الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى موضوعة الربا و الفوائد البنكية

عمر أبو رصاع

2008 / 12 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحلقة الأولى

1. بعث الاقتصاد الاسلامي

1.1 تحدي العقلانية المسلمة : الايديولوجية الدينية للمسلمين و الاقتصاد المعاصر

عندما خضعت المجتمعات المسلمة في العالم الثالث للاستعمار من قبل القوى الامبريالية الغربية في نهاية القرن التاسع عشر واجهت العقلانية المسلمة تحدياً مختلف جذرياً عن ذلك الذي واجهته مع الحملات الصليبية السابقة.
فقد تغير الغرب و طور نظاماً ثقافياً حضارياً اكثر رقياً بما لا يقاس، لذا فإن تحدي العقلانية المسلمة كان تماماً مواجهة التعارض بين هذا النظام الذي ظهر و نما وتطور في الغرب و بفعل جدلية تاريخية و ظروف موضوعية خاصة بأوربا من ناحية و بين الارث الثقافي الاسلامي الذي كان متناغماً نصاً و روحاً مع ايديولوجيته الدينية و نصوصه المقدسة من ناحية اخرى.(*)
كانت الثقافة الاسلامية قد توقفت عن الابداع منذ قرون خلت ، و يمكن القول انها بدت كما لو كانت لا تزال تعيش في القرون الوسطى. و بكلمات المؤرخ :" منذ سقوط الاندلس في القرن الخامس عشر لا نستطيع ملاحظة أي اضافة مهمة للثقافة الاسلامية" (1) . أصبح المسلمون متلقٍ للحضارة بصيغتها الاوربية الحديثة مع وعي كامل بخلفيتهم الثقافية ، و لكن ايضاً برغبة قوية للدفاع عن هويتهم الاسلامية و حمايتها

هذه الرغبة يمكن فهمها كنتيجة طبيعية لأي تحدٍ حضاري ، كرد فعل محافظ تجاه التحول إلى دور المتلقي الحضاري. في الحقيقة إن هذا التوجه نحو فتح الثقافة قوبل باتجاهيين اساسين في الدول ذات الاغلبية المسلمة:
الأول هو تيار التغريب ، و الذي آمن بأنه لا جدوى من محاولة التوفيق بين المدنية الحديثة و التراث الاسلامي ذلك لأن لكل منهما خلفية مختلفة عن الأخرى ، لذا فإن هذا التيار اعتقد بأن أفضل طريق للتطور و تنمية المجتمع هي باتباع النظم الغربية كما هي و أن هذا يتطلب بالنتيجة القطع مع التراث. و قد كان مشروع اتاتورك في تركيا و بورقيبة في تونس ابرز نماذج هذا التيار في التطبيق.
التيار الثاني كان تيار التوفيق و الذي آمن بأن التوفيق ممكن بين المدنية الحديثة و التراث ، و كان رأي هذا الاتجاه هو الذي هيمن في الدول ذات الاغلبية المسلمة.
اغلب المثقفين المسلمين يتمنون بعمق حماية هويتهم الاسلامية ، بينما في الوقت نفسه يؤمنون بأن الاسلام دين مرن قادر على التكييف مع الافكار المدنية الحديثة.
بالنسبة للمسلمين الاسلام دين يشتمل على قوانين للحياة تصلح لكل الاوقات ، لذا فإنه محرم تحريماً مطلقاً قبول اي خرق لمعتقداتهم هذه ، الكثير من العناصر تدعم هذا الرأي فبالنسبة للمسلمين الهوية الدينية تحتل مكانة مركزية و هم يعتبرون انفسهم اصحاب حضارة عظيمة و يؤمنون بقوة انهم ضحايا الاستعمار الغربي الهادف لنهب ثرواتهم. "من المعلوم ان الحركة الاستعمارية سعت للسيطرة على مصادر الدول الاسلامية و ليس لمساعدتها او تأسيس حضارة جديدة. كل المسلمين متفقين على ذلك" (2) !
كنتيجة معقولة لهذا التحدي الحضاري حاول المسلمون الوقوف على ارض متوسطة حيث يمكنهم الحفاظ على هويتهم الدينية من ناحية وفي نفس الوقت التماشي مع تطور الحضارة الانسانية على الصعيد العالمي من الناحية الاخرى.

1.1.2أهمية دراسة الاقتصاد الاسلامي


حيث ان الاقتصاد هو عصب الحياة بالنسبة للوجود الانساني ؛ فإن العديد من المختصين المسلمين أولوا اهمية كبيرة لدراسة النظام الاقتصادي الليبرالي باعتباره اكثر تطوراً و تقدماً ، وذلك بهدف عرضه على الشريعة الاسلامية و النظر في مدى ملاءمته و توافقه معها او لتقديم بدائل اسلامية بإمكانها تلبية احياجات الحياة المدنية الحديثة من ناحية دون مخالفة الدين الاسلامي او الشريعة الاسلامية على نحو ادق.


كانت نتيجة هذه الجهود مواد تراكمت من الدراسات و الابحاث و ادخلت الحقل العلمي باسم الاقتصاد الاسلامي. يذكر هنا ان اتحاد الجامعات الاسلامية فرض على اعضائه تدريس مادة الاقتصاد الاسلامي كمادة في تخصص العلوم الاقتصادية(3).


في الواقع لا يستطيع احد الزعم بأن الاقتصاد الاسلامي هو علم مستقل او جزء من التراث الاسلامي ، ذلك ان الاقتصاد كعلم و نظريات نشأ و تبلور بعد قرون من اكتمال التراث الاسلامي و توقفه عن الابداع او الاضافة ، الاكاديميون المختصون في الاقتصاد الاسلامي انما يحاولون اعادة انتاج العلوم الاقتصادية مع الاحترام للشريعة الاسلامية او لنقل يحاولون تكييف العلوم الاقتصادية المعاصرة مع الشريعة الاسلامية ، انهم يكيفون العديد من اشكال التقنيات الحديثة مع التراث الديني و بخاصة الشريعة الاسلامية ، و البعض اعتبر هذا الانبعاث لهذه الدراسات و الجهود بمثابة جزء من ما اطلقوا عليه النهضة الاسلامية او بتعبير آخر نقول هي محاولة لاسلمة المعرفة .


اكثر من ذلك نجد أن مصطلح اقتصاد في العربية و الذي استخدم كترجمة لمصطلح ‘Economy’ او ‘Economics’ له معنى مختلف كلياً في اللغة العربية إذ ينصرف إلى التوفير في النفقة او التوفير بشكل عام و في اي شيء (4).


من المهم جداً التميز بين النتائج النظرية التي خرج بها اصحاب الاقتصاد الاسلامي من ناحية و الاسلام الدين من الناحية الأخرى ، حتى لو كان اللاحق مشتق من السابق ، فاشتقاق فكرة من الدين اياً كانت و إتباع وصف اسلامي بها لا يعني انها من الاسلام نفسه على الاقل في مستوى النصوص الاساسية ، وهذا لسببين هامين
الأول ان الاقتصاد الاسلامي - كما وصفه موجدوه – "يعتمد على تأويل النصوص الاسلامية خصوصاً القرآن و السنة" ، في محاولة لانتاج نظريات اقتصادية في ظل احترام المبادئ العامة للشريعة الاسلامية.
الثاني يستند على الأول و هو ان اي تفسير او تأويل للنصوص الاسلامية الموروثة لا يعكس بالضرورة الاسلام نفسه فالدين الاسلامي لا يعتمد على مؤسسة تحتكر الـتأويل و تتكلم باسمه كما هو الحال في المسيحية الكاثوليكية مثلاً لهذا فإن التأويل يظل نسبياً و لا يملك نظرياً على الاقل القدرة على الزعم بأنه يتماهى مع روح النصوص او يحتكر التعبير ، إن هذا يمكن النظر إليه باعتباره احد مظاهر المرونة التي يتمتع بها القرآن باعتباره نصاً اصلياً مؤسساً (مع عظيم التحفظ على هذا الوصف) ، و نجد كما يرى ابن رشد الحفيد بأن الفقهاء و خبراء الشريعة اتفقوا على ان الثبات هو لمبادئ العبادة و الاخلاق في الاسلام و ان اي مسألة اخرى يمكن ان تكون موضوعاً للاجتهاد و التأويل (5).


كان الاجتهاد قد تطور بشكل واسع خلال قرون من التطور عقب الاسلام ، فقد كانت الثقافة العربية قبل الاسلام من منتجات البيئة الصحراوية . بعد ظهور الاسلام في القرن الثامن سيطر العرب على مناطق شاسعة خلال اقل من قرن ، في الوقت الذي لم تكن فيه اللغة العربية نفسها مناسبة للكتابة و التدوين ذلك أن الحروف العربية المكتوبة كانت تقبل اكثر من قراءة ، و لم يبدأ العرب باستخدام الابجدية الخاصة بهم على نحو فعال إلى بعد نصف قرن من وفاة النبي محمد على الاقل ، لهذا نجد اغلب المؤرخيين العرب حددوا القرآن باعتباره نقطة الانطلاق للعقلانية العربية في التاريخ ، في الحقيقة القرآن هو أقدم نص مكتوب بالابجدية العربية.


تحت الضغط الثقافي للمناطق التي سيطر عليها العرب و اصبحت تحت دولتهم هذه المناطق التي لها تاريخ حضاري عريض وجد القادمون الجدد انفسهم يواجهون التحدي الرئيس و المتمثل بهضم الارث الحضاري الذي وجدوه في هذه المناطق التي سيطروا عليها ، لم تكن المهمة سهلة ابداً في مواجهة هذا التراث الضخم لشعوب و ثقافات سابقة كان لها اسهامات هامة في بناء حضارة الانسان و استيعابها و هضمها في الوقت الذي كانت فيه الابجدية العربية نفسها غير مناسبة للكتابة و الثقافة العربية تعتمد على السماع فهي ثقافة شفهية لم تتحول بعد للكتابة و الانتاج الفكري باستخدام الابجدية ، و وحده الايمان القوي و الولاء القبلي اهلهم لهذه المهمة ، فيما يبدو لنا تحدي التوفيق الذي واجهه الجيل الذي عاصر الحقبة الاستعمارية الحديثة مشابها على نحو ما ، لكننا لا نستطيع اغفال المشكلة الاكبر في هذه الحالة و هي ان بنية الثقافة العربية هنا كانت لا تزال تعيش في القرون الوسطى بشكل كامل ، و بشكل عام يمكن ان نعتبر سقوط الاندلس في القرن الخامس عشر بمثابة نقطة انعطاف تاريخية اصبحت العقلانية العربية بعدها موسومة بالثبات و الاستقرار بل ان بعض المؤرخين ذهبوا إلى ان دخول العقلانية العربية مرحلة الجمود سبق ذلك التاريخ ايضاً ، على اي حال منذ ذلك الوقت و العقلانية المسلمة شبه ثابتة مكتملة و اي محاولة لاعادة انتاج انظمتها للوضع الجديد يتطلب اعادة انتاج لكل قواعدها العقلانية او الثقافية ، جهود اعادة الانتاج هذه تهدف ليس فقط لفهم قواعد هذه العقلانية و لكن ايضاً و هذا هو الاهم اعادة بناءها من جديد ، هذه في الواقع المهمة الأكثر إلحاحاً في تحدي النهضة ، يتساءل الجابري مستنكراً (6) هل من الممكن بناء نهضة بدون عقلانية ناهضة ؛ عقلانية لا تملك القدرة على اجراء مراجعة شاملة لآلياتها؟!


عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت العديد من الدراسات في الولايات المتحدة و غيرها من الدول الغربية تحاول تحديد او تخيل خطر آخر محتمل بعد الشيوعية على منظومتها ، ربما من اشهر الامثلة على ذلك في الفلسفة السياسية هو عمل صموائيل هنتغتون Samuel Huntington الذي نشره اوائل التسعينيات (1993) و سماه صراع او صدام الحضارات "The Clash of Civilizations" و استنتج هنتنغتون ان الاسلام هو البديل القوي الذي يمكن ان يتحدى الحضارة الغربية و النظام الليبرالي ،في المقابل كمحلل ديالكتيكي للتاريخ رفض تلميذه فرانسيس فوكاياما Francis Fukuyama النتائج التي طرحها استاذه و رد عليها في كتابه نهاية التاريخ و الانسان الأخير The End of History and the Last Man. الذي صدر عام 1994 ، فقد اعتبر فوكاياما الاسلام جزء من التاريخ الانساني لا شيء غير النظام الليبرالي يمكن ان يكون آخر مراحل التاريخ ، فقد رتب فوكاياما مراحل التاريخ واضعاً الليبرالية في ذات المكان النهائي الذي سبق ان وضع فيه كارل ماركس الشيوعية في المادية التاريخية .


على اي حال سواء كنا نتفق مع هنتنغتون او مع فوكاياما او مع غيرهما ، فإننا نجد البعض كهنتنغتون او دعاة البديل الاسلامي يرون ان هناك بديل اسلامي مطروح لما هو قائم فانه من المهم إذن دراسة و تقييم الجهود التي انتجت الاقتصاد الاسلامي و بالتوسع البنوك الاسلامية باعتبارها الجزء الاهم في هذا المضمار خصوصاً ان اصحاب الفكرة او المشروع يصفونه بالاقتصاد اللاربوي مستندين في الجوهر إلى فكرة التسوية بين الفوائد البنكية و الربا الذي حرمته الشريعة الاسلامية مما يجعل مسألة الفائدة و الربا نقطة مركزية في دراستنا هذه.


1.1.3 الانسان خليفة الله في الارض


الطريقة الاسلامية في معرفة الغاية من وجود الانسان على الارض تستند إلى مفهوم العمارة ، فالانسان هو خليفة الله في الارض لتحقيق عمارتها ، نجد في القرآن :{و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(البقرة -26) ان يكون الانسان خليفة لله في الارض يتطلب ان يبسط سيطرته عليها و ان يكون له ارادته الخاصة المستقلة المشتقة من ارادة الله الكلية ؛ إذن فالله هو من قرر الغاية ؛ ان الهدف النهائي للخلافة هو عمارة الكون و التي لها معنى واسع في الاسلام ، فالانسان خليفة الله في هذا الكون ، كل نشاطاته ينبغي ان تكون في طاعته ، حتى في اشباع رغباته ، و يتم ضمان هذا بعدم خرق القانون الإلهي (الشريعة) ذلك ان الله خلق الانسان لعبادته و تحقق مفهوم الخلافة يكون بأن يأتي نشاط الانسان ملتزماً بقانون ربه، و يظهر مصطلح الخلافة حاملاً لعدة مضامين في النص القرآني ؛ فهي الامانة التي حملها الانسان بينما رفضت حملها حتى الجبال ، و هي جوهر العبادة ؛ فسيسأل كل انسان عن اعماله جميعها في هذه الحياة . و كما نلحظ استخدم الاسلام مصطلح الخلافة لبناء اجابة للسؤال الفلسفي لماذا نحن هنا و ما هو الهدف من الوجود الانساني؟

1.1.4 بعض المبادئ الاقتصادية الكلية و الجزئية من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي

أ) ندرة الموارد الاقتصادية Economic Resource Scarcity


ندرة الموارد هي جوهر المشكلة الاقتصادية ، هذه الاخيرة التي نعرف انها نتيجة وجود حاجات غير متناهية فالحاجات الاقتصادية متجددة دائما و لا نهاية لها و مهما بلغ مستوى الاشباع تولد حاجات جديدة و تتطور طبيعة حاجات قديمة و بالتالي فإن حاجات المجتمع لا نهائية ، في مقابل ذلك هناك محدودية في الموارد الاقتصادية و نطلق على هذه المحدودية مصطلح الندرة الاقتصادية Economic Scarcity و الندرة هنا تعني ان هذه الموارد موجودة إلا انها نادرة بمعنى انها غير موجودة على نحو كافي لمواجهة اي طلب عليها ، و عليه فنحن مثلا لا نعتبر الهواء الذي نتنفسه مورد اقتصادي لانه لا يتمتع بسمة الندرة الاقتصادية التي تؤهله ليكون شيء يمكن بيعه بثمن فهو لا يتمتع بهذه النادرة النسبية لكونه متوفر بلا حدود ، اذن المشكلة الاقتصادية جوهرها ان امامنا حاجات لا نهائية للمجتمع في مقابل موارد محدودة ، لهذا فإن درجة ندرة مورد اقتصادي انما تتحدد بالطلب عليه لهذا فالندرة الاقتصادية مفهوم نسبي لا مطلق.


يرى ارباب الاقتصاد الاسلامي أن النصوص الاسلامية اعتبرت الموارد غير محدودة في الكون و ان المشكلة مشكلة انتفاع معللين ذلك بأن "الموارد المتوفرة في الارض كافية لتأمين الاحتياجات الاساسية (الطعام و اللباس و المأوى) لخمسين مليار انسان ، المشكلة الاقتصادية يسببها سوء التوزيع الذي تسببه القوانين و الانظمة الانسانية"(7)


اذن ندرة الموارد الاقتصادية هي نتيجة التصرف غير الحكيم بهذه الموارد او توظيفها على نحو غير فعال ، و بالتالي فالمشكلة مشكلة توظيف عناصر الانتاج هذه و ليس ندرتها ؛ على اي حال ثبت تاريخياً ان المنتجات التي يمكننا الحصول عليها من نفس الموارد الاقتصادية زادت او حتى تضاعفت عدة مرات بفضل التطور التكنولوجي في فنون الانتاج.


ليس غريباً ان معظم النظريات الاقتصادية انهارت بتقدم التاريخ الانساني ؛ ذلك انها لا تستطيع ضبط كل العوامل المؤثرة او تقدير اثر كل منها على نحو دقيق ، و الحقيقة هذه سمة دارجة في كل العلوم الاجتماعية حيث ترتبط صلاحية و معقولية النظرية بثبات العناصر الفاعلة فيها فهي اذن صالحة في مستوى التحليل الآني للحظة التي وضعت فيها ، إلا انها تسقط بالتقادم لان العناصر الفاعلة فيها تختلف زيادة و نقصاناً من ناحية و على مستوى فعاليتها من ناحية أخرى ، لدينا مثل تاريخي مهم هنا و مشهور و هو نظرية مالتوس Thomas Malthus (1766-1834) السكانية ، فقد حلل مالتوس ظروف المجتمع البريطاني من زاوية تاريخية و استنتج أن النمو السكاني يتخذ شكل المتوالية الهندسية فيما يتخذ نمو الغذاء شكل المتوالية العددية
“I say that the power of population is infinitely greater than the power in the earth to produce subsistence for man. Population, when unchecked, increases in a geometrical ratio. Subsistence increases only in an arithmetical ratio” (8).

و بناء عليه استنتج مالتوس انه و خلال اقل من خمسين عاماً ستواجه انجلترا المجاعة ، دفع هذا مالتوس و هو رجل الدين لاعتبار الحروب و الاوبئة عناصر ايجابية من شأنها ان تحد من النمو السكاني وفق متوالية هندسية.


في الواقع لو ان كل العناصر المؤثرة في تلك الاشكالية بقيت على حالها لكان ما توقعه مالتوس حتمية تاريخية إذ بقي السكان يتزايدون وفق متوالية هندسية و الغذاء وفق متوالية عددية و لكانت المجاعة نتيجة حتمية ، إلا ان هذا لم يحدث فلم يتخذ النمو ذلك الشكل لا للغذاء و لا للسكان .

ربما من السهل تحليل التاريخ بحكمة رجعية إلا ان التنبأ بحركته يبدو اصعب بكثير، في حالة مالتوس ما حصل فعلاً كان مختلف كلياً فالنمو السكاني مع تعقد طرق الحياة و طبيعة الحياة المدنية و تطور النظرة العائلية للانجاب و التربية و تكلفة المعيشة و الرفاهية كلها عناصر ادت بالمحصلة لهبوط متوالي في معدلات النمو السكاني إلى ان وصل النمو السكاني البريطاني إلى درجة اصبح فيها قريب من الصفر و احياناً سالباً!


من ناحية اخرى اتاحت تقنيات الزراعة الحديثة امكانيات هائلة لزيادة انتاجية المساحة المحددة من الارض اضعافاً و اضعاف ، من الناحية العلمية النظرية على الاقل فإن مستوى التكنولوجيا الزراعية المتوفر اليوم لو طبق على كل الرقعة الزراعية لبلغ الانتاج مستويات تكفي فعلاً لاطعام اضعاف اضعاف عدد سكان الارض ، بل ان المخططين في كثير من الدول للقطاع الزراعي يواجهون مشاكل فائض انتاج و ليس العكس كما هو الحال في الولايات المتحدة و القمح في بعض المواسم او البرازيل و القهوة حماية لسعر معقول يؤمن ربحاً لهذا القطاع.

من وجهة نظر ارباب الاقتصاد الاسلامي المشكلة الاقتصادية مشكلة استخدام بينما سؤال الاقتصاد الكلي يبقى كما هو : كيف يمكن الوصول إلى أعلى مستوى من المنفعة الاجتماعية (اشباع حاجات المجتمع)؟ و كيف يمكن الوصول إلى مستوى التوظيف الامثل او الانفع لعناصر الانتاج؟

يتبع

(*) من المفترض ان الكثير من المجددين و اصحاب الرؤى الاكثر انسجاماً مع الواقع سيعترضون على هذا الوصف باعتبار ان الارث الثقافي الاسلامي ليس متناغماً نصاً و روحاً مع الايديولوجيا الدينية و النصوص المقدسة ، إلا ان الأرث الذي بين يدينا و الذي كان و لا زال يمارس فعله و يعتبر الثقافة التي ترتدي الشرعية و المشروعية على حد سواء هو كذلك ، فنحن هنا نتناول المعقولية باعتبارها ثقافة المجموع التي يحملها و يدافع عنها و يتناقلها عبر الاجيال، ليس هذا حكم قيمة ينحاز إلى كون أحد الرئيين أصوب في فهم النص بل هو تقرير لما ساد تاريخياً باعتباره الفهم الصحيح و لهذا اقتضى التنويه.
(1) عمر – عبد الله ، 2005 ، العرب و التاريخ
(2) نفس المصدر
(3) مؤمن – د.عبد النور ، 2004 ، الاقتصاد الاسلامي
(4) راجع لسان العرب مادة قصد باب الدال
(*) للاسف البالغ رغم عدم وجود نصوص قرآنية تؤسس لهيئات دينية او تقيم واسطة بين الله و الانسان او بين الانسان العادي و نصوص القرآن و عدم وجود مقام راجل دين لهم صفات لاهوتية فلم نعدم لا في الماضي و لا الحاضر ظواهر مأسسة الدين و تشكيل نوع من الهيئات الدينية التي تمارس احتكاراً و تفرد وصايتها كوسيط بين الانسان و الله.
(5) ابن رشد الحفيد ، 1988 ، ضمن مشروع الرؤية الجديدة اعاد نشره الدكتور محمد عابد الجابري : نهاية المقتصد و بداية المجتهد
(6) الجابري – محمد عابد ، 1991 ، نقد العقل العربي ج1
استخدم الجابري مصطلح عقلانية و نعتقد مع جورج طرابيشي ان المصطلح الاصوب هو معقولية و ليس عقلانية للدلالة على التكوين الثقثافي بعامة الذي ينظم قواعد الفهم و الادراك و التفكير....الخ
(7) Islamic-world.net, 2005
Malthus, 1970) (8)


الحلقة الثانية

تعرضنا في حلقتنا السابقة لبعض المبادئ الاقتصادية من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي حيث ناقشنا بداية المشكلة الاقتصادية بين الندرة و الاختيار و قلنا بأنه من وجهة نظر اصحاب الاقتصاد الاسلامي فإن الاسلام لا يعترف بالندرة النسبية كما يتناولها علماء الاقتصاد و يرى بأن المشكلة مشكلة توظيف عناصر الانتاج و ليست مشكلة ندرة الموارد ، و ان الموارد المتاحة كافية و العلة هي في الاستخدام ، فيما تناولنا من خلال نظرية مالتوس السكانية مثالاً نوضح من خلاله ان التحليل الاقتصادي انما يكون دائماً آنياً وفق المعطيات و الشواهد القائمة ، لهذا نجد انه في المستوى البعيد علينا ان نعيد تقييم رؤيتنا و نظرياتنا آخذين بعين الاعتبار ما جد و طرأ ، و لهذا ايضاً في النظريات الاقتصادية نستخدم دائماً عبارة مع بقاء العوامل الأخرى على حالها فيما نقيس الاثر لعامل او اثنين في الوضع القائم ، إذن فإن القراءة التي قدمها اصحاب الاقتصاد الاسلامي في تناول المشكلة الاقتصادية لا تعدو كونها نظرة مقطعية للمشكلة ؛ بمعنى انه صحيح تماماً لو اغفل عامل الزمن و نظرنا للمشكلة مجردة سنجدها مشكلة استخدام او توظيف عناصر الانتاج ، لكننا اقتصادياً نقول ان هدف دراسة المشكلة الاقتصادية هو اختيار التوليفة الاقتصادية المناسبة لبلوغ التوظيف الامثل و الكامل لعناصر الانتاج المتاحة في المدى المنظور و بأساليب الانتاج المتاحة لبلوغ اقصى درجة من الاشباع ، و بطبيعة الحال وفق ما هو متاح لا يمكن القول اننا نستطيع بلوغ الاشباع الكامل ، ناهيك عن انه حتى في المدى البعيد يحول تطور و تغيير الحاجات كماً و نوعاً دون ان يكون بلوغ الاشباع الكامل هدفاً ممكناً ، تلك هي الجدلية الداخلية للمشكلة الاقتصادية التي تجعلنا دائماً قادرين من خلال تطوير اساليب و تقنيات الانتاج و التنقيب على اشباع الحاجات الآنية اشباعاً كاملاً و لكن في زمن لاحق ، في الوقت نفسه ما ان نبلغ تلك اللحظة الزمانية اللاحقة حتى تكون الحاجات و الرغبات قد تطورت و تنوعت و تجددت بحيث جعلتنا مرة اخرى في مواجهة نفس الاشكالية ، انه نوع من الجدل الخلاق الذي يدفع عجلة التطور قدماً واضعاً دوماً امامنا نفس الاسئلة التي تطرحها علينا المشكلة الاقتصادية : ماذا ننتج ؟ و لمن و متى و كيف؟ و ما هو نظام الانتاج و الملكية الانسب لتحقيق ذلك؟
الحقيقة ان القول بأن المشكلة الاقتصادية ليست نتيجة ندرة بل نتيجة سوء استخدام لا يغيير وجه المشكلة لأننا كما نرى بقينا في مواجهة نفس الاسئلة ، إذن لنذهب ابعد و ننظر موقف الاقتصاد الاسلامي من قضية الملكية.

ب - الملكية

في علم الاقتصاد يتم التمييز بين ملكية عناصر الانتاج و الملكية الشخصية ، و تعرف ملكية السيارة الخاصة او المنزل او الحديقة او الملابس الشخصية ..........الخ بأنها اشكال من الملكية الشخصية ، اما ما ينصرف إليه مقصد مصطلح ملكية في علم الاقتصاد باعتبارها احدى قضاياه التي يهتم بها فهي ملكية عناصر او وسائل الانتاج ، كالآلات و المصانع و المحال و كل ما من شأنه ان يحدث انتاجاً و يضيف قيمة و تمارس به و من خلاله عملية انتاج لسلع او خدمات على السواء.

الحقيقة ان قضية الملكية هذه من اهم قضايا علم الاقتصاد بل انها من القضايا التي تستخدم لتمييز بين النظم الاقتصادية ففيما ذهب النظام الشيوعي إلى إلغاء الملكية الفردية لعناصر الانتاج اباحتها الرأسمالية الكلاسيكية ، و اتخذت منها النظم الهجينة المعاصرة مواقف متباينة بحيث اخضعتها للتنظيم القانوني كمنع الاحتكار و جعلها مطرح للضريبة و تأميم بعض الملكيات ذات الطابع السيادي.........الخ
في هذا السياق يرى الاقتصاد الاسلامي ان الملكية الحقيقية لله فالمال كله لله و كل شيء موجود هو ملك لله ، و بأن ملكية الانسان هي ملكية رمزية باعتباره خليفة الله في الارض ، فللانسان الحق باستخدام كل ما هو موجود في الكون شريطة ان يكون الاستخدام في طاعة الله ، و يتم تحري ان يكون الاستخدام في طاعة الله بضمان خضوع هذا النشاط للشريعة الاسلامية.
نقرأ في سورة آل عمران الآية 189 : { ولله ملك السماوات والارض والله على كل شيء قدير } ؛ يرى الزمخشري في كشافه أن المال الذي في ايديك هو مال الله الذي اوجده اتاك إياه و اعطاك حق الانتفاع به ، جعلك خليفته في استخدامه ، إذن في الحقيقة هو ليس مالك ولكنك وكيل الله فيه (1) .
بالعودة للشريعة الاسلامية نجد ثلاثة انواع من الملكية هي الملكية الفردية و ملكية الدولة و الملكية العامة ، اما الملكية الحقيقية لكل شيء فهي لله ، خلال تاريخ المسلمين نجد انهم خبروا انواعاً من الملكية كالفردية و العامة و الخاصة و المشاركة تماماً مع خط التطور الطبيعي لاشكال الملكية ، و في الحقيقة وجدت هذه الاشكال من الملكية في اقتصاديات أخرى على حد سواء ، لكن ليست هذه القضية هنا ، بل القضية ان الاقتصاد الاسلامي و من وحي الدين يركز على استخدام الملكية لا الشكل او النوع في تحقيق خلافة الله في هذا الكون.
ما نملكه هو نتاج استخدام الملكية في المجتمع او العالم كله ، فالملكية فعل متجدد و نتاج لتوظيف سابق ، اما الملكية الحقيقية الخالدة فهي لله . بعض المسلمين الاشتراكيين – نشطت حركة تأليف تحمل هذه القراءات في الخمسينيات و الستينيات – استخدموا ذلك مدخلاً للقول انه لا يوجد اي تعارض بين المبادئ الاسلامية و الاشتراكية ، احد النصوص الرئيسة التي اعتمدوا عليها كان ما نسب للنبي محمد الناس شركاء في ثلاث الماء و الكلأ و النار) ، و كما بينا سابقاً فالله هو المالك الحقيقي و الناس خلفاء في استخدام ما بين ايديهم ، و الهدف النهائي لاي نظام اقتصادي هو تعظيم المنفعة الاجتماعية مع اعلى مستوى ممكن من التوزيع و العدل ، و على هذا الاساس فقد استنتج الاشتراكيون المسلمون ان الاشتراكية هي النظام الامثل لبلوغ العدل الاجتماعي و انها لا تتعارض مع روح الاسلام!
على اي حال فإن معظم الفقهاء المسلمين رفضوا هذه القراءات استناداً للتطبيقات التاريخية للشريعة الاسلامية و النصوص الدينية ، التي عنيت بتنظيم الارث و اتفاقيات الدين و التبادل ، فتنظيم عملية كتابة الدين كما نعلم وردت في اطول آيات القرآن ، كذلك نجد عناية كبيرة في تاريخ الفقه الاسلامي بمسألة حماية الملكية الخاصة لدرجة انهم اعتبروها من الأهداف الكلية للشريعة الاسلامية ، اضف لهذا و ذاك ان احداً في الاسلام لا يماك حق تحريم او منع شيء كان مباحاً ، إلا ان هذه الحقيقة الاخيرة على اي حال ليست مطلقة في ظل القاعدة المعروفة "الضرورات تبيح المحظورات" ، لذا اتفق اغلب الفقهاء على ان تأميم – او ما في حكم التأميم – بعض الملكيات الخاصة في ظروف معينة هو احد القرارات الصائبة اذا كانت ضرورة اجتماعية مع الالتزام بالتعويض المناسب للمالك.
بناء على هذا الموقف يرى اصحاب الاقتصاد الاسلامي ان موقف الاسلام من قضية الملكية يقع متوسطاً بين موقفي الرأسمالية الكلاسيكية بصيغة آدم سميث و الاشتراكية بصيغة كارل ماركس ؛ " الاسلام يختلف عن الاشتراكية و الرأسمالية و الشيوعية و النظريات و الرؤى الأخرى في منطلقاته المذهبية و الايديولوجية ، الاسلام رسالة سماوية بفهم خاص لهذا الكون"(2).
بناء على تقدم فإن معظم الباحثين في الاقتصاد الاسلامي في هذه المسألة يرون بأن الاسلام لا يتوافق لا مع نظرة الرأسمالية للملكية و لا مع نظرة الاشتراكية لها ، و ان نظرته لها نظرة مختلطة و ان تاريخ المسلمين عرف اشكال متباينة من الملكية منها العام و الخاص و ملكية الدولة كذلك.
اذن من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي هناك عدة اشكال من الملكية المقبولة اسلامياً كالملكية الفردية و العامة و ملكية الدولة بدلاً من الأخذ بشكل واحد من اشكال الملكية في النظام الاقتصادي ، عليه نستطيع القول ان النظام الاقتصادي الاسلامي المتصور هنا هو نظام مختلط وفق التصنيف الاكاديمي الاقتصادي كما هو الحال في معظم ان لم يكن كل النظم الموجودة اليوم في العالم مع تفاوتها في توزيع اشكال الملكية بين الخاص و العام . يرى محمد رضى طاهري ان من الخطأ القول ان النظام الاقتصادي الاسلامي هو نظام رأسمالي حتى و ان كان يسمح بملكية عناصر الانتاج للافراد لانه لا يرى ان الملكية الفردية الشكل الاساسي للملكية يتأسس عليها نظامه ، كما انه من الخطأ وصفه بالنظام الاشتراكي حتى و ان كان يقبل ببعض اشكال الملكية العامة و ملكية الدولة إلا ان هذا ايضاً لا يعتبر الشكل الاساسي للملكية فيه(3).
تنصرف هذه القضية إلى شكل الملكية ، إلا ان الأهم من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي و اصحابه هو مسألة استخدام الملكية ، التي يجب ان تتم باحترام الشريعة الاسلامية ، و أحد أهم القواعد التي تنظم و تقييد الملكية في الشريعة الاسلامية هي الزكاة ثالث الفرائض الاسلامية الخمس حسب التوزيع الفقهي ، انها فريضة دينية يدفعها من ملك نصابها من المال ، إذن هي ليست فقط على النقد بل على كل اشكال الاموال ، و يفترض ان المقدار تحتسبه هيئة مستقلة تختص بهذا الشأن و سنعرج إلى مناقشة هذا بتفصيل اكبر عند حديثنا عن الفهم الاسلامي لدورة رأس المال.
كما ان الاسلام حرم استخدام الملكيات في اي من اشكال البيع و الاتجار و الانتاج و النقل او اي تعامل يخص سلعة او خدمة محرمة بموجب شريعته كالمشروبات الكحولية ، كذلك حرم الاسلام الاحتكار ، لكننا لا نستطيع القول هنا انه الاحتكار بالمفهوم العلمي الاقتصادي للمصطلح ، الاحتكار المحرم في الاسلام هو جمع سلعة ما من الاسواق حتى تشح او تختفي و تصبح غير متوفرة بغية تمكن التاجر من بيعها بالسعر الذي يريد ، اقتصاديا هذا احد انواع الاحتكار و يسمى الاحتكار المطلق.
مفهوم الملكية الفردية المطلقة من المفاهيم الغريبة عن تاريخ المسلمين ، فاحد اغرب العلاقات في تاريخ الامبراطوريات المسلمة هو العلاقة بين السلطة و مالكي الثروة ، فقد استثمرت السلطة مفهوم ان الملكية لله لحفظ حق الوصاية على الملكيات لخلافاء النبي محمد. القادة كان لديهم القوة السياسية التي لا يمكن تفسيرها كنتيجة لملكية رأس المال الباحث عن السلطة ، بدلاً من ذلك كان لدينا كفاح القبائل للسيطرة على السلطة و الثروة معاً ، و هكذا لا نلاحظ في تاريخ الامبراطوريات المسلمة تطوراً جدلياً او صراعاً بين السلطة و مالكي رأس المال و لا نجد ايضاً تطوراً مستقلاً للملكيات المنتجة.
عبد الرحمن بن خلدون المعروف بأبو العلوم الاجتماعية و الذي عرف كتابه المقدمة كأول قراءة للتاريخ باعتباره حركة تطور جدلي (4) ، فهم حركة التاريخ باعتبارها دورة تطور قبلي تنتهي عندما تصبح القبيلة متمدنة و ثرية فتسقط على يد قبيلة جديدة اقوى منها لانها لم تعرف بعد الثروة و المدنية و لازالت على لحمتها و خشونتها و استعدادها القتالي من اجل طموحها للسلطة و الثروة فتزيح القبيلة القديمة من السدة و هكذا تنتقل إليها كل اشكال الملكية و الثروة كمفاتيح سيطرة و تعبير عن السيادة طبعاً ممثلة بزعيمها ، اخذت هذه الدورة ايضاً شكلها الفعال حتى في انتقال السلطة من خليفة إلى آخر من نفس القبيلة فتنتقل معه اشكال الملكية الفاعلة إليه و إلى المجموعة الموالية له حيث تبدأ القبيلة الحاكمة بالتفتت و الصراع فتكون استكانت للدعة و الثراء و فقدت وحدتها و ابتعدت عن طباع الخشونة و القتال وصارت مرفهة بالتالي تأتي عليها قبيلة جديدة اكثر لحمة و قوة و استعداد للقتال و السيطرة و هكذا دواليك ، و عندما كان المركز الامبراطوري للمسلمين يضعف دون ان يسقط لترامي اطراف الدولة كان الزعماء القبليين و الجهويين المحليين يسعون للانفصال او على الاقل يكتفى بتبعيتهم الاسمية للمركز.
هذا هو التطبيق التاريخي عند المسلمين او تاريخ التطبيق اذا اردنا النظر له باعتباره نظام عاماً يحرك المجتمع و يمثل اسلوب انتاجه و ملكيته لكن كما قلنا لا يعتد به كله كمصدر من مصادر ما صيغ تحت عنوان الاقتصاد اسلامي ، فكما اشرنا سابقاً حاول ارباب الاقتصاد الاسلامي اعادة صياغة او تكييف النظريات الاقتصادية و اخضاعها للشريعة الاسلامية ، و بكثير من الجهود و المآرب الذاتية تطويع انتقائي للحوادث و التطبيقات التاريخية ، لهذا نجد الاستشهادات التاريخية كثيرة في اعمالهم لكننا ايضاً نراها انتقائية و غير واعية عن قصد او بدون قصد لعموم المشهد التاريخي باعتباره تطبيقاً لما يستدلون به و عليه ، لكن الواضح انه يبدو تطبيقاً صحيحاً لديهم حصراً عندما يراد الاستشهاد به لخدمة رأي معين.
ما اجتمعوا على اخذه هنا هو ان نظرة الاسلام لقضية الملكية نظرة مختلطة تقبل عدة اشكال منها و استدلوا على هذا بعدة وقائع تاريخية ، و يبدو هذا متطابقاً مع طبيعة النظام الاقتصادي المختلط اليوم في موقفه من قضية الملكية.


ج - التنظيم الذاتي للسوق


احد اعمدة النظرية الرأسمالية الكلاسيكية هو التنظيم الذاتي للسوق ، و الذي يعني ان السوق اذا ما تركت حرة فإنها تعدل نفسها بنفسها تلقائياً عندما تواجه خللاً ، إذ يرى اباء النظام الرأسمالي و على رأسهم آدم سميث صاحب كتاب ثروة الامم ان الأصل في السوق هو التوازن التلقائي بين قوى العرض و الطلب و أن الكساد و التضخم هي مظاهر عابرة استثنائية و ليست القاعدة ، و ان السوق بشكل تلقائي عند حدوث كساد او تضخم يعيد تشكيل نفسه مستعيداً حالة التوازن طارداً التضخم او ممتصاً الكساد ، فعندما يحدث التضخم نتيجة ارتفاع الطلب عن العرض يقدم العديد من المنتجين الجدد بحثاً عن الربح الذي افرزه التضخم فيزيد العرض مما يؤدي مرة اخرى لاستقرار الاسعار و من ثم لهبوطها و حدوث التوازن من جديد و العكس عندما يحدث كساد إذ ان الكساد ناتج عن زيادة العرض على الطلب في هذه الحالة يضطر المنتجون لخفض الاسعار تدريجيا مما يؤدي لخروج منتجين من السوق و بالتالي لاخفاض العرض و امتصاص الفائض و توازن السوق من جديد. إذن في التنظير الكلاسيكي للرأسمالية الأصل في السوق الحر التوازن و يعتبر التضخم و الكساد مظاهر عابرة سرعان ما يعدل السوق نفسه ازاءها ليستعيد حالته الطبيعية و توازنه.
طبعاً بات هذا فرضاً متجاوزاً ، و نعلم في المستوى التطبيقي ان العالم مع ازمة الكساد العظيم (1926-1934) عرف كساداً انكماشياً متفاقماً بدون توقف و سقطت مسلمة التنظيم الذاتي للسوق و لم يكن بد من اعادة النظر في هذه المسلمة لانقاذ النظام السوقي ، و كانت النظرية العامة في التشغيل و الفائدة و النقود التي طرحها جون مينارد كنز بمثابة ثورة جذرية في هذا النظام إذ خلص عبر تحليله إلى ان الكساد من الممكن ان يكون حالة مستمرة و متفاقمة و لا تتمكن معه آلية السوق من تعديل نفسها و التخلص من هذه الظاهرة بل ان حالة التوازن التلقائي المفترضة هي حالة فرضية يستحيل بلوغها تماماً في نظام السوق و انه لا بد من تدخل الدولة عبر ادواتها المالية و النقدية المختلفة للتأثير في اتجاهات السوق و زيادة الطلب بغية الاقتراب من حالة التوازن المأمولة و وقف الكساد الانكماشي (5).


هذا عن النظام الرأسمالي و تطوره ، في الجانب الآخر تجاهل النظام الشيوعي آلية السوق و تقلباتها و ركز على التخطيط المركزي للقرارات المتعلقة بتوظيف عناصر الانتاج ، لكنه حتى و ان كان يضمن التوظيف الكامل لعناصر الانتاج فإنه لا يضمن التوظيف الامثل لها ؛ علينا ان ننتبه هنا إلى ان استخدامنا لكل العناصر الانتاجية التي بين ايدينا يعني استخدمها جميعاً لكنه لا يعني استخدمها على النحو الامثل و يمكن القول ان المثلية تعرف بأنها التوليفة الانتاجية التي تجعلنا نشتق افضل انتاج كماً و نوعاً و اشباعاً للحاجات بما هو متوفر بين ايدينا من عناصر الانتاج و فنونه ، شدما يلفت الانتباه الإلغاء السلبي لظاهرة الابتكار التي يدفع إليها السوق الحر وفق هذه الآلية الشيوعية ، و هذا احد عوامل الابداع و التطور المهمة جدا التي تدفع الانتاج و آلياته و تقنياته و اشكاله إلى التطور الدائم ، لقد فقد النظام الشيوعي باعدامه لآلية السوق هذه الميزة ، ان مما لا شك فيه ان نظام السوق الحر هو نظام قاس جداً في نتائجه إلا انه في نفس الوقت يحمل ميزات من الصعب تجاهل دورها و اهميتها في احداث النقلات النوعية و اذكاء روح الجدل الاقتصادي الاجتماعي و دفعه قدماً لهذا نجد اننا في مقابلة اشكالية هنا هي كيف يمكن الاستفادة من ميزات نظام السوق و الحؤول في ذات الوقت او على الاقل الحد من سلبياته؟
لا شك ان الاسلام اسس لتدخل السلطة في قضايا اقتصادية على رأسها توزيع الدخل و الثروة ، و ليس عصياً ان نقف مع الزكاة لنتأمل محاولة للحد من التناقض الذي يفرزه سوء توزيع الدخل و الثروة و هنا تمنح لا بل تأمر النبي بوضوح بالتدخل المباشر لاخذها من الغني إلى الفقير نقرأ في سورة التوبة الآية 190: { خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم }.
بالنسبة لحرية السوق لم يحرم الاسلام السوق الحر بل في الواقع شجع التجارة بالذات ، و قد أولت النصوص الاسلامية التجارة اهتماماً واضحاً خصوصاً ان البيئة التي جاءت فيها الرسالة الاسلامية بيئة تجارية او حتى يمكن اعتبار مكة مسقط رأس النبي محمد سوقاً في الاساس اضافة لكونها مكاناً مقدساً عند العرب ، في نفس الوقت حرم الاسلام بعض الانشطة التي تنعكس سلباً على المجتمع مثل الاحتكار المطلق ، فكانت احد اهم وظائف السلطة في تاريخ المسلمين الرقابة على الاسواق و التي اسست لحق السيطرة عليها و تنظيمها لضمان احترام قوانين الشريعة و السياسة العامة للدولة ، و ليس عسيراً ان نستجلي جذوراً تؤسس للنظرة الاجتماعية للسوق ان جاز التعبير اي اتاحة الرقابة على الاسواق و انشطتها و توجيهها و ضمان سلامتها لا بل واعتبار هذا ضرورة فالاسلام في مصادره الرئيسة زودنا بنصوص تحرِّم عدة نشاطات اقتصادية تشكل عائقاً في المنظار الاسلامي دون تحقيق الاهداف و المثل و القيم التي اراد الاسلام تثبيتها من امثلة هذه الانشطة الربا و الاحتكار المطلق ، كما زرع الاسلام بذور النظام الرقابي من خلال تقديمه المصلحة العامة دائماً في تناوله للجماعة كمفهوم اعتبر معه تحقيق مصلحتها مقدماً على المصلحة الفردية ، فملامح نظامه كما يتضح هنا تتأسس على التوازن بين الحاجات الروحية و المادية للانسان من ناحية و على المجتمع باعتباره البيئة الحاضنة للفرد و التي لا يجوز ان تتقدم مصلحة اي فرد على مصلحتها من ناحية اخرى ، بالتالي فإن أولياء الامور في المجتمع المسلم يقع على عاتقهم مهمة مراقبة الاسواق بالطريقة التي تضمن من ناحية تطبيق الشريعة و من ناحية ثانية ضمان تحقيقها لمصلحة المجتمع

نقف هنا لنبدأ في الحلقة القادمة مع الفهم الاسلامي للدورة المالية
يتبع
(1) الزمخشري ، 1998، الكشاف ، بيروت : دار الفكر ص 504
(2) البلاغ ، التوزيع الاقتصادي في الاسلام
(3) طاهري ، محمد رضى ، 2004 ، المبادئ الاساسية للاقتصاد الاسلامي و اثرها على قواعد المحاسبة ، Islamic-finance.net
(4) ابن خلدون ، عبد الرحمن ، (2005) ، مقدمة العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في اخبار العرب و العجم و البربر و من والاهم من ذوي السلطان الأكبر، المغرب: دار العلوم. الطبعة الاولى ، ص 91
(5) Keynes, John Maynard, (2004), the general theory of employment, interest and money, (London: Macmillan). King, john E. p.3


الحلقة الأخيرة

– المفاهيم القرآنية و الدورة المالية :


تعتبر محددات عرض النقد الرئيسة و التي تحكم عرض السيولة النقدية مشكلة حيوية أساسية من مشاكل الاقتصاد المعاصر ، و كما نعلم أن هذا الموضوع الشائك يتناول الأدوات التي تستعملها الدولة النقدية منها كسعر الصرف و الاحتياطي القانوني و الفائدة على أذونات الخزينة و المالية منها و على رأسها الإنفاق العام ، و معلوم تماماً انه رغم فعالية هذه الأدوات إلا أن الدور المتنامي اليوم أصبح لأداء الأسواق المالية و المؤسسات المالية و سعر الفائدة على الإيداع و السحب .

في ضوء ذلك يأتي الالتباس الأكبر في قضايا الاقتصاد المعاصر و هو ما يختص بالبنوك و نشاطها ، لكن قبل أن نعالج هذه المسألة من الجدير بالملاحظة حقا هو تنبه التنزيل الحكيم إلى أهمية الدورة النقدية و عجلتها ، و هي في واقع الأمر من المسائل التي أغفلت كما لاحظت من مراجعتي للمكتبة الاقتصادية الإسلامية ، بل و أكثر فقد لاحظت أن جل من تصدوا لعلاج القضايا الاقتصادية من وجهة نظر إسلامية في الحقيقة ليسوا من المختصين في علوم الاقتصاد و المالية و المصرفية بل من الفقهاء فواجهوا فعلاً إشكالاً في الفهم واضح بل و فج و خاطئ في معظم الأحيان للنظريات الاقتصادية ، فقد تجاهلوا أن الاختصاص في علوم الفقه لا يعني بحال التأهل للحديث في علم كالاقتصاد أو الطب أو غيره و هذا حقيقة من المشكلات التي أصبحت تشكل عائقا أمام الاجتهاد و تؤدي إلى استنتاجات فجة مجافية للعلمية تماما تطرح على الجمهور للأسف البالغ على أنها رأي الدين في المسألة مثار البحث و الجدل ، و هي ظاهرة من مخلفات تراثنا و معلوم أن العالِم في غابر الزمان كان عليه أن يلم بشتى مناحي المعرفة مما كان يؤهله لفحص أي شيء في الغالب فكان العالم طبيباً و فقيهاً و رياضياً و فيلسوفا وفلكياً ، لكن أما و قد تشعبت فروع المعرفة و تنوعت أغراضها و تعمقت أبحاثها و ازداد التخصص لم يعد بإمكان أي كان أن يلم بكل أصناف المعرفة فأصبح و للأسف الفقيه يفتي في مسائل كالطب و هو على غير دراية به و في الاقتصاد و غيره نحو ذلك مما يأتي فجاً مجافياً لحقائق علمية دامغة في أحيان كثيرة و لذا نقترح دائما الاستئناس برأي أهل الخبرة و الاختصاص قبل القفز إلى الإفتاء في مسائل يعنى بها غير الفقهاء من علماء .

مما بحثنا في أصله و معناه و تنبهنا إلى أهميته قوله تعالى : {والذين يكنزون الذهب والفضةْْ} و ما تضمنته من منع لكنز الذهب و الفضة ، ينبه إلى خطورة منع و عزل أجزاء من الثروة عن الإسهام في النشاط الاقتصادي أي التحول إلى رأس مال منتج بدلاً من بقائها رأس مال نقدي معزول عن المشاركة في الإنتاج و خلق المنفعة (لا نعتبر علمياً المال المعزول عن الدورة الاقتصادية رأس مال و لا يعتبر المال عامة رأس مال إلا عندما يوظف في الإنتاج) ، تتكامل هذه الصورة إذا ما وضعنا هذا مع ما صنفه الفقهاء التقليديون كركن ثالث من أركان الإسلام و هو الزكاة بما تضمنته من تشريعات ، فعلى ماذا تفرض الزكاة ؟
تفرض الزكاة على ما حال عليه الحول أي اكتمل على مرور حيازته عام كامل و بلغ النصاب !
تنبه الفقهاء إلى أهمية الدور الاجتماعي للزكاة و مسألة عدالة التوزيع ، لكن على ما نعلم لم يتنبه أحد إلى أهمية ذلك في الحض على عدم عزل الثروة عن النشاط الاقتصادي و استمرار رأس المال في العمل و الدوران على مر الحول أو العام ، فهذا هو الرسول (ص) من خلال فهمه للتنزيل الحكيم و نتائج تطبيقه يأمر القائمين على أموال اليتامى أن يتاجروا بها حتى لا تأكلها الزكاة !
فليست الزكاة فقط حافزا على استثمار المال بل كذلك الحيلولة دون أن يحول على المال حول في صيغة معينة فهكذا تتآكل الثروات الغير منتجة بالزكاة لحساب الثروات المنتجة و المتنامية ، إدراك عميق جدا يحول الثروة إلى قرض و هنا يكمن برأيي المتواضع مفهوم المال لله فهذا المال الذي بحيازتك هو لله و بالتالي للمجتمع كون الإنسان خليفته تأخذ منه الزكاة أي نسبة منه إذا حال عليه الحول بصيغته المعزولة عن الدورة المالية الاقتصادية؛ فهو إذن أشبه ما يكون بقرض اجتماعي يمنحه المجتمع للحائز و يدفع الحائز مقابل ذلك زكاة المال فإذا لم يكن مالا منتجا أتت عليه الزكاة بمرور الأعوام أما إذا كان منتجا نما و تزايد مما يعود على المجتمع خلق منافع إضافية وفق مبدأ اليد الخفية التي سبق أن تكلم عنها آدم سميث في كتابه ثروة الأمم بعبارته الشهيرة :"إن الإنسان و هو يعمل لتحقيق منافعه الخاصة إنما يفعل دون أن يدري فعل اليد الخفية التي تعود بالنفع على المجتمع" ، من الممكن أن تعمق هذه النظرة لتصوغ بذاتها نظاما شاملاً لدورة رأس المال كحوافز لعرض النقد.

فما نراه هنا أن الجزء المقتطع من مطرح الزكاة يتحول فوراً إلى إنفاق كما أن المال الذي ليس مطرحاً للزكاة هو بحكم الإنفاق فعلاً سواء كان إنفاق استثماري أو إنفاق استهلاكي ، لو فرضنا أن السوق ليس فيها أي اقتطاعات في هذا النموذج إذن لا يوجد تسرب حيث كل الدخل المتحقق للأفراد يعود إلى السوق على شكل إنفاق إما استهلاكي و إما استثماري ليحولها السوق مرة أخرى كدخول للأفراد إلا أن هذا الفرض خاطئ لأن الأفراد لا يحولون دخولهم كاملة للسوق مرة أخرى و دون حواجز زمنية بحيث يحدث تسرب على شكل اقتطاعات تحرج من هذه الدورة على أشكال أهمها الكنز .

لذا منع التنزيل الحكيم الاكتناز و حض على الإنفاق و فرض الزكاة ليمنع أن تظل الأموال خارج الدورة الاقتصادية ليضمن أن يعمل الاقتصاد بكامل طاقته و حاول أيضا أن يمنع أشكال استعمال المدخرات في استغلال الحاجة المتمثل بربا النسيئة فالأصل المشتق هنا عندنا هو أن تتوفر الأموال لتمويل نشاطات الاستثمار و الاستهلاك كهدف اقتصادي يرومه التنزيل الحكيم و استخدام آلية الكنز لاستغلال الحاجات الاقتصادية للمجتمع يمثل خللاً خطيراً يعاكس هذا الهدف.

و قد استخلص من ذلك الفقهاء أن أعمال البنوك الحديثة حرام شرعاً لأنه ينطبق عليها ذلك، استنتاج يبدو منطقياً ، لكن مهلاً لن نتخذ هنا دور الفقهاء إلا أننا سنحلل أبعاد هذا الموضوع بما لدينا من أدوات معرفية معاصرة.

من ناحية تنبه التشريع المحمدي إلى ضرورة إعادة الأموال المقتطعة إلى الدورة السوقية فشرع أشكالاً من الوساطة لإعادتها إلى السوق منها و أهمها عقد المضاربة ، و هو عقد يتم إبرامه بين طرفين الأول صاحب المال المضارب به و الذي يدفعه للثاني و هو المضارب مقابل نسبة من الربح التي يحصله الطرف الثاني و هو المضارب من استثماره و تشغيله لهذا المال و يتفق على مقدارها و بهذا يكون لصاحب المال تلك النسبة المتفق عليها من أرباح استعمال ماله إضافة لماله المضارب به و للمضارب الباقي من الربح بعد دفعه لتلك النسبة من الربح التي استحقت لصاحب المال ، فإذا ما وقعت الخسارة و ضاع المال يتحمل الخسارة صاحب المال الأصلي ولا يخسر المضارب بالمال إلا عمله ، و لصاحب المال أن يضمن العقد الشروط التي يرتئيها كتحديد مدة المضاربة بماله بحيث يرد له بعد انقضائها أو أوجه استخدام ماله فله أن يحدد للمضارب بماله وجه استثماره لها كأن يحصر ذلك في تجارة القطن مثلاً.


هناك أيضا أشكال أخرى كالإجارة و الرهن وغيرها ، اتخذت سبلاً لإعادة الأموال إلى الأسواق و الملفت أن هذه السبل إنما تضمن أن يعمل المال و أن يحقق النفع للطرفين بينا كانت القروض الربوية لا تؤدي إلا إلى ضرر حيث يدفع المال لمحتاج في سد حاجة فيطمع الدائن في زيادة في ماله إما بالاستيلاء على ما يملك الرجل أو كد جبينه أو حتى حريته ، لكن قبل أن نسترسل في الحديث عن البديل الإسلامي كما يسميه متصوروه وما يكنى بقاعدة البنوك الإسلامية .
لنا أن نتساءل ما هي حاجتنا للبنوك؟
قلنا أن الاقتطاعات من الدخل التي تذهب خارج الدورة الاقتصادية تؤذي اقتصاد الأمة ، و الاقتطاع عادة ما يكون كتراكم فائض إما لهدف إعادة الإنفاق على الاستهلاك كالادخار لشراء سيارة أو للاستثمار كشراء عقار أو آلة أو إنشاء مشروع ما ، و قد يكون لغرض اكتناز المال و إبعاده تماماً عن الدورة الاقتصادية دون أن يقع منه نفع و هذا الجزء بالذات هو الذي من المنطقي أن تطارده الشرائع جميعاً لتعيده بالاقتطاع منه تدريجياً إلى الأسواق فلا يعوض فيه عما يستقطع إلا بإنتاج جديد و وفر جديد و كلما كبر هذا الجزء و تناما كلما زادت القوة الاقتصادية المعطلة ، أما الادخار من اجل إعادة الإنفاق بدون نظام مصرفي فيعيبه أمران
الأول المدة التي تكون فيها الاقتطاعات تسربا من الدورة السوقية.
الثاني إبطاء عجلة السوق لأن عملية الادخار تستغرق وقتاً مما يبطئ من سرعة عمليات الاستهلاك و الاستثمار.
من ناحية أخرى يضم المجتمع طائفتين :
الأولى تملك المال و لكنها تعجز عن توظيفه لكنها بحاجة لذلك حتى لا تأتي الزكاة على ما تملكه من مدخرات من ناحية استهدفت كمطرح للزكاة و من ناحية أخرى منع عزلها على شكل كنز .
و الثانية التي لديها المشروعات و الحاجات و تعجز عن تمويلها .
و يكون دور المصارف تماماً تحقيق الوسيط الممتاز للتوفيق بين هاتان الطائفتان بما يضمن تحقيق مصالحهما و مصلحته و المصلحة العامة.

ذكرنا كيف أن المشرع الإسلامي أبدع نظام المضاربة كحل نوعي للمشكلة ، أما البنوك ففي هذه المسألة تتولى دور الوسيط ؛ الوسيط المضمون الذي يأخذ مال غير القادر على التوظيف ليعطي القادر عليه فيعجل الدورة و يساعد كثيراً في منع التسرب و في ضبط سياسة عرض النقد كأداة فعالة ، تفتح البنوك قدرة لا متناهية على التمويل لا يضبطها سوى سعر الفائدة و العائد على الاستثمار ، و يتأتى ربح البنك من الفارق بين عوائده و أهمها الفوائد المحصلة من القروض الممنوحة (ليس كل القروض الممنوحة ودائع بالضرورة فالبنوك وفق نظرية مضاعف الائتمان قادرة على خلق قروض أكثر مما بحوزتها من ودائع) و استثمارات البنك و بين تكاليفه المتمثلة بالفوائد المدفوعة للمودعين زائداً التكاليف التشغيلية ، و العمل البنكي على عكس ما يزعم الكثيرون عمل به مخاطرة تتوقف على عدة عناصر داخلية و خارجية و خاصة الوضع العام للاقتصاد الذي تعمل به فهي أول ضحايا الانتكاسات الاقتصادية و عرضة للإفلاس كذلك .

إذن البنوك تعمل على إلغاء مدة التسرب الذي تتطلبها عملية الادخار في حالة كان هذا الادخار بهدف إعادة الاستثمار أو الاستهلاك و كذلك المتجه للكنز منه و تضع الأموال المعزولة عن الدورة التشغيلية في السوق مرة أخرى بالتالي فأهم وظائفها هو أن تضمن منع حدوث أي تسرب للثروة خارج النظام المالي الاقتصادي .
و البنوك كغيرها من الأدوات الاقتصادية قد تكون شديدة النفع للاقتصاد القومي وهو الأصل فيها وقد تكون ضارة ، يتوقف ذلك بالأساس على القوانين و الأنظمة الرقابية خاصة منها التي تتأكد من سلامة الإجراءات و ملاءة العميل و أن لا تتحول البنوك إلى أوكار لنهب الشعوب كما حصل و يحصل و أكبر دليل هو ما جرى من فضيحة قروض البنوك المصرية المنهوبة و التي لا نظير لها في التاريخ .

البنوك أيضا وسيلة لتوجيه الاستثمار الوجهة التي تحتاجها البلاد و أيضا تعمل كمستشار للعملاء كافة لضمان أفضل توظيف للثروة ، لذا فأنه حتى الرافضين لمبدأ الفوائد البنكية لأسباب شرعية لا يستطيعون إنكار أهمية هذه المؤسسات و دورها الاستراتيجي في أي نظام اقتصادي متطور.


أطروحة حول مفهوم الربا – قراءة معاصرة

الربا لغة هو الزيادة ، ربا يربو ربواً: زاد وعلا ، ويربي يزيد ، قال تعالى :{ فَإِذَا انْزَلنَا عَلِيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }[الحج:5] وقال : { أَنْ تَكُنَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة} [النحل: 92] ، أي زاد عدداً ، وأربى زيد على عمر زاد عليه.


الربا في المصحف :

عنيت الآية 282 من سور البقرة عناية فائقة في تنظيم عملية القراض وتوثيقها ، وقد أولى النص القرآني عملية التوثيق هذه عنايته الفائقة فجاءت الآية 282 من سورة البقرة أطول آية في المصحف كله :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم }

كما نرى جاءت الآية واضحة صريحة و دقيقة و تكاد تكون نصاً قانونياً جامعاً مانعاً ، فقد خبر المسلمون الترحال والسفر في التجارة مما كان يجعل مثل هذه العمليات شائعاً وقد جاء النص يحدد بدقة كيف يجب أن يتم توثيق القراض و بالتفصيل و مهما بلغ القرض من حيث حجمه.

يعطينا هذا مؤشراً على دقة التنزيل الحكيم حيث تجب الدقة في التوثيق في مقابل مرونة النص و سعة دلالته رحمة من رب العالمين و معرفة علي عظيم بتقلب أمور العامة من زمن لزمن و من مكان لمكان مما يقتضي إتاحة هذه السعة التي هي جوهر الصلاحية و الاستمرارية لانها تضمن أن تظل القراءة الفاهمة منفتحة على هذه السعة الدلالية ، تخيل معي لو أن النص القرآني حدد بنفس الدقة الملحوظة أعلاه شكل النظام السياسي و طريقة تداول السلطة كيف سيكون الحال إذن ؟
سيأتي هذا التحديد مناقضاًً لطبيعة الواقع المتغير لكن التنزيل الحكيم برحابة دلالته إنما جعل القاعدة عامة مع إبقائه على جوهر العدل المجتمعي عندما قرر أن { أمرهم شورى بينهم } بكل رحابة الدلالة التي يحتويها لفظ الشورى بعيداً عن فهم المكفرة الضيق الذي يصر على حشر نفسه وحشرنا معه في قوالب جامدة تنافي روح التنزيل الحكيم و مرونته.

استند الفقهاء في قولهم بتحريم الربا و تحديد ماهيته إلى أربعة نصوص قرآنية هي :

أولاً : قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 130 :

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة }

التضعيف هنا يأتي واضح الدلالة ، ويعود على الربا و يقع دلالة عليه و النهي عن الأكل لا يقع إلى بحضور الشرط هنا وجوباً و هو التضعيف ، بهذه الآية نهى الله عن مضاعفة الربا بأن يقع أضعافاً مضاعفة فمعنى ذلك ببساطة أن يصبح أصل المبلغ مضاعفاً غير مرة بفعل تضعيف الربا عليه، و قد خصه البعض بأنه مثل الفائدة المركبة ربا على ربا.
قال الطبري في تفسير ذلك :
" ... وَكَانَ أَكْلهمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتهمْ أَنَّ الرَّجُل مِنْهُمْ كَانَ يَكُون لَهُ عَلَى الرَّجُل مَال إِلَى أَجَل , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَل طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبه , فَيَقُول لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَال : أَخِّرْ عَنِّي دَيْنك , وَأَزِيدك عَلَى مَالِك ! فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ , فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة , فَنَهَاهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي إِسْلَامهمْ عَنْهُ . كَمَا : 6203 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سِنَان , قَالَ : ثنا مُؤَمَّل , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ عَطَاء , قَالَ : كَانَتْ ثَقِيف تُدَايِن فِي بَنِي الْمُغِيرَة فِي الْجَاهِلِيَّة , فَإِذَا حَلَّ الْأَجَل , قَالُوا : نَزِيدكُمْ وَتُؤَخِّرُونَ ! فَنَزَلَتْ : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة }"

إذن لم ينهى هذا النص عن الربا نفسه إنما نهى عن مضاعفة الربا إن عجز المدين عن السداد ، و العلة في ذلك أن الربا الأولى إنما وقع بالاتفاق و الثاني وقع جبراً لأن المدين عجز ففقد خيار رفض التضعيف و اضطر لقبوله ، و هذا ما يجعل الفقهاء لا يعتدون بهذه الآية نصاً على رأيهم القائل بتحريم الربا نفسه و إنما هي عندهم لتحريم تضعيف الربا.(1)

بالعودة للتطبيق الجاهلي نرى أن الأصل فيه كما ورد عن المتقدمين " يكون الدين قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة مقابل الأجل ، و يتفق على هذه الزيادة الربوية بالتراضي بما يرى كل منهما مصلحة نفسه، و قد يدفع هذا الربا مقسطاً أقساطاً شهرية و يظل رأس المال باقياً ، فإذا حل موعد القرض طبقت القاعدة الجاهلية المعروفة إما أن تقضي وإما أن تربي" (2)

إذن ما نهت عنه الآية هنا هو الزيادة على رأس المال التي يوقعها الدائن على المدين متى حل السداد و عجز المدين عن الوفاء، و لا يقع على الربا المقسط الذي كان يستوفيه الدائن.

ثانيا : قوله تعالى في سورة النساء الآية (161):

{ وَأَخْذهمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلهمْ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
نزلت في وصف بني إسرائيل. ويحيل الطبري في معنى الربا هنا إلى ما سبق له بيانه في سورة البقرة و سنأتي إليه.

ثالثا: قوله تعالى في سورة 30 الآية (39):

{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يَرْبُو عِنْد اللَّه وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاة تُرِيدُونَ وَجْه اللَّه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ}

و هذه يبطل الاحتجاج بها على منع الربا المقصود هنا لأنها أساساً لا تتصل أبداً به ، ذلك أن هذه الآية عنيت بالربا العطية التي تعطى لاسترضاء أحد من الناس وهذا ما اتفق على معناه المفسرة ، و هو هنا يقارن و يقرن بينها و بين الزكاة التي يكافئ الله عليها عباده الذين يريدون بها وجه الله عز وجل، و هذا ما وافقه كما ذكرنا المفسرة و قال في تفسيرها الطبري:

"{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يَرْبُو عِنْد اللَّه } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَمَا أَعْطَيْتُمْ أَيّهَا النَّاس بَعْضكُمْ بَعْضًا مِنْ عَطِيَّة لِتَزْدَادَ فِي أَمْوَال النَّاس بِرُجُوعِ ثَوَابهَا إِلَيْهِ , مِمَّنْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ , { فَلَا يَرْبُو عِنْد اللَّه } يَقُول : فَلَا يَزْدَاد ذَلِكَ عِنْد اللَّه , لِأَنَّ صَاحِبه لَمْ يُعْطِهِ مَنْ أَعْطَاهُ مُبْتَغِيًا بِهِ وَجْهه . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل."(3)

رابعا : قوله تعالى في سورة البقرة الآيات (275-280}:

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُوم الَّذِي يَتَخَبَّطهُ الشَّيْطَان مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْع مِثْل الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْع وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبّه فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْره إلَى اللَّه وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَق اللَّه الرِّباَ وَيُرْبِي الصَّدَقَات وَاَللَّه لَا يُحِبّ كُلّ كَفَّار أَثِيم * إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة لَهُمْ أَجْرهمْ عِنْد رَبّهمْ وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّه وَرَسُوله وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }

وهذه الآيات هي التي يرى المفسرة أن بها الدليل الحاسم على تحريم الربا ، لكن السؤال الذي يعنينا في هذا السياق هو : ما هو الربا الذي اصطلح عليه و حرم و ما مفهوم الربا الذي قصدت إليه الآية ؟

لنرى أولاً ما قاله الطبري في تفسير هذه الآيات:

"... وَحَرَّمَ الرِّبَا يَعْنِي الزِّيَادَة الَّتِي يُزَاد رَبّ الْمَال بِسَبَبِ زِيَادَته غَرِيمه فِي الْأَجَل , وَتَأْخِيره دَيْنه عَلَيْهِ . يَقُول عَزَّ وَجَلَّ : وَلَيْسَتْ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ وَجْه الْبَيْع , وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْه تَأْخِير الْمَال وَالزِّيَادَة فِي الْأَجَل سَوَاء , وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْت إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ , وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْه تَأْخِير الْمَال وَالزِّيَادَة فِي الْأَجَل ; وَأَحْلَلْت الْأُخْرَى مِنْهُمَا , وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْه الزِّيَادَة عَلَى رَأْس الْمَال الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِع سِلْعَته الَّتِي يَبِيعهَا فَيَسْتَفْضِل فَضْلهَا , فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَتْ الزِّيَادَة مِنْ وَجْه الْبَيْع نَظِير الزِّيَادَة مِنْ وَجْه الرِّبَا , لِأَنِّي أَحْلَلْت الْبَيْع , وَحَرَّمْت الرِّبَا , وَالْأَمْر أَمْرِي وَالْخَلْق خَلْقِي , أَقْضِي فِيهِمْ مَا أَشَاءَ , وَأَسْتَعْبِدهُمْ بِمَا أُرِيد , لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَرِض فِي حُكْمِي , وَلَا أَنْ يُخَالِف فِي أَمْرِي , وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ طَاعَتِي وَالتَّسْلِيم لِحُكْمِي ... { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ } . يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ : إنْ تُبْتُمْ فَتَرَكْتُمْ أَكْل الرِّبَا , وَأَنَبْتُمْ إلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ مِنْ الدُّيُون الَّتِي لَكُمْ عَلَى النَّاس دُون الزِّيَادَة الَّتِي أَحْدَثْتُمُوهَا عَلَى ذَلِكَ رِبَا مِنْكُمْ ...{ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { لَا تَظْلِمُونَ } بِأَخْذِكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ الَّتِي كَانَتْ لَكُمْ قَبْل الْإِرْبَاء عَلَى غُرَمَائِكُمْ مِنْهُمْ دُون أَرْبَاحهَا الَّتِي زِدْتُمُوهَا رِبَا عَلَى مَنْ أَخَذْتُمْ ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ غُرَمَائِكُمْ , فَتَأْخُذُوا مِنْهُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ أَخْذه , أَوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ قَبْل . { وَلَا تُظْلَمُونَ } يَقُول : وَلَا الْغَرِيم الَّذِي يُعْطِيكُمْ ذَلِكَ دُون الرِّبَا الَّذِي كُنْتُمْ أُلْزِمْتُمُوهُ مِنْ أَجْل الزِّيَادَة فِي الْأَجَل يَبْخَسكُمْ حَقًّا لَكُمْ عَلَيْهِ فَيَمْنَعكُمُوهُ , لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى رُءُوس أَمْوَالكُمْ , لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكُمْ عَلَيْهِ , فَيَكُون بِمَنْعِهِ إيَّاكُمْ ذَلِكَ ظَالِمًا لَكُمْ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول وَغَيْره مِنْ أَهْل التَّأْوِيل."(4)

و أقول الربا هنا بقطع الدلالة ربا النسيئة وهو ما تعارف عليه العرب قبل الإسلام ، و ربا النسيئة هنا أن يحل موعد سداد الدين فيعجز المدين فيطلب إليه أن يربي مقابل تأجيل موعد السداد و هو الذي نزلت الآيات تحرمه أولاً أضعافاً مضاعفة وثانياً بالمطلق و دليلنا إلى ذلك هو ما عرفته العرب من أشكال الربا و منع بالنهي عنه ، لأن دائرة المنع إنما تطال مقصودها و ليس ما اشتقه و وسعه الفقهاء و قاسوا عليه و لنا لهذا رجعة موسعة مسندة بالسند العلمي.

أنواع الربا :

الربا نوعان : الربا الفضل و ربا النسيئة ، و في التطبيق يقع الأول في البيوع و الثاني في القروض

ربا الفضل: الفضل لغة في اللسان الزيادة (5) هو الزيادة التي يصيبها البائع من بيع الشيء بمثل جنسه ، أو هو :"التبادل اللحظي لكميتين أو نوعيتين غير متساويتين من نفس السلعة" (6)
و في تحريمه استند الفقهاء لحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري في كتاب البيوع لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز) (7)
وكذلك قوله الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعواالذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير كيف شئتم يدا بيد) (8)
إذن ربا الفضل هو الذي و قع تحريمه (حسب رأي السلف) في التبادل غير المتساوي لسلع ستة حددها النص هي الذهب و الفضة و القمح و الشعير و الملح و التمر ، و يقع في التبادل التجاري المباشر ، و علة تحريمه واضحة و هي منع الغش.

ذهب البعض لانتحال ربا الفضل علة في تحريم الفوائد البنكية
قلت هذا استدلال فاسد لمسألتين :
الأولى : أن ربا الفضل إنما يقع في البيوع لا في القراض .
و الثانية : أن ربا الفضل في بيع ناجز لسلع و ليست النقود سلعاً أصلاً .
و هو ما وافق عليه الجمهور ، لكن نقول الحديث و منع ربا الفضل إنما هو لعلة وقوع الغش فيه و يجوز سحبه على ما لم يوافق عليه الجمهور أي على أي سلعة أيا كانت و ليس فقط على الأنواع الستة ، ذلك أن الغش في البيع إنما هو الممنوع و المنهي عنه فيها و في غيرها ، فإذا كان لأحد حاجة في بيع بمثله نوعاً فالأصح أن يبيع ما عنده بمال ثم يشري بالمال حاجته من السلعة بنوع و كم آخر.

ربا النسيئة : النسؤ لغة التأجيل(9) ، وربا النسيئة هو ما عرفته العرب قبل الإسلام ، و كان يتم إيقاعه على المدين عندما يعجز هذا الأخير عن الوفاء بدينه فيقول له الدائن إما أن تدفع و إما أن تربي، هذه الزيادة لقاء النسئ (الإرجاء) هي ربا النسيئة.

يرى أبو حنيفة أنه يقع فيما يقبل الكيل و الميزان بينما يرى الشافعي أنه يقع في المطعوم (السالوس، 2005، 242-243)
يرى الرازي أن ربا النسيئة هو ما عرف قبل الإسلام إذ كان المال يدفع للمدين و يقبض بدل منه دفعات شهرية بينما يبقى رأس المال ثابتاً ، و عندما يستحق الأجل يسأل الدائن مدينه السداد لرأس المال فإن عجز عنه يؤجل الموعد مقابل أن يزيد في رأس المال ، هذا هو الربا المحرم.(10)
هنا من الواضح أن ما قصد بالربا ليس أجرة بدل الاستخدام الذي تقاضاها الدائن شهرياً (لازلنا تحت سقف فهم السلف) والتي كانت محل اتفاق الدائن و المدين عند توقيع القرض إنما هي الزيادة التي يفرضها الدائن على المدين عند عجزه عن الوفاء بدينه وقت سداد رأس المال فيفرض الدائن عليه مقابل التأجيل أن يزيد على رأس المال الأصلي هذه الزيادة التي تفرض لعجز المدين عن الوفاء بأصل الدين هي مدلول ربا النسيئة.
انتقل بهذا التقديم الموجز إلى مذاهب المسلمين في تحريم الربا و اباحته.

أولا: الرأي القائل بحرمة الفوائد البنكية على أنها ربا.

هذا الرأي هو الأشهر بين المسلمين ، و الذي عليه استندت البنوك الإسلامية و جميع المؤسسات التي ترى ربوية النشاط الاقتصادي المعاصر.

يعتمد القائلون بهذا الرأي ابتداء على الآيات التي سبق و اشرنا إليها من سورة البقرة 275-280 و كذلك الأحاديث النبوية التي سبق و ذكرناها، و فقيه البنوك الاسلامية القطري الأشهر د.علي أحمد السالوس لا يكتفي بذلك بل يذهب أبعد و يقول :"لا يستطيع المسلم أن يقول الربا حلال فهذا كفر صريح"(12)
لماذا يقول السالوس ذلك لأنه يعود مرة أخرى ليشير إلى من أباح فوائد البنوك قائلاً :"جعلوا التحريم مقصوراً على صورة واحدة لا نكاد نجد لها وجوداً في أي عصر أو مصر، وهي أن يقرض المسلم أخاه قرضاً حسناً ، فإذا حل الموعد وعجز عن الأداء استغل حاجته و قال له: إما أن تقضي و إما أن تربي "
و أقول بعيداً عن إقحامه لمصطلح قرضاً حسناً حيث لا لزوم له: أوليس هذا تماماً هو القراض الذي كان في الجاهلية؟
أولم تنصص كتب المتقدمين جميعاً في تفسير الآيات المتعلقة بالربا على هذا النوع ؟ عجبت إذن أن يقال لا نكاد نجد لها وجوداً في أي عصر أو مصر ، أولم يقل السلوس نفسه نقلاً عن سالفيه " و كانت القاعدة الجاهلية المشهورة إما أن تقضي وإما أن تربي" ؟ سنعود لاحقا لهذا التناقض العجيب.

يتنبه السالوس إلى أن ما جاء في تفسير الطبري و الرازي للآيات إنما يقتصر على ربا النسيئة ما قبل الاسلام : إما أن تدفع وإما أن تربي ، لذا يستعين بتفسير الجصاص الذي يذهب للقول : "معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله الله تعالى و حرمه" (13)

انظر - يرحمك الله- في تفسيرها ما نقله القرطبي أيضاً عن مجاهد :" كانوا يبيعون البيع لأجل فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا ، فأنزل الله تعالى في هذا الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}"
و العجيب أن السالوس نفسه يتنبه إلى مفارقة مذهب الجصاص لما نقله و ذهب إليه بقية المفسرة فقال في هذا التناقض :"يبدو لي – والله سبحانه أعلم – أن السبب هو أن العقد بدأ بيعاً آجلاً فليس فيه ربا و إنما طرأ الربا على عقد البيع عند حلول الأجل فلم يكن الاتفاق و التراضي على الربا من بداية العقد و إنما الأصل أن يبدأ العقد بتسليم المبيع و ينتهي بتسليم الثمن في موعده دون ربا أما الزيادة المشروطة في القروض فالاتفاق عليها من بداية التعاقد"(14)
أريد أن تنتبه معي عزيزي القارئ إلى أن السالوس وهو فقيه البنوك الإسلامية المعاصرة لا يهدف في هذا المقطع إلى إزالة التناقض بين ما نقله القرطبي عن مجاهد و ما قاله جمهرة المفسرة من جهة و بين قول الجصاص من الجهة الأخرى فقط و إنما و ذلك الأهم أنه يريد أن يميز عنه البيع الآجل بزيادة على سعر السوق الذي هو أحد النشاطات الرئيسة للبنوك الإسلامية التي يشرع لها السالوس!

بينما ذهب القرطبي و الرازي و الطبري إلى أن الربا كان في الجاهلية وفق قاعدة إما أن تقضي و إما أن تربي فإن فقهاء عصرنا يصرون على أن الربا هو الزيادة ؛ أيُّ زيادة مشروطة ، بغض النظر عن أي اعتبار و هذا توسع في التحريم نفسه المبني على فهم السلف و إلزام للأمة بما لم يلزمها به نص مصحفي صريح كذاك الذي نظم كتابة العقد في سورة البقرة وسبق لنا بيانه ناهيك عن أن هذه القاعدة تجافي المنطق الإسلامي ذاته كما سنبين لاحقا.

يرى السالوس أن الفوائد البنكية المعاصرة إنما يقع فيها ربا النسيئة لا ربا الفضل ، و يصل تدليس النقل مداه عندما ينقل السالوس تفسير الرازي للآيات "ربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً متعارفاً عليه في الجاهلية و ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، و يكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال"(15)
و ينهي هنا اقتباسه المخل لأننا بالرجوع إلى النص الأصلي نجد السالوس قد حذف العبارة الأهم في نهاية هذا النص الذي نقله لأن الفخر الرازي كتب مكملاً في نفس النص "فإذا تعذر عليه الأداء زادوا في الحق و الأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به"
فحسب نقل السالوس عن الفخر الرازي نفهم أن ربا النسيئة هو بدل استخدام رأس المال الذي كان الدائن يتقاضاه من المدين ، لكن بالرجوع إلى النص الأصلي و العبارة كاملة نفهم أن ربا النسيئة كما يرى الفخر الرازي هو الزيادة التي يفرضها الدائن على رأس ماله الذي بقي عند المدين إن عجز عن تسديد هذا المال في نهاية المدة و ليس أبداً بدل الاستخدام الشهري كما ذهب السالوس ، و الفارق بينهما أبلج و من وجهين هما:
1- أن ربا النسيئة عند الرازي في كامل النص المقتبس ينصرف إلى الزيادة على رأس المال التي يفرضها الدائن على المدين عندما يعجز عن الوفاء في موعد السداد لأصل الدين بينما حسب نقل السالوس التدليسي ينصرف إلى بدل استخدام المال الذي كان الدائن يتقاضاه بصفة شهرية كما يقول السالوس في فهمه لما نقله عن الرازي.
2- أن بدل الاستخدام الذي كان يتقاضاه الدائن شهرياً هو من شروط العقد الرضائي بين الطرفين عند وقوع العقد أما الزيادة (ربا النسيئة) التي كان الدائن يفرضها على المدين عند عجزه عن الوفاء بأصل الدين لم تقع بالتراضي و لا نص عليها في شروط العقد الأصلي إنما هي نتيجة لاستغلال الدائن عجز مدينه عن الوفاء.
أقول إذن و أجري على الله مفرطاً - بحكم موقع السالوس و مكانته من البنوك الاسلامية - بكل ما قد أصيبه من فائدة بحكم تخصصي في البنوك الإسلامية بالتحديد إن هذا لعمري هو عين التدليس و الخداع و إهدار الأمانة العلمية.
و يدور السالوس على علة التحريم و يجعلها الزيادة المشروطة لا الظلم!
رغم أن السالوس نفسه يقول "أي زيادة على رأس المال يحرمها قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} وهذا خاص بالمدين الموسر أما المعسر فيبين حكمه قوله تعالى :{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}"(16)

فهل العلة منع الظلم كما أفصحت الآية صراحة أم كما يريد السالوس الزيادة المشروط؟

ثم السؤال الآخر الهام والأساسي هل هذه زيادة فعلاً ؟
ذلك سؤال سنجيب عليه لاحقا.
ملخص المآخذ على الرأي القائل بالتحريم:
أولا : إن ما حدد من أشكال المال لا ينطبق مطلقا على النقود الائتمانية التي نتعامل بها لأنها ليست سلعاً بذاتها كما أنها مخزن لقيمة غير ثابتة .

ثانياً : لا ينطبق شرط اتفاق البدلان في الجنس و العلة على النقود الائتمانية إذا جرى عليها زمن ، و هذا ما أكدته الحقيقة العلمية الثابتة من اختلاف قيمة النقود بمرور الزمن عبر نظرية القيمة الوقتية للنقود التي سنتعرض لها لاحقاً.
ثالثاً : أغفل جانب هام من الآية التي تنص كما يرون على التحريم القاطع و هو علته أن لا يظلموا ولا يظلموا وقضاء الدين وفق معطيات نظرية القيمة الوقتية للنقود بنفس القيمة العددية معناه إلحاق الضرر المؤكد بالمقرض حتماً و هو ما لا يتفق والعلة علة التحريم التي حددوها .
أخيراً المحرمات محددة محصورة في المصحف مقرونة بلفظ و لا يجوز التجوز فيها مطلقاً فذلك تجاوز على حقوق الله الذي لا يجوز لغيره التحريم.

نتيجة مرحلية : أجمعت النصوص الأصولية التي وردت عن متقدمي المفسرة على أن الربا الذي عنته الآيات إنما هو الزيادة التي يطلبها الدائن على رأس ماله عند السداد و عجز المدين عن الوفاء و ليست لما اشترط من بدل استخدام المال حين العقد.

ثانياً : أراء الأعلام مِن مَن تقدمنا في إباحة الفوائد البنكية:

عام 1952 أفتى شيخ الأزهر الشيخ أحمد شلتوت بإباحة الفوائد على حسابات صندوق توفير البريد بحجة أنه ليس في النصوص الإسلامية ما يحرم ذلك.

في الحادي عشر من سبتمبر-أيلول 1989 أصدر فضيلة شيخ الأزهر الإمام الأكبر د.محمد الطنطاوي فتواه الشهيرة التي نشرت في كل الصحف المصرية وأثارت ضجة كبيرة بأن البنوك المتخصصة كالبنوك الصناعية و الزراعية و العقارية و ما شابهها و التي تقدم لأصحاب المشروعات المتنوعة النافعة ما هم بحاجة له من أموال لتنمية مشروعاتهم و تتقاضى بالمقابل دفعات مناسبة مقدرة من قبل الخبراء العدول على أنها أجور أو مصاريف إدارية ، جائز شرعا ولا بأس به، لأنه أيضا في مقابل خدمات معينة تقدمها تلك البنوك للمتعاملين معها ، فهذه نماذج من المعاملات و الأرباح التي اتفق المحققون على أنها حلال و جائزة شرعاً.
و أضاف أن تحديد الفائدة أو الربح مسبقا على الاستثمار جائز شرعا ولا بأس به على أساس أن البنك وكيل المودعين.
و قد وافق مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة على فتوى فضيلته بالأغلبية.

بينما اتهم السالوس فضيلة الإمام الأكبر بمنافاة الأمانة العلمية و ذكره بقوله تعالى {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} ، قلت أن رأي فضيلته يتلخص بالتالي:
أولا : فوائد الأنشطة البنكية ليست من الربا.
ثانيا: نشاطات البنوك هي نشاطات استثمارية.
ثالثا: البنك وكيل المودعين في أموالهم.
رابعا: قيم فضيلته عوائد البنوك كأجور خدمات.
و هذا الرأي يثير جملة من الإشكاليات نجملها بما يلي:

أولاً : البنك ليس وكيلاً للمودعين ، فالمودع دائن و البنك مدين و حقوق المودعين تظهر في كشوف البنك بصفتها ودائع تحت الطلب ، و لا علاقة للمودع بنشاط البنك و فيما يوظف أمواله بينما لو كان البنك وكيل المودع في ماله لسقطت تبعة توظيف المال عليه لكن الوديعة البنكية دين على البنك مربوط بفائدة و الودائع هذه التي هي ديون مطلوبة السداد من البنك في أي وقت تمثل ما بين 70-80% من أصول البنك ، فالأمام الأكبر هنا جعل البنك وكيلاً للمودعين و الحق انه مدين لهم و ليس وكيلهم في مالهم لأنه لو كان وكيلهم في مالهم فحسب القانون تقع عليهم تبعات عمله بأموالهم و هذا غير صحيح قانوناً ذلك أن البنك مدين لمودعيه بما أودعوه لديه و أياً كان نتاج عمله بمالهم فهو من يتحمل تبعات ذلك و لا يحق له تحميلها لمودعيه كما لا يحق لمودعيه إلا ما اتفق عليه من نسبة الفائدة و أصل المبلغ ؛ ربح البنك أو خسر فلمودعيه تماماً أصل المبلغ الذي أودعوه لديه مضاف له نسبة الفائدة المتفق عليها إذن القول أن البنك هو وكيل لمودعيه و عليه فلهم حق بعائد على هذا المال منافي للقواعد العلمية المالية و المصرفية و القانون ، و بالتالي فهو عار تماماً عن الصحة .

ثانيا: الوكالة تعطي للموكل إليه حق التصرف بموضوع الوكالة و نتيجة التصرف تعود على الموكل به و هو المال هنا بالربح أو الخسارة وفق النسب المشروطة ، وهذا ليس صحيح في حالة البنك و العميل المودع.
الودائع البنكية ليست إلا الودائع البنكية وهي وفوائدها مطلوبات واجبة السداد على البنك بغض النظر كيف استغلها البنك و ماذا حققت من أرباح أو خسائر، و الواقع أن البنك كشخصية اعتبارية هو وكيل مالكي أسهمه لا وكيل مودعيه.

ثالثاً : عوائد البنوك ليست فقط بدل خدمات بل هي عوائد على تحمل البنك لعدة أنواع من المخاطرة منها مثلاً لا حصراً : مخاطرة إفلاس العميل و مخاطرة التضخم و مخاطرة السيولة و مخاطرة السوق و مخاطرة الربحية .....الخ
مما تقدم نقول أن رأي فضيلة الأمام الأكبر على وجاهته إلا انه لا يتفق و قواعد العمل المصرفي من الناحية العلمية و القانونية.

من الآراء الهامة أيضاً في هذا السياق رأي الدكتور جمال الدين محمود ، الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية و الذي نشر بحثاً في جريدة الأهرام القاهرية تحت عنوان مفهوم الربا والاقتصاد الحديث تناول فيه المسألة معتبراً أن علة تحريم الربا هي منع استغلال الدائن للمدين ، و قائلاً إن ذلك يسقط بسقوط العلة الموجبة للتحريم، و هي تسقط في حالة البنوك ، فالبنوك اليوم تحت رقابة الدولة و كلاً من المودع و المقترض لا يتخيل أصلاً أن يستغل أحدهما الآخر فلا المودع يستغل ظرف البنك و لا البنك يستغل ظرف المقترض منه.

على وجاهة رأي فضيلته ، فنحن لا نتفق معه في أن العلة هي ما ذكر ، لأن أشكالاً من الاستثمار الذي لا علاقة له بحاجة أو استغلال وفق المفهوم الذي طرحه قد عرفت من ذي قبل في الجاهلية و مثل ذلك أن العباس بن عبد المطلب كان يقرض التجار و يربي عليهم ، لذلك فإن النموذج التطبيقي التاريخي الذي جرى عليه المنع لم يكن فقط نموذج قرض ينمو بالاستغلال للحاجة و الفقر و يكون سبيلاً للاسترقاق الذي حرم بالدين أصلاً بنصوص واضحة ، و عجبت لإغفال العلة التي نص عليها في نفس الآية الكريمة و هي منع الظلم بأن يحصل الدائن على رأس ماله.
إلى هذا فقد اتفق وزير الأوقاف المصري الأسبق الدكتور عبد المنعم النمر عام 1989 مع هذه الرؤية المتقدمة كذلك و قال بأن الربا لا يشمل الأنشطة البنكية .

أقول: القول بأن علة التحريم هي: تثبيت الفوائد على المقترض لاستغلاله ، استدلال باطل أو على الأقل يعتريه نقص وعدم دقة لما سبق و أشرنا أنه كان يقع في عروض التجارة التي تنتفي فيها علة الاستغلال للحاجة و الفقر كسبيل لظلم أو استرقاق ، إنما القاعدة التي تشمل ذلك هي اشتراط النص القرآني للعدل ، و العدل ما ربط بقوله لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، إذن العلة أن ينتفي الظلم عن الدائن و المدين معاً ، و هذا ما سنحول أن نعالجه ، أي كيف ينتفي الظلم في تحديد مبلغ السداد وتتحقق القاعدة لا تظلمون ولا تظلمون؟
أحب أن أنوه أخيرا إلا أن اتجاه التحريم إنما شاع و فشي لدى المدرسة الوهابية و بخاصة إبان الاجتماع الأول لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة عام 1973 بعد الفورة النفطية و كان موضوعه الفوائد البنكية الثابتة و اسلمة النظام المالي ، وبعد هذا الاجتماع و خلال أقل من عقد انطلق أكثر من عشرين بنك إسلامي، يحرص الفقهاء المستفيدين بحكم وصايتهم عليها و التي نص عليها قانون توظيف الأموال للشركات الإسلامية و البنوك الإسلامية على ترويج رؤية التحريم و التشديد عليها، و بعض هؤلاء كان من مستشاري شركات توظيف الأموال في مصر التي نهبت أموال الناس وفرت بها و هم لا زالوا يتتلفزون و يعظون على المحطات الفضائية و يعتبرون مراجعا فقهية فيما ينبغي أن يقبعوا في خلف القضبان لأن الناس إنما أودعت أموالها لدى تلك الشركات ثقة بهؤلاء ، أو على نحو أدق ثقة بالعباءة الدينية التي يتلفحون بها.
مقاربة للإشكالية وفق قراءة الدكتور محمد شحرور المعاصرة
لماذا لم اربط بين هذه القراءة و النماذج التي سبقتها من آراء معاصرة؟
في الواقع إن النماذج التي سبقتها لم تخرج عن إطار المنهج التقليدي في مقاربة و فهم التنزيل الحكيم ، بمعنى أنها ظلت أسيرة القراءات الماضوية إن جاز لي التعبير ، و لعل في ما قاله اينشتاين أكبر معبر أمين عن ما اعنيه هنا و هو قوله :""إنه لمن الحماقة أن تعتقد أنك ستحصل على نتائج جديدة وأنت تكرر الشيء نفسه "
اثنان من الباحثين المعاصرين قاربوا المصحف بمحاولات معاصرة للفهم ، أقول معاصرة هنا و اعني تماماً بمنهاج معرفي معاصر أي بالأدوات المعرفية المتاحة للإنسان المعاصر و ليس عبر منهاج السلف ، هما الأستاذ الدكتور نصر حامد أبو زيد و الأستاذ الدكتور محمد شحرور ، استفاد الأول من نظرية نقد النص المعاصرة التأويلية أو الهرمنيوطيقيا في فهم النص و الثاني من ما اسماه الدكتور جعفر دك الباب بالمنهج التاريخي العلمي في الدراسات اللغوية الذي استنبطه بدوره من مدرسة أبي علي الفارسي رغم أن قراءتي لعمل الدكتور شحرور تفيد أيضا بأنه حاول أيضاً الاستفادة من منهج الجدل المادي و يتضح هذا جلياً بتصوري في مختلف مراحل قراءته و خاصة في تصوره لنظرية المعرفة القرآنية على وجه التحديد.
و الفارق الهام بين الدكتور نصر حامد أبو زيد و الدكتور محمد شحرور هو أن الأول للأسف البالغ لم يفعل منهجه القرائي حتى لحظة كتابة هذا البحث و اكتفى بالتنظير له (*) بينما كان عمل الدكتور شحرور مقروناً بقراءة تطبيقية لمنهجه في عمله الموسوعي الهام الكتاب و القرآن (17) ، و ما يعنينا في سياق بحثنا هذا هو تماماً قراءته و فهمه للربا في المصحف.
تظهر قراءة الدكتور شحرور على نحو دقيق في إطار نظريته في الحدود و تحديداً الحالة التي وضعها على النحو التالي : الحد الأعلى موجب مغلق لا يجوز تجاوزه، والحد الأدنى سالب يجوز تجاوزه (467-471) ، و رغم أن في اختصار فهم نظام مصرفي إسلامي على موضوعة الربا و الزكاة شيء من الإغفال المخل إلا أن النظرية هنا عند شحرور تبدو متماسكة في فهم الربا يقول :
" النظام المصرفي الإسلامي هو ما يلي :
1- لا يعطى مستحقو الزكاة و الصدقات قروضاً بل هبات دون مقابل.
2- يمكن في حالات معينة إعطاء قرض دون فائدة و هي معاملة الحد الأعلى لأصحاب الصدقات.
3- لا يوجد في النظام المصرفي الإسلامي قرض مفتوح الأجل قد تبلغ الفوائد فيه أكثر من ضعف المبلغ ، لذا فإن أجل القرض في المصارف الإسلامية كحد أعلى هو حتى تبلغ الفائدة ضعف المبلغ ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون المبلغ مسدداً ، و في الحالات التي تبلغ فيها الفائدة أكثر من ضعف المبلغ الأصلي فيحق للمدين الامتناع عن دفع ما زاد عن الضعف.
هذه هي أسس النظام المصرفي الإسلامي"(470)
ملاحظات حول الرؤية الشحرورية :
أولاً : رغم اتفاقنا مع رؤيته في جانب الزكاة و الصدقات و القرض الحسن إلا أن هذه ليست من عمل المصارف ، و يفضل أن تأخذ حيز التطبيق في أطر مؤسسات غير ربحية ذات صفة اجتماعية خدمية ذلك أن المصارف هي مؤسسات عمل ربحي و ليس هذا النشاط من ضمن اختصاصها.
ثانياً: أن القراءة الشحرورية و إن كانت تطلق عنان البحث و تخضعه لشروط المعرفة المتاحة فهي تقصر في هذا الجانب عن توظيف النظريات العلمية النقدية ذات العلاقة بهذا الجانب ، و يظهر هذا جليلاً من خلال التسوية بين قيمة النقود مع إغفال العلاقة التلازمية بين هذه القيمة و الوقت ، و هو موضوعنا الرئيس كمدخل لفهم المسألة على نحو أفضل و في ضوء علة منع الربا و هي منع الظلم المترتب عليه أو ناجم عنه .
ثالثاً : يرى الدكتور شحرور أن سقف القرض ينبغي أن لا يتجاوز ضعف المبلغ ، لكن في هذا السياق و وفق ما سنذهب إليه حول القيمة الوقتية للنقود هل سنتمسك بضعف المبلغ أم ضعف القيمة؟ ثم ماذا عن جدولة القروض أو إطفاء قرض بقرض؟ أو وسيلة بيع القروض ؟
إذا كانت القراءة الشحرورية قد قدمت فتحاً معرفياً مهماً عندما قررت أن توظف المنهج العلمي و المعرفي المعاصر في فهم المصحف فإن المطلوب هنا انفتاحها بشكل علمي على مختلف الجوانب و منها الاقتصادية آخذة بعين الاعتبار العميق نظريات العلم المعاصرة في هذا الفهم الجديد الذي يحاول أن يطرح نفسه كبديل متكامل ، المسألة هنا تحتاج إلى أكثر من جهود الدكتور محمد شحرور و الدكتور أبو زيد أنها تحتاج إلى إعمال هذا المنهج العلمي في دراسات تفصيلية يقوم بها أهل الاختصاص عمادها تلك الرؤية المعرفية الجديدة في تناول المصحف القائلة بأن الثبات للخطاب الإلهي من حيث الشكل و الدوران للمحتوى بحكم تغيير السقف المعرفي للمتلقي أو ما نجده بهذا المعنى سواء في طرح شحرور أو أبو زيد.
و بعد
نتساءل كيف يمكن أن نعرف الحد الصفري كما يصفه الدكتور شحرور المتمثل بالوقوف عند القرض الحسن و هو وفق تصوره الذي يرد فيه المبلغ رقمياً كما هو أي على سبيل المثال أن أقرض زيد عمراً ألف دولار لعامين فإن هذا القرض يكون حسناً (عند الحد الصفري) عندما يرد عمرو لزيد ألف دولار بعد عامين ، و هنا نسأل وفق نظريات العلم المالي و الاقتصادي هل الألف دولار التي أخذها عمرو من زيد لها نفس قيمة الألف دولار التي ردها له بعد عامين؟!
من هنا سيكون مدخلنا إلى قراءة المفهوم في ظل نظريات العلم الحديث ذات العلاقة بالمسألة.
مقاربة للفهم في ضوء علة التحريم القرآنية و نظرية القيمة الوقتية للنقود:

في زمن المسلمين الأوائل لم يكن التضخم من الأمور المعروفة اقتصاديا ، لم من المفاهيم التي ألفها الاقتصاد السلعي الذي كان زمن المسلمين الأوائل، كانت نقودهم سلعية كما حال أهل ذلك الزمن و سلعية هنا بمعنى أنها كانت نقود وفي ذات الوقت سلعة كالدينار الذهبي و الدرهم الفضي ، و هذه الدنانير و الدراهم كانت تضرب وفق نسب من المعدن يحتويها كل منها، كما تحدد الدولة، لم يكن الاقتصاد ليعرف التقلبات الاقتصادية التي نسميها اليوم بالدورات الاقتصادية التي تجعل الأسواق تمر بحالات من الركود و التضخم في سعيها للنمو ، إننا اليوم نعيش اقتصاداً عالمياً التوازن فيه حالة فرضية نقدرها لكنها ليست واقعاً بحال من الأحوال.
النظام النقدي السلعي كان يفرض و إلى درجة عالية نوع من الثبات في قيمة العملة مستمد أساساً من قيمة المعدن الداخل في ضربها كسلعة تطلب لذاتها ، في هذه البيئة كانت النقود تحتفظ بقوتها الشرائية لوقت طويل.
لكن ما هي القوة الشرائية لعملة ما ؟
إنها مقدار ما تشتري من سلع و خدمات ، فعندما أقول أن الجنيه و لمدة سنة حافظ على قوته الشرائية فمعنى هذا أن الجنيه كان في بداية هذه السنة يشتري نفس الكمية أو المقدار من السلع و الخدمات من الأسواق ، و عندما أقول أن التضخم نهاية العام بلغ 10% فهذا معناه أن الجنيه فقد 10% من قوته الشرائية أي في المعدل القياسي لسلة السلع و الخدمات نحتاج اليوم 110 جنيه لنشتري ما كنا نشتريه العام الماضي ب 100 جنيه.

في العصور الوسطى كانت عناية الدولة تنصرف إلى صك عملتها ، فدقة مقدار ما في عملة الدولة من ذهب أو فضة هو ضمان حفظ قيمتها ، هناك فارق أساسي هام بين النقود السلعية تلك و نقود هذه الأيام و هو أن نقود هذه الأيام ليست سلعا بذاتها ، فورقة النقد اليوم هي صك ائتماني بمعنى أنها تعهد بدين مسحوب على ذمة البنك المركزي بالوفاء بما في هذا الصك من قيمة ، و أول احتكام للنقد اللا سلعي كان على يد الصيارفة و كان الصراف يمنح المودع صكا يلتزم له بموجبه بأن يعطي حامل هذا الصك النقود التي ينص عليها ، و ما حصل أن الناس بدلا من أن تحتفظ بالنقود أصبحت تفضل أن تحفظها لدى الصراف الذي يتمتع بمصداقية عالية و شهرة بالالتزام و تحمل صكوكا بما لها في عهدة هذا الصراف ، و بدأ الناس تداول هذه الصكوك بدلا من التداول بالنقود ، تلك كانت الصيغة الأولى للنقود الائتمانية التي نعرفها اليوم، ثم بدأت الحكومات تمارس هذه العملية عبر بنكها بنك الدولة أو البنك المركزي ، و صارت الحكومات تدفع للناس صكوكا مسحوبة على البنك المركزي يتعهد بموجبها بالوفاء بما نصت عليه الورقة النقدية (الصك) من وزن ذهبي أو فضي ، بالمقابل يحتفظ البنك المركزي بكميات من المعادن الذهبية و الفضية تساوي ما نصت عليه الصكوك التي أصدرها .
عرف العالم الحديث نظام برتن وودز الذي نظم العملية بين الدول بحيث تحدد كل دولة مقدار ما تحمله عملتها من تعهد بوفاء القيمة ذهباً ، و في نهاية الأعوام المالية تجري الدول عملية مقاصة ما بينها بحيث تتبادل النقد المسحوب على غيرها مع المسحوب عليها و تدفع أو تحصل الفرق ذهباً حسب ميزان مدفوعاتها.

قبل أن ألج إلى انهيار نظام برتن ودز لا بد أن نذكر بما أصاب الاقتصاد كعلم تطبيقي من تغير رئيس لا يدركه معظم مثقفينا ، و الذي لم يبقى بعده شيء اسمه نظام رأسمالي بالمفاهيم الرأسمالية الكلاسيكية التي وضع أسسها عالم الاقتصاد آدم سميث في كتابه الأشهر ثروة الأمم ، إبان الكساد العظيم (The Great depression) الذي ضرب العالم في الفترة (1926 - 1934) عجزت آلية السوق الحر عن ضمان مستوى التشغيل الكامل و تجاوز مشكلة البطالة و التوظيف غير الكامل (The optimum employment) كما قرر النظام الرأسمالي في حجر زاويته نظرية التوازن السوقي (Market Equilibrium) ، و نظرية التوازن السوقي هذه كما ترى الرأسمالية الكلاسيكية تفترض أن قوى العرض و الطلب السوقية ستعدل من نفسها بالكيفية التي تجعلها تعوض و تعالج الخلل الذي حدث في الأسواق و العودة بالاقتصاد إلى حالة التوازن عند مستوى التشغيل الكامل ، لكن ما حصل في أزمة الكساد العظيم أن التوازن بين العرض و الطلب حدث عند مستوى دون مستوى التشغيل الكامل و لم يعدل السوق من نفسه بل دخل الاقتصاد حالة من الكساد الانكماشي اللولبي أي أن الكساد تزايد و التوازن واصل حدوثه عند مستويات تشغيل أقل و أقل و أقل، من الطريف ذكره أن بعض المحللين الماركسيين قالوا هذه هي أزمة النظام الرأسمالي التي تكلم عنها ماركس والتي ستنتهي بانهيار النظام ، و من المهم أن نذكر هنا أن أزمة الكساد العظيم كانت فعلاً أزمة عظمى لم تنتهي إلا بانتهاء النظام الرأسمالي نفسه بصورته الكلاسيكية و تحوله الجدلي نحو شكل جديد أصبح ما يعرف اليوم بالنظام المختلط ، لكن انهياره لم يأتي بالدراماتيكية التي شهدها و يشهدها أي نظام عقائدي شمولي بل بالتحول الجدلي الذي توفره مرونة النظام الليبرالي بشكل عام، و هكذا انهارت مسلمة عدم تدخل الدولة التي كانت تتمسك بها الرأسمالية الكلاسيكية بل و أصبحت الدولة اليوم اللاعب الرئيس في الاقتصاد.
ظهر على العالم المتعطش لأي حل آن ذاك عالم الاقتصاد الكبير جون مانرد كنز (John Maynard Keynes) بكتابه الموسوعي النظرية العامة في التشغيل و الفائدة و النقود
(the General Theory of Employment, Interest and Money) و قد نبه إلى أن الفرض الكلاسيكي القائل بأن التوازن هو الحالة العامة و أن التضخم و الكساد حالات طارئة على الاقتصاد فرض خاطئ فالتوازن عند مستوى التشغيل الكامل محض خرافة، و التوازن يحتاج أن تتدخل الدولة بوسائلها المالية كالإنفاق المباشر أو بوسائلها النقدية كسعر الفائدة لمعالجة تقلبات السوق (18).

يضاف إلى ذلك الانهيار الكامل لنظام برتن وودز الذي تمظهر نهائيا في المعركة بين شارل ديغول و كندي على مسألة الغطاء الذهبي للعملة عندما رفضت الولايات المتحدة أن تلتزم به معتبرة أن قيمة العملة إنما هي مستمدة من الطلب عليها و ليس من غطائها الذهبي ، و اثبت الاقتصاديون أن المسألة ليست مسألة غطاء ذهبي ، و أن قيمة العملة مستمدة فعلاً من توازن عرض النقد والطلب عليه، وأن سعر الفائدة بالذات أحد عناصر الضبط الأساسية لعرض النقد و الطلب عليه و أصبح سعر الفائدة يمثل مفتاح النظام النقدي كله خاصة في ظل تنامي عرض النقد الائتماني الذي تخلقه البنوك مثل بطاقات الائتمان و الشيكات.....الخ
العملات اليوم إذاً ليست سلعاً ولا مغطاة بسلع ، بل أن أي غطاء سلعي هو الآخر ليس له قيم ثابتة فالذهب مثلاً انهارت أسعاره بعد أن تخلت الكتلة الشرقية عن معظم احتياطيات بنوكها المركزية من الذهب و صار الذهب سلعة تخضع لتقلبات سعرية كسائر السلع نتيجة ظروف عرضه و طلبه ، و حتى لو كانت قاعدة الذهب العالمية تضمن تساوي أسعار الصرف بين مختلف العملات فإنها لا تضمن عدم حدوث التضخم و عدم تغير القدرة الشرائية للعملة.

من الأهمية أن نعي هذه التحولات لنقف على حقيقة و مفهوم العملات بالمقارنة مع النقد السلعي الذي كان معمولاً به في زمن المسلمين الأوائل في فهم و تحليل معنى و مفهوم الربا.

التساؤل المنطقي في نظرية القيمة الوقتية للنقود (Time value of money theory) هو كيف نقيم العملة مع تقدير بعد الزمن؟
يقول عالم الاقتصاد المعاصر جلين جينكنز :"الوقت يزيد قيمة الألف دولار اليوم و يهتلك قيمة الألف دولار المستلمة بعد عام من الآن، لأن الأفراد يقدرون الوقت كتكلفة" (19)

لو أردنا استبعاد جميع العوامل المؤثرة في قيمة العملة عدا التضخم ، فماذا ستكون قيمة ألف جنيه بعد عام من الآن ؟ لو كان معدل التضخم السعري 10% ؟ ستكون تعادل 909.1 جنيه و بنفس معدل التضخم بعد عشرة أعوام ستكون قيمتها 69.34 جنيه أي أن ما ستشتريه الألف جنيه بعد عشرة سنوات يعادل ما تشتريه 69.34 جنيه اليوم إذا كان معدل التضخم السنوي 10%!

كما سبق أن ذكرنا سبب التحريم للربا و الذي نصت عليه الآية لا تظلمون ولا تظلمون أي أن الهدف من منع أخذ الربا كان هو تماماً منع الظلم وقوعاً على الدائن أو المدين ، و الالتزام بقاعدة تساوي مقدار السداد بمقدار الدين اتخذ مدخلاً لتحقيق ذلك.

إذا لم يكن هناك تضخم يبدو ذلك منطقي و هو القريب في حالة الاقتصاد السلعي على أفرض أيضاً أننا سنتجاهل بقية أشكال الكلفة التي يتحملها المصرف في عمله الإقراضي ، رغم أننا بينا أن ما قصدت إليه الآيات إنما هو الإضافة لرأس المال التي يفرضها الدائن على المدين إذا حل الأجل و لم يستطع المدين الوفاء فأجرى عليه الدائن القاعدة الجاهلية إما أن تربي و إما أن تقضي و ليس بدل الاستخدام الذي كان المدين يدفعه أيضاً نقول رغم ذلك ، عموماً في فرض معاصر السؤال الآن و بالاستناد إلى قيمة مبلغ الدين هل من العدل أن أسدد لدائني نفس القيمة الرقمية في ظل المثال السابق؟ بمعنى في ظل اقتصاد شهد نسبة تضخم 10% سنوياً هل من العدل أن أسدد لدائني ألف جنيه اقترضتها منه قبل عشر سنوات؟ هل يحقق ذلك منع الظلم الذي هدف له النص؟
إني إذا فعلت وفق مثلنا الحسابي السابق أرجع إليك فعلياً 6.93% من قيمة المال الذي أقرضتني إياه قبل عشر سنوات ، في ظل نفس المثال و حتى أعيد إليك مبلغاً يشتري تماماً ما كانت تشتريه الألف جنيه منذ عشر أعوام (أي أعيد إليك قيمة ما أخذته منك)علي أن أعطيك 14421 جنيها بالتمام و الكمال لأن ما يشتريه هذا المبلغ اليوم يعادل تماماً ما كانت تشتريه الألف جنيه قبل عشرة أعوام إذا كان معدل التضخم 10%.

ثم هل تتحمل البنوك فقط مخاطرة التضخم تقول عالمة الاقتصاد روز:"البنوك هذه الأيام تتحمل عدة أنواع من المخاطرة مثل مخاطرة التضخم و مخاطرة الإفلاس – يقصد إفلاس العميل- و مخاطرة فترة السداد و مخاطرة التسويق و مخاطرة طلب السداد و غيرها" (20)
في هذا السياق نعرض لرؤية تحريمية أخرى طريفة ترى أن البنوك حرام لأنها تعمل وفق مبدأ الربح المضمون و لا تتحمل مخاطر ، في الواقع هذا كلام عار عن الصحة تماما ، فأعمال البنوك ليست كلها رابحة و البنوك بشكل عام عرضة للإفلاس و تتحمل عدة مخاطر كما بينت روز آنفاً ، و هناك العديد من الأمثلة التي تعرضت فيها بنوك للإفلاس مثل بنك الترا و قضيته المشهورة ، كما أنه ليس صحيحاً أن ربحية البنك تأتي فقط من الفرق بين سعر الفائدة المدينة و الدائنة لأن نشاط البنك يخضع لعمل مضاعف الائتمان الذي يمنح البنك قدرة على خلق قروض أكثر مما لديه من ودائع و لذا قد يصل أداء البنك لمستوى يكون فيه سعر الفائدة الذي يدفعه أكبر من الذي يحصله و مع ذلك يحقق ربحاً كما هو الحال في اليابان.

خلاصة:
أولاً: إن أورده المفسرة يتلخص في أن الربا الذي جاء نص بتحريمه هو المبلغ الذي يضيفه الدائن إلى رأس المال لعجز المدين عن السداد عند انقضاء الأجل وفق القاعدة الجاهلية المشهورة إما أن تقضي وإما أن تربي ، و منعه يوافق العقل من بابين الأول أن هذه الزيادة لم ينص عليها ابتداء في عقد الدين و لم يتم التراضي عليها وقت كان المدين لازال حرا في القبول أو الرفض ، و الثاني أنها حسب فهمهم تحاول منع ظلم الدائن و المدين بعضهما لبعض بأن يرجع المدين للدائن قيمة ما اقترضه فعلا منه زمن كان النقد نقداً سلعياً في اقتصاد غير تضخمي.

ثانياً: أن علة النهي هي ما نصت عليه الآيات الكريمة و هي لا تظلمون و لا تظلمون ، أي منع الظلم و منع الظلم يقتضي الاحتكام إلى قيمة مبلغ الدين عند الوفاء إن كنا نتكلم عن الديون.

ثالثاً: إذا احتكمنا إلى نظرية القيمة الوقتية للنقود لضمان العدالة في تقدير مبلغ السداد في الديون على أساس قدرته الشرائية لضمان سداد القيمة فإن مبلغ السداد يجب أن يزيد سنوياً بنفس نسبة التضخم الاقتصادي، حتى نحتفظ بقيمة المبلغ الحقيقية و هي القيمة الشرائية لا الاسمية.

رابعاً: البنوك التجارية ليست مؤسسات رابحة دائماً و هي عرضة لعدة مخاطر اقتصادية و دورها حيوي جداً بالنسبة للاقتصاد لأنها تمنع كنز المال و عزله عن الدورة الاقتصادية الذي حرمه الشرع الإسلامي بإعادة هذا المال إلى العمل و تدفع و تسرع عجلة السوق ، فالبنوك أداة مثالية إن أحسنت إدارتها و انتظم عملها المصرفي بعامة نظام اقتصادي يحقق مصالح البلاد بالنمو المستدام و تمويل التنمية.
خامساً : نحن بحاجة إلى تفعيل أوسع للقراءة المعاصرة للمصحف التي شرعها الدكتور محمد شحرور و الدكتور نصر أبو زيد من خلال أدواتنا المعرفية المعاصرة ، عبر جهد مؤسسي شامل أتصوره هنا تماما كما تصوره رواد عصر الأنوار عندما طفقوا يكتبون الانسيكلوبيديا.

الهوامش

(1) الطبري ، محمد ابن جرير، (1994)، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت: موسوعة الرسالة الطبعة الأولى، تفسير الآيات المذكورة.
(2) السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2004) ، فقه البيع والاستيثاق والتطبيق المعاصر، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية مكتبة دار القرآن ص 274.
(3) الطبري ، محمد ابن جرير، (1994)، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت: موسوعة الرسالة الطبعة الأولى، تفسير الآيات المذكورة.
(4) الطبري ، محمد ابن جرير، (1994)، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت: موسوعة الرسالة الطبعة الأولى، تفسير الآيات المذكورة.
(5)ابن منظور، 2000، لسان العرب ، بيروت : دار صادر، الطبعة الثالثة، مادة ر.ب.ى تحت حرف الياء
(6) (Islamic-finance.com, (2003))
(7)(البخاري،1991 كتاب البيوع باب بيع الفضة بالفضة) (مسلم: كتاب المساقاة باب الربا) (الترمذي باب ما جاء في الصرف)(النسائي : كتاب البيوع : باب بيع الذهب بالذهب) (أحمد المسند 3-904)
(8) (مسلم، المساقاة ) (أبو دود كتاب البيوع باب في الصرف) (النسائي كتاب البيوع: باب بيع الشعير بالشعير) (ابن ماجه كتاب التجارة باب الصرف وما لا يجوز متفاضلايدا بيد)
(9) ابن منظور ، 2000 ، لسان العرب ، بيروت : دار صادر، الطبعة الثالثة، مادة ن . س . ئ تحت الياء
(10) السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2005) ، القضايا الفقهية المعاصرة والإقتصاد الإسلامي، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية دار الكتب المصرية ص 274.
(11) الرازي ، فخر الدين ، 1998 ، التفسير الكبير، طهران : دار الكتب الع 12)السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2005) ، القضايا الفقهية المعاصرة والإقتصاد الإسلامي، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية دار الكتب المصرية ص 204.
13)الجصاص، 1992، احكام القرآن ، 1-467
14) السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2005) ، القضايا الفقهية المعاصرة والإقتصاد الإسلامي، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية دار الكتب المصرية ص 211.
15)السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2005) ، القضايا الفقهية المعاصرة والإقتصاد الإسلامي، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية دار الكتب المصرية ص 254
16)السالوس، الدكتور علي أحمد ،(2005) ، القضايا الفقهية المعاصرة والإقتصاد الإسلامي، مصر، ط1، مجمع فقه الشريعة الاسلامية دار الكتب المصرية ص (253-254)لمية الجزء الاول ص 96
(*) إن عدم تفعيل الدكتور نصر أبو زيد لمنهجه في القراءة كان من أكثر الأمور إحباطا لكاتب هذه السطور ، فقد احتفيت بشكل استثنائي بعمله مفهوم النص إلى جانب الكتاب و القرآن للدكتور شحرور و كأن أملي أن يشكلا معاً فتحاً جديداً يمهد الطريق أمام الدراسات المصحفية المعاصرة لكن للأسف البالغ أن الدكتور أبو زيد سقط فريسة أزمة قضيته التي نجحت على الأقل في إسكاته كما لاحظت و هو أمر مؤلم جداً و معادي لمستقبل الإنسان العربي عامة.
(17) شحرور ، الأستاذ الدكتور محمد ، (1994) ، الكتاب و القرآن قراءة معاصرة ، سوريا ، ط6 ، الأهالي للطباعة و النشر و التوزيع دمشق

(18) Keynes, John Maynard, (2004), THE GENERAL THEORY OF EMPLOYMENT, INTEREST AND MONEY, (London: Macmillan). King, John E. p.3
(19) Jenkins, Glenn, (2004), integrated investment appraisal: Concepts and practice, prepared for department of financial and economic development (DFED), Limpopo provincial government, Republic of South Africa p: 3
(20) Rose, Peter S, (2002). Commercial Bank Management, Boston: McGraw Hill, (5th Ed), p.113


انتهى

بتصرف عن المصدر الاصلي
Comparative analysis between Islamic and conventional banks of Arabic Gulf states, master thesis, by Omar Abu Rassa








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد