكية" الأخرى. وما أن شرعت البريسترويكا عملها حتى فشلت وانتهت دون ان تمر بأطوار، لأن الاساس الذي كان البناء قائماً عليه لم يكن صالحاً، فانهار البناء وأساسه الهش. وبناء على ذلك فلم يحصل ارتداد في البريسترويكا. فهي لم تنجح كي ترتد، والدليل على ذلك عدم نجاح إعادة البناء في أي من الدول "الاشتراكية". ولم يستخدم المصطلح لاحقاً، وإذا ما استخدم فبمضمون جديد تجاوز شعارها الرئيسي، "مزيد من الديمقراطية مزيد من الاشتراكية"، إلى "الدمقراطية والتجديد" ليس للأنظمة "الاشتراكية" وإنما للأحزاب الشيوعية نفسها.

إن أسباب انهيار هذه الأنظمة لا يعود إلى"اشتراكية الدولة التي أرسى أسسها ستالين وما نجم عن ذلك من بيروقراطية و...الخ"، كما يذكر سباهي. فالانهيار هو النتيجة الطبيعية لذلك الأساس غير الناضج، والذي يكمن في ضعف القاعدة المادية لبناء الاشتراكية في روسيا، أي ضعف التطور الرأسمالي. وإن محاولة التغلب على هذا الضعف بالإرادة السياسية هي التي أدت إلى قيام نظام شمولي منافي للديمقراطية. إن الورقة الفكرية الصادرة من المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي "خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية"، تؤكد بصواب على أن ضعف القاعدة المادية في روسيا وما نجم عنها في البناء الفوقي كانت في مقدمة الاسباب التي أدت إلى انهيار "الاشتراكية"، حيث جاء فيها ما يلي:

" شاءت الظروف التاريخية ان تقوم اول تجربة لبناء الاشتراكية في بلد نضجت فيه الشروط السياسية (*) من دون ان يمتلك، بسبب ضعف تطور الرأسمالية فيه، القاعدة المادية المتقدمة التي اعتبرها ماركس شرطاً لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان. ومن خلال استخدام ادوات السلطة السياسية، عمدت الدولة في الاتحاد السوفييتي وفي غيره من البلدان ضعيفة التطور، التي انتهجت لاحقاً طريق التحولات الاشتراكية او ذات الافق الاشتراكي، إلى محاولة تعجيل عمليات التطور الاقتصادي والاجتماعي التي تستغرق في العادة آماداً تاريخية طويلة نسبياً. وقد اقتضى ذلك بالضرورة اللجوء الى اساليب إدارية وعنفية قادت بدورها إلى اختلالات وتشوهات في البناء السياسي والاجتماعي، ودخلت في تعارض، بل تناقض، مع اهداف البناء الاشتراكي ذاته. وقد خلق ذلك عجزاً بنيوياً على صعيد الحريات والديمقراطية والبناء الحقوقي والشرعي للدولة "الاشتراكية" (3) .

154

تأخرت قيادة الحزب الشيوعي العراقي كثيراً في تحليلها للبريسترويكا. ولم ترصد قيادة الحزب ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الاخرى، كي تُراجع أوضاع الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية ومجمل نشاطه العام، إلا بعد أن أخذت الانظمة الاشتراكية بالانهيار في نهاية ثمانينات القرن الماضي. وقبل الدخول في مديات تأثير كل ذلك على الحزب، نلقي الضوء بشكل مرّكز على الأوضاع الصعبة والمعقدة التي كان يعيشها الحزب خلال الفترة التي ظهرت فيها البريسترويكا حتى ولوج الحزب درب التجديد.

كان الحزب الشيوعي العراقي يعيش، شأنه شأن جميع الأحزاب الشيوعية الأخرى، أزمة فكرية وتنظيمية منذ أمد بعيد، وكان بأمس الحاجة إلى التجديد والديمقراطية. ولم يتمكن المؤتمر الرابع (1985) من القيام بتلك المهمة والبريسترويكا لم تكن قد بلغت أسماعه بعد. وقد عانى الوضع التنظيمي للحزب في أعقاب المؤتمر الوطني الرابع، كما يشير إلى ذلك التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الخامس (1993)، صعوبات جمة شأنه شأن مجالات عمل الحزب الأخرى، وبدرجات متفاوتة من قطاع إلى آخر، سواء في داخل الوطن أو في العمق أو في كردستان وفي الخارج، بسبب من الإرهاب وتصاعد وتائره وما رافقه من ركود فكري، و"ضعف المتابعة لمجريات الواقع الموضوعي، وما سببه من عدم استقرار المنظمات واضطراب حياتها التنظيمية وشللها أحياناً، إضافة إلى هجرة الكادر وتناقص الإمكانيات المالية.

وجاء انحسار الحركة الأنصارية، كما يشير التقرير المذكور، في صيف 1988 في أعقاب حملتي الأنفال الأولى والثانية وتشديد الإرهاب في كردستان وسائر أنحاء الوطن، واضطرار أعداد كبيرة من الرفاق والكوادر إلى الابتعاد عن ساحة النضال ليزيد من الصعوبات التي يواجهها الحزب باستعادة كيانه الذي أثخن بالجراح طيلة ما يزيد على عشر سنوات.

وشهدت منظمات الحزب خارج الوطن في تلك الفترة، وفقاً للتقرير المذكور، إضطرابا شديداً في عملها جراء عوامل عديدة، وخصوصاُ في الجانب الفكري والإحباط الناجم عن تراجعات الحركة الشيوعية العالمية والوضع غير الطبيعي الذي عانت منه لجنة تنظيم الخارج وعدم استقرارها والذي وصل بعض الأحيان إلى حالة قريبة من الشلل (**).

كل هذا، وبالإضافة إلى النواقص الذاتية الخطيرة في الهيئات القيادية للحزب "بدءاً باللجنة المركزية ومكتبها السياسي، التي تمثلت في بعض الأساليب والإجراءات التنظيمية الخاطئة وفي عجزها عن معالجة الكثير من الظواهر غير الصحيحة في حياة الحزب وما سببه ذلك من انعكاسات سلبية على حياة المنظمات وعلى عدد ليس بالقليل من الرفاق والكوادر الحزبية" (4).

يضاف إلى تلك الصعوبات أيضاً التخريب الذي مارسته عناصر قيادية خرجت على الحزب في أوائل وأواسط الثمانينات، وواصلت نشاطها وتبشيرها بمواقفها الاستسلامية الداعية إلى التهادن مع الدكتاتورية في صحيفتها "المنبر"، ويرددها من ارتضى التسيب في صفوف الحزب. كل ذلك أحدث بلبلة وتشويش، وساعدهم على ذلك أجواء الإحباطات التي سادت في الحركة الشيوعية وحالة الجزر التي كانت تعاني منها الحركة الثورية والأزمة التي يعاني منها الحزب.

ولا يمكن أن ننسى تشتت كوادر الحزب بين الداخل الذي يعيش في ظل الدكتاتورية، والجبل المنعزل إلى حد كبير، والمنافي البعيدة والقريبة، كظرف غير مساعد لعملية تتطلب توحيد الطاقات وتفاعل فكري جماعي لمواجهة انعطافاً خطيراً في حياة الحزب.

ومع كل تلك الظروف الموضوعية غير المؤاتية للشروع في تجديد الحزب، فقد كان هناك قصوراً ذاتياً لا يمكن التغاضي عنه. فلقد تخلفت قيادة الحزب عن استيعاب مغزى البريسترويكا. ففي اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في 1988 جرى التطرق إلى البريسترويكا بشكل عرضي، وفي اجتماعها في آذار 1989 توقفت عندها دون أن تتفاعل مع جوهرها رغم انهيار عدد من الأنظمة "الاشتراكية". ولكن كل ما كان يحيط الحزب يشير إلى عدم إمكانية الاستمرار على ذلك الوضع وباتت دراسة وضعه بعمق وإجراء مراجعة شاملة لايديولوجيته وبرنامجه ونظامه الداخلي وخطابه السياسي وقيادته، أمر لا يقبل التأجيل ويتوقف عليه مصير الحزب اللاحق.

وتبعاً لذلك، وفي نشرة عممها المكتب السياسي في ايلول 1989، تم دعوة منظمات الحزب والرفاق المعنيين إلى المساهمة مع قيادة الحزب في سعيها لإعادة صياغة الوثائق البرنامجية للحزب وتدقيق المفاهيم وتطوير استنتاجات الحزب وحصيلة تجربته النضالية. واتخذ هذا المسعى للتجديد، كما تشير وثائق المؤتمر الوطني الخامس، منحى أكثر ملموسية في آذار 1990، إذ طرحت اللجنة المركزية تقريرها "في سبيل استنهاض قوى الشعب لتحقيق السلم والبديل الديمقراطي"، للمناقشة في منظمات الحزب. ومما جاء في هذه الوثيقة ما يلي:

" وفي هذا الإطار شرع المكتب السياسي للحزب منذ دورته في أيلول 1989 بإعادة تقييم وضع الحزب وحياته الداخلية على أرضية إشاعة أوسع ديمقراطية فيها بما يرفع دور الشيوعيين في رسم سياسة الحزب وإبداعهم في تطبيقها، وقدرتهم على تقويمها وتصويبها، وتعديل مسارها، ومتابعة عمل قيادة الحزب وانتخابها، وحجب الثقة عنها عند الضرورة، وتجديدها باستمرار". وتذهب الوثيقة إلى أبعد من ذلك لتقول: "إن الواقع الذي آلت اليه الأوضاع في بلدان أوربا الشرقية "الاشتراكية" والاشواط التي قطعتها (البريسترويكا) لإعادة البناء في الاتحاد السوفييتي، على مختلف الصعد والميادين، جعلت من الضروري تجاوز العموميات، والانتقال إلى التحديات الملموسة لمفاهيم التجديد، خصوصا فيما يتعلق بتفاعل الحزب مع جوهرها واستنتاجاتها الجديدة، والأخذ بنظر الاعتبار تأثيراتها المباشرة على الوضع في العراق، ومحيطه العربي والإقليمي".

وجاء فيها أيضاً "إن إقرار حزبنا بالظروف الموضوعية التاريخية لعملية التجديد وطابعها الشمولي الخلاق، ينطوي على وعي المخاطر التي تحيطها وتلازمها، وتناقضاتها، والعوامل التي تتحكم بمجراها، وتكبحها أو تغيّر وجهة جريانها، مما يستلزم التأكيد على قيم الاشتراكية وأفضلياتها"(5) .

وتواصل هذا المسعى في اجتماع اللجنة المركزية في أيلول 1991 الذي اقر فيه مشروعا الوثيقة البرنامجية للحزب والنظام الداخلي. كما جرى التوقف عند موضوعة التجديد أكثر من مرة في عام 1992 ، وكان آخرها في النشرة الداخلية التي عممها المكتب السياسي في أعقاب اجتماع (ل.م) في تشرين الأول 1992. وتتوجت مساعي التجديد بعقد المؤتمر الوطني الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد، والذي سنتوقف عنده لاحقاً (6).

155

في إطار عملية التجديد، وكجزء منها توقفت اللجنة المركزية في اجتماعها (آذار 1990) عند القضية الكردية، ولاحظت ان الحزب كان قد حدد موقفاً مبدئياً من القضية باعترافه بحق تقرير المصير للشعب الكردي، كما أقر بوحدة وطنه المجزء. ومن هذا المنطلق كان قد صاغ شعار الحكم الذاتي لكردستان العراق في إطار جمهورية عراقية ديمقراطية. لكن الحكم الدكتاتوري عمد إلى تشويه هذا الشعار حين اضطر إلى التسليم به في السبعينات وما رافق ذلك من ممارسته الجائرة. لذلك أضاف الاجتماع إلى هذا الشعار صفة "الحقيقي"، ليصبح الشعار: "الحكم الذاتي الحقيقي". وعند دراسة دور منظمة الحزب في كردستان، دعا الاجتماع إلى تحقيق أقصى استقلالية لها في إطار الحزب الشيوعي العراقي، بما في ذلك وضع برنامجها ونظامها الداخلي وعقد مؤتمراتها وانتخاب لجنتها المركزية. بيد أن الاجتماع رفض إقامة حزب شيوعي كردستاني، باعتبار أن الحزب الشيوعي العراقي قد نشأ على أساس أممي، وسيظل هكذا.

وفي أيلول 1991 وفي أعقاب انتفاضة آذار المجيدة، وبعد إعلان منطقة كردستان شمال خط العرض 36 منطقة ملاذ آمن من قبل مجلس الأمن الدولي، تدارست اللجنة المركزية، كما يشير إلى ذلك التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الخامس (1993)، مستجدات القضية الكردية عند صياغة مشروعي برنامج الحزب ونظامه الداخلي، وقررت تبني شعار تطوير الحكم الذاتي وصولا إلى الفدرالية. وبهذا الموقف يكون الحزب الشيوعي العراقي قد سبق المجلس الوطني الكردستاني في تبني الفدرالية. ودعا الاجتماع إلى تحويل منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي إلى الحزب الشيوعي الكردستاني(العراق)، تقوده لجنة مركزية منتخبة في مؤتمر المنظمة ويضع برنامجه ونظامه الداخلي ويرسم سياساته وخططه في الشؤون الكردستانية ويطبقها بشكل مستقل، انطلاقاً من الخصوصية القومية التي يتمتع بها إقليم كردستان العراق والتطورات التي طرأت عليه بالاستناد إلى المنطلقات العامة لوثائق الحزب الشيوعي العراقي.

وأعار الحزب، كما جاء في نفس التقرير، اهتماماً كبيراً للقوميات والأقليات الأخرى، مؤكداً على ضرورة تمتعهم بحقوقهم القومية والإدارية والثقافية. وفي هذا الصدد يؤكد الحزب على دعمه الدائم لنضال الاشوريين والكلدان الذين يجمعهم تراث وتاريخ وأرض ولغة مشتركة، ويتوجه اليهم لتوحيد نشاطهم المشترك لنيل حقوقهم القومية المشروعة وتعزيز دورهم في المسيرة النضالية للشعب العراقي. كما يؤكد على دعمه لنضال التركمان من أحل حقوقهم القومية (7).

أضافت الحملة الكبيرة، كما يشير سباهي، التي شنها النظام الدكتاتوري مستخدماً فيها أسلحة متطورة بما فيها الأسلحة الكيمياوية الفتاكة، والتدمير الشامل لآلاف القرى والمدن (مدينتي قلعة دزه وسيد صادق اللتين قد محيتا تماماً) مزيداً من الإحباط لكثير من الجماعات. وفي ذات الوقت أججت مشاعر من الضغينة بين الأكراد والعرب، وزادت من مشاعر النفور من كل ما هو عربي، ليس بين الجماهير الكردية البسيطة التي عانت كثيراً من الاضطهاد، بل حتى بين بعض الشيوعيين الأكراد الذين تربّوا وتثقفوا بروح التآخي القومي والمبادئ الأممية. وقد لعبت ما أثارته البريستروكيا من علامات استفهام على طرق وأساليب حل المشاكل القومية، التي استندت إلى تطبيق المبادئ الماركسية ـ اللينينية في الاتحاد السوفييتي، دورها في ذلك.

وفي أواخر الثمانينات، بدأت تتردد، كما يشير سباهي، بين بعض الشيوعيين الأكراد اللاجئين إلى السويد الأحاديث حول ضرورة تكوين الحزب الشيوعي الكردستاني. ويومها نشر كراس يتبنى هذه الدعوة. وكان هؤلاء يجدون تعاطفاً لدى شيوعيين آخرين بمن في ذلك رفاق في منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي. وتلخصت طروحات هذه المجموعة في أن المنظمة الحزبية للإقليم لم تعد تشكل إطاراً مناسباً لنشاط الشيوعيين في كردستان، وإن الحزب الشيوعي العراقي يتحمل مسؤولية تاريخية في كونه لم يسع إلى تطوير منظمة الإقليم إلى حزب شيوعي كردستاني يقود الحركة التحررية الكردية بدلاً من الأحزاب القومية الكردية، التي خانت جميعها القضية الكردية، وجرّت الشعب الكردي في العراق من نكسة إلى أخرى. وكانت هذه المجموعة ترى بأن الماركسية يجب أن تأخذ في الاعتبار ظروف كردستان. ورغم اتفاق المجموعة العام على هذه الافكار، كانت تفتقر إلى الانسجام فيما بينها (8) .

في صيف 1992 شهدت منظمة الحزب في الإقليم، نشاطاً ملحوظاً لوضع القرارات التي توصلت إليها اللجنة المركزية للحزب قبل عام، ولانتخاب المندوبين إلى المؤتمر الوطني الخامس الذي تقرر عقده آنذاك. وقد استغلت المجموعة ذات الافق القومي الضيق، التي مر ذكرها، العمل من جانبها للهيمنة على كونفرس أربيل، وكان تحركها "يلقي التشجيع والدعم المادي والمعنوي من لدن الأحزاب القومية الكردية"(9) . فقد جاء في التقرير السياسي والتنظيمي المقدم إلى المؤتمر الوطني الخامس في هذا الصدد ما يلي: "إنشغلت بعض منظمات الإقليم وخاصة أربيل في صراعات فكرية بعد قرار حزبنا بتحريك شعاره حول القضية الكردية وتحويل منظمة الاقليم إلى حزب شيوعي كردستاني. ولم تخلو هذه الصراعات من دوافع ذاتية وتداخلات خارجية لتأجيجها نحو أهداف تخريبية لشق منظمة الأقليم وإضعاف دورها. ومما يؤسف له، أن قيادة الإقليم لم تستطع إدارة الصراع بالشكل الذي يؤدي إلى تعزيز التوجهات الإيجابية وتطويق الاتجاهات الضارة وعزلها. وقد نتج عن ذلك مشاكل أثناء عقد كونفرنس أربيل وما تلاه من تداعيات أدت إلى خروج عدد من أعضاء المنظمة وتشكيلها تجمعات بمسميات عديدة رافعين راية العداء لمنظمة حزبنا في كردستان وسياسة الحزب تجاه القضية القومية الكردية. وتتحمل قيادة الحزب جزءاً من مسؤولية هذا الوضع لعدم متابعة منظمة الإقليم وتوجيهها لإدارة الصراع بشكل سليم واتخاذ الإجراءات الكفيلة لعدم تفاقم المشكلة"(10).

وأخيراً عقدت منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي مؤتمرها الثاني في أواخر حزيران 1993 وأقرت برنامج الحزب الشيوعي الكردستاني ـ العراق، والنظام الداخلي وانتخبت اللجنة المركزية للحزب. وبذلك انفتح الطريق واسعاً أمام استكمال التحضيرات لعقد المؤتمر الوطني الخامس مؤتمر الديمقراطية والتجديد في نفس العام.

________________________________________
(1) راجع سباهي. مصدر سابق، ص 246 ـ 248.
(2) راجع سباهي. مصدر سابق، ص 249 ـ 253.
(*) يناقش الرفيق عادل حبه فكرة نضوج الشروط السياسية وكذلك أهم ما جاء في وثيقة "خيارنا الاشتراكي"، مناقشة جريئة في مقال تحت عنوان " مناقشة لمسودة ورقة العمل المقدمة الى المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي: "خيارنا الاشتراكي والدروس المستخلصة من تجارب البناء الاشتراكي"، ويجد القارئ هذه المناقشة في موقع الرفيق عادل الاليكتروني وفي العديد من المواقع الأخرى.
(3) خيارنا الاشتراكي. الحزب الشيوعي العراقي، النسخة الموزعة في المؤتمر الوطني الثامن، ص 23 وما يليها. خطوط التشديد غير موجودة في الأصل.
(**) أعتقد بأن حالة الاضطراب الشديد لا تشمل جميع منظمات الحزب في الخارج، فلم تكن منظمة بلغاريا للحزب الشيوعي العراقي تعاني من ذلك في تلك الفترة. لقد تفاعلت المنظمة مع حركة التجديد، وبادرت قيادة المنظمة منذ نهاية عام 1988 إلى عدم التدخل في شؤون المنظمات الديمقراطية. وجرت الانتخابات في جمعية الطلبة وكذلك في جمعية الأدباء والفنانين على أساس الترشيح الفردي. وفي عام 1989 عقدت المنظمة الحزبية كونفرنسها السنوي على أسس ديمقراطية متقدمة لا تختلف عما يجري اليوم في منظمات الخارج من انتخاب المندوبين واقرار نطام إدارة الجلسات وانتخاب هيئة رئاسة و الترشيح الفردي في الانتخابات...الخ. وكانت الأجواء الديمقراطية تسود مناقشات المنظمة السياسية والفكرية. لذلك لم تكن المنظمة تعاني من الاضطراب الشديد وإنما كانت منتعشة فكرياً، وتمكنت من المحافظة، بشكل عام، على انشداد رفاقها للحزب وأهدافه ولقيمه النبيلة. ولم تتجه المنظمة صوب تصفية نفسها كما أشيع عنها في أوساط بعض المنظمات المضطربة. وتحولت تلك الممارسات المبدأية إلى تقاليد راسخة في المنظمة، ولم تتبدل رغم التبدل المستمر على قيادة المنظمة. ويواصل الكثير من أعضائها الآن نشاطهم في مختلف المنظمات والهيئات الحزبية في مختلف الأماكن والبلدان، ويقود ثلاثة منهم أكبر منظمات الخارج (السويد وبريطانيا وهولندا)، في حين أنتخب أحدهم إلى اللجنة المركزية في المؤتمر الوطني الثامن. وانتقلت أجواء المنظمة إلى منظمة اليونان بعد أن انتقل اليها أحد كوادر منظمة بلغاريا، وتولت الأخيرة مهمة الإشراف عليها بقرار من لجنة تنظيم الخارج. وإذ صفيت بعض المنظمات في بعض البلدان "الاشتراكية" فإن منظمة بلغاريا لا تزال تواصل نشاطها. ومن الطبيعي لم تخل المنظمة من من المشاكل والأخطاء يومئذ، ولكن تمسك المنظمة وقيادتها بالمبادئ الديمقراطية والشفافية مكنها من حلها وتجاوزها. ومع ذلك فلم تكن المنظمة بمنأى عن العديد من المظاهر السلبية التي شاعت آنذاك ولكن بدرجة أخف بكثير من بعض المنظمات الأخرى. ولم تعترض الهيئات القيادية على نهج المنظمة المتجدد. (جاسم)
(4) التقرير السياسي والتنظيمي للمؤتمر الوطني الخامس للحزب الشيوعي العراقي. وثائق المؤتمر الوطني الخامس المنعقد في 1993 ص 72 ـ 75.
(5) "في سبيل استنهاض قوى الشعب لتحقيق السلم والبديل الديمقراطي". آذار 1990. الوثيقة منشورة كاملة كملحق في كتاب سباهي الثالث. والمقتبسات من الصفحة 306.
(6) راجع التقرير السياسي والتنظيمي للمؤتمر الوطني الخامس، مصدر سابق، ص 57 وما يليها.
(7) راجع المصدر السابق، ص 71.
(8) راجع سباهي. مصدر سابق، ص 290.
(9) سباهي. مصدر سابق، ص 294 والهامش 280.
(10) راجع التقرير السياسي ، مصدر سابق، ص 75 وما يليها.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة