الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عابر استثنائي... وعي العين وشقاء الرؤية

هاشم تايه

2009 / 5 / 12
الادب والفن


خلال تعليقه على إحدى القصص سمعتُ القاص محمود عبد الوهاب يُفصح عن بعض تصوّره للقصّة القصيرة قائلاً إنها ليست استيقظ ونهض وخرج ومشى... بل هي مشاهد... وكلمة مشاهد، كما أحسب، تساوي عنده صوراً متّسعة متحرّكة...
وذلك يعني أنّ قصّته تعتمد، في إنشائها كيانها الخاص، على فاعلية العين، والأجدر أن أقول إنّها تعتمد على وعي العين، الوعي الرّائي باصطفائه عناصر منتقاة ممّا تحصده العين من حقل المرئي، وإعادة تكييفه في صورة حيّة تتمتع بطاقة داخلية تجعلها قادرة على فتح إطارها للزمان فتعيش فيه وتتحرّك بالاحتمال الذي اقترحتْه فكرة العين بعد أن أزاحت عنه تشوّشاته المحيطة به، وحيرتَه بين ممكنات تحرّكه المتعددة، ومن أجل أن تُبرّره بوقائع صوريّة تستولد أعضاءها من أعضائها، وتمضي به إلى ما يشبه نهاية إذ لا نهاية لصورة..
والرؤية البصريّة في صناعة القصّة جعلت محمود عبد الوهاب يعمد إلى تجريد اللّغة من اللّغة، وإفراغها من ضجيجها، واختطافها للعين، والانتقال بها، من ثمّ، إلى مستوى اللّغة الرائية، أو اللغة الرّاسمة، ليتحوّل الأداء من أداء باللّغة إلى أداء بالرّسم، بمعنى أن العين هي من تتولّى التأليف لا اللّسان... وبهذا يكون محمود عبد الوهاب أقرب إلى التشكيل؛ فالمتعة الشعوريّة، في قصصه، تتحقق من خلال المتعة البصريّة. واعتماده الصّورة حرّره من العمل من خارجها، وجعل قصّته كصورة تنمو وتتسع بممكناتها الخاصّة، وبتكيّفات مادتها وعناصرها، بمعنى أن حياتها هي التي تصنع حياتها، وكأنّها تنجز نفسها بنفسها بعفوية واستقلال. ولا يتعارض هذا مع حقيقة أن القاص محمود عبد الوهاب شديد المحاسبة لقصّته، فهذه المحاسبة، برأيي، هي لصالح قصّته طالما ألزمها على الحياة بمنطق حياتها الداخليّة... إن القصّة لديه تجسيد للهروب من اللّغة، وكأن القاص يغلق الباب على قصته بوجه اللّغة المنتظرة في الخارج، ولا يسمح إلاّ للقليل الضروري منها بالدّخول...
تنطلق قصته (عابر استثنائي)- وهي عبارة عن صورة، وتأمّل لهذه الصورة- من رؤية بالعين، لسيّدة تحمل شجيرة ظلّ، وهذه الصورة تصبح بذرة قصّةٍ باقتراح من العين، أو بفكرة العين التي حوّرت، أو عدّلت بانتقاء بصريّ، الصورة فجعلت السيّدة تنظر من خلال فراغ بين ورقتي شجيرة الظلّ، وهذا الانتقاء البصريّ المنطلق من فكرة العين الذي يتم تبنيه يصبح التخطيط الأولي (الاسكتش) للعمل بأسره. وتلك الرؤية الحيّة النافذة من خلال إطار حيّ في مفتتح الجزء الأول من القصة، ومن خلال إطار جامد في مفتتح جزئها الثاني تغدو مرتكز وحدة القصة، وأساس تماسكها بانتقالتها من البصر إلى البصيرة.. من الرؤية إلى التأمّل...
وكما يجري الأمر في الرّسم تنفذ الرؤية من خلال إطار تنبع ضرورته من تأمينه انتقاءً ملائماً من المرئي بتحديد عناصر معينة فيه وانتخابها في مجال فضائي موحّد يكفل إبعادها عن كلّ ما من شأنه أن يُقلق، أو يشوّش توحّدها في بنية خاصّة مصطفاة لرؤية معينة. ليس هذا فحسب؛ فالإطار الذي يحيط بـ (عابر استثنائي) يتخطّى وظيفته التقليديّة كمحدد خارجي محيط برؤية ليغدو جزءاً حيويّاً من الرؤية الحيّة النافذة من خلاله متفاعلاً مع ما يُرى داخله، بل إنّ هذا الإطار يمكن عدّه علامة فارقة للطبيعة الخاصّة التي يُلمّ بأبعادها...
وفي (عابر استثنائي) ثلاثة أطر: إطار أكبر جامع، لا أعرف إن كان يسوغ القول فيه إنه إطار شعوري، أو فكري يتعلّق بوجهة النظر الشاملة التي تؤطّر القصّة، وهو، طبعاً، إطار غير ملموس.. وإطاران ملموسان، كلّ واحد منهما يحيط بمشهد، أو بصورة منتخبة..
الإطار الأوّل ذو طبيعة حيّة -(ورقتا شجيرة ظلّ)- تجعل النظرة النافذة من خلاله غضّة متناغمة مع المشهد الحيّ الذي ترصده.. مشهد كهل يسير بتثاقل في شارع تحيط به مبانٍ، ويجتازه المارّة.. وهذا المشهد، وهو حصيلة انطباعات بصريّة، يؤسّس، بتفاصيله، أساس بناء القصّة، ويجري التمهيد له بصورة -عتبة- تصنعها الرؤية البصرية الواعية للسارد، صورة سيدة تنظر من بين ورقتي شجيرة ظلّ، وسرعان ما تلتحم عين السارد بعين السيّدة الناظرة، ومن فراغ بين الورقتين تعبر عينان مدمجتان بوعي بصري موحّد لا يكتفي بمجرد المشاهدة الرّاصدة من خلال إطار منتخب بل يمضي ابعد بتعزيزها بإسقاطاته المبصرة التي تجسد عبوره من ظاهر ما يراه إلى باطنه على مسار مرئي ينتقل على نقاطه الوعي البصري من الرؤية الحية إلى بناء نظر شعوري ينتهي إلى حكم مرئي بصورة (حيوان جريح يجرر قدميْه)، وهي صورة تجرجر ما فيها خارج نقطتها المحددة مستنفرة وعي العين من أجل استئنافها في موقع آخر يصلح لتأملها بما يخدم جدل الرؤية... المشهد الابتدائي في القصّة يحاط بتفاصيله من منظور أمامي، والنظرة المرسَلَة تحدّد مركزاً لتحركها داخل إطارها، وهو مركز متحرّك - الرجل الكهل- يصنع بتحرّكه علاقات مع عناصر المكان (الشارع، المباني، الرصيف، جدار المدرسة، المارّة، الضجيج)، وهذه العلاقات هي التي تؤسّس انعطافة النظر في اتجاه عمودي مستبطن، بعد أن انطلق أفقياً... وفي هذا الجزء من القصة يقف وعي الشخصية للصورة التي رأتها عند حدود وعيٍ تظلّ وسيلته الصورة، ويتجلّى باستبداله صورة بأخرى، صورة كهل يسير بتثاقل بصورة إنسان يتكسّر شيء في داخله.. صورة مرئيّة واقعياً بصورة معكوسة تعبيريّاً، وكأنّ هناك رسماً يجري داخل الرّسم يتفاعل خلاله المرئي واقعياً والمرئي تعبيريّاً.. وتوسّل الوعي بالصورة في هذا الجزء من القصّة مرتبط بطبيعة المكان الذي يجري فيه، (شارع عام حافل بالحركة والضجيج).
وتُختتَم الصورة الشاملة/ المشهد، في الجزء الأول من القصّة، بخلاصة صورة تتمثل بـ (حيوان جريح يجرجر قدميْه)، وهي صورة تتحرّك عناصرها في المكان فتهيّئ حدسياً لانتقالة جديدة إلى مكان آخر عبر الفعل (يجرجر) بسمته الحركيّة المرئيّة المصوّتة. وهذا الفعل يتخطّى واقع إسناده إلى فاعله الحقيقي، ويكتسب بعداً آخر ليعكس الوعي المقلقل للرؤية التي شقيتْ داخل الرائي (السيدة)، الذي جرحته الرؤية، وأثقلتْه بما يدعوه هو الآخر إلى أن يجرجر قدميْه، فينتقل إلى فضاء آخر يرى فيه ما أثقله رؤية أخرى...
وإذن فالانتقالة إلى الجزء الثاني من القصّة جرت بمكونات الصورة وبتنوع مستويات رؤيتها، وبإمكاناتها الخاصّة داخل حدود إطارها وبنيتها..
وتتسم الصورة/ المشهد في الجزء الأول من القصّة بواقعيتها، واتّساعها، وحركيّتها، وقد تمّ انجازها بوعي بصريّ ذي نزوع اختزالي، ومزاوجة في الرصد بين رؤية خارجية وداخلية...
في الجزء الثاني من القصة الذي يبدأ من العبارة (في بيتها وضعت....) تنتقل شجيرة الظل من الشارع إلى بيت السيدة كحامل للوحة المشهد الأوّل، وتصبح مرجعاً صورياً للاستعادة والتأمّل، ولهذا يتمّ وضعها قريباً من النافذة ليغمرها الضوء الذي ينير أولاً سطوح الأشياء، ثمّ يجري تكييفه شعورياً لينير الدّواخل متحوّلاً إلى أفعى ضوئيّة تتسلل وتنفذ وتتغلغل بحريّة.
وفي هذا الجزء يتم رسم المشهد الداخلي من خلال إطار أيضاً، ولكنه هنا إطار جامد (قطعتان من ستارة بنفسجيّة) يناسب موضوعياً الصورة المرسومة داخله، وهي عبارة عن طبيعة جامدة (still life) تكشفها عين الضوء المتسلل من بين قطعتي الستارة وفيها تُرى مائدة يغطيها شرشف عليه ثلاثة صحون وملعقة وشوكة وصحن بلوري وهناك أيضا قميص وربطة عنق. وهذه الصورة بتفاصيلها (سيدة تقف إلى جوار نافذة يتسلل من خلالها الضوء ويغمر مائدتها) تذكرنا بأعمال الرّسام فيرمير الذي كان شغوفاً برسم المشاهد الداخلية للبيوت حيث السيدات يستعنَّ بأضواء النوافذ في إنجاز مشاغلهنّ...
ويلاحظ أن الرؤية هنا تتم بوساطة عين هي، هنا، عين الضوء النافذة من خلال إطار تصنعه شفتا الستارة.. وإذا كان المشهد الأول متحرّكاً مفتوحاً، فالمشهد الثاني مغلق ساكن، أو قريب من السكون يسمح للرؤية الداخلية المركّزة، ويهيمن عليه اللون البنفسجي للستارة، وهو لون الحكمة والتأمّل الحزين، حيث يجري هنا وعي الزمن والمصير والنهاية عبر حوار بين السيدة وزوجها في ظل شجيرة الظل التي جلبت صورة المشهد الأول. وهذا الحوار قريب من الصّمت بلغته المصوغة بدرجات قصوى من الاختزال، وكأنها لغة النهاية، وبنبرته الأسيانة، وبإيقاعه الشعري الذي يشيع فيه التكرار، والحوار تهيمن عليه الرؤية كأنّما هو يجري بين البصر وبين البصيرة، ولهذا يتكرر خلاله الفعل (رأيته)..
وفي هذا الجزء من القصّة تنتشر صورة الكهل مقطعة كشظايا صورة محمولة على عبارات الحوار المركزة بين السيدة وزوجها الذي يتاح له رؤية تفاصيلها كنثار بعد ان تلونت بلون كئيب كساها به الوعي الرائي للسيدة باستبصار أطلقته وجهة نظرها.. وهذا التقطيع للصورة يخدم تصعيد مستويات الإحساس بطبيعتها على سُلّم الحوار المتدرّج، حتى تبلغ درجة الوعي الصادم الأخيرة. وتبدو الصورة داخل الحوار على دفعات هكذا:
• كهل يُرى في الصباح...
• كهل كئيب...
• كهل مختلف/ يقطع الشارع/ يودّع مدينته...
• كهل مريض/ ليس باستطاعته أن يتحمّل مرضه وحده...
• كهل وحيد مهموم يشيخ في كلّ لحظة...
وعند هذه الدرجة ينقطع الحوار تماما بصورة لتأبيد التشوّش والبلبلة أمام جريان الزمن (ماء ينصبّ من حنفية سائبة فيرتطم بحوض محدثاً أصواتاً مختنقة)..
وإذن فـ (عابر استثنائي) هي فكرة العين التي صنعت بوعيها البصري صورة، ورأت ما ارتسم على سطحها وتغلغلت في باطنها، وشقيت بوعيها بعد أن غدت مصيرها الخاص.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و