الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النقد الادبي الفلسطيني 1870-1922/الجزء الثاني

محمد باسل سليمان

2008 / 7 / 10
الادب والفن


وقعت فلسطين التاريخية كما باقي أغلب البلدان العربية تحت حكم الاستعمار التركي سنة 1516م حين انتصرت جيوش السلطان سليم العثماني على جيوش المماليك في معركة مرج دابق بالقرب من مدينة حلب.
وكانت مناطق فلسطين طيلة قرون الحكم التركي تتباعد أو تتقارب من بعضها تنظيمياً وفقاً للتغيرات والتبدلات التي تطرأ على التقسيم الإداري للبلاد الشامية؛ والتي كثيراً ما اختلفت بين حكم سلطان وآخر.
وبلغت أوضاع فلسطين طيلة عهد الإستعمار التركي (1516-1918) دركاً أسفلياً من الإنحطاط والتخلف، شمل جميع جوانب الحياة. فالبنى والإنتماءات السياسية كانت إكراهية، واللغة التركية رسمية وحدها وتداولها إلزامي لمختلف القوميات في الدولة العثمانية؛ والتعليم ضعيف جداً ويخضع لسيادة نهج التتريك العنصري. وفلسطين كانت في شبه عزلة ثقافية عن محيطها العربي، وفي عزلة مطبقة عن العالم الغربي.
وقد أثرت هذه الأوضاع على الأدب فجاء متخلفاً، وظل يحاكي الأساليب التقليدية القديمة؛ ولا يعكس أي أثر من جوانب الحياة أو يتمثلها أو يعبر عنها.
ويكاد يكون الأمر قد بقي على هذه الوتيرة حتى كانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، والتي قادها نابليون بونابرت واندفع بها حتى بلغ أسوار عكا الفلسطينية، حيث تحقق الإتصال الأولي بسبب هذه الحملة بين الغرب والبلدان العربية. ثم تتابع بصيغ وأشكال وكيفيات مختلفة، وكان أحد عوامل النهضة المعاصرة وذلك نتيجة لما كان لهذه الاتصالات من أثر واضح في زيادة تأثير الثقافة الأوروبية على الشرق العربي بما فيه فلسطين. وفتحت تلك الإتصالات العالم العربي على مبادئ ومفاهيم جديدة عن الحضارة الغربية الحديثة وما تنطوي عليه من قيم وتقاليد ونظريات سياسية وإدارية وعلمية وأدبية وفنية وثقافية وإتصالية.
وأدى توطد العلاقات التدريجي بين بلدان الشرق العربي والبلدان الغربية إلى تغيرات دراماتيكية في أنماط حياة الناس في البلدان العربية وقد تطوّر التعليم وازداد انتشار المدارس وأسست الكليات والمعاهد العليا، وانتشرت الطباعة، وازدهرت الصحافة، وعرفت الترجمة الأدبية والعلمية، وأعيد إحياء الكتب القديمة، وطبعت الكتب الأدبية والثقافية المختلفة، وعرفت فلسطين المكتبات، وتيسر وصول الإنتاج الفكري إلى أقصى المديات في كل الاتجاهات.
ومن جانب آخر أحدث تزايد وتطور الإتصالات العربية ـ الغربية نقلات جديدة في الواقع الاقتصادي في الشرق العربي وخصوصاً في فلسطين، حيث نشطت التجارة واتسع نطاق الاستيراد والتصدير وركبّت خطوط السكك الحديدية، وأوصلت الأسلاك البرقية، وغيرها.
ويمكن القول أنه خلال حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876ـ1908) بلغت الإتصالات العربية ـ الغربية ذراها، فانعكس ذلك بما بدا وكأنه يشكل بروز مظاهر التغلغل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني (الغربي) في فلسطين، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث نهضة تعليمية وثقافية وفكرية أيضاً، وإلى انقلاب في مجالات حياة الناس المختلفة، وإلى نشوء الطبقة المتوسطة، وإلى بروز روح النضال الوطني الاستقلالي(1).
وعلى صعيد الثقافة كانت مظاهر النهضة صارخة في كل مجالاتها، وخصوصاً الأدب وأنواعه المختلفة. فحيث تنضّر الشعر بعد أن أخذ يتخلى تدريجياً عن أساليبه التقليدية وظهر فيه تيار الحداثة إلى جانب قيم التجديد التي أخذ يتمتع بها الشعر الكلاسيكي، فقد عرفت القصة. وبعد أن ازدهرت الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ظهرت الرواية المترجمة والمعربة، ثم الرواية المؤلفة لاحقاً. وازدهر النثر بكل أنواعه في مختلف ميادينه. وعرفت كتابة المقالة كنوع جديد من الكتابة الصحافية. وشيئاً فشيئاً أخذت التيارات تعرف سبيلها إلى أنواع الأدب المختلفة، ثم تبلورت على أيدي الأدباء الرواد الأوائل الذين غرفوا معارفهم الأدبية من مناهل الأدب الأوروبي الحديث، وخصوصاً الروسي والفرنسي؛ وتحولت بعد ذلك إلى مدارس أدبية كان من أشهرها مدرستي: خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي. وعلى صعيد آخر أخذ الأدب بأنواعه المختلفة يدعو إلى الإصلاح(2) في البداية، ثم إلى التحرر الوطني والاستقلال عن الدولة العثمانية في مرحلة لاحقة.
بدايات بسيطة وتقليدية
الأدب هو التعبير الحقيقي المباشر عن الحياة. ويمكن القول أن مستواه هو بالضرورة تماثلي مع المستوى الذي أصبحت عليه بشكل عام، فيبدو بأنواعه المختلفة وموضوعات هذه الأنواع وأساليب البناء فيها والأدوات المستخدمة في هذا البناء إنعكاس تفصيلي لجوانب الحياة المختلفة. وتكون غاياته هي نفس التطلعات المنشودة لتطور الحياة أيضاً.
وبرغم جديدية هذا التعريف واصطلاحيته، إلا أن النتائج المباشرة لتقييم أدب مرحلة ما قبل النهضة على أساسه لا تظهر مدى دقة هذا التعريف وصوابيته وصلاحيته كمعامل قياس فحسب، وإنما تبين حقيقة مستوى تخلف الأدب العربي (وبضمنه الفلسطيني القليل والمحدود جداً) في تلك المرحلة، وتفسر الأسباب الواقعية لذلك التخلف وعلاقتها بطبيعة النظام السياسي الحاكم والعلاقات الإنتاجية التي كانت سائدة فيه، وتوضح من جانب آخر لماذا بدت منظومة القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكأنها قد تكرست (تابوات) عندما تداخلت مع المعتقدات الدينية، فأصبحت نزعات عدم قبولها أو رفضها أو المطالبة بتغييرها كشرط للتقدم، ينظر لها كتعرض للدين الذي يحرم مسّه أو حتى نقده.
وفق هذا الفهم نعرف من أين جاءت تسمية الأدب العربي في عهد الحكم التركي بـ"أدب عصر الانحطاط"، حيث كان واقع الحياة (العربية) متخلفاً، والثقافة العربية أبان ذلك العهد كانت جهلوية سوداء وشمولية وتسير بقوى دفع فكرية ظلامية ومتحجرة، ما عدا بعض الاستثناءات التي أخذت تظهر في مرحلة متأخرة جداً منذ أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد اكتسب الأدب هذه التسمية ليس لأنه متخلف فحسب، وإنما لأنه طال برداءته وبشدة تأثير انحطاطه موروث الأدب العربي العظيم من العصور العربية السابقة، فحجب أغلبها وغّيبه وشوّه نصوصاً أخرى من بعضه الآخر.
وكان أدب الإنحطاط استمرارية تلقائية للأدب العربي الكلاسيكي، فقد حاكت أنواعه المختلفة بميكانيكية تفصيلية أساليب الأدب العربي القديم. وأما نوازع التقريظ بالكتب وبمؤلفيها فكانت واضحة لدى أدباء وشعراء ذلك العصر. ورؤي التقريظ صورة من صور الفتنة والإعجاب. وأما إظهار أولئك الأدباء والشعراء لدواعي الفتنة فعبروا عنه بما هو أقرب إلى التبرير منه إلى التعليل والتفسير. وكثيراً ما كان أغلب افتتان الأدباء والشعراء بآخرين من ولايات غير ولايتهم. ويكفي للاستدلال على ذلك أن نذكر أن السيد عباس خماش من نابلس لم يفتتن بأي أديب من فلسطين مثلما افتتن بالمعلم بطرس البستاني، ولم يقرظ أي كتاب أو مطبوعة بأبلغ مما قرظ به مجلته الجنان التي كان قد أصدرها البستاني في بيروت. وقد فعل الأمر نفسه السيد أبو السعود أحد علماء القدس ولكن مع الأديب أحمد فارس الشدياق وكتابه "سهر الليالي". وكذلك فعل ياسين النابلسي مع الشدياق ومجلته "الجوانب" وكان تقريظه منظوماً.
وفي بعض الأحيان تجاوز الافتتان بالكاتب والكتاب من تقريظ كل منهما إلى ذم خصومه، كما فعل يوسف أسعد نجل مفتي السادات بالقدس حين مدح "الجوانب". وكما فعل الشيخ يوسف النبهاني في تقريظه لـ "الجوانب" و "سهر الليالي" وإعلائه من شأن الشدياق، وحطّه من شأن خصومه كصاحب برجيس(3) وغيرهم.
كان الطابع الديني يغلب على ثقافة عصر الانحطاط. وكان المسجد الأقصى مركزاً رئيسياً من مراكز نشر العلوم الدينية وفروعها داخل البلاد وخارجها. وكانت الآداب أحد نتاجات هذه العلوم. وكان مؤلفوها إما شيوخ تلك المراكز أو تلاميذها، ولذلك فقد بدت النتاجات الأدبيةوكأنها متوحدة مع هذه العلوم أو إحدى فروعها حتى عندما تكون منظومة شعراً أو مصوغة نثراً. وتأسيساً على هذه الحقيقة يمكن فهم الانحيازات في تقريظ الكتب لصالح الأدباء المسلمين كأحمد فارس الشدياق (الذي كان مسيحياً ثم أسلم) ومعاداة خصومهم لأنهم مسيحيون كرشيد الدحداح. وعلى هذا الصعيد يمكن اعتبار بطرس البستاني استثناءاً لأنه معلم الجميع الذي لا يجارى ولا يبارى.
والمؤسف أن هذا المفهوم نظراً لارتباطه بالدين، قد وسم النتاجات الأدبية مظهراً ومضموناً بمضامين ومدلولات دينية. وإن الإسلامي منها قد استمر وترسخ إلى حد ما كتوجه لعب دوراً هاماً في المراحل اللاحقة من تطور أنواع الأدب المختلفة، ولعب إلى حد ما دوراً في استقطابات الإنتساب للتيارات والمدارس الأدبية التي راجت في حياة أنواع الأدب المختلفة بما فيها النقد الأدبي في مراحل لاحقة.
وكان من بين أسماء هذا التوجه إضافة لمن ذكرنا سابقاً الشيخ يوسف النبهاني والشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي وغيرهما(4).
وأما النتاجات التي كانت من صوغ ونظم مسيحيين فقد كانت هي الأخرى كما الإسلامية، دينية الشكل والمحتوى. ويمكن ملاحظة ذلبك في منظم أشعار (المسيحيين) في تلك المرحلة، خصوصاً في مجال الشعر الذي نظمه المعلم جرجس عطية أستاذ اللغة العربية في معهد السينمار العلمي في بيت جالا(5)، وكذلك الذي نظمه الأب الياس مرمورة الذي كان قساً في كنائس الناصرة. ولكن أدباء هذا الجانب المسيحي لم يحققوا التوجه الديني(6) كأحد عوامل الإنتساب والإستقطاب في التيارات الأدبية والنقدية التي ظهرت لاحقاً(7).
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأستاذ نخلة زريق من عكا كان استثناءاً، فلم يحتفل بالدين في أدبه، ولم يغلب على نتاجاته الطابع الديني برغم تأثيرات البيئة الأسرية، حيث ينحدر من عائلة مسيحية عريقة وتعلم في مدارس الإرساليات التبشيرية وكان أستاذاً في مدرسة الشبان الخصوصية في القدس ثم في المدرسة الإنجليزية في القدس كذلك. وقد احتل في بداية عصر الإنحطاط دوراً ريادياً في مجالات النهضة المختلفة بما في ذلك الآداب، حيث وضع أسس معارف جديدة لتعلمها ونظمها ولتدريسها سواءاً في مجالات الشعر أو النثر أو النقد الأدبي(8)
من هنا نرى أن شعراء فلسطين الأولين كلهم أخذوا قسطاً من الثقافة الدينية كما كان يفهمها أهل ذلك الزمان. وكلهم مسلمهم ومسيحيهم جنح إلى القيم الدينية ما عدا خليل السكاكيني. ولذا فلا غرابة في أن تكون الأغراض التي جاءت في شعرهم متسمة بهذه السمات(9)
ويكاد يكون الأمر نفسه في مجال النثر بأنواعه التي كانت في حينه قليلة، حيث مراكز التعليم ومناهجها وأساتذتها هي نفسها التي تعلم أو علم فيها الشعراء، وهم جميعهم من نفس البيئة الاجتماعية التي يفرزها النظام الإقطاعي الديني على سماته ومواصفاته الرجعية والمحافظة والمتخلفة.
كان قوام النثر الخطابة المتمتعة بفخامة البناء الشكلي القائم على المترادفات وتراصف الألفاظ القوية التي تناسب صفات كلام الزعيم، حيث الخطابة مقتصرة على الشيخ والقسيس والإقطاعي والمختار والوجيه، وقبلهم جميعهم الحاكم أو مندوبه أو ممثله. ولم تشر المراجع التاريخية إلى تمتع أي من خطب ذلك العصر وحتى منتصف القرن التاسع عشر بقيمة أدبية أو ثقافية أو علمية، لأنها لم تكن تشتمل إلا على تقريظ لأفراد في مواقع سلطوية، بكل ما اختزنته المعارف من مفردات المدح والتعظيم والتبجيل. وكذلك خطب الوعظ والإرشاد لا تزدهر فيها إلا معارف التهديد بعظائم الأمور والتوعيد بالويل والثبور، سواء تعلق الأمر بالشؤون الدينية أو الدنيوية.
وأما أنواع النثر الأخرى كالرواية فلم تكن قد عرفت بعد، والقصة لم تكن من ضروب الإبداع، وذلك لأنها كانت شعبوية يتناقلها الناس حكاية للتسلية أو لقضاء الوقت مثل قصص عنترة، وتغريبة بني هلال، والزير سالم، والظاهر بيبرس، والشاطر حسن، وجبينة، وألف ليلة وليلة وغيرها إضافة إلى قصص وسير الأنبياء والأولياء ورجال الله الصالحين التي كانت في أغلبيتها العظمى شفوية. وقد ظلت حال القصة كذلك حتى إنطلاقة النهضة في أواخر منتصف القرن التاسع عشر.
والقصص سواء في بنائها أو في عرضها تختلف عن الشعر، حيث هي تصور وتتصل بقطاع أوسع في الحياة. ولذلك كانت أبعادها أطول، وأثرها في المجتمع أكثر وأشد خطورة.
ومع أن خزانة الكتب الأدبية في فلسطين لا تحتوي على الكثير من الإنتاج الأدبي النثري في ذلك العصر، إلا أنه يشار إلى أن الشاعر محمد بن الشيخ أحمد التميمي (من الخليل ومولود في سنة 1824م) قد وضع رواية بالعربية وأسماها "أم الحكيم(10)". كما يذكر على نفس الصعيد أن ميخائيل بن جرجس عورا (من عكا ومولود في سنة 1855م) قد وضع روايات مختلفة، وقصائد قليلة(11) ولأسباب تتصل بمكانة فلسطين الدينية بالبلدان الأجنبية فقد عرف أهلها لغات متعددة عززت مكانتها الثقافية والمعرفية بعد أن تطور دور الإرساليات التبشيرية، خصوصاً في مجال التعليم؛ حيث نشطت ومنذ وقت مبكر حركة ترجمة الكتب التي كانت تستخدم لأغراض التعليم وكذلك للتبشير. وقد أعان ذلك على "فتح النوافذ على آفاق قصصية... فترجم ولخص، واقتدى بهذه الآفاق في الحقل القصصي. ولعل ذلك أن يفسر لنا ارتباط القصص المترجمة في مطلع هذه المراحل بالدعاية الدينية أولاً، وبالأغراض التعليمية ثانياً قبل أن يعرض المترجمون للقصص المتصل بوقع الناس وحياتهم..(12).
وأنواع النثر الأخرى لم تكن قد عرفت بعد في فلسطين، ولا أظنها قد عرفت بكثرة في البلدان العربية الأخرى، ولا حتى في الولايات العثمانية غير العربية في تلك المرحلة، وخصوصاً، أدب الرحلات، والمذكرات واليوميات، والتراجم، والنقد الأدبي، وغيرها.
كان النقد الأدبي في ذلك العصر كما هو شأن أنواع الأدب العربي الأخرى، يرتبط ارتباطاً لصيقاً ومتواصلاً بحياة تلك الأنواع وينفعل بها فتؤثر فيه ويتأثر بها، فيحمل نفس القيم والنزعات التي تُروّج بها، فيصعب عليه أو يتعذر صوغ سمات خاصة به لا تتمتع بأي منها الأنواع الأدبية الأخرى.
وقد اقتصرت وظيفة النقد الأدبي طيلة عصر الإنحطاط وحتى أواخر القرن التاسع عشر على ما كان قد استطاع التواصل به لموروث من آليات ومهام النقد الأدبي العربي القديم، والتي لم تتجاوز المدح أو الذم الذي كان لا يقتصر على المنتج الإبداعي وإنما يطال المبدع أيضاً.
كان التقريظ هو الأسلوب الذي اختاره (نقاد) تلك المرحلة وخصوصاً المدّاحون منهم، فتكرس اتجاهاً في أدب تلك المرحلة؛ سواءً عندما يكون مستوى النقد متماثلاً مع الأدب أو عندما يكون متقدماً عليه أو متأخراً عنه قليلاً أو نسبياً، فيبدو النقد الأدبي وكأنه يحمل القيم نفسها، وكذلك كأنه تقريظ تأثري قائم على التبرير أكثر منه على التعليل... وكان بذلك أشبه ما يكون بعرض لصناعة البيان الشكلية دون أن تكشف عن ارتباط الأدب بالحياة(13).
إن مراجعة إستقرائية مبسطة لأدب أواخر عصر الإنحطاط (حيث هي المتوفرة وبقلة أيضاً) وبمنظور نقدي توفر لنا ما يمكن أن تقول فيه بما لا يحصى لجهة المضمون والدور والوظيفة والصيغة الشكلية أيضاً. وتمكننا في الوقت نفسه من اكتشاف مزايا وسمات الأنواع الأدبية في ذلك العصر. فمثلاً هي بدون أدنى شك لسانها عربي لا تشوبه شائبة الاعوجاج أو الركاكة أو العجمة، وهي مثقلة بالصور التقليدية القديمة وبأنواع البديع الموروثة. وقدرة النظم في الشعر عالية وحصيفة. وملكة الصوغ في المنثور عالية وخّلاقة. والأسلوب تفخيمي اختير لتبريره جزل الألفاظ وأكثرها رنيناً، وحيك في قوالب إدائية بمهارة؛ برغم محدودية الأدوات.
ويحتشد في أدب ذلك العصر صوراً لا لزوم لها بل وزائدة في معظم الأحيان، ويراد منها أن تتساوق مع جزالة الألفاظ المستعملة في البناء المعبر عن الشموخ ومظاهر إشهار الرفعة وسمو المكانة، فتبدو من ضرورات ذلك لتكون رياضة عنيفة يحرك بها اللسان ليظهر الأديب قدرته على تداول اللغة ودورانها في المناهج التقليدية الموروثة التي تذكر بالعصر العباسي وشرائعه. ويكون الأسلوب في العادة مكيناً يستطاع بواسطته الإمساك بحركيات مستلزمات البناء من هذه الثروة اللفظية الخصبة التي يجب توافرها عند صيغة أي نص أدبي دائماً. وفي معظم الحالات المتطورة من النصوص المبنية وفق هذا الطراز نجد أن المبنى يتمتع بقدرة عالية على ما يشبه التعبير أو تقليد التعبير من غير أن يكون هناك مضمون أو تجربة أو واقع صحيح.
وبشكل إجمالي يمكن القول أن النتاجات الأدبية قبل انبلاج فجر النهضة كانت استمرارية لمستواها الذي كانت عليه في عصر الإنحطاط سواء في الأسلوب أو المضمون. وكان الشعر فيه عبارة عن ألاعيب لفظية وعمليات حسابية يتسلى بها المتأدبون ويفنون وقتهم بنظم أحاج وتواريخ وألغاز، وانتهاز مناسبة لتدبير قصيدة صورها جاهزة في الذاكرة وقوافيها حاضرة، غير آبهين بروح العصر والحياة.
كانوا لا يجيدون إلا التقليد فجاء شعرهم بعيداً عن المجتمع، قائماً على التصّنع. فمن ركاكة وإسفاف، إلى اضطراب جرس وتركيب، إلى انعدام الموسيقى والتلهي بالصناعات البديعية والبهلوانية البيانية. فغدا شعرهم بلا روح وبلا سلامة في المبنى ولا بريق في المعنى. ويمكن الاستدلال على ذلك بقراءة نقدية مبسطة لأشعار: نيقولا الترك وبطرس كرامة من لبنان، وإسماعيل الخشاب وحسن العطار من مصر، وأمين الجندي من سورية، وسليم اليعقوبي وإلياس مرمورة ويوسف النبهاني من فلسطين. وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان التحول واضحاً عندما أخذ التقليد فيه محاكاة أدب صدر الإسلام والعباسيين، فكان أن زالت الركاكة وحلت محلها متانة السبك وجزالة اللفظ وإشراق الديباجة. وعقب ذلك اتجاه تدريجي للتجديد، والإقلاع عن التقليد، بدأ معتدلاً وانتهى متطرفاً.
لم يكن النثر أحسن حالاً من الشعر، حيث اللغة العربية في تلك الحقبة في أدنى درجات سلم التخلف. ولذا كان نثرها في غاية السوء والانحدار. ولم يصلنا منه نتاجات تذكر إلا من نتاجات السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. وبسبب ذلك توجه المجدّون إلى محاكاة بلغاء صدر الإسلام والعباسيين، "فاليازجي الكبير حاكى الحريري في مقاماته وتجاوزه في الصنعة بكتابة (مجمع البحرين)، وكان له ولأمثاله تأثير بالغ على الذين أتوا بعدهم من الأدباء. ولم ينحصر تأثيرهم في عصرهم بل تجاوز إلى المتأخرين الذين كانوا كلما امتد بهم الزمن ازدادوا استمساكاً بالقديم ولو كان رثاً بالياً، وأمعنوا في ازدرائهم لكل حديث ولو كان طريفاً لازماً. وكلما قاست الأمم ارتقاء لغاتها بمقدار سيرها مع الحضارة إلى الأمام جعلوا مقياس الرقي للغتهم رجوعها إلى الوراء وتقيدها بأحكام الجاهلين، وفي النسج على منوالهم والضرب على قوالبهم فقط بل لزوم الحد الذي انتبهوا إليه من الأوضاع، والاستغناء بما نقل عنهم وإن لم يكن فيه غنى"(14).
وكان من رواد هذه الطريقة في التقليد: الأمير شكيب أرسلان في لبنان، ومصطفى صادق الرافعي في مصر، وإسعاف النشاشيبي في فلسطين. وقد آثروا تمييز أنفسهم عن مقلدي التخلف ممن سبقوهم في الفترة الماضية من المرحلة نفسها، وذلك بأن أطلقوا على أنفسهم اسم "الكلاسيكيين المجدّين".
في الأدب وفي النقد الأدبي ظهر تياران مختلفان إلى حد التصارع أحياناً، بسبب تفاعلات عوامل النهضة مع بعض صيغ الممانعة التي تعارض التغيير دفاعاً عن مصالحها المباشرة، وهما: تيار المقلّدين وأغلب أقطابه من الأزهريين وخريجي الأقصى والمدارس الدينية الأخرى، ومن التلامذة المتزمتين اللذين درسوا في الحكمة والبطريركية على يد عبد الله البستاني ومصطفى الغلاييني في لبنان أمثال شكيب أرسلان وإسعاف النشاشيبي. والتيار الآخر هو تيار المجدّدين وأغلب أعضاءه ممن تأثروا بالثقافة الغربية من السوريين واللبنانيين المهجريين. وفي مصر كان على رأس هذا التيار سلامة موسى وطه حسين.
وأقطاب تيار التجديد لم يستطيعوا بسهولة تحديد ملامح إطار تيارهم وقواعد العمل به، وذلك بسبب سرعة الاستقطاب حول القيم الواصلة من الغرب وقبول المثقفين لها والانخراط في تفاعلات البحث عن كيفيات العمل على هديها؛ وكثرة تنوع الاجتهادات بشأن ذلك. فظهر في هذا التيار اتجاهان رئيسيان: أحدهما أفرط في الدعوة إلى ولوج العامية في كل بلد عربي والخروج على قواعد اللغة العربية، كما فعل عثمان جلال في مصر. وأما الاتجاه الثاني فقد دعا أقطابه إلى الاعتدال، ورأوا ضرورة الإقلاع عن التقليد والتنميق، والتعبير عن هموم الناس والحياة مع الحفاظ على قواعد اللغة وأسلوبها؛ وكان النصر حليف هذه المدرسة إلى حد بعيد(15)
وتمثل اختلاف التيارين في فلسطين بين من يدعو إلى تغيير الأسلوب والتجديد فيه وفي الموضوع، ومجاراة التطور مع روح العصر ومقتضيات الزمن، ومن يدعو إلى المحافظة على القديم والتمسك بكل ما في التراث العربي واحتذائه(16).
ويمكن القول أن أدب القرن الأخير من ذلك العصر قد صنع بأشكال لفظية سليمة من التشويه ومن الركاكة والضعف، ويبدو كأن هَمّ صانعيه إظهار قدرتهم اللغوية، وغير آبهين بالقدرة على الإمساك بالصفات والمميزات الفعلية لما أسرفوا في الثناء عليه وتقريظه أو لما قدحوا فيه وأبخسوه قيمته وقدره.
وقبل هذا وبعد ذلك لا يسعنا إلا القول بأن ما وصلنا من هذا الموروث الأدبي يتمتع بديباجة متماسكة لم تعرف الركاكة طريقاً لعباراتها. وتركيبتها صحيحة وصنعتها متروّية. ومضمونها يعبر بدرجة دقيقة عن العلاقات الإنتاجية السائدة في النظام الإقطاعي الديني والطرائق والآليات التي يحكم بها هذا النظام البلاد ويدير أوجه الحياة فيها.
إن هذه الصفات لأدب ذلك العصر نجدها صارخة في صناعات التقريظ التي أنعم بها (النقاد) على مراصيفهم في ساحة الأدب من شعراء وناثرين. فالنقد كان تقريظاً، والنقد مديحاً أو ذماً للأدباء وللمدونات التي كانت تنشر أعمالهم الأدبية موضوع النقد، كتباً كانت أم مجلات؛ ويطغى على هذا النقد تبرير الإعجاب أو القرف. ويكون في العادة تبريراً بسيطاً لا مجال فيه لقواعد الجمالية العلمية، ولا يقوم على أسس ذوقية أو ما شابه ذلك. والنقد في صورته الأولى، أو ما يمكن أن نطلق عليه نواة خلق النقد الأدبي، كان أشبه ما يكون لغرض صناعة البيان الشكلانية التي لا تستطيع أن تكشف عن ارتباط الأدب بالحياة. وكان الشعراء والأدباء الذين ينتجون الأدب هم النقاد أيضاً. وقد ظل النقد كما هو الشعر والنثر يتمتع بقيم أدبية بسيطة ولا يتصل مضمونه بوقائع الحياة حتى انطلاقة النهضة الإصلاحية والاستقلالية القومية، حيث تدشنت بداية الحياة الثقافية العربية الجديدة، وبضمنها الثقافة الفلسطينية منذ مطلع القرن العشرين.

تأسيس .. وريادة
أدت المتغيرات السياسية التي شهدتها الدولة التركية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى بروز معطيات جديدة في حياة الناس في الولايات العربية (وبضمنها فلسطين)، شكلت بتكامليتها مظاهر النهضة التي عرفتها البلاد خلال تلك الحقبة؛ وقد تمثلت في التعليم والطباعة والصحافة وإنشاء الجمعيات والأندية والإتصال مع بلدان العالم الأوروبي. وبتفاعل هذه العوامل تحققت نتائج باهرة على صعيد العلاقات الإنتاجية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأحدثت النهضة المعاصرة التي عرفتها فلسطين في مختلف أوجه الحياة.
وعلى صعيد الثقافة أدى انتشار المدارس بسبب اتساع نشاط حركة الإرساليات التبشيرية الأجنبية إلى ازدياد عدد المتعلمين، وإلى اختلاف مناهج التدريس عن تلك المناهج التي كانت سائدة في الكتاتيب وفي المدارس الحكومية ، وكذلك إلى تعدد اللغات الأجنبية بشكل يتناسب مع تعدد لغات الإرساليات، كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية واليونانية والإسبانية وغيرها.
وبسبب إهتمام بعض الإرساليات باللغة العربية في مناهجها، وكذلك اعتماد بعضها كالإرسالية الروسية اللغة العربية لغة رسمية في مدارس ومعاهد الجمعية الروسية الفلسطينية(17) تطورت اللغة العربية؛ وتأهلت لاستيعاب مفردات جديدة فرضتها حقائق تطور جوانب الحياة المختلفة في مرحلة النهضة. كما أن أهلية الكادرات في مجالات مختلفة قد ارتقت بسبب الإيفادات الجامعية التي حصل عليها طلبة فلسطينيون من خريجي هذه المدارس إلى الجامعات في البلدان الأوروبية التي تتبع لها الإرساليات التبشيرية.
وتحت ظلال شجرة النهضة الوارفة نمت أنواع الأدب المعروفة، واستقبلت جديدة لم تكن معروفة من قبل، وكان من بين هذه الأنواع: الترجمة، المسرح، القصة القصيرة، الرواية، الأدب المقارن...الخ.
وعلى صعيد النقد الأدبي كان التطور تأسيسياً وريادياً في آن واحد معاً، نتج عن ترافق بزوغ فجر النهضة بولوج لون من ألوان روابط الحياة الأوروبية وآدابها باب الحياة العربية وآدابها؛ وقد حمل معه قيماً أدبية جديدة ومفاهيم معاصرة وأساليب حداثية. وقد اكتسب هذا الأمر أهميته الخاصة لأنه لم يكن بالإمكان توفره من خلال إطلاع الفلسطينيين عليها عبر التواصل الحضاري الغربي ـ العربي فحسب، وإنما من خلال نتائج الأبحاث والدراسات الأدبية والنقدية للأدب العربي بأنواعه المختلفة التي أنجزها طلاب العلم من الفلسطينيين في بلاد الغرب وفق طرائق البحث الحديثة التي بلغها الأدباء والنقاد الأوروبيون. ولقد أسهم في إنجاز هذه الأبحاث والدراسات أكثر من أديب عربي وفلسطيني، كلهم لعبوا دوراً تأسيسياً في النقد الأدبي الحديث. وقد تفرد بالريادة الكاتب المقدسي محمد روحي الخالدي (1864_1923م) حين توصل وآخرون من العرب والفلسطينيين إلى صوغ قواعد النقد الأدبي وفق منهج حداثي تنويري، أحدث قفزات ملحوظة في مسيرة تطور الأنواع الأدبية الإبداعية؛ وكذلك تطوير اللغة العربية نفسها. وقد جعل محمد روحي الخالدي قاعدة أخرى إضافة لها تقوم على المقارنة، وذلك بمقارنة الأدب العربي مع آداب الأمم الأخرى؛ وتقييم هذا الأدب بالنسبة لتلك الآداب. وقد تحقق بفعل ذلك نهجاً جديداً في النقد الأدبي، فيما أسس في الآداب العربية لنوع جديد منها هو "علم الأدب المقارن" الذي يعتبر الخالدي من أوائل رواده(18)، لا بل رائده الأول وفق التوصية التي أصدرها الملتقى العربي الأول للأدب المقارن في عنابة بالجزائر عام 1983م.
ولد محمد روحي الخالدي سنة 1864م في مدينة القدس من أسرة عربية ذات محتد. وانتقل في تعليمه من الكتّاب إلى المدرسة الإبتدائية في القدس، ثم إلى المكتب الراشدي في نابلس. بعد ذلك دخل المدرسة الوطنية في طرابلس الشام، ثم عاد إلى القدس والتحق بحلقات الدراسة في المسجد الأقصى؛ فتلقى علوم الفقه والتوحيد والحديث والنحو والصرف والنطق والبيان والبديع.
وكان يتردد على الأليانس، ومدرسة الرهبان البيض (الصلاحية) فتعلم فيها الفرنسية. ثم دخل المدرسة السلطانية في بيروت. وبعدها سافر إلى الأستانة ودخل المكتب الملكي فيها دارساً لمدة ست سنوات حصل في نهايتها على الشهادة العالية. ثم ذهب إلى فرنسا ودخل مدرسة العلوم السياسية فأتم دروسها في ثلاث سنوات، انتقل بعدها إلى دار الفنون العالية (جامعة السوربون) ودرس فلسفة العلوم الإسلامية والآداب الشرقية. وكان يتردد على مجالس المستشرقين الذين غالباً ما دعوه إلى إلقاء المحاضرات الأدبية في أنديتهم. ويعتبر محمد روحي الخالدي أول من أدخل المحاضرات الأدبية إلى الآداب العربية كواحدة من أنواع الأدب العربي(19).
إن الدراسات العليا والتخصصية التي تلقاها روحي الخالدي في فرنسا أطّرت معارفه الثقافية والأدبية، ودفعته إلى البحث عن موقع له في اصطفافات حوار الأدباء حول المظاهر التي أخذ يبدو عليها الأدب كاتجاهات. وإن إطلاعه الواسع على الآداب الفرنسية المختلفة وخصوصاً النقد، عمّق لديه مفاهيم ومعارف أدبية كانت ملتبسة بعد أن توطدت علاقته بالأدباء الفرنسيين وبكبار المستشرقين. حيث اكتشف أن قواعد النقد الأدبي الرائجة لدى الكتاب والأدباء العرب أصبحت لا تصلح للنقد الأدبي في مرحلة ازدهار الحداثة. وإن مواصلة العمل بموجبها يهدم ولا يبني، ولذلك لا بد من أن يأخذ النقاد بالنظريات الأدبية والقواعد النقدية الحداثية التي بلغها أدباء الغرب.
وتغير معنى الأدب كدلالة للتعريف بإنتاج إنساني لدى روحي الخالدي حينما اكتشف أن الأدب هو علم الإنسان، ويمكن مقارنته بعلم الطبيعيات. وإن الشخصية إنما هي كالنوع أو الشكل في الطبيعة. فكما أن عالم النبات يصف مظاهر العالم النباتي محدداً النواميس التي يخضع لها النوع أو الشكل؛ كذلك الأدب فهو يرمي إلى إدراك كنه حقيقة الإنسان، فيعمد إلى تصنيف الأشخاص على اعتبار أنها نماذج لها أشباهها، ثم يردهم إلى أنواع وأشكال بشرية، ويحدد النواميس السيكولوجية التي يخضع لها كل من النوع والشكل البشريين. وخلص من كل ذلك إلى "أن اللغة كائن حي فاعلموه".
وببلوغ الخالدي هذه المعارف والاقتناع بها والعمل على ضوءها فهو قد عرف مذهباً أدبياً جديداً له أهمية حيوية في أنواع الأدب المختلفة، وهو "الواقعية العلمية".
لقد نما حس محمد روحي الخالدي عميقاً في محيط الأدب الغربي من خلال دراسته التمحصية للأدب الفرنسي بطريقة إطلاعية تعرفية اعتمد فيها الأساليب الحديثة في النقد. وحين أدرك أنه قد فهم الأدب الفرنسي وعرف قيمته ومستواه، قرر أن يعاود قراءة الأدب العربي من جديد، ولكن وفق الأساليب والقواعد الرائجة في حياة النقد الفرنسي؛ فدفعه ذلك لإجراء مقارنة بين الأدب العربي والأدب الفرنسي.
وحيث أوصلته دراسته للأدب الفرنسي إلى الإعجاب بالأديب فيكتور هوغو والإندهاش بالعظمة الإبداعية لأنواع نتاجاته المختلفة ومفهومه وطريقته وأسلوبه الذي استعمله في عملياته الإبداعية، فجعل من أدب هوغو النموذج الذي يقاس عليه في معاودته لقراءة الأدب العربي مجددا؛ً وجعل من نظرياته ومفاهيمه المرتكز الذي سيعتمد عليه ليس في الدراسة فحسب وإنما في تدوين الإستخلاصات والنتائج أيضاً.
لقد أخذت الدراسة من محمد روحي الخالدي وقتاً طويلاً ومضنياً، ولكنه كان بالنسبة إليه كما وصفه " كان ممتعاً أيضاً"؛ خصوصاً وأن الخالدي خلال تلك الفترة لم يكن متفرغاً للبحث لأنه كان يعمل سفيراً للباب العالي في بوردو.
وقد تكللت جهود البحث بنجاح الخالدي في تأليف كتابه الشهير "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو"، الذي ضمنه خلاصة أبحاثه ونتائج مقارباته والإستنتاجات التي توصل إليها، والمفاهيم والنظريات التي وضعها على ضوء ذلك البحث وخصوصاً في مجالات النقد والأدب المقارن وما يتصل بكل منهما من شروط لإحياء اللغة العربية وتطويرها.
بدأ الخالدي بنشر كتابه على حلقات في مجلة الهلال القاهرية بدون توقيع لاعتبارات تتعلق بوظيفته الدبلوماسية. وفي سنة 1904م أصدرته المجلة بتوقيع "المقدسي"، ثم أعيد طبعه باسم مؤلفه الصريح.
اشتمل كتاب "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو" على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب عند الإفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب، إبان ازدهار الحضارة العربية خلال بعض حقب حكم الدولة العربية ـ الإسلامية.
وأبرز روحي الخالدي في الكتاب ما اقتبسه الإفرنج عن العرب في الأدب والشعر في مرحلة النهضة الأوروبية، مركزاً على الفرنسيين، وخصوصاً فيكتور هوغو الذي رأي فيه الخالدي نموذجاً عظيماً للدراسة؛ فضّمن الكتاب فصلاً خاصاً به عرض فيه ترجمة له كشاعر وفيلسوف وناقد. ووصف مذاهبه وتآليفه الشعرية والنثرية وغير ذلك من مواهبه ومناقبه.
وضّمن الخالدي كتابه النتائج التي أوصلته إليها أبحاثه في الأدبين العربي والفرنسي، وما استوقفه في كل منهما من تجارب إنسانية تمتعت بمستوى راق وانعكست قيماً أدبية راقية جديدة وحداثية شامخة. وقد رأى أن الأدب العربي قد تمتع بهذه القيم نتيجة لدوره المجيد في الحياة العربية منذ أن كان انتشاره مقتصراً على مساحة حدودها، وحتى امتداده عبر توالي العصور وما حدث فيها من تغيرات.
وأشار الخالدي إلى أن التطور الذي لحق بجوانب حياة الأدب العربي المختلفة كان يقف وراء التواصل والإتصال الذي بلغته الدولة العربية ـ الإسلامية مع البلدان الأجنبية، وما استشرف عبر هذا الاتصال من طرائق وأساليب بحث نقدية، لعله كان من أهمها اعتماد أسلوب المقابلة بين حياة وظروف ودواعي كل من الأدبين العربي والغربي، والكشف عن العوامل المتشابهة والنتائج المتفاربة في الشكل وفي المضمون؛ ولا سيما في الفترة التي اكتشفت حياة فيكتور هوغو في فرنسا كنموذج على ذلك(20).
ويرى روحي الخالدي أن الدراسة والبحث وفق هذا المفهوم هو الذي أوصله إلى حقيقة اكتناف الأدب العربي على قيم عليا كانت تختفي وراء الجهل العربي بالمفاهيم الحديثة في النقد الأدبي. ولذلك أخذ يؤمن بأن علم الأدب لا يكمل إلا بعد أن ينظر المتبحر فيه إلى "أدب الأمم المتمدنة، ولو بنظرة عامة ليطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم وعلى بعض ما ترجم من مؤلفات المشاهير من كتّابهم، فيقف على ما عندهم من سعة الفكر وسمو الإدراك، وبلاغة المعاني، ويعرف أساليبهم في النظم والنثر وتصرفهم بالكلام؛ ويميز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم...."(21).
لقد ركز روحي الخالدي على المقارنة بين أدب العرب وأدب فيكتور هوغو فيشير مثلاً إلى مقدمة روائية كرمويل، ويقول: ... وفيها يفهم أن الطريقة الرومانسية أرجعت الشعر إلى الحقيقة والطبيعة والحياة، وتركت فيه التصنع وزخرفة الكلام، وأجراس اللفظ.
وأما في مجال النثر فإن من أمعن في البحث الأخير من تلك المقدمة وجد مطابقاً لما ذكره أئمة البلاغة والأدب في لسان العرب كأبي بكر القبلاني وعبد القاهر الجرجاني وابن خلدون وأمثالهم.ولا حاجة لإيراد أقوالهم في هذا الباب فإنها معلومة ومحصلها وجوب نصرة المعنى على اللفظ لأن الألفاظ خدم المعاني. ويعرض الطريقة الرومانتيكية ومؤسسها شكسبير، ويتناول ظهورها في ألمانيا وانتقالها إلى فرنسا، وسقوطها بعد ظهور الرومانتيكية الحقيقية والطبيعية(22)
وبذلك يقتنع الخالدي أن البلاغة لا تختص باللسان العربي وحده، وأن الأمة كلما ارتقت في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وآدابها أوسع وأكمل.. فيدرك أدباؤها حقائق المعاني التي ربما استعملها آباؤهم وأجدادهم في غير مواضعها بسبب الجهل الناشئ من ضيق العمران وقلة العلوم(23).
واعتماداً على ما أوصله إليه البحث في الأدب الأوروبي من خلال تطبيقه لإستخلاصاته ونتائجه على أدب هوغو أخذ لا يُقر التكلف والتقليد، لأن نظم قصيدة ثامنة للمعلقات السبعة وسجع مقامات ثالثة لمقامات الحريري والهمذاني ليس فيه كبير فائدة ما دام الأصل في الكلام للمعاني. والمقصود من المعاني إظهار أسرار الكون الذي نُصبح فيه ونمسي ونحن غافلون عن كثير من حقائقه، ولا ندري كيف نوضح شعورنا وإحساسنا بهذا الوسط الذي نحن فيه... فهذه المعاني البليغة العالية ينبغي أن يسبكها أدباء العصر في السهل الممتنع من الكلام الفصيح بغير تهافت منهم على المحسنات اللفظية من جناس وطباق وقراءة الكلام طرداً وعكساً وغير ذلك مما يعّده العقلاء من الملاعب الصبيانية، إذ ليس هذا غاية الأدب والغرض منه.
واعتمد روحي الخالدي من أجل بلوغ استخلاصاته تطبيق ما يمكن تطبيقه من معارف الأدب المقارن والنقد التي امتلك ناصيتها على الأدب العربي من غير أن يتكلف في التطبيق. ومن جانب آخر فهو لم يترك أثراً من آثار فيكتور هوغو إلاّ ودرسه وتمثله في ظروفه السياسية والإجتماعية، وعرضه عرضاً دقيقاً وبيّن أوجه التشابه والإختلاف في الشكل والمضمون بينه وبين شعراء العرب كابي العلاء المعرّي وغيره.
لقد ضمّن الخالدي كتابه فصلاً أفرده للحديث عن تاريخية العلاقة بين الأدب الفرنسي والأدب العربي. وقد ذكر فيه أن الفرنسيين قبل اختلاطهم بعرب الأندلس لم يكن لأشعارهم رَوِي ولا قواف، فأخذوا من جيرانهم الأندلسيين "علم القوافي". كما بيّن التأثير الذي أحدثه الأدب العربي في أشعار الإفرنج وقوافيهم بشكل عام وفي أشعار وأدب فيكتور هوغو على وجه الخصوص، حيث يمكن بسهولة لمس نفحات النفس الأندلسي في أشعاره.
إن التطبيقات الخلاّقة لنظريات علم الأدب المقارن التي قام بها روحي الخالدي في دراساته وأبحاثه التقييمية والكشفية لمزايا ومستوى الأدب العربي قد أوصلته إلى الأسباب التي تقدم فيها النثر على الشعر في العصر الإسلامي. وأرجع ذلك إلى ما ورد في "القرآن الكريم" من استخفاف بالشعر وتوصيف سيئ للشعراء بلغ حد التحذير من العلاقة معهم "والشعراء يتبعهم الغاوون". كما تبين الخطر في توجيه العناية لحفظ الألفاظ وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها. وهذا الأمر شكل تضييقاً على الشعراء. فألزموا بالقواعد التي تخطاها شعراء الإفرنج(24).
ويثير روحي الخالدي قضايا نقدية في غاية الأهمية وذلك لأنه لم يجر التعرض لها من قبل بمثل هذا الإهتمام خصوصاً عندما يحدد الشعر بثلاثة هي: الغناء والحماسة والدرام، ولكل منها مناسبة بدور من أدوار الإجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم. فالقرون الإبتدائية غنائية، والقرون القديمة حماسية، والقرون الحديثة درامية. والغناء يترنم في الأزل، والحماسة تحتفل بالتاريخ، والدرام يصور حياة الإنسان. وهو يرى أن الأول يتمتع بخاصة السذاجة، والثاني بخاصة البساطة، وأما الثالث فخاصة الحقيقة. وكان رواة اليونان الذين يسمونهم "بايرود" هم أشبه برواة العرب الذين جاء منهم "حمّاد الراوية"، كانوا يطوفون القرى ويروون أشعار بندار وهوميروس وإيشيل، فيدلون بذلك على دور الإنتقال من الشعراء المغنيين إلى النظّامين لشعر الأغاني إلى الشعراء الحماسيين. والرومانيون (مؤلفوا الرومانات ـ الأقاصيص الموضوعة) يدلون على دور الانتقال من الشعراء الحماسيين إلى الشعراء الدراميين... وبظهور الدور الثاني ظهر المؤرخون. وبظهور الدور الثالث ظهر الباحثون في حكمة التاريخ وبيان أنساب الوقائع وتملكها.
وأشخاص شعراء الأغاني عظام الأجسام، طوال القامات والأعمار، مثل: آدم وقابيل وهابيل ونوح. ويدخل في زمرتهم عوج بن عناق. وأشخاص شعر الحماسة من القوم الجبّارين، وهم أقوياء أشداء مثل أشيل بطل الحروب اليونانية، وآستر آلهة العدل وأوريس وأغاممنون الذي ألّف فيه شعراء اليونان رواياتهم. ثم جاء فولتر ونسج على منوالها روائيته الشهيرة باسم أوريست. ويدخل في زمرة هؤلاء عنترة بن شداد.
وأما أشخاص الدرام فبشر على الصورة الحقيقة للإنسان مثل: هاملت، وماكبث، وأوثيلو الذين صورهم شكسبير في رواياته المشهورة بهذه الأسماء. وربما دخل في زمرتهم أبو زيد السروجي في مقامات الحريري، والشيخ علي بن منصور الحلبي في رسالة الغفران.
ومنبع الأغاني الوهم والخيال. ومنبع الحماسة العظمه. ومنبع الدرام الحقيقية. وتنفجر هذه الينابيع الثلاثة من ثلاثة بحور كبيرة هي: التوراة وهوميروس وشكسبير.
ولو نظرنا في أدب أي أمة لوجدنا تقدم الشعراء المغنيين أو الغنائيين (الناظمون أشعار الأغاني) على الشعراء الدراميين. ولا غرو في ذلك فأن الإجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم يبتدئ في الترنيم بما يتخيله ينص ما يعمله، ثم يصور ما يفتكره. وهذا يعني أن الدرام يجمع بين الأوصاف المضادة، فيؤكد بذلك على انه أوعب الأفكار الفلسفية والتصورات العميقة. ولذلك نرى أن كل ما في الطبيعة وما في الحياة يتقلّب في هذه الأشكال الثلاثة، أي الغناء والحماسة والدرام. لأن كل ما في الوجود يولد ويعمل ويموت(25).
إن آراء روحي الخالدي في مجال الأدب كانت تأسيسية وريادية على الصعيد الفلسطيني وعلى الصعيد العربي أيضاً. وأن المستوى العالي الذي تمتعت به أظهرتها كما لو أنها قد جاءت مبكرة على زمانها وظروفها، فبدا روحي الخالدي وكأنه قد جاء في زمن ليس زمانه، فأصبح دوره تبشيرياً وليس تطبيقياً. وازداد روحي الخالدي قيمة، ومؤلفه أهمية لأسباب أخرى إضافية كان في المقدمة منها آراؤه المشرقة في اللغة وآفاق تطويرها.
واعتمد الخالدي طريقة المقاربة في أبحاثه اللغوية، مرتكزاً على ما مكنته به هذه الطريقة من نتائج باهرة في أبحاثه النقدية. وقد توصل من خلال تعمقه في الدراسة المقارنة بين اللغة العربية واللغة الفرنسية إلى استنتاج مؤداه "أن لغة مُضَرْ في مرحلة تاريخية أرقى من سائر اللغات بما في ذلك لغة الحضر". وقد عزا ذلك لعدد من الأسباب في المقدمة منها أنها كانت تتمتع بخاصتين، أولاهما اشتمالها على حركات الإعراب في أواخر الكلمة، وكذلك كيفية تركيب الألفاظ. وهذه مرحلة متأخرة في تطور اللغات حسب مبدأ النشوء في اللغة. إذ أن القرينة المعنوية ثم التقديم والتأخير هما مرحلتان سابقتان لمرحلة الإعراب. وخواص التركيب في لغة مُضَرْ سمة تميزها عن سائر لغات الحضر. وأما الخاصة الثانية فهي ما في لسان مُضَرْ من الاستعارات والتشبيهات والمجازات وأنواع البديع من الكلام.
ورأى الخالدي أن دراسة لغة مُضَرْ لا تجوز إلا بدراسة اللهجات العربية أو اللغات التي سبقت تلك اللغة، وعلى الأخص لغة حِمْيَرْ وذلك بمقارنة ما استخرج مما في أرض اليمن من الألواح التي تدعى بالمسند الحِمْيرَي، مع ما في خرائب مدائن صالح وأرض الحِيرَة وسائر جزيرة العرب من الآثار القديمة العادية التي كان لأصحابها نصيب من الحضارة، ولأدبهم تأثير في أدب مُضَرْ.
وفي هذا السياق أشار الخالدي إلى المستشرقين ودورهم وجهودهم في هذا الميدان، بعد أن أشار أيضاً إلى أهدافهم السياسية وأغراضهم العلمية من وراء ذلك كله؛ في إطار تناوله لمؤتمر المستشرقين الحادي عشر الذي عقد في باريس عام 1892م. وحمل روحي الخالدي على السياسة الإستعمارية التي تركز على إحياء اللهجات العامية والدعوة إلى استخدامها نظراً لما يشكله ذلك من خطورة تفرقة وتمزيق، تعززها تلك اللهجات كحواجز فصل بين أمم هذا العالم العظيم الممتد من المحيط الغربي إلى بلاد العجم والهند؛ في الوقت الذي يجتهد فيه العلماء لإزالة العوامل التي استلزمها تباين اللغات بين الأمم، ويسعون من أجل إيجاد لغة عامة لبني البشر كافة.
ويقول روحي الخالدي "لو سعى أهل العلم وأرباب القلم في التقرّب من لغة مُضَرْ المدونة وأزالوا منها العامية، كما أزيلت (الباتوا) من اللغة الفرنسية، وهذبوها من الجناسات والتشابيه الغامضة، واختاروا منها السهل من الألفاظ والتراكيب، وأصلحوا إملاءها وكتابة أسماء الأعلام فيها، لكان فعلهم على ما نظن أسهل وأنجع من تدوين لسان عامي بل ألسن همجية وإقامة الحواجز بين المتكلمين بها، مع أن ازدياد وسائط النقل والمخابرة يستدعي كثرة اختلاط بعضهم ببعض، فلا يحتاج المسافر إلى اصطحاب كتاب (جامع اللغات) معه...
أما لغة مُضَرْ فبدون أن نذهب إلى حقيقة الأدوار التي دارت عليها، وبدون أن نعرف الأطوار التي تقلبت فيها، نجدها في العصر السابق للإسلام على جانب من الفصاحة والبلاغة، وتشتمل على أنواع التشبيه والاستعارة والبديع؛ وأكثرها حماسية. وفيها من التصورات البديعية، والتخيلات التعبيرية، واللطف والرقة والأدب؛ ما يدلنا على أن اللغة آنذاك في عهد الطفولة. أما الفرق بين أشعار هذه اللغة وأشعار (التروبادور) لما في الأخيرة (أي اللغة الفرنسية القديمة) من الخشونة وعدم الرّقة. ومن هنا يمكن القول أنه إذا غازل شاعر الجاهلية المُضري فتاة الحي حسبته أديباً من أدباء باريس.
والحاصل أن فنون أدب المُضَريين كانت أتقن من معيشتهم البدوية. وكان لهم مؤتمر وأكاديمية للتفاخر باللسن والفصاحة...(26).
كان روحي الخالدي واحداً من طلائعيي الثقافة الحداثية، وأحد أهم رموز حركة النهضة العربية التي حملت لواء الاستقلال الوطني والتحرر القومي. وهو في الوقت نفسه قامة شامخة في حركة الإبداع التجديدية. فقد وضع إلى جانب مؤلفه تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوغو " الذي يعتبر من أهم مراجع النقد الأدبي والآداب واللغة العربية، الكثير من الكتب والمؤلفات التي تناولت مجالات علمية وأدبية وتاريخية مختلفة.
ويذكر المؤرخون أن روحي الخالدي أول عربي وضع معارف و قواعد ما عرف لاحقا باسم الأدب العربي المقارن، وذلك وفق ما اعترف به الملتقى العربي الأول للأدب المقارن الذي انعقد في مدينة عنابة بالجزائر عام 1983م، وقد اعترف الملتقى بأن أبحاثه ودراساته التطبيقية حول تاريخ علم الأدب قد أوصلته إلى أن المقارنة بين آداب الأمم المختلفة، ودراسة كل منها بالاستناد إلى الأخرى هو علم قائم بحد ذاته، ولم يسبق روحي الخالدي أحد من علماء العربية حينذاك إلى اكتشافه ومعرفة دوره وأهميته في النقد ومجالات الأدب المختلفة. ويذكر أنه وجد بين آثار روحي خالدي ما يؤكد ذلك وخصوصا كتابه المخطوط "علم الألسنة أو مقابلة اللغات"(27).
ويجمع مختلف الباحثين على أن الأستاذ محمد روحي الخالدي كان رائداً في النقد الأدبي. وربما يكون هو أول عربي استعمل عبارة "النقد الأدبي"، لإنه لو كانت معروفة أو متداولة قبله لما وضحها وعرفّها في هامش الصفحة (46) من كتابه "علم الأدب"؛ وذلك بوضعه في ذلك الهامش ما يقابلها باللغة الفرنسية.
ويمكن ملاحظة هذا الإجماع من خلال ما اشتملت عليه المراجع الأدبية والنقدية من إشارات وطيب ذكر وثناء وتقدير للأديب روحي الخالدي، باعتباره رائداً من رواد النهضة الأدبية بوجه عام والنقد الأدبي بوجه خاص؛ وأول عربي وضع علم الأدب المقارن وأدخله إلى أنواع الآداب العربية. وكذلك كثافة تركيز المراجع البحثية في الأدب واللغة والنقد على الآراء السديدة والقّيمة والهامة التي طرحها روحي الخالدي في كتبه ومؤلفاته، وخصوصاً آراءه ونظرياته في النقد الأدبي، وفي الألسنية والأدب المقارن؛ وكذلك تأكيد ريادة روحي الخالدي من ناحية فهم الأدب الأوربي. وقد وصل بهم الحد إلى القول بأنه لعل نقد الخالدي أول نقد عربي في نهضتنا الحديثة. وكانت صورة المدارس الأدبية في هذا النقد واضحة ومتبلورة.
وتتمثل ريادة روحي الخالدي في المفاهيم والطرائق والنظريات التي وضعها كأسس لقواعد الترجمة، باعتبارها واحدة من فروع الآداب وأحد وسائل الإتصال الجماهيري؛ فسجّل ريادة فلسطينية على هذا الصعيد. وقد رأى ضرورة أن تقوم الترجمة على التعمق في النص وفهم مراميه، والتذكر عند مزاولة هذه العملية بدور المترجم الأدبي وليس الإحترافي؛ والتركيز على ضرورة فهم المصطلحات الأصلية في النقد الأدبي وغيرها بلغتها الأصلية وشرح معنى كل واحد من هذه المصطلحات جنباً إلى جنب مع اقتراح نص الترجمة. ويرى الخالدي أنه لا بأس من استعمال المصطلح الذي لا يعتمد على مقابل له في العربية، بنفس لفظه ومعناه ودلالته في لغته الأصليه؛ وبذلك فهو يضيف إلى العربية مفردة عملانية حية وتداولية جديدة.
وأما على صعيد الأدب المقارن فأهمية ما توصل إليه روحي الخالدي ليس في ريادته وقابلياته الأدائية في البحث والدراسة والتطوير في مجالات النقد والآداب واللغة فحسب، وإنما من خلال ما أمكنه بلوغه من احتمالات التشابه التماثلي أو الإختلاف، واستخدام ذلك في إفهام الناس بأن التجربة التاريخية أو الإجتماعية المتشابهة تنتج أفكاراً وآداباً متشابهة. وإن ازدياد الإتكاء على الحس النقدي في متابعة ودراسة منتجات التشابه تساعد على بلوغ مستويات أعلى من الدقة في تأكيد تشابه التجربة الإنسانية في مجالات حياتية مختلفة من بينها مجالي الأدب والفن.

التشكل
أحدثت المفاهيم والمعارف الجديدة التي أطلقها روحي الخالدي عن النقد حركة قوية في مياه بحيرة الأدب العربي الراكدة، اختلفت حولها الآراء والمواقف بين معارضة ومؤيدة. ولكن جنينية واقع النهضة الأدبية في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر جعل التفاعل التأثيري لهذه الحركة جزئياً ومحدداً؛ وذلك لأسباب تتصل بانعدام وسائل الإتصال الجماهيري في فلسطين آنذاك من جهة؛ ولتهيب الناس من التغيير من جهة أخرى. ومع أن الأدباء الفلسطينيين ظلّوا مشغولين في نظم الشعر الحماسي، وفي إنشاء ودبلجة المقالات الوطنية والاجتماعية، ولم تحدث الآراء والمعارف الجديدة التأثير المتوقع في الحركة النقدية، إلا أنها طرحت على أولئك الأدباء أسئلة أدبية لا مناص من البحث عن إجابات لها، خصوصاً وأن البلاد كانت مقبلة على تغييرات كبيرة في مختلف جوانب الحياة بما فيها الثقافة والآداب.
إن ظهور آراء ومعتقدات روحي الخالدي في تلك الفترة المبكرة من عمر النهضة سجلت له سبقاً في ميدان النقد الأدبي الحديث، وكرسته كمساهم رئيس في بناء الجسر الكبير بين الثقافتين العربية والأوروبية إلى جانب الآخرين من العرب الرواد على هذا الصعيد، مثل: سليمان البستاني في كتابه"مقدمة الأولياذة" الذي صدر عام 1904م، وقسطاكي الحمصي في كتابه "منهل الرواد في علم الانتقاد" الذي صدر عام 1907م، ورفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز".
كانت السيادة في بداية عصر النهضة للقيم التقليدية في الحركة الأدبية العربية برغم أن العامل الثقافي لعب دوراً بارزاً في تفجير انطلاقة عوامل النهضة الأخرى: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحيث كانت الإستجابة لمطالب الإصلاح، ثم لمتطلبات التغيير، ولضرورات التطوير شبه تلقائية واندفاعية، فهي على صعيد الأدب سلحفائية ومترددة وأحياناً مرتجفة عند اصطدامها ببعض مظاهر النهضة.
وكان من أقصى ما استقبلته في مجال النقد الأدبي عدم رفضها لضرورات التجديد أحياناً ولكن ضمن إطار التقليد. فمثلاً حين كانت مواقف الخالدي وثقافته على هذا النحو وكانت تحيط بها آفاق رحبة من تأثيرات الإتصال بالثقافة الأوروبية، فإن الأدباء ممن عاصروا الخالدي بدوا في نتاجاتهم الأدبية وكأنهم لم يتأثروا بهذه الآفاق ويتسلحوا بالمطلوب لمواكبة التغييرات التي أخذت تشهدها البلاد في مرحلة انطلاقة النهضة. وعلى سبيل المثال يرى أبو سليم اليعقوبي في مقدمة كتابه "حسنات اليراع" الذي صدر في نفس الفترة التي أصدر فيها الخالدي كتابه "تاريخ علم الأدب"، وهو يعرّف أنواع الأدب... "أن الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارات والأوصاف، المفصل بأجزاء متقنة في الوزن والروي. ومستقل كل جزء منها في غرضه عما قبله وبعده؛ وجاري على منهاج الأساليب المخصوصة به... وهذا التعريف واضح الدلالة على أخذه الحرفي بمقولة النقّاد القدامى أمثال: الخوارزمي وابن رشيق وابن سلام وسواهم"(28).
ويعتبر الخالدي واليعقوبي رائدان في النقد الأدبي الفلسطيني، ظهرا في فترة بداية النهضة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وشق كل منهما طريقه الأدبي وفق المناخات التي كانت سائدة في البيئة التي درس وزوال حياته العملية فيها ومدى تأثر تلك البيئة بآفاق النهضة واستحقاقات التغيير التي طرحتها رسالة التجديد التي دعت إليها. وقد رأينا سابقاً ملامح المؤثرات التي تشكلت تأهيلات ومعارف روحي الخالدي الأدبية في خلالها.
وأما سليم حسن اليعقوبي الملقب بأبي الإقبال اليعقوبي والذي كان يفضل بأن ينعت باسم "حسان فلسطين" فقد درس لمدة إثنى عشر عاماً في الأزهر بالقاهرة. ولما عاد إلى فلسطين أصبح مدرساً للعلوم الشرعية وفنون الآداب في جامع حسن بك في المنشية من أحياء يافا. ثم أصبح بعد ذلك مفتي يافا. ووضع عدداً من الكتب الدينية والأدبية من أشهرها "حسنات اليراع" و "النظرات السبع". وقد نظم الشعر وأنشئ النثر. اعتبر واحداً من أعلام الأدب في فلسطين.
واليعقوبي نظم الشعر الديني المدائحي، كما نظم العديد من القصائد التي أشاد فيها بنضال الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل استقلاله الوطني.
ويعتبر اليعقوبي واحداً من امتداد الدعوة التقليدية في الأدب والنقد التي كان قد علم وتدارس قواعدها السيد عباس الخماش في بداية العقد الثامن من النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
"ولئن كان الأستاذ روحي الخالدي "يجنح إلى المدرسة الرومانتيكية في النقد ويطمح إلى الطريقة الحقيقية، فأن الأستاذ اليعقوبي يجنح إلى المدرسة الخيالية المثالية التي تميل إلى التفسير الديني والتي تلتقي مع الأخلاقيين في وجوب تحميل الشعر الحكمة والموعظة الحسنة...
وحين يعمد إلى تعريف الشعر لا يوجه عنايته إلا إلى الشكل... ويحشر نفسه في التعريف السطحي لشكل الشعر دون أن ينفذ إلى مضمونه أو ارتباطه بالحياة...
وهكذا انظفر في هذه المرحلة بأثرين من آثار النقد. الأول منهما فسيح الآفاق، والثاني منغلق على نفسه(29)".
وهذا يعني أن النقد الأدبي الفلسطيني قد اشتمل ومنذ ولادته على اتجاهين يشكلان جذر تيارية الأدب والنقد المشهورة في علم النقد الأدبي، وهما: الكلاسيكية والرومانتيكية، أو التقليدية والتجددية. وهذا يشي بأن عوامل تطوره قد ولدت معه. ولذا لا يغدو مستغرباً أن يشهد القفزات الهائلة التي عرفها بعد تبلور معطيات ما بعد إعلان الدستور عام 1908م واستلام حركة الإصلاح السلطة التركية وظهور عوامل النهضة الثقافية كنتيجة لذلك، مثل: انتشار التعليم وتطوره، وتقدم الطباعة والصحافة ومثول الترجمة، وتشكيل الجمعيات الأدبية والثقافية، واتساع مساحة نوافذ الاتصال العربي على الثقافة الغربية وتطور أنواع الآداب بظهور القصة القصيرة والرواية والمسرحية ومعرفة التمثيل وفنون المسرح وغيرها.
وكما اتصل الناقد روحي الخالدي بآفاق الأدب الفرنسي وبما أحاط بهذه الآداب من ظروف إجتماعية، فعل الشيء نفسه الكاتب خليل بيدس (1874ـ1949م) ولكن على الآداب الروسية إبان دراسته وبعد تخرجه من سينمار الناصرة وقبلها مدارس الجمعية الإمبراطورية الروسية ـ الفلسطينية. لقد أنشأ خليل بيدس في مدينة حيفا مجلة النفائس التي صدر العدد الأول منها يوم الأحد في الأول من تشرين الثاني سنة 1908م. وأراد منها أن تكون بوابة إطلال واسعة للناس على آداب الأمم الأخرى وحياتها، وتنتفع بما أنتجه الفكر العالمي من آثار أدبية وغيرها. وجعل بيدس مجلته مسرحاً لروايات أشهر الكتاب العالميين. وفتح نوافذها على الآفاق الروسية وخصوصاً الأدب القصصي والروايات، وذلك لما لمواصيفها من تأثير في القلوب والعقول، خصوصاً وأنها تعتبر من أعظم أركان المدنية بالنظر إلى ما تستنبطه من الحكمة في تثقيف الأخلاق، وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ في تنوير الأذهان(30)
وتابع خليل بيدس مسيرة روحي الخالدي كواحد من أتباع المدرسة الرومانتيكية في الأدب والنقد، وخاصة في ميدان الرواية، فأمسك بأهم عناصر تكوينها، وترجمتها عن اللغات الأجنبية المختلفة وخصوصاً الروسية. وكرس جهده في سبيل إدخال ونشر وتعميم هذا الفن الأدبي الجديد في فلسطين من خلال ترجمته أو وضعه العديد من الروايات ونشرها في مجلة النفائس. ويسجل له شرف السبق في ترجمة رواية "الوارث" كأول رواية فلسطينية مترجمة.
وكان الكاتب خليل بيدس في كتاباته القصصية يمثل اتجاهاً جديداً في فهم العمل الأدبي وربطه بالحياة. واعتمد بيدس في كتاباته على روايات المؤلفين الروس المشهورين أمثال تولستوي وتشيكوف، حيث جعل من ترجمتها ونشرها في مجلة النفائس مدخلاً للإطلاع على الآداب الروسية وأنواعها خصوصاً الروايات والقصص التي كان الفلسطينيون حديثي العهد بمعرفتها مطالعة، فكيف بذلك وضعاً أو تأليفاً. وكان أكثر ما ظهر من الروايات في الشرق العربي في تلك الفترة منقولاً عن اللغات الغربية. ولم يتعدا التأليف في الروايات الكبيرة إلا نفر قليل جداً. وقد "أحسن كثيرون باختبار أهم روايات نوابغ الإفرنج، ونقلها إلى العربية أحكم نقل. وأجادوا وأفادوا، بقدر ما أساء غيرهم بنقل الروايات الركيكة السخيفة التي تقذف بقرائها في مهاوي الضلال والشر وسائر ضروب المعايب والنقائص. غير أن الأمة كلها ارتفع شأنها الأدبي، وتبسطت في المدنية، ومالت بطبعها الأنفع والأفضل في وضع الروايات الأدبية والوطنية... ولا يخفى أن الفن الروائي في الغرب طافح بالحسنات لأن فيه الروائيون المتفننون بالمئات، وهم أستاذة الفن بلا جدال، فإذا نقلنا عنهم أو نزعنا إلى أسلوبهم فإنما نزيد أدبنا ثروة وجمالاً، ونزيد كتابنا أسلوباً وإطلاعاً وفناً".(31)
وفي خدمة هذا الهدف أباح خليل بيدس لنفسه تحرير الروايات المترجمة بالزيادة والإسقاط بعد أن يعرف بدقة ما يقع عليه اختياره ويحوره ويبدله ويضيف إليه ويضيء الجوانب التي يريد منه، حتى يكشف لنا عن مواقع اجتماعية وسياسية تنسجم وطموح الطبقة البرجوازية الجديدة التي نشأت في المجتمع العربي، وتشكلت ملامحها الفكرية والثقافية منذ مطلع القرن العشرين.
وكان يعتني بدقة عالية بالغاية والموعظة التي تحملها القصة باعتبارها تمثيلاً لمظاهر الحياة وصورها المختلفة، ووصفاً لأحوال الأمم عبر الأزمان، وعرضاً لحياة الإنسان ومشاعره. وهي واحدة من أجمل فنون الأدب لأن كتابها ينشرون ما فيها من تصوير للعواطف وتمثيل للحقائق في أثواب اللهو والفكاهة.(32)
واكتسبت مجلة النفائس أهميتها الأدبية المميزة ليس من خلال ما كرّست له كحاضنة للقصة القصيرة والرواية والأشعار المترجمة فحسب، وإنما لأنها شكلت إطاراً منبرياً لأدباء ما قبل مرحلة النهضة الذين تساوقت نتاجاتهم الأدبية مع مفاهيم ودلالات الآداب الجديدة، وكذلك الأدباء الجدد الذين ظهروا في بداية عصر النهضة، والذين أصبحت نتاجاتهم مختلفة عن النتاجات الأدبية لمن قبلهم،في البناء الفني وفي أساليبه ومضامينه، وانبثاق هذه النتاجات الجديدة من واقع حياة الناس والتعبير عن هذه الحياة.
أصبحت النفائس منذ أيامها الأولى وعلى امتداد سني عمرها الإثنى عشر، ميداناً رحباً لكتاب وشعراء فلسطين والبلدان العربية. وكان من بينهم فئة من أدباء بلاد الشام الذين تمتعوا باتصال مباشر مع المجلة، وخصوها بنتاجاتهم الشعرية والنثرية والنقدية. وقد أسهموا بشكل ملحوظ في رسم اتجاهاتها الأدبية. وقد تضمنت هذه الفئة إلى جانب الكاتب خليل بيدس، كلاً من: محمد إسعاف النشاشيبي (1882-1948م)، و حليم دموس(1888-1957م)، وقسطاكي الحمصي (1858-1941)، وخليل السكاكيني (1878-1953م)، واسكندر الخوري البيتجالي (1890-1973م)، وبولس شحادة (1882-1943م)، وعادل جبر (1885-1953م)،ووديع البستاني (1888-؟م)، وسابا قيصر الطرابلسي (1889-1974م)، وغيرهم.
وكان هناك فئة ثانية من كتاب النفائس وضعت أسس قواعد النهضة الأدبية العربية المعاصرة. وقد تضمنت هذه الفئة أعداداً كبيرة من الأدباء العرب. ولكن هذه الفئة لم تشارك في النفائس وحدها، وإنما في المجلات والصحف الأخرى العربية والفلسطينية. وكان من بينهم: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وولي الدين يكن وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وجميل صدقي الزهاوي وغيرهم.
وكانت نتاجات هذه الفئة تنشر في النفائس في أحيان كثيرة دون أن يكونوا قد خصوها بها، وذلك لأن خليل بيدس كان ينشر ما يختاره من نتاجات أدباء هذه الفئة حتى دون العودة إليهم.
وأما معروف الرصافي فنتاجاته المنشورة في النفائس كان قد خص المجلة بها دون أن يكون قد نشرها في مطبوعات أخرى، وذلك لأن معظم هذه النتاجات قد وضعها الرصافي بعد أن جاء إلى فلسطين وأقام فيها عقب الحرب العالمية الأولى.
وأما الفئة الثالثة من كتاب النفائس فتضم عدداً قليلاً من الكاتبات، وقد نشر لهن قليلاً من النتاجات. وجميع كاتبات النفائس كن من أتباع الديانة المسيحية.
ومع أنه لم يستدل من المراجع على أسماء الكاتبات، إلا أنه يذكر بأن بيدس قد حرص على أن ينشر تراجم طالبات السينمار الروسي في بيت جالا، وذلك تشجيعاً لهن واعتناء بمواهبهن الأدبية، مؤملاً أن يصبح بعضهن من أديبات فلسطين في المستقبل.
ومع أنه لا يعتد بالقيمة الأدبية لنتاجات كاتبات النفائس إلا أن أهمية تلك النتاجات تتأتى مما يعنيه خليل بيدس ومجلة النفائس بهذا النشر من إنتصار لحقوق المرأة وضرورة تشاركها مع الرجل في جميع شؤون الحياة المختلفة.(33)
من جانب آخر حَفزّت "النفائس" المجلات الأدبية التي كانت قائمة في فلسطين قبل ميلادها على تطوير واقعها، والاعتناء بجودة مواضيعها؛ وتنوع مضامينها، وترحيب هيئة محرريها وكتابها دائماً بأي أدباء جدد من ذوي التوجهات التجديدية في الشعر والنثر وفي النقد الأدبي أيضاً.
وشجع نجاح مجلة النفائس المستثمرين في الطباعة والصحافة على إصدار مجلات أدبية، وقد تمثل ذلك في تزايد عدد الصحف الأدبية في نطاق مرحلة النهضة الصحافية في فلسطين بين أعوام 1908م حين أعلن الدستور وعام 1914م حين بدأت الحرب الكونية الأولى.
ومن جانب ثالث رأى أصحاب الصحف السياسية المكانة الكبيرة من الاهتمام والاحترام التي أخذت تتمتع بها النفائس وغيرها من المطبوعات الأدبية، وذلك نظراً لإعتناءها بالآداب وواقعها وتطورها ومتابعاتها مما زاد من الإقبال عليها، فأخذوا يخصصون في صحفهم مساحات للأدب وأخباره ومتابعاته. فظهر في الصحف ما أصبح يعرف في تطوراته المتقدمة باسم "الصفحة الثقافية(34)".
وقد مثل صدور جريدة فلسطين في مدينة يافا بتاريخ 14 كانون الثاني عام 1911م أحد أبرز مظاهر الإستجابة الصحفية للعناية والرقي بالآداب العربية على اختلاف أنواعها.
كانت ملكية الجريدة تعود للسيد عيسى داوود العيسى الذي اضطلع بوظيفة مديرها المسؤول. وأما رئاسة تحريرها فقد اسندت لأخيه السيد يوسف العيسى الذي كان يتمتع بمكانة مرموقة في الوسط السياسي بسبب نشاطه في حركة النهضة الأرثوذكسية التي كانت أحد الروافد الرئيسية لحركة القومية العربية حاملة برنامج الاستقلال الوطني والانفصال عن تركيا.
كان الاهتمام الشعبي بجريدة فلسطين منذ بداية أيامها الأولى باعتبارها منبراً سياسياً وطنياً لجميع المناضلين من أجل الإصلاح أولاً وفي سبيل الحرية بعد ذلك. واسترعى النجاح السريع الذي أخذت تحققه انتباه الأدباء الذين هم أيضاً في صميم بنية العمل السياسي(35)، فأخذوا ينشرون على صفحاتها نتاجاتهم الأدبية؛ فغدت الجريدة تدريجياً واحدة من وسائل تنشيط الحركة الأدبية. وخلال فترة وجيزة نجحت الجريدة في استقطاب عدد هام من الأدباء، وكان من بينهم: حبيب خوري، ومحمد إسعاف النشاشيبي، وجورجي الخوري يعقوب، وبولس شحادة، وراغب الخالدي، وعارف العارف، وخليل السكاكيني، والمعلم نخلة زريق، وسليم اليعقوبي، وعلي الريماوي، وسارة المهبية، وخليل طوطح، وفؤاد الخطيب، وغيرهم.
ولقد شارك هؤلاء الكتاب مع غيرهم في تطوير اللغة العربية وأنواع الآداب العربية المختلفة، ووفروا للنقد الأدبي المعاصر بعض شروط تحققه كواحد من أنواع الأدب العربي الجديدة، مؤسسين بذلك الحركة النقدية في فلسطين، برغم أنه "كان من بينهم من اعتمد في أدبه على طرائق القدماء ولا سيما طريقة الحريري في مقاماته. وهي طريقة تعتمد على الزخرف اللفظي أكثر من اعتمادها على مضمون المقال، ومنهم الأستاذ إسعاف النشاشيبي الذي كتب عدداً من المقالات في جريدة فلسطين تناول فيها موضوعات مختلفة. وكان في كتاباته يمثل الاتجاه المحافظ الذي يميل إلى التأنيق والزخرفة في الكتابة، ويميل إلى قوة التعبير وجزالته، ويرى إن العودة إلى تقليد القدماء هي الأساس الذي يجب أن يسير عليه الأدباء(36).
ونزوع إسعاف النشاشيبي إلى التقليد لم يحبسه في سجن المحافظة المطلق برغم انه أدخله إليه، حيث شارك في سجالات واسعة مع أمين الريحاني حول القديم، وكانت بينهما مراجعات كثيرة حول التقليد أيضاً. ويمكن أن تلمس في هذه السجالات والمراجعات إطلاعه الواسع على الثقافات الأخرى، وتقديره لأهمية التطور الذي حققته المدنية الغربية الحديثة. ويمكن أن نستدل على ذلك من كثرة استشهاداته بأقوال الفرنسيين والأمريكيين واقتباساته منهم، وتوظيفها في ردوده ومناظراته وسجالاته مع الآخرين حول مواقفه ومعتقداته الأدبية والنقدية(37).
وبظهور السجالات والمراجعات بين الكتاب بدأت تظهر بشكل بطيء اختلافات في المفاهيم حول كيفيات الإصلاح وآفاقه على صعيد السياسة، وحول توصيف الفئة الجديدة من الإقطاع الذين أخذوا يزاولون إلى جانب ملكيتهم للأرض أعمالاً أخرى، في مجالات الصناعة والتجارة والطباعة وامتلاك الصحف وتبوء الوظائف العليا في مؤسسات الدولة وغيرها. وأما في المجال الثقافي فقد تبلورت هذه الاختلافات إلى اتجاهات، عززت السجالات بين الأدباء إلى تكريسها كمدارس وتيارات في الشعر وفي القصة والرواية والنقد الأدبي؛ ثم تطورت بشكل سريع في العقد الثاني من القرن العشرين وما بعده في المراحل اللاحقة إلى تيارات أخذت تحاكي تلك التي كانت قائمة في الآداب الأوروبية. وقد اشترك في هذه السجالات في جميع الفترات مشاهير الأدباء والنقاد والشعراء من مواقف ومواقع مختلفة، وسنأتي على بعضها لاحقاً. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك أن الكشف الثقافي الذي نال شرف السبق إليه الكاتب خليل بيدس ومجلته النفائس عندما ترجم ووضع ونشر القصة والرواية والمسرحية والترجمة والتمثيل، رأى فيها حبيب خوري على أنها "المؤلفات الخيالية الفاسدة التي تضعف العقول وتدنس العواطف وتورث تشرد الأفكار، وحتى قال بعضهم إذا أردت أن تنتقم من عدوك انتقاماً يجر عليه خراب حياته في الدارين فضع بين يديه أحد هذه الكتب...."(38)
من الطبيعي أن تزخر الأنواع الجديدة من الأدب (القصة، الرواية، المسرحية،....الخ) وهي في خطوات بدايتها الأولى ببعض المثالب والهنات، إذا ما نظر إليها بمعايير علم النقد الأدبي بعد تطورها في مراحل لاحقة، ولكنها حتى ذلك الحين كانت فتحاً مبيناً. صحيح أن ما ظهر فيها وما نشر في مجلة النفائس وفي جريدة فلسطين وفي غيرهما من الصحف كان محدوداً ولم يكن مصحوباً بأي نقد تقريباً، ولكن هذه النتاجات مثلت حركة أدبية نامية. فبعد أن كان الأدباء يصرفون عناياتهم الكبيرة إلى الألفاظ والتراكيب أصبحوا يوجهون كل اهتماماتهم إلى المواضيع والمعاني والأحاسيس والأفكار، في الوقت الذي يتوخون فيه أن تكون الكتابة واضحة وسائغة. واهتموا بالاستقلال الشخصي للأدب واستخدامه لمعالجة قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية. وظهرت طائفة من الكتاب والشعراء والأدباء خلقت جواً من النشاط الفكري الحر الجريء.
وتنوعت الفنون الأدبية. ودخلت على الأدب العربي عن طريق الترجمة والنقل عناصر جديدة لم تكن معروفة من قبل(39).
وبسبب الإطلاع الواسع على الآفاق الأدبية الأوروبية الرحبة وطرائق حياة الناس في أوروبا عبر الوسائل التي وفرتها النهضة على هذا الصعيد، فقد أصبحت للآداب وظيفة تغيير ثورية، خصوصاً المسرحية والرواية، لما لكل منهما من "قدرة على التأثير الخطير في القلوب والعقول، حتى اعتبرت الرواية من أعظم أركان المدنية بالنظر إلى ما تستنبطه من الحكمة في تثقيف الأخلاق... وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ وفي تنوير الأذهان"(40).**
* محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني يقيم في رام الله – فلسطين .

** "اعتبرت سنة 1870م السنة الأولى من عمر النقد الأدبي الفلسطيني، لأن أقدم النصوص النقدية التي وقعت اليد عليها حتى الآن يعود تاريخ نشرها إلى تلك السنة. وهو قصيدة تقريظ نظمها السيد عباس الخماش (أحد أفاضل مدينة نابلس) لمجلة "الجنان البيروتية" وصاحبها المعلم بطرس البستاني. واشتهرت باسم "الدرر الحسان في مدح الجنان" وقد نشرت في مجلة "الجنان"، الجزء 16 سنة 1870م، ص"498.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا