الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين ضفتيّ النثر والشعر

شجاع الصفدي
(Shojaa Alsafadi)

2009 / 6 / 22
الادب والفن


تصاعدت في السنوات الأخيرة حدة الخلاف حول أحقية قصيدة النثر في الوجود ومدى المساحة التي تتيحها لها القصيدة العمودية ، وغالبا ما تتوّج الآراء وللأسف حول قصيدة النثر والقصيدة العمودية بالتشدد وكأن كلاً منهما يجب أن تلغي حق الأخرى في الوجود أو أن إحداهما دخيلة على ساحة الأخرى وذلك يجعل كلتيهما تنحدران دون أن يدرك مريدو هذه أو تلك تفاقم المنحدر الذي يتجهون إليه في الخلاف متناسين ضرورة المضي في تطوير الفكر والارتقاء بالمستوى الفني للشعر بكافة صنوفه بدلا من الانشغال في التصنيف وأحقية هذا النمط من الكتابة أو ذاك ، وأن على الشعراء بشتى توجهاتهم أن ينشغلوا بالتجديف في عباب البحر لصيد كل ما هو ثمين من لؤلؤ ومرجان وزمردٍ لامع ومتألق والابتعاد عن المياه الآسنة والراكدة والتي تعج بالتماسيح التي تنهش كل جميل ، وتفوح منها رائحة البغض والموت .
ولا شك أني قرأت الكثير جدا من الآراء في محافل أدبية مختلفة ، بعضها يهاجم قصيدة النثر ويطرح وجهة نظره ، وبعضها يقدم رؤية مختلفة تصر على أن القصيدة العمودية هي الأساس وأن سواها هو خروج عن الجذور وتبرؤ من الأصل ولكلٌ من الطرفين وجهة نظر يجب احترامها دون الدخول في متاهات خلافية لا تجدي نفعا ولا تقدمنا خطوة للأمام في الإبداع الأدبي والفني .
ولكن في عودة للجذور الحقيقية ودون التوغل في صلب الخلاف بلا طائل أرى أن الخطأ والخلل المسبب في الخلاف هو مسمى قصيدة النثر وهو الذي أراه دخيلاً وخلق تخبطا لدى الكثيرين حتى بات كل من كتب سطرين رأى أنه كتب قصيدة كونية وإن انتقدته بكلمة بتّ عدواً له .
لا يوجد برأيي شيئا اسمه "قصيدة النثر " وإنما هنالك نص نثري مفتوح المدى للإبداع الفني .
والإبداع هنا يعتمد على الوسيلة ، والنثر وسيلة كما هو الشعر ، يعتمد النثر على التصوير الموسيقى العذب ، به يمكنك أن تخلق موسيقى ، تعزف لحناً راقيا من خلال أوتار اللغة فتخلب لبّ القارئ وتجعله يوغل في ثنايا ما قدّمت ويشعر بأنه التهم للتو وليمة ذات مذاق رائع وتذوق حلوى ما زالت تشعره بالعطش للمزيد.
والشعر العمودي يعتمد على فنون الوزن وترانيم العزف على أوتار خاصة وأصول اللغة العميقة وهو إبداع كبير يحتاج لدقة هائلة بلا شك .
وكلاهما إبداع حقيقي وكبير ، ولكن الفرق ما بين الشعر العمودي والنثر ، هو أن الأول له ضوابط وحين يعزف الشاعر فهو ملزم بنوتة موسيقية معينة وفق سطورها عليه أن يترنم ويقدم لحنه ، وبقدر ما توافق مع تلك النوتة بقدر ما كان اللحن شجياً وإن خرج عن سياقها بدأ اللحن بالخراب وفقد الحس الفني البديع فيه .
أما النثر فهو يشبه اللحن العشوائي المفاجئ ، يبرق كوميضٍ خاطف لا يلتزم بنوتة موسيقية , ولا بضوابطها ، وإنما يعتمد على الأوتار الحسّية للمبدع ، وإن كان المبدع متمكنا من أدواته سيقدم لحناً رائعا ، ويكون أيضا وليمة في غاية الدهشة تجعل المتلقي يركض خلف السطور بنهم ويعيش بينها ويشعر أنه منها وفيها .
وإن كان الكاتب ينثر كلاما منمقا جامداً مصفوفا بدقة ويسميه نثرا ويكون فاقدا للحس الشعري فهذا يجعل القارئ ينفر منه ويبتعد عنه ويقول في نفسه : فقد الشعر معناه .
إذن الخلل ليس في النثر ولا عيباً في الشعر وإنما الخلل في ماهية المبدع وأدواته ومقدرته الذاتية فهي التي تنفّر القارئ وهي التي تجذبه .
لا حاجة على الإطلاق لمسمى " قصيدة النثر " وليس مطلوبا للنثر الغرق في بحور الخليل ولا أي أوزان وإنما على المبدع ألا يغرق القارئ في دوامات التيه وعدم الفهم وعدم الإحساس والإدعاء أن هذا نص حداثي خطير واتهام من ينتقد النص بأنه لم يرتقِ فكراً بعد ليتفهم قصيدة كونية كتلك ، كما حدث في أحد المنابر الأدبية وقرأته فضحكت حتى التعب من هذا المنطق العجيب .
وإن كان تفسير البعض للنثر بأن تجلس على مقهى على ناصية الشارع وتكتب مثلا : " مرت الجميلة على حائط يهبط في الأرض كدودة وتدق بكعبيها أسوار السماء وكان صدرها يتطاول على خيمة في شمال الأندلس عرجت منها على بغداد !! " أن هذا هو الإبداع النثري فعندها أقف وأقول : ليسقط النثر ويحيا الشعر العمودي .
ولكن حين أقرأ نصا نثريا لا يقحم التراكيب اللغوية البلهاء وأشعر من السطر الأول حتى الأخير أنّي أعيش الحدث مع هذا الكاتب وأني أسارع لألتهم السطور لأعرف بم سيختتم النص وأحاول توقع ما سيكتب في الخاتمة فعندها أرفع القبعة وأقول هذا هو الإبداع الأدبي والتنافس الراقي المعقول ما بين المبدعين نثرا كان أو شعراً .
لا حاجة بالأدباء والمثقفين للصراع حول ماهية قصيدة النثر وتطفلها على عالم الشعر العمودي والتفعيلي، ولا حاجة بهم للخوض في صراعات بلا جدوى ترهق الأدب والإبداع وتعيدنا للوراء ألف عام ، وإنما الصواب هو أن يرتقي كلٌ بالأسلوب الأدبي الذي يشاء ، ولا ينهزم أمام التطبيل والتزمير هنا وهناك ، ولا يلتفت لمن يصنعون الأصنام فنحن لا نريد أصناما نتعبد في محرابها ولا نريد جماداً نسلّم بأنه سيد الشعر ونبصم فقط .
وإنما نريد حضارةً وفكراً وأدباً راقيا يحمل رسالة الإنسانية وينتهج التهذيب في النقد والانتقاد والأخلاق في التنافس الإبداعي النبيل والسمو في تعاملاتنا وتعاطينا مع كافة صنوف الإبداع الراقي والنظيف .
أما الذين ينشغلون بتفخيخ الكلام وتلغيم النصوص وإشعال جذوة الصراع ما بين نمطين لا يمكن تجزئتهما عن الأدب بأي شكل فللنثر عالمه الحضاري الجميل وللشعر عالمه الفني والإبداعي الأنيق والذي يحكم هو القارئ وحده والذي يستمتع هو القارئ ويدرك جيداً كيف يميز الغث من السمين .
ومن يقدم جميلاً للجمهور سيجد الصدى ومن يقدم الغث للجمهور سيجده حتى وإن جعله البعض نبيا للشعر أو جاملوه ونافقوه لأي غرضٍ كان ، فهذا سيجعل من إبداعه ينحدر حتى لا يهضمه أحد مع مرور الوقت .
لذلك فالحقيقة يجب أن تفرض نفسها ويجب أن نقدم دعمنا للأدب الجميل والفن والإبداع الذي نقرأ سطوره ونشعر بأنها تنبض فينا وتعيش طويلا ، أما النصوص التي تشغل مساحةً هنا وهناك وتأخذ وقتنا دون نكهة ولا مذاق فلا حياة لها وسرعان ما تنفق وتتلاشى .
أخيرا في رؤيتي الخاصة لا يوجد صراع بين النثر والشعر فكلاهما مكمّل للآخر ، كلاهما له سلّم إبداع وارتقاء وبدلاً من أن يتهم النثّار أصحاب الشعر العمودي بالجمود والرجعية عليهم أن يبدعوا في فن النثر وتقديم جمالياتهم لتكون رصيدا لهم أمام جمهور القراء .
وبدلا من أن ينكر شعراء النظم حق النثر في الوجود عليهم أن يبدعوا في نظمهم ويخلقوا منه موسيقى تشجى القلوب والأذهان وأن يبدعوا في ذلك .
وكما كان الحرف للنفري داره علينا جميعا أن يكون الحرف دارنا واللغة هي غذاؤنا والقارئ هو الضيف الذي نكرّمه بما لدينا من ولائم الكلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى