الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمات أولية لفهم -ثقافة الإشاعة-

محمد نبيل

2009 / 1 / 4
الصحافة والاعلام


هناك مشكلة تواجه كل من يبحث في موضوع الإشاعة و أبعادها الاجتماعية و النفسية. ونعني بذلك دلالات الإشاعة المتغيرة، و التباين الحاصل بين ماهية الإشاعة la rumeur والخبر l’information و التضليل la désinformation. . هذه المقدمة تعد في نظرنا، ضرورية لمناقشة هذا الموضوع.

في هذه الورقة، سنحاول أساسا، التركيز على العلاقة التي تربط الإشاعة بالخبر. نعرف جميعا، أن اختلاف العبارات و الكلمات، قد يؤدي بنا إلى عملية الخلط بين معنى و آخر، ونسقط بالتالي في متاهات فكرية و ثقافية كبيرة. لذلك، لابد لنا من البحث، عن سر مفهوم الإشاعة و معانيها المتحولة و المتغيرة، بتغير العصور و الأزمنة، و نطرح السؤال: ماذا نقصد بالإشاعة ؟

عندما نعود إلى أدبيات الإشاعة والقواميس اللغوية، نستخلص مجموعة من النقاط المهمة المتعلقة بمدلول الإشاعة، فهي أقدم وسيلة إعلام، و الصوت الذي يعبر الأجواء المجتمعية بسرعة فائقة. إنها وليدة الحرب العالمية الثانية، حيث شكل مفهومها الباحثون العاملون في الجيش الأمريكي. الإشاعة وكما ينظر لها "باسكال فرواسار"، "لا زمنية، و تقوم بعملية تحيين للماضي بشكل مستمر، ولا يمكن الإمساك بها، نظرا لخاصيتها المجردة، و كذلك بسبب الالتباس الذي تثيره عندما نود إخضاعها للتنظير ".

لا يهم أن ندقق في كل دلالات مفهوم الإشاعة، لكن الأهم هو أن خلاصة أولية مفادها، أن لفظ إشاعة كانت له معاني كثيرة قبل القرن 19. فالمجتمعات تتبنى تقاليد شفهية في مجال تصريف الأخبار. و لعل العلاقة الرابطة بين الفم والأذن ، قد تجسدت طيلة التاريخ، في خطاب الذات للغير و الآخر. فالمجتمع المغربي عبر عنها مثلا، في ظاهرة "البراح". لكن ، منذ القرن 19 و لحدود الساعة، بدأت تأخذ الإشاعة دلالات متعددة، و من بينها أن الإشاعة تعني الخبر، الذي لا يعرف مصدره، حيث نقول على سبيل المثال: يشاع أن أو الشائع أن (دائما مبني للمجهول)...

الإشاعة هي أيضا نوع من التواصل و التفاعل بين الناس. إنها تعبير عاطفي محلي، و مراقبة مستمرة للجار و الصديق و الزميل و كل أفراد المجتمع المصغر و الكبير. الدلالة اللغوية الفرنسية قديما، ربطت الإشاعة بالسمعة أو الشهرة والشعبية.

لقد أضحى للإشاعة دلالات معاصرة، و انتقلت من معاني المجتمع المصغر، كالأسرة والحي، إلى مجال الإعلام، و اكتسبت بعدا جماهيريا، حيث بدأ الحديث عن ما اصطلح عليه ب"الإشاعة القاتلة". و مع ظهور الإذاعة و التلفزيون وشبكة الانترنيت، حصل نوع من التماهي بين عمل هذه الأجهزة (المؤسسات أيضا) ذات البعد الجماهيري و الفعل المجتمعي . فهذه المؤسسات الإعلامية تقوم بعملية نقل للأخبار، على غرار المجتمع، الذي كان ومازال يقوم أفراده و جماعاته بعملية نقل الإشاعة ونشرها.

وتظهر فعالية الإشاعة اجتماعيا في تكرار نقلها بين مجموعة من الناس، لتتحول إلى مادة لمصادر متعددة، تقول نفس الكلام. هذه العملية أدت بالباحثين إلى الاهتمام بالإشاعة، و تم تخصيص علم قائم بها في القرن الماضي. و الغرض هو إخضاع المفهوم إلى التحليل بواسطة عملية التفكير في دلالات الإشاعة سوسيولوجيا و سيكولوجيا، و أبعاد عملها و كيفية اشتغالها داخل مجتمع ما .

وفي علم النفس الاجتماعي على سبيل المثال، يتم ملاحظة السلوك الإنساني الفردي و الجماعي، داخل الحي و العائلة و الشارع و القرية... مع محاولة فهم كيفية نشر هده الإشاعة. فعدد من العلماء درسوا الظاهرة "كإدغار موران"، في إطار ما يسمى ب"سوسيولوجيا الإشاعة"، و اكتشفوا أن الدوائر و الأوساط المغلقة، كالشرطة و الجيش و القضاء و المدرسين، تعاني من حساسية مفرطة إزاء الشائعات التي ينتجها أفراد المجتمع باستمرار. ولذلك نجد علم الاجتماع، يدرس مثلا الإشاعة، كمجال مغلق للتعبير وإبداء الرأي، و يحاول فهم خطابها وطبيعة انتشارها داخل المجتمع بتلك السرعة الملحوظة.

المصادر في علم الاجتماع، تشير أيضا إلى ضرورة الخروج عن الطريقة التي تحلل الإشاعة، كمعتقد بسيط، و الذهاب بعيدا إلى ما وراء المقاربة، كتحديد الإشاعة كتواصل مرضي Pathologique، بغية الوصول إلى خلفيات الخطاب، مادام أن إصدار الأحكام يبعدنا حتما عن فهم الحقائق.

مهما نقول عن الإشاعة، فإن فعلها الحاضر يتجاوز ما يقال مجتمعيا، و من طرف الباحثين المغمورين بحب اكتشاف الجوهري و الخفي في الظواهر الاجتماعية. الإشاعة تستفزنا، و لا تتركنا مكتوفي الأيدي أمامها، بل تدفعنا إلى فعل التأويل، الذي تظل مملكته، هي منطق الارتياب المفعم بمنطق النسبية. وفي هذا السياق، يضع الباحثون عددا من أنماط التأويل، وهي ثلاثة: التحرير و هي عملية تلخيص قصة الإشاعة، لتليه مرحلة تذويب القصة جماعيا، و تحويلها من طرف المساهمة الفردية في بناء قصة الإشاعة. و أخيرا هناك الشكل النهائي الذي تأخذه الإشاعة كقصة تتناقلها الألسن داخل المجتمع.

يحدد "فيليب ألوران"، الإشاعة و انعكاساتها في نوعين أساسيين : أولا، استفزاز حركة اجتماعية معينة ،و ثانيا، نشر الإشاعة من طرف وسائل الإعلام، وهي توظف من طرف المنظمات و الأحزاب السياسية . في هذا الصدد، يتطرق المتخصصون في مجال الإشاعة، إلى العلاقة بين الصحافي والسياسة و الإشاعة. هذا الثلاثي بات مثيرا و معقدا أكثر مما نتصور. إنها علاقة مليئة بالتوترات و الإشكالات، و خصوصا في بلدان لم ترسخ فيها تقاليد الإعلام المستقل، حيث تنتشر الإشاعة إعلاميا بشكل كبير و مفزع في غالب الأحيان، وبالتالي، تطرح علاقة الصحافي و الإشاعة، الكثير من القضايا المهنية و الأخلاقية الخاصة بعمله الصحفي.

وفي أوروبا و أمريكا، تعد الإشاعة خارجة عن إطار حقل العمل الصحفي، الذي يعتمد على مصادر خبر واضحة، المباشرة منها (حوارات صحفية مثلا ) و غير المباشرة، كوكالات الأخبار مثلا. لكن اعتماد مصادر الأخبار المؤسساتية و المباشرة، لا يعني الوصول إلى الخبر المطلق أو الصحيح أو الصادق . فمنطق التأويل وذاتية الصحافي، و مسلسل تركيب و صنع الأخبار الصحفية داخل غرف الأخبار، يضعنا أمام قضية واردة في عملية نقل الخبر الصحفي للجماهير، بل يطرح إشكالات ما زالت عالقة حتى في البلدان التي خطت فيها الصحافة خطوات مهمة، و هي قضايا يتحاور ويتجادل بشأنها الباحثون و أهل الاختصاص لحد الساعة، كإشكالية الموضوعية و الحياد، وكيفية تشكل الخبر الصحفي و شروط العمل الإعلامي ...الخ

و مقابل هذه الصورة، يعتبر بعض الباحثين أن الإشاعة هي مجرد "بديل " يعوض غياب الحقيقة الرسمية. فالإشاعة تنتشر، عندما تتوقف المؤسسات - التي من المفروض أن تقدم الخبر المضبوط - عن مهامها الحقيقية ، كالإعلام و القضاء و مجال الفكر النقدي. هذه المجالات يجب أن يتم فيها تداول الأفكار و النقد، دون تواطؤ ضد روح الحقيقة العلمية. و على حد قول "مارك بلوخ" خلال الحرب العالمية الثانية، " إن الخبر الكاذب ينشأ عن التمثلات الجمعية التي تتأسس قبل ولادة هذا الخبر. إنه مرآة يكون فيها الوعي الجمعي، ما زال يتأمل في علاقاته الخاصة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في زلة لسان جديدة.. بايدن يطلب من إسرائيل ألا تقتحم حيفا


.. اعتصام أمام البرلمان في المغرب للمطالبة بإسقاط التطبيع مع إس




.. ما طبيعة الرد الإسرائيلي المرتقب على هجوم إيران؟


.. السلطات الإندونيسية تحذر من -تسونامي- بعد انفجار بركان على ج




.. خيمة تتحول لروضة تعليمية وترفيهية للأطفال في رفح بقطاع غزة