الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مابعد الإتفاقية - 2- الخيار الصعب بين إغراء الإستسلام للراحة وفتنة الحرية الإنسانية

صائب خليل

2008 / 12 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


لاتزال طرية في ذاكرتي لقطات رائعة كثيرة من فلم "الفراشة" (1) الذي شاهدته لأول مرة في إحدى سينمات الموصل في السبعينات من قرننا الذي مضى، لكن واحدة منها تبقى متميزة بعمق معناها وفهمها للروح الإنسانية.
فبعد أن يلاقي الصديقان اللذان يمثل دروهما الممثلين القديرين(ستيف ماكوين) و (داستين هوفمان) أشد المآسي والصعوبات التي انهكت جسديهما وعمرهما ونفسيهما، بسبب محاولاتهما الفاشلة في الهرب من سجن ناء في غويانا الفرنسية، ينفيان إلى جزيرة صغيرة في وسط المحيط حيث تترك لهما حرية الزراعة والعيش في كوخ صغير ليقضيا بقية عمرهما. ولأن الجزيرة بعيدة في اعماق المحيط، لم يكن هناك ضرورة لأية حراسة على ما يبدو.

المفاجأة الأولى كانت حين التقى الصديقان القديمان اللذان مرا سويةً بكل تلك الأهوال، نفاجأ بأن (هوفمان) يتهرب من صديقه وينكر معرفته!!
لكننا سرعان ما نفهم ما يدور بخلده. لقد أرتبط وجه صديقه بكل المعاناة التي رآها، وصار يعتبره مسؤولاً عن كل ألآمه. لقد كان (ماكوين) دائماً المبادر إلى الدعوات للهرب، والتي فشلت جميعاً حتى تلك اللحظة ولم تجلب سوى الشقاء في نهاية الأمر، لذا فأن صديقه ينفر منه ويتجنبه خوفاً مما قد يجلب له من مصائب جديدة، وفوق كل ذلك فهو يراه العائق المزعج الذي يحول بينه وبين رغبته الشديدة بالإستسلام بعد كل ما مر به!

بعد قليل يعانق (هوفمان) صاحبه ويقبله صديقاً من جديد، وقد توقع أنه لابد أنه قد رضي مثله بالحياة في الجزيرة وتعب من الهرب.

لكن، وفي صباح يوم ما، يفاجئ ماكوين صديقه بأن لديه "فكرة" جديدة للهرب!!
يهرب هوفمان منه ويلحقه هذا يحاول أن يشرح له منطقية الفكرة وفرص نجاحها. لكن هوفمان كان قد أرهق تماماً، ولم تعد أية أفكار من هذا النوع تثير في نفسه سوى مشاعر وذكريات الأهوال التي رآها فيما مضى، فيهاجم صاحبه غاضباً ويلقي عليه بالأشياء التي تقع تحت يده في حالة هستيرية ولسان حاله يقول: "إبتعد عني، دعني من أفكارك التي تسببت لي بالكثير من الألم، لم يعد بإمكاني أحتمال المزيد من الأهوال".

ورغم أنه كان قد أعد "طوافة" من جوز الهند لكل منهما، يتفهم ماكوين إنهيار إرادة صاحبه، فيطلب منه أن يرافقه لوداعه فقط،.
على حافة الصخرة التي سيقفز منها "ماكوين" بعد قليل في رحلة الحياة أو الموت، يكشف هذا لصديقه سر الفكرة التي ابتكرها من مراقبة الأمواج التي تضرب الصخرة في الأسفل، ويريه مثالاً عليها، فيلقي بكيس مليء بالجوز في البحر ويريه كيف أن الأمواج تحطمه على الصخور، لكنه إن ألقى الكيس في "الموجة السابعة" فأن الكيس سيفلت من هذا المصير بفضل حركة تيارات البحر! وعلى هذا يودع ماكوين صديقه ويقول له أنه عرف الآن السر إن غير رأيه مستقبلاً ويقفز إلى كيس جوز الهند الذي ينتظره في الأسفل، ليعبر به البحر وأخطاره وهو يصرخ شاتماً سجانيه غير عابئ بالنتائج.

خرجت من السينما وكانت الشمس ترسل آخر أشعاعاتها على بيوت الموصل القديمة. مشيت في ذلك المساء من "الدواسة" في مركز المدينة عابراً الجسر القديم ومخترقاً الحقول إلى "المجموعة الثقافية" حيث قسمنا الداخلي في الجامعة دون أن أحس بالوقت أو الطريق، وأنا لا أمل من التفكير بـ (هوفمان) ألذي لم يكن جباناً أبداً، متفهماً وصوله إلى نهاية طاقته بعد كل الأهوال التي مر بها، ومعجباً وفخوراً بـ (ماكوين) الذي بقيت صورته في رأسي طوال الطريق، وهو يترنح بجسمه النحيف ووجهه الأشيب بين أمواج البحر على طوافة الجوز التي صنعها مراهناً بآخر أوراقه، وغير عابئ بالنتائج، تصرخ من خلال حنجرته إرادة الإنسان بأعلى من أصوات أمواج البحر شاتمةً سجانيها "أيها الأوغاد...ما أزال حياً أيها الأوغاد"، وهي تقود الطوف إلى قبلتها وقدرها الذي لاخيار لها فيه: الحرية.


(1) الفلم (Papillon) عن قصة واقعية: http://www.dvdtimes.co.uk/content.php?contentid=5068
ويعرض اليوم (غداً؟) الجمعة 26 ديسمبر الساعة الثامنة والنصف مساءً على قناة (RTL7) الهولندية لمن يلتقطها، ويمكن الحصول عليه بلا شك بسهولة من مخازن بيع الـ (DVD) بالنسبة للجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - افلام رائعه
عزيزجاسب الملا ( 2008 / 12 / 25 - 21:34 )
الاستاذ العزيز صائب /تحيه خالصه
في تلك الفتره عرض فلم الفراشه ولم يتسنى لي مشاهدته فتكلم عنه اخوتي واصدقائي فتشوقت لرؤيته ولم افلح بعدها عثرت علي القصه فقرأتها في يوم واحد..لروعة احداثها المشوقه والالام التي يتعرض لها السجناء بانتهاك صارخ لحقوق الانسان..انها افلام رائعه كنا نراها في تلك الفتره مثل فلم زت والكرنك والعصفور والمنعطف كلها كانت تعطينا معاني ساميه ونبيله ومغذيه لعقولنا
حتى هذه اللحظه فاسلم لدعوتك لمشاهدة الفلم
مع اطيب التحيات


2 - ذات فلم ..ذات حيرة
ابراهيم البهرزي ( 2008 / 12 / 25 - 21:48 )
صائب
في نفس هذا العام رايت هذا الفلم في سينما الخيام
وحين خرجت من السينما دلفنا فورا الى حانة الفارابي التي لاتبعد الابضعة امتار عن دار السينما لازال فكري معلقا بمحبة داستين هوفمان منذ تلك الليلة :
مشهد اهتمامة بزراعة بعض الخضار وعدم اهتمامه بجدية هدف ستيف ماكوين خلقت عندي فكرة مهزلة الامجاد ازاء امتلاء اللحظة الوجودية ..
كان معي حشد من طلبة الجامعة اليسلريين طبعا (اغلبهم يقيم الان قريبا منك في هولندا )كان يردد جملة ستيف ماكوين التي يختتم بها الفلم :
(لا زلت حيا ايها السفلة )
غير ان حبي وحزني لانكسار روح (داستين هوفمان)
لم يزل يرن في اعماقي كقدر عشوائي للحياة الخاسرة )محبتي

لك

كم انت مفعم بذاكرة تخدش الروح

شكرا صائب
لاستثارة ذكرى تكاد تضيع بين الوحدة والوحشة والياس


ابراهيم


3 - شوقتني لحضور الفيلم
محمد الفار ( 2008 / 12 / 26 - 01:05 )
هذا يذكرني بفلم آخر هو شاوشانك ردمبشن shawshank redemtpion والمتأثر برواية الكونت مونت كريستو..

تحياتي لك أستاذ صائب على أسلوبك الرائع وذوقك العالي الذي جعلك تلجأ إلى هذه الرمزية في التعبير عن اللحظة الحالية

كما أثار تفكيري حقاً تعبير الأستاذ ابراهيم عن -هزالة الأمجاد إزاء امتلاء اللحظة الوجودية-،،




4 - رد الكاتب 1
صائب خليل ( 2008 / 12 / 26 - 09:52 )
ضيوفي الأعزاء مرحباً بكم جميعاً..

أخي العزيز عزيز، نعم انها تترك في رأس الإنسان جرثومة تنمو فيه وتدفعه نحو المبادئ التي اقتنع بها تواً من خلال العمل الفني الكبير، حتى إن لم يشعر بذلك. لاشك أن كان لها أثر هام في تربيتنا. تحيتي لك.

حبيبي إبراهيم، يبدو أننا ننتمي إلى جمعية خيالية من مشاهدي الفلم الذي عرض في نفس الوقت في مختلف المدن العراقية، فقد علمت بالفعل حين عدت إلى بغداد أنه قد كان عرض فيها في نفس ذلك الوقت . تحيتي لك ولأعضاء جمعيتنا التي لم يعرف أعضاؤها أنهم ينتمون الى رابطة ما :)
أنا ايضاً احببت هوفمان منذ ذلك الفلم، وانا ايضاً تساءلت: هل تستحق الحياة على الأرض المتحضرة ان يترك المرء جزيرة بعيدة رائعة؟ لكن القضية ليست لها علاقة بالسؤال الأساسي، فكون الجزيرة جميلة والحياة بسيطة مجرد صدفة في القصة. الموضوع أنهم ارادوا حبس مساجينهم بعيداً عن الحياة، فأصر ماكوين على العودة إلى الحياة التي يريدها ولم يقدر هوفمان على ذلك. اتفهم الثاني وأعجب بالأول.

أخي العزيز علي العطواني سلامي لك
كل إنسان يرى موقفه هو الأصعب والاكثر يأساً...لم يكن أمام ذلك الشخص سوى محيط من الأمواج الهائلة وأسماك القرش ولا أدري كيف كان يعرف أنه يبحر بالإتجاه الصحيح ولا كيف كان يدفع بكيس الجو


5 - شكرا لاعارتنا منظارك
علي ديوان ( 2008 / 12 / 26 - 10:18 )
العزيز صائب

شكرا لك هذه المرة ايضا, فقد استطعت كما فعلت دائما ان تذلل كل التشويش الذي يبدو طاغيا بعض المرات على تراجيدية الحدث, لتعيد القارىء بكل هدوء الى التلة المشرفة على وادي الاحداث لينظر معك كم هي واضحة وبسيطة رؤية الامور حينما نعطي نفس الانتباه والاهتمام لاعتبارات الاخرين واستنتاجاتهم. فلا احد على صواب مطلق, كما ان لاشيء مضمون البتة, انما الانسان على سجيته وحبه للاخرين وقدرته على الخوض في تجارب معينة وتجنب اخرى هي التي تحدد كيف يقوى على التعامل معها بطريقة معينة, او ايجاد المبررات والتفسيرات التي تساعدة على قبولها بطريقة اخرى. اتمنى ان يرى الناس بعضهم بنفس الطريقة التي ينظر بطلا الفيلم الى بعضهما, فمصيبة الاحتلال والميليشيات والارهاب والطائفية السياسية واحدة على الكل, وعلى من يختار طريقة ما للتعامل معها ان يحترم ذات الوقت خيارات الاخرين

علي ديوان.


6 - صحة الموقف والموهبة ..قارب من فولاذ
قاريء ( 2008 / 12 / 26 - 13:04 )
العنوان ...اعتقد ان الامر لا يتعلق بالخيارات فقط بل بطبيعة الشخصية والوضع النفسي الاني ...
بعد الاتفاقية ...رايي ان السيد الكاتب يمتلك مهارات وامكانات افضل بكثير من ماكوين تجعله يستمر بالابحار بقارب من فولاذ وبكل هدوء وثقة ...كمااقترح البعد عن الغضب و الياس فتاكده من صحة موقفه ووضوح خصومه لا تضطره للصياح بشيء فسواء تحقق هدفه ام لم يتحقق ...سياتي اليوم الذي يقولون لانفسهم ...( كم كنا اوغاد )تحياتي


7 - رائع
محمد عبد المجيد ( 2008 / 12 / 26 - 15:48 )
أخي الحبيب صائب خليل حفظه الله
طننت في باديء الأمر أنك ستكتب عن ( جامع الفراشات) وهو فيلم من بطولة سامنثا ايجار وترانس ستامب، وكنت قد شاهدته لأول مرة في سينما ( بلازا ) بالاسكندرية في منتصف الستينيات.
أتفق معك تماما في أن هوفمان لم يكن جبانا بقدر ما أرهقته المقاومة، أو أن إرادته الفولاذية لم تتحمل أكثر من هذا، في الوقت الذي كان مفهوم الحرية لدى ماكوين مختلفا فهو يشمل المقاومة حتى الموت!
تذكرني مقاومة العراقيين بانعاش الذاكرة من السينما الأمريكية ضد الهيمنة الأمريكية بالرائع مالك بن نبي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي من داخل فرنسا وبلغة موليير وبفكر نضالي جزائري.
تحياتي الطيبة وكل عام وأنتم بألف بخير.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج


8 - رد الكاتب 2
صائب خليل ( 2008 / 12 / 26 - 17:16 )
أخي الغالي علي ديوان،
شكرا لك لكلماتك التي تضيف إلى الموضوع جمالاً وقيمة، واعتز بما قيمت به كتاباتي، وتقبل كل مودتي

عزيزي عزيزتي قارئ، الف شكر لك ثقتك الكبيرة. لا يكفيني ان يكتشف خصومي خطأهم بعد وقت طويل، بل أطمح أن يفعلوا ذلك قبل فوات الأوان لأن معركتي ليست معهم وإنما مع الخطأ الذي أخشى منه على بلادي واهلي وعلى العالم.

الأستاذ الكبير محمد عبد المجيد ، سعيد انا بمرورك علي.
في الفن الأمريكي والأدب الأمريكي والتحليل السياسي الأمريكي ثروة عالمية هائلة لاغنى عنها فليس كل ما في أميركا هو ما يفضل البعض رؤيته فيها مثل جورج بوش وريكان، تلك النشازات البشرية وانظمتها التي ابتلى بها العالم. أن من يفعل ذلك هو من يهين الشعب الأمريكي في واقع الأمر. تقبل مني كل مودة وتقدير

اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة