الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكثر من كلباني.. أكثر من لوثر!

نذير الماجد

2009 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شخصيا لا تبدو لي الزوبعة التي أثارها الكلباني بتصريحاته اللامسؤولة جديدة أو مفائجة، ولا أعتقد أنه يمثل شذوذا أو خروجا عن واقع اجتماعي متجانس لازال قيد الحلم.

الكلباني ظاهرة شائعة تكتسح واقعنا بكل أطيافه ومكوناته، وتلون تاريخنا بنماذج وعينات ليست أقل سوء من الكلباني نفسه، ثمة كلبانيون كثر لهم زعيق أسوء بكثير مما أتحفنا به الكلباني، يتكاثرون بيننا ولهم سطوة وحضور على امتداد التاريخ والجغرافيا.

يتشاتمون ويكفر بعضهم بعضا في مسرحية لا تنتهي من اللعن وتوزيع صكوك الغفران وملكية الحقيقة ومعها الجنة طبعا. فمادامت الحقيقة طوع اليد كما يزعم اللاعبون المتصارعون فلا يبدو أن هنالك أي مخرج يلوح في الأفق. هنا تكمن بداية أي اصلاح حقيقي وجوهري: الخروج من شرنقة النرجسية الدينية الأصولية نحو تعددية أرحب تمنح النص والتاريخ آفاقا تأويلية منفتحة ومتعددة.

أجل، بكل بساطة هذه هي البداية، ولكن ما دام الفاعلون الاجتماعيون من مثقفين وسياسيين من كل الاطراف المتنازعة يصمون آذانهم ويرفضون رفضا قاطعا تقديم أي تنازل أمام الآخر فالاشكالية ستبقى تراوح مكانها وسنشهد نماذج أخرى للكلباني سواء كان سنيا أو شيعيا.

القفز على هذه الحقيقة والهرب من مواجهتها هي ما تجعل نزعة التكفير والتي يختبئ خلفها عشرات الكلبنانيين تتراجع في حالة كمون، لتتوارى وتختبئ خلف الرماد، لكنها ستكشر عن أنيابها كلما استحثها مؤثر أو منبه خارجي، فالظاهرة الكلبانية لها طابع لزج ومرن ولها قابلية سحرية على التمدد والانكفاء، وهي كأي كائن طفيلي دموي لا تعتاش إلا على لعق الدماء واشاعة الرعب والموت، لكن أهم المزايا والقدرات الفائقة التي تتمتع بها هذه الظاهرة العجائبية هي قدرتها على التخفي والتلون، لكأن لها طابع شبحي يتيح لها التسلل داخل كل الأطياف المتنازعة، فهي وإن أعلنت عن نفسها في هيئة تكفيرية سلفية فجة في وضوحها، سرعان ما تلجأ إلى أساليب مبتكرة وملتوية تصل في النهاية إلى تكريس نفس النزعة التكفيرية.

إن الكلبانية التي تخوض حربا طاحنة لمواجهة خطر "الروافض الكفار" هي نفسها الكلبانية التي تتمتمرس في جبهة مناوئة لما بات يعرف بالنواصب وأتباع "الجبت والطاغوت"، ومع أن مفهوم النواصب مفهوم ضبابي وليس حكرا على توجه مذهبي بذاته إلا أن ما يعننا هنا بصفته معلما من معالم الظاهرة الكلبانية هو ذلك المفهوم الذي يتبناه ضمنيا على الأقل طيف واسع داخل الوسط الشيعي.

لقد شهد مفهوم النواصب تمددا دلاليا على امتداد التاريخ الشيعي، فبعد أن كان مقتصرا على كل من يعلن العداء لأهل البيت فقط أصبح يشمل المعادين لأتباعهم أيضا، بل أن بعضهم وسعه ليشمل حتى من لا يعتقد بالوصية وأحقية الإمام الأول في الخلافة في اشارة واضحة لأتباع المذهب السني، يقول الشيخ يوسف البحراني في الحدائق: المستفاد من هذه الأخبار أن مظهر النصب المترتب عليه الأحكام "كالنجاسة أو الكفر" الدليل عليه تقديم الجبت والطاغوت أو بغض الشيعة من حيث التشيع. فكل من اتصف بذلك فهو ناصب تجري عليه أحكام النصب" ويقول الجزائري صاحب كتاب الأنوار العمانية: بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سنياً ولا جدال في أن المراد بالناصبة هم أهل التسنن" يؤكد ذلك الأمين في كتاب الأعيان بقوله: الثالث مصادمة الخبرين المذكورين بالضرورة بعد أنْ فُسر الناصب بمطلق العامة، والمقصود بالمعامة كما يعرف الجميع هو المسلم الذي لا ينتمي إلى الطائفة الشيعية، بل إن العلامة الحلي كان أكثر وضوحا في نزعة التكفير حيث قال في شرح التجريد: "أما دافعوا النص على أمير المؤمنين بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى تكفيرهم لأن النص معلوم بالتواتر في دين محمد..".

أما في الجهة المقابلة فحدث ولا حرج، فادبيات التكفير مستمرئة تماما عند اتجاه واسع من السلفية السنية التي لا تكفر الشيعة وحسب بل ترمي تهمة الكفر بكل ما لا يتوافق مع توجهيات وتعاليم ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وكل وجوه السلفية الوهابية الجديدة التي تفاقمت وتيرتها هذه الأيام في ظاهرة متميزة يعكف على تحليلها جملة من المثقفين والمفكرين في مطلع القرن الواحد والعشرين. ومنذ قرون كانت الظاهرة الكلبانية حاضرة تلون صفحات التاريخ وتطبعه بقسوتها ونهمها للدماء وعزفها المستمر على نغمة الكراهية والتكفير، نجد من ذلك نماذج كثيرة تملأ عشرات الكتب الصفراء، لكنني سأكتفي بنماذج ذات دلالة لا تخفى.
ابن تيمية مثلا يصف الرافضه حسب قوله بأنهم: أساس كل فتنة وشر، وهم قطب الرحى للفتن، ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام ونقض عراه، وهم أصل كل بلية وفتنة، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين" إلى أن قال: الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقا ملحدا عدوا لدين الاسلام وأهله والرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق"

ثم يأتي ابن القيم تلميذ ابن تيمية ليقوم بنفس الدور لكنه يتفنن أكثر في ابتكاره لشتائم يعجز عنها حتى الشيطان، فما كان ليتورع عن وصف الرافضة ومعهم المعتزلة بأن على وجوههم سحنة الخنازير ولهم قلوب خنزيرية ، ثم يقول: فإن لم تقرأ هذه النسخة من وجوههم فلست من المؤمنين"!

أما عبد الله ابن جبرين الذي يمثل أبرز الوجوه المتزمتة والمتطرفة في السلفية السنية المعاصرة فيقول ردا على سؤال حول مخالطة الرافضة: " يكثر الابتلاء بهم في كثير من الدوائر من مدارس وجامعات ودوائر حكومية. في هذه الحال نرى إذا كانت الأغلبية لأهل السنة أن يظهروا إهانتهم وإذلالهم وتحقيرهم، وكذلك أن يظهروا شعائر أهل السنة، فيذكروا دائما فضائل الصحابة والترضي عنهم، لعلهم أن ينقمعوا بذلك وأن يذلوا ويهانوا وتضيق بذلك صدورهم ويبتعدوا. أما معاملتهم فيعاملهم الإنسان بالشدة فيظهر في وجوههم الكراهية ويظهر البغض والتحقير والمقت لهم ولا يبدأهم بالسلام ولا يقوم لهم ولا يصافحهم" ويقول في جواب على سؤال آخر: لابد من أظهار مقته –أي الرافضي- وتحقيره وبغضه وإهانته... وإذا سلم يرد عليه: "وعليكم" والأولى الحرص على التضييق عليه حتى يشعر من نفسه بالصغار والذل والاحتقار من أهل السنة" ثم يبين موقفه التكفيري الاستئصالي بوضوح وجرأة حيث يقول: إن كان لأهل السنة دولة وقوة وأظهر بدعهم وشركهم واعتقاداتهم فإن على أهل السنة أن يجاهدوهم بالقتال"!!

ومع أن كلام ابن جبرين مشحون بكم هائل من البغض والكراهية والتحريض الأمر الذي يثير الدهشة حينما لا يجد رادعا جزائيا من سلطة أو قانون، تماما مثل التصرحيات الكلبانية، إلا أنني مع ذلك أستشف في كلامه شيئا من الواقعية التي تكشف عن خاصية أخرى للظاهرة الكلبانية هي تمظهرها بجلاء في الوسط المذهبي الذي تنحاز إليه السلطة، لأنها إذا ما ترافقت مع توجه معارض مهمش يقبع في الظل فمن الطبيعي أن لا تكون بنفس الشراسة والوضوح كما لو كانت تنعم في ظل السلطة، فالسلطة أحيانا مدانة بتكريسها وتثبيتها في الواقع المعاش، السياسي والاجتماعي، وهي لذلك تتحمل جزء كبير من المسؤولية بصفتها الحامية لنزعات الاقصاء والكراهية وكل التوجهات الأحادية النرجسية القابعة في صنمية الذات، والتي بدونها تنكفئ الكلبانية لتبدو كما لو أنها حمامة سلام ومحبة غاندية!

هذه الفتاوى الكلبانية تكشف بما لا يدع مجالا للشك عن أن الشيخ الكلباني لا يمثل حالة استثنائية بل يمثل الوجه الأنقى والأنصع للتوجه السلفي، إنه السراط السلفي المستقيم الذي لا يهادن ولا يخشى في منهج الحق السلفي لومة لائم، وبقدر ما يمثل التراث السلفي الممتد من ابن تيمية وابن القيم وما شاكلهما فإن أي سلفي آخر يحاول أن يحجب قبح التوجه الكلباني بمراوغة هنا أو مجاملة هناك دون أن يعمل أدنى جهد نقدي لتنقية التراث وتصفيته للوصول بالتالي للمصالحة مع الذات لا يمكن إلا أن يكون هو ذاته الوجه الشاذ الذي لن يلبث أن يذوب في الظاهرة الأم مع أقل هزة وجدانية!

ولست بحاجة إلى التأكيد بأن هذا التفاوت في نزعة الاكراه لا يقتصر على مذهب دون آخر، ولهذا السبب بالذات لا يكفي لوثر واحد للاضطلاع بعملية اصلاحية جريئة تستهدف الخطاب الديني برمته لكي يصبح قادرا على العيش في زمن تسود فيه نزعات التسامح والتعددية والحريات الدينية، وهي المهمة التي بدونها لن نتمكن من استئصال هذا الوحش المتربص للسلفية، إننا بحاجة ألى أكثر من لوثر، نحتاج إلى لوثر شيعي ولوثر سني ولوثر اباضي وهكذا.

فلمواجة أكثر من كلباني نحتاج لأكثر من لوثر، حتى تباد هذه الظاهرة التي تقف عائقا أمام كل اندماج أو وحدة وطنية، والتي تؤكد أكثر من أي وقت مضى على أن رغبات ومطامح يسعى لها كل شعب كالتنمية والاصلاح والنهوض الاجتماعي والانسجام والتضامن والمواطنة الحقة وغيرها لا يمكن أن تتحقق بمعالجة سياسية خجولة، التنمية مسألة ثقافية أكثر منها سياسية، والسلفية الدينية بكل وجوهها أكبر عائق أمام التنمية والاصلاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بارك الله بالشباب
أمير ناجي ( 2009 / 5 / 18 - 08:44 )
أفرحتني والله يا إبني وانت تحمل هذه العقلية
نحتاج الى آلاف وملايين يفكرون مثلك
لنمحق الكارثة التي نحن فيها الآن
والكارثة الأكبر المقبلة علينا
بارك الله فيك


2 - أكثر من كلباني
محمد الخليفه ( 2009 / 5 / 18 - 09:16 )
يعجبني هدؤك في الطرح لقضايا مثل هذه تستحق الصراخ، فياليت صوتك يصل إلى المسؤلين وياليتهم يعون أن هذا النعق الطائفي لن يجلب على البلاد والعباد سوى التفكك والتشرذم والتحزب والتعصب الذي نهايته التخلف والإنهيار،البلد ومجتمعاتها بحاجة إلى أمثالك من ذوي الأقلام الرصينه والمخلصة، سلمت يداك وأكثر الله من أمثالك

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س