الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين مصر وإسرائيل، بين دولة الأرض ودولة الطائفة

سامر سليمان

2009 / 3 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ببطء ولكن بثبات تخرج السياسة المصرية من مرحلة المراهقة إلى النضج. كانت مجزرة غزة الأخيرة فرصة لاختبار المدى الذي وصل إليه نضج هذه السياسة. النضج مرتبط أولاً بالضرورة بإسقاط الأوهام. وثانيا هو تجاوز الاحباط الناتج عن سقوط الأوهام اللذيذة والوصول إلى الحرية الحقيقية التي تنفتح أمام الانسان المتحرر من المخدرات. المراهقة السياسية هي الاعتقاد بأن السياسة هي ترجمة لمشروع أخلاقي. والنضج في بدايته هو إدراك أن السياسة ليست كذلك وإنما هي في أحسن الأحوال صراعاً على المصالح. البعض حين يصل إلى هذه الحقيقة يكفر بالسياسة والسياسيين باعتبارهم عديمي الأخلاق ولكن البعض الأخر ينجح في تجاوز المحنة لكي يدرك أن السياسة القائمة على الأخلاق وفقط هي في الحقيقة سياسة غير أخلاقية لأنها لا تراعي مصالح الناس. بعبارة أخرى السياسة الأخلاقية تستمد أخلاقيتها ليس من عقيدة أو منظومة أخلاقية وانما من المصالح التي تدافع عنها. السياسة الأخلاقية هي التي تدافع عن مصالح جماعية مشروعة والسياسة غير الأخلاقية هي التي تدافع عن مصالح فردية أو غير مشروعة.

نضج السياسة المصرية الذي أتحدث عنه هو بداية خروج تلك السياسة من الصراع العبثي بين فلسطين أولاً ومصر أولا،ً بين "طظ في مصر" و"طظ في فلسطين". في الماضي كان مبارك يقول أن 70% من وقته مخصص للقضية الفلسطينية. وحينما سأله الاستاذ مفيد فوزي بما معناه متى يكون معظم وقته مخصصاً لمصر وليس لفلسطين قال له بما معناه أن كل وقته مخصص لمصر بما فيه السبعين في المائة الفلسطينية. وهذا هو الكلام المفيد الذي باتت السلطة مضطرة للافصاح عنه أكثر فأكثر. المجموعة الحاكمة في الماضي كانت تقول أنها تضحي بمصالح مصر من أجل فلسطين. لذلك كانت هناك معارضة تنازعها على نفس أرضيتها فتتهم هذه الجموعة بالخيانة والعمالة والانبطاح لأنها لم تبين كرامة حقيقية في الدفاع عن الشعب الفلسطيني. وهي التهم التي كانت ترد عليها السلطة بطريقتين.. الأولى اثبات أن الدول والأحزاب العربية "الممانعة" تدافع هي الاخر ى عن مصالحها وليس مصالح الشعب الفلسطيني. وهذا ما ليس من الصعب اثباته. أما الرد الثاني فكان يقول.. صباح الخير! فيه حاجة اسمها دولة مصر، وفيه حاجة اسمها أمن قومي يا... وهنا لا يسعني إلا أن أقول: أخيراً.. أخيراً أفصحتم عن الحقيقة. هنا نصل إلى ألف باء علم العلاقات الدولية. السياسة الخارجية للدول هي تعبير عن مصالح الدولة أو مصالح المجموعة المسيطرة عليها وهي الترجمة الخارجية لنظام الحكم في الداخل. ومن هنا أكتب هذه المقالة لكي أسأل المجموعة الحاكمة عن أحد الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها في حق الدولة المصرية.

المجموعة الحاكمة المصرية تدير أعرق دولة في المنطقة، دولة تعاقب عليها الحكام المصريين والأجانب، لكنها لم تذب أبداً في أي كيان أخر. مصر نموذج استثنائي في العالم في استقرار حدودها الدولية على مدار 5200 سنة، حتى عندما تحولت إلى ولاية في امبراطوريات أكبر منها. الدولة المصرية قامت على الأرض ولم تقم على عقيدة أو ديانة أو ثقافة. وإلا كيف تغيرت ديانة بل ولغة الدولة المصرية عدة مرات دون أن تختفي هذه الدولة أو أن تتغير حدودها؟ دين الدولة في مصر شيء متغير أما أرضها فهي ثابتة. الدولة المصرية هي دولة أرض، ولا تحتاج لوضع لافته دينية عليها لكي تبرر وجودها، لأن شرعيتها مبررة بالفعل بما أنها تدير مصالح جماعة متحدة من السكان تعيش على هذه الأرض. الحكام في مصر هم الذين احتاجوا الدين لزوم السيطرة السياسية على الشعب، لذلك زينوا جداريات الدولة بشعارات دياناتهم. ومن الأخر ليس هناك في الواقع دولة دينية. الدولة هي مجموع المؤسسات العامة التي تملكها جماعة. الدولة جهاز مثلها مثل السيارة. السيارة ليس لها دين. يمكن للسائق أن يضع عليها شعاراته الدينية، ويمكن له أن يركبها إلى المعبد أو الجامع أو الكنيسة. لكن هذا لا يغير من حقيقة السيارة، فهي تظل سيارة، لا دين لها.

في عام 1948 قامت على حدودنا الشرقية دولة طائفية. إسرائيل ليست دولة دينية. معظم مؤسسي دولة إسرائيل والتيار الغالب في الحركة الصهيونية يتعامل مع التوراة باعتباره كتاب فولكلور أو كتاب أمثال "الشعب اليهودي" أو بالأحرى الطوائف والأقليات اليهودية. وهذا الدولة الطائفية قامت على استدعاء تاريخ دولة إسرائيل القديمة التي أسستها القبيلة العبرانية قبل الميلاد. وكانت الدولة المصرية هي النموذج الملهم لهذه القبيلة. هذه القبيلة خاصمت مصر، لكن ظلت مصر هي القبلة والنموذج. هكذا تؤرخ التوراة بداية تأسيس دولة إسرائيل القديمة بخروج العبرانيين من مصر. ولأن القبيلة لا تمتلك أرضاً ثابة لذلك فهي تحتاج لبناء الدولة على أجساد وعقول أتباعها. لذلك ارتبطت دولة إسرائيل بداينة قبيلتها، ولذلك إسرائيل المعاصرة مرتبطة بديانة طائفتها ارتباط لا ينفصم، ولذلك يطالب الصهاينة من العرب اليوم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وهو الذي اعترف به معظمهم من زمان، فهم يتحدثون عن اليهود ودولة اليهود وليس عن الاسرائيليين ودولة إسرائيل! لو ازيلت اليافطة اليهودية من على دولة إسرائيل تكون دولة إسرائيل المعروفة لنا قد سقطت. وذلك ليس حال الدولة المصرية التي لن تسقط لو أزيل من عليها يافطة الدين.

كان من الطبيعي أن يحدث احتكاك أو صراع بين دولة الأرض ودولة الطائفة. فدولة الطائفة الجديدة اعتبرت نفسها مسئولة عن الطائفة اليهودية في العالم كله ومصر كان بها يهود. كما أن المنطقة بها طوائف كثيرة، لا يصح أن تتركها الدولة المصرية تنظر إلى نموذج الدولة الطائفية الاسرائيلية باعجاب. الصراع بين الدولة المصرية ودولة إسرائيل هو بالاساس صراع حضاري، صراع نموذج دولة الأرض مع نموذج دولة الطائفة. صراع بين دولة درجة أولى ودولة درجة ثانية. فماذا حققت دولة الأرض تحت حكم النظام الملكي كما تحت حكم نظام 23 يوليو؟ الأول قرر الحسم العسكري فتعرض لهزيمة عسكرية مشينة, والثاني اندفع بصلافة وغرور نحو استخدام السلاح فتعرض لهزيمة مهينة غير مسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث. انتصار 73 المحدود صحح بعض الأذى. لكن يظل أن الحساب الختامي لسجل الصراع مع دولة الطائفة يشهد على أن تلك الدولة نجحت في تصدير نموذجها إلى المنطقة. المقارنة بين مصر وإسرائيل تبين الآتي. مصر لديها دولة درجة أولى وإسرائيل لديها دولة درجة ثانية. لكن إسرائيل لديها نظام درجة أولى – أي ديمقراطي – ونحن لدينا نظام درجة ثالثة، أي سلطوي. لذلك تتساوي الرؤوس للأسف بين مصر وإسرائيل.

في أوائل الثمانينيات كان والدي مدرس التاريخ يشرح لي رغبة إسرائيل في "لبننة" المنطقة، أي تحويل دول المنطقة إلى دويلات طائفية على النموذج اللبناني كي لا تشعر إسرائيل بالاغتراب، وكان يقول أن مصر هي العقبة الكؤود في وجه ذلك المشروع. إذا كانت المجموعة الحاكمة في مصر قد كشفت أخيراً عن أنها مجموعة مصرية، سياساتها الخارجية تدافع عن "الأمن القومي" المصري أولاً وقبل كل شيء. فهل لي أن أسأل لماذا يتراجع النموذج المصري لدولة الأرض في المنطقة؟ لماذا يتقدم المشروع الطائفي في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي السودان، ولماذا أحكم قبضته على غزة أخيراً، ولماذا امتدت جاذبيته إلى داخل مصر ذاتها حتى أصبح قطاع من المصريين ينظر باعجاب إلى زعماء الطوائف في المنطقة؟ هل لي أن أسأل كيف جرؤت المجموعة الحاكمة على استخدام الورقة الطائفية في صراعها مع إيران؟ ألم يتهم مبارك الشيعة العرب بأن ولائهم لإيران؟ هل لي أن أسأل كيف واتت المجموعة الحاكمة الجرأة لكي تشارك في تحالف اقليمي سني ضد الشيعة تحت زعامة دولة قبيلة أو أسرة سعود. كيف جرأتم على ذلك؟ كيف لنظام يحكم دولة أرض أن ينزل بمستواه ويتصرف بمنطق زعماء الطوائف؟ ما أكبرك يا دولة مصر، وما أصغر المجموعة التي تحكمك.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مبروك
بدر كامل ( 2009 / 3 / 7 - 22:57 )
مبروك عليكم -النضج- وانشالله تزدادون -نضجاً-...لنتسلى

اخر الافلام

.. الهجوم الإيراني على إسرائيل.. هل يغير الشرق الأوسط؟| المسائي


.. وزارة الصحة في قطاع غزة تحصي 33797 قتيلا فلسطينيا منذ بدء ال




.. سلطنة عمان.. غرق طلاب بسبب السيول يثير موجة من الغضب


.. مقتل شابين فلسطينيين برصاص مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغر




.. أستراليا: صور من الاعتداء -الإرهابي- بسكين خلال قداس في كنيس