الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات

روزا لوكسمبورغ
(Rosa Luxemburg)

2024 / 1 / 14
الارشيف الماركسي


دار الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت
الطبعة الأولى 1970


فهرس
1- الثورة الروسية والفوضوية والإضراب العام
3
2- الإضراب الجماهيري: نتاج تاريخي وليس نتاجا مصطنعا
6
3- تطور حركة الإضراب الجماهيري في روسيا
9
4- تفاعل النضالين السياسي والاقتصادي
22
5- دروس الحركة العمالية في روسيا التي تنطبق على ألمانيا
28
6- تعاون العمال المنظمين وغير المنظمين ضروري للنصر
32
7- دور الإضراب الجماهيري في الثورة
36
8- الحاجة إلى عمل موحد بين الاشتراكية الديموقراطية والنقابات
41


1- الثورة الروسية والفوضوية والإضراب العام
تعود كل كتابات وبيانات الاشتراكية العالمية في موضوع الإضراب الجماهيري إلى وقت يسبق الثورة الروسية (1905-م)، أول تجربة تاريخية لوسيلة النضال هذه على نطاق واسع. ولذا فإن من الواضح أنها في معظمها قد عفى عليها الزمن، وموقفها من المسألة هو جوهريا موقف إنجلز الذي كتب في العام 1873، في نقده للأخطاء الثورية التي ارتكبتها الباكونينية في إسبانيا، يقول:
«الإضراب العام هو في برنامج الباكونينية الرافعة التي تستخدم لتحقيق الثورة الاجتماعية. فذات صباح جميل، سيتوقف العمال جميعا في كل صناعة في البلد، وربما في كل البلدان، عن العمل ليجبروا بذلك الطبقات الحاكمة على الخضوع خلال قرابة أسابيع أربعة، أو على شن هجوم على العمال، فيصبح للعمال الحق في أن يدافعوا عن أنفسهم وقد ينتهزون الفرصة للإطاحة بالمجتمع القديم. وليس هذا الاقتراح جديدا أبدا : فقد عرضه الاشتراكيون الفرنسيون والبلجيكيون باستمرار منذ العام 1848، ولكنه مع ذلك ذو أصل إنجليزي. فخلال التقدم السريع القوي الذي أحرزته الحركة الشارتية[1] (الميثاقية) بين العمال الانجليز عقب أزمة عام 1837، جرى التبشير بـ«الشهر المقدس» –إيقاف العمل على النطاق القومي- في وقت مبكر يعود إلى العام 1839، فكانت له أصداء محبذة حتى أن عمال المصانع في شمال إنجلترا حاولوا القيام به في يوليو 1842. وفي مؤتمر التحالفيين الذي انعقد في جنيف في 1 سبتمبر 1873 لعب الإضراب دورا عظيما، ولكن الجميع اعترفوا أن القيام به يتطلب تنظيما للطبقة العاملة يبلغ حد الكمال وخزينة حربية ملأى. وهذه هي عقدة المسألة. فمن جهة، لن تسمح الحكومات أبدا لصناديق العمال المالية أن تكبر إلى حد كاف، خاصة إذا شجعها على ذلك غياب العمال عن العمل السياسي، ومن جهة أخرى ستؤدي الأحداث السياسية وانتهاكات الطبقات الحاكمة إلى تحرير العمال قبل أن يتشكل هذا التنظيم المثالي وتبلغ الاعتمادات المالية الاحتياطية هذا القدر من الضخامة بوقت طويل. ولكن إذا كان العمال يملكون كل هذا فلن تعود بهم حاجة إلى سلوك طريق الإضراب العام غير المباشر لتحقيق هدفهم».
هنا نجد المنطق الذي ميز موقف الاشتراكية الديموقراطية من الإضراب الجماهيري خلال العقود التي تلت. وهو مبني على النظرية الفوضوية للإضراب العام –أي نظرية الإضراب العام كوسيلة لافتتاح الثورة الاجتماعية بدلا من النضال السياسي اليومي للطبقة العاملة- ويستنفذ هذا المنطق ذاته في الإشكال البسيط التالي : إما أن البروليتاريا ككل لم تمتلك بعد التنظيم القوي والموارد المالية المطلوبة، وفي هذه الحالة لا تستطيع القيام بالإضراب العام، أو أنها منظمة فعلا بصورة جيدة بما فيه الكفاية، وفي هذه الحالة لا تحتاج الإضراب العام. هذا المنطق بسيط ويبدو أةل وهلة منطقا لا يدحض حتى أنه أدى، مدة ربع قرن، خدمة ممتازة للحركة العمالية الحديثة كسلاح منطقي ضد الشبح الفوضوي وكوسيلة لنقل فكرة النضال السياسي إلى أوسع حلقات العمال. ولا شك أن الخطوات الواسعة التي خطتها الحركة العمالية في ربع القرن الأخير في كل البلدان الرأسمالية هي الدليل المقنع على قيمة تكتيكات النضال السياسي التي أصر عليها ماركس وإنجلز في معارضتهما للباكونينية. وما الاشتراكية الديموقراطية الألمانية في موقعها كطليعة للحركة العمالية العالمية كلها إلاّ نتاج التطبيق الدائب النشيط لهذه التاكتيكات.
غير أن الثورة الروسية أدت الآن إلى مراجعة كاملة لهذا المنطق. ذلك أنها طبقت للمرة الأولى في التاريخ فكرة الإضراب الجماهيري على نطاق عظيم، حتى أنها –كما سنبحث في ما بعد- أنضجت الإضراب العام فاتحة بذلك حقبة جديدة في تطور الحركة العمالية. ولا يتبع من ذلك بالطبع أن تكتيكات النضال السياسي التي أشار بها ماركس وإنجلز كانت خاطئة أو أن نقدهما للفوضوية كان غير صحيح. على العكس من ذلك، إن سلسلة الأفكار ذاتها، الطريقة ذاتها، التاكتيكات الماركسية-الإنجلزية التي تكمن في أساس الممارسة السالفة للاشتراكية الديموقراطية الألمانية هي التي تنتج اليوم في الثورة الروسية عوامل جديدة وشروطا جديدة في الصراع الطبقي. والثورة الروسية، وهي التجربة التاريخية الأولى لنموذج الإضراب الجماهيري، لا تقدم تبرئة للفوضوية. وليس ذلك فحسب، بل أنها في الواقع تعني التصفية التاريخية للفوضوية. إن الوجود التاعس الذي قضي على هذا المنحى الفكري أن يعيشه في العقود الأخيرة بفعل التطور القوي للاشتراكية الديموقراطية الألمانية يمكن إلى حد ما تفسيره بسيادة الفترة البرلمانية سيادة مطلقة مدة طويلة. فمنحى يقوم كليا على «الضربة الأولى» و«العمل المباشر»، منحى «ثوري» بالمعنى الأكثر فظاظة للكلمة لا يمكن إلاّ أن يذبل مؤقتا في هدوء البرلمانية، ويمكن أن يستعيد الحياة ويكشف عن قوته الكامنة إذا عادت فترة النضال المباشر المكشوف.
بدا أن روسيا، على وجه الخصوص، أصبحت حقل التجارب للأعمال البطولية للفوضوية. فقد كانت روسيا بلدا لا تملك فيه البروليتاريا أي حقوق سياسية إطلاقا، وليس لها إلا تنظيمات ضعيفة جدا، بلدا فيه قطاعات من السكان مختلفة الألوان وفوضى من المصالح المتضاربة ومستوى ثقافي منخفض بين جماهير الشعب، ويستخدم فيه النظام السائد العنف بفظاظة قصوى، فبدت الأمور كما لو أن ذلك كله إنما وجد ليرفع الفوضوية فجأة إلى سدة القوة ولو لفترة قصيرة. وفي النهاية كانت روسيا مسقط رأس الفوضوية، ولكن موطن باكونين أصبح مقبرة لتعاليمه. فالأمر لا يقتصر فحسب على أن الفوضويين في روسيا لا يقفون على رأس حركة الإضراب الجماهيري، وأن القيادة السياسية للعمل الثوري تقع كليا في يد المنظمات الاشتراكية الديموقراطية التي يعارضها الفوضويون الروس معارضة مريرة على أنها «أحزاب بورجوازية» أو تقع جزئيا في يد منظمات اشتراكية واقعة بدرجة أو بأخرى تحت تأثير الاشتراكية الديموقراطية وقريبة منها إلى هذا الحد أو ذاك –مثل الحزب الإرهابي، حزب «الثوريين الاشتراكيين»- بل يتعدى الأمر ذلك إلى أن الفوضويين ببساطة ليسوا موجودين كنهج سياسي جدي في الثورة الروسية. فهناك فقط في مدينة ليتوانية صغيرة تتميز بظروف صعبة – خليط مشوش من قوميات متعددة بين العمال، حالة مشتتة إلى درجة قصوى من الصناعة الصغيرة الحجم، بروليتاريا مضطهدة بقسوة – هي بيليستوك توجد من بين سبع أو ثماني مجموعات ثورية مختلفة حفنة من «الفوضويين» نصف النامين ينشرون التشوش والحيرة بأقصى ما يستطيعون بين العمال، وكذلك تنجح جماعة من الناس من هذا النوع في موسكو ومدينتين أو ثلاث مدن أخرى في أن تجعل نفسها ملحوظة.
ولكن ما هو الدور الفعلي للفوضوية في الثورة الروسية عدا بضع الجماعات «الثورية» هذه؟ لقد أصبحت الفوضوية علامة اللص والمحتال العادي، فالكثير من أعمال السرقة والنهب التي لا تحصى يقوم بع بعض الأشخاص باسم «الشيوعية-الفوضوية» – أعمال تنمو كموجة هائجة ضد الثورة في كل فترة ركود وفي كل فترة تقف فيها الثورة موقف الدفاع المؤقت. لم تصبح الفوضوية في الثورة الروسية نظرية البروليتاريا المناضلة. بل أصبحت الراية الأيديولوجية التي تتجمع في ظلها البروليتاريا الرثة المعادية للثورة، تلك البروليتاريا الرثة التي تندفع بأعداد كبيرة كقطيع من سمك القرش في أعقاب سفينة الثورة. وبذلك قاربت السيرة التاريخية للفوضوية على الانتهاء.
من جهة أخرى، لم يقم الإضراب العام في روسيا كوسيلة لتجنب النضال السياسي للطبقة العاملة، وعلى الأخص النضال البرلماني، ولا كوسيلة للقفز إلى الثورة الاجتماعية فجأة بانقلاب مسرحي، بل كوسيلة في المقام الأول لخلق ظروف النضال السياسي اليومي وبخاصة البرلماني. إن النضال الثوري في روسيا، الذي تشكل الإضرابات الجماهيرية أكثر أسلحته أهمية، نضال يقوم به الشعب العامل، والبروليتاريا قبل كل من عداها، من أجل الحقوق السياسية والشروط التي كان ماركس وإنجلز أول من بيَّن ضرورتها وأهميتها لنضال الطبقة العاملة من أجل إنعتاقها، والتي ناضل من أجلها في الأممية بكل قوتهما وضد الفوضوية. هكذا جعل الجدل (الديالكتيك) التاريخي، الصخرة التي تقوم عليها كل تعاليم الاشتراكية الماركسية، جعل الفوضوية تقف في الممارسة على تضاد مع الإضراب الجماهيري وهي التي ترتبط بها فكرة الإضراب الجماهيري ارتباطا وثيقا، بينما أصبح الإضراب الجماهيري، الذي كان يقارع بصفته نقيضا للنشاط السياسي للبروليتاريا، يبدو أقوى أسلحة النضال من أجل الحقوق السياسية. لذا إذا كانت الثورة الروسية قد جعلت مراجعة الموقف الماركسي القديم من مسألة الإضراب الجماهيري أمرا لا غنى عنه، فإن الماركسية ذاتها هي التي تابعت بمنهجها العام ووجهات نظرها النضال في شكل جديد. لن تموت حبيبة المغربي إلا بيد المغربي.


2- الإضراب الجماهيري: نتاج تاريخي وليس نتاجا مصطنعا
ترتبط المراجعة الأولى لمسألة الإضراب الجماهيري، التي تنتج عن تجربة روسيا، بالمفهوم العام للمسألة. إن المدافعين المتحمسين عن «محاولة الاضراب الجماهيري» في ألمانيا من طراز برنشتاين وإيسنر الخ وأيضا أعنف المعارضين لمحاولة كهذه في معسكر النقابات مثل بوميلبرج مثلا، يقفون جميعا، بعد كل شيء، على أرض المفهوم ذاته، أي المفهوم الفوضوي. والمتضادان الظاهريان لا يستثني كل منهما الآخر بل إن كلا منهما كما هي العادة يكيف ويكمل الآخر. ذلك أن نمط التفكير الفوضوي تأمل مباشر في الثورة الاجتماعية كمجرد سمة برانية وغير هامة. فالأمر الهام، طبقا لهذا النمط من التفكير هو الكل المجرد، هو وجهة النظر اللا تاريخية في الإضراب العام وفي كل شروط النضال الجماهيري بشكل عام.
فلا يوجد بالنسبة للفوضوي غير أمرين اثنين كافتراضات مادية لتأملاته «الثورية» – أولهما التخيل وثانيهما طيب النية والشجاعة لتخليص الإنسانية من وادي الدموع الرأسمالي القائم. وقد خرج هذا النمط التوهمي من التفكير، قبل ستين سنة، بنتيجة مؤداها أن الإضراب الجماهيري هو السبيل الأقصر والأسهل والأكيد للقفز إلى مستقبل اجتماعي أفضل. وخرج هذا النمط من التفكير ذاته حديثا بنتيجة مؤادها أن النضال النقابي (التريديونيوني) هو «العمل المباشر» الحقيقي الوحيد للجماهير، وأنه النضال الثوري الحقيقي الوحيد – وهذا كما هو معروف جيدا أحدث رأي يتبناه «النقابيون» (السنديكاليون) الفرنسيون والإيطاليون. إن ما أصاب من الفوضوية مقتلا هو أن وسائل النضال التي اخترعت في الهواء كانت على الدوام حسابات تغفل الواقع، أي أنها كانت طوباوية. وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الوسائل في الوقت الذي لم تكن فيه تدخل الواقع الشرير الحقير في الحساب، كانت تتحول في هذا الواقع الشرير ذاته إلى أدوات تساعد الرجعية عمليا، في حين أنها لم تكن سابقا وفي معظم الأحيان سوى تأملات ثورية.
إن أولئك الذين، على طريقة مجلس إدارة شركة ما، يضعون الإضراب الجماهيري في ألمانيا على جدول الإعمال في يوم معين، وأولئك الذين يمحون مسألة الإضراب الجماهيري عن وجه الأرض باسم حظر «الدعاية» كما فعل المشتركون في مؤتمر النقابات في كولون، أولئك جميعا يقفون على الأرض ذاتها، أرض الوسائل المجردة اللا تاريخية للملاحظة. ويقوم هذان المنحيان على الافتراض الفوضوي المحض بأن الإضراب الجماهيري وسيلة تقنية للنضال يمكن أن «تقرر» أو «تمنع» حسب الرغبة وطبقا للضمير – وكأنه سكين جيب يمكن أن يوضع في الجيب مغمدا «متأهبا لأي طارئ» حتى إذا ما تقرر استخدامه يفتح ويستخدم. أمّا معارضو الإضراب العام فهم يدعون لأنفسهم فعلا ميزة أخذ الأرضية التاريخية والظروف المادية للوضع الراهن في ألمانيا بعين الاعتبار مقابل «الثوريين الرومانتيكيين» الذين يحومون في الهواء ويغفلون في كل لحظة الحقائق القاسية والإمكانيات والمستحيلات. وهم يصرخون مثل السيد جاد جريند في رواية ديكنز «الأزمنة الصعبة» : «حقائق وأرقام، أرقام وحقائق».
يفهم معارضو الإضراب العام من النقابيين بـ«الأساس التاريخي» و«الظروف المادية» شيئين – من جهة ضعف البروليتاريا ومن جهة ثانية قوة العسكرية البروسية-الألمانية. تنظيم العمال غير الكافي والحرية البروسية الطاغية – هذه هي الأرقام والحقائق التي يقيم عليها القادة النقابيون سياستهم العملية في هذه الحالة. صحيح أن الصندوق المالي للنقابة والحرية البروسية ظاهرتان ماديتان وجد تاريخيتان، ولكن المفهوم المبني عليهما مفهوم ليس المادية التاريخية بالمعنى الماركسي بل هو مادية رجل الشرطة. إن ممثلي الدولة البوليسية الرأسمالية يأخذون بالحسبان كثيرا القوة الحقيقية المتقطعة للبروليتاريا المنظمة وكذلك القوة المادية للحرية. ويستنتجون من مقارنة هذه الأرقام نتيجة مريحة هي أن الحركة العمالية الثورية نتاج أفراد ديماغوجيين ومحرضين، ولذا فإن السجون والحراب وسيلة كافية لإخماد هذه «الظاهرة العابرة» المزعجة.
أخيرا التقط العمال الألمان الواعون طبقيا روح الفكاهة الكامنة في النظرية البوليسية التي تقول أن كل الحركة العمالية الحديثة نتاج اعتباطي مصطنع من فعل حفنة من «الديماغوجيين والمحرضين» عديمي الضمير.
بيد أن هذا المفهوم بالضبط هو ما يعبر عنه عندما يجتمع إثنان أو ثلاث من الرفاق ليشكلوا رابطة طوعية من الحراس الليليين تأخذ على عاتقها تحذير الطبقة العاملة الألمانية من التحريض الخطر الذي يقوم به بضعة «رومانتيكيين ثوريين» و«دعايتهم للإضراب العام»، أو في الجانب الآخر عندما تنظم حملة سخط صاخب من جانب أولئك الذين يعتقدون أن بوسعهم منع إندلاع الاضراب العام في ألمانيا بواسطة اتفاقات «سرية» بين اللجنة التنفيذية للحزب والهيئة العامة للنقابات.
ولو كان الأمر يعتمد على «الدعاية اللاهبة» التي يقوم بها الثوريون الرومانتيكيون أو على القرارات أو السرية أو العلنية لقيادة الحزب لما حدث في روسيا إضراب جماهيري واحد. فليس هناك أي بلد في العالم، كما بينت في آذار/مارس 1905، كانت «الدعاية» فيه للاضراب العام أو حتى «بحثه» بالقدر من الضآلة التي كانت فيه روسيا. كما أن الأمثلة المتفرقة للاتفاقات والقرارات التي سعت فيها اللجنة التنفيذية للحزب الروسي إلى إعلان الاضراب العام من لدنها كانت عديمة الأهمية في الواقع، كما في المحاولة الأخيرة التي جرت في آب/أغسطس من هذا العام بعد حل الدوما.
لذا، إذا كانت الثورة الروسية تعلمنا شيئا، فإنها قبل كل شيء تعلمنا أن الإضراب العام لا يصطنع ولا «يقرر» عفوا ولا يحدث نتيجة «الدعاية»، بل هو تلك الظاهرة التاريخية التي تنجم بحتمية تاريخية عن ظروف إجتماعية في لحظة معينة. لذا فإن المسألة لا يمكن أن تستوعب ولا حتى تبحث بالتأمل المجرد في إمكانية أو استحالة الإضراب العام أو نفعه أو عدم ضرره، بل بتفحص تلك العوامل والظرورة الاجتماعية التي ينجم الاضراب العام عنها في المرحلة الراهنة من الصراع الطبقي، بكلمات أخرى لا تستوعب المسألة «بالنقد الذاتي» للإضراب العام انطلاقا مما هو مرغوب فيه، ولكن فقط «بالتمحيص الموضوعي» لأسباب الإضراب العام انطلاقا مما هو محتوم تاريخيا.
ففي مجال التحليل المنطقي المجرد غير الواقعي، يمكن بالقدر ذاته من القوة أن يثبت أن الإضراب العام مستحيل تماما وهزيمته أكيدة أو أنه ممكن وانتصاره أمر لا يناقش. ولذا فإن الأدلة التي تساق لدعم أي من وجهتي النظر هاتين متساوية في قيمتها، إذ أنها بلا قيمة. ولذا فإن خشية «نشر» الإضراب العام، التي بلغت حد إصدار قرارات رسمية بـ«الحرمان» ضد أشخاص أتهموا باقتراف هذه الجريمة، ليست إلاّ نتاج ارتباك مضحك. فمن المستحيل «نشر» الإضراب العام كوسيلة مجردة للنضال استحالة نشر «الثورة». فالثورة مثلها مثل الإضراب العام لا تمثل إلاّ شكلا برانيا للصراع الطبقي لا يمكن أن يكون له معنى ومغزى إلاّ بالعلاقة مع أوضاع سياسية محددة.
وإذا أراد امرؤ أن يجعل الإضراب العام بصفته شكلا من أشكال العمل البروليتاري موضوعا لتحريض منهجي فيذهب من بيت لآخر ناشرا هذه الفكرة لكسب الطبقة العاملة تدريجيا إلى جانبها، لكان هذا عملا سخيفا غير مجد كما لو أن امرء سعى إلى جعل فكرة الثورة أو قتال المتاريس موضوع تحريض مخصوص. لقد أصبح الإضراب الجماهيري الآن موضع اهتمام حي من الطبقة العاملة الألمانية والعالمية لأنه شكل جديد من أشكال النضال، وهو بصفته هذه دليل أكيد على ثورة داخلية شاملة في العلاقات ما بين الطبقات وفي شروط الصراع الطبقي. إن اهتمام البروليتاريا الألمانية بهذه المسألة الجديدة اهتماما حادا، رغم المعارضة العنيدة من جانب قادة النقابات، لدليل على غريزتها الثورية الحقة وسرعة ذكائها.
ولكن في وجود هذا الاهتمام وهذا العطش الفكري الجيد للأعمال الثورية والرغبة فيها، ليس المطلوب أن يدرب العمال تدريبا عقليا مجردا على إمكانية واستحالة الإضراب الجماهيري. بدلا من ذلك يجب أن يوعوا بشأن تطور الثورة الروسية وأهميتها العالمية وبشأن تفاقم حدة الصراعات الطبقية في أوروبا الغربية وكذلك بصدد الآفاق السياسية الأوسع للصراع الطبقي في ألمانيا ودور ومهام الجماهير في النضالات القادمة. وبهذه الطريقة فقط يمكن للمناقشات في الإضراب الجماهيري أن تؤدي إلى توسيع الأفق الفكري للبروليتاريا وشحذ طريقتها في التفكير وتصليب طاقتها.
إذا نظرنا للأمر من وجهة النظر هذه فإننا نتبين كل سخافة المحاكمات التي يرغب في اجرائها إعداد «الرومانتسكية الثورية» بحجة أن دعاة الإضراب لا يتقيدون في معالتهم لهذه المسالة بقرار يينا. يوافق «السياسيون العماليون» إذا دعت الحاجة على هذا القرار، ذلك أنهم يقرنون الإضراب الجماهيري بمصير الاقتراع العام. ويتبع من هذا أنهم يستطيعون أن يؤمنوا بشيئين: أولا أن الإضراب الجماهيري ذو طابع دفاعي محض وثانيا أن الإضراب الجماهيري خاضع للبرلمانية أي أنه قد حول إلى مجرد ملحق بالبرلمانية. ولكن اللب الحقيقي لقرار يينا في هذا المجال هو أن أي محاولة تقوم بها الرجعية السائدة لالغاء التصويت البرلماني، ضمن الظروف الراهنة لألمانيا، قد تعني حلول اللحظة المناسبة لبدء فترة من النضالات السياسية العاصفة قد يستخدم فيها الإضراب الجماهيري كوسيلة للنضال للمرة الأولى في ألمانيا. ولكن السعي إلى التقليل من الأهمية الاجتماعية للإضراب الجماهيري كظاهرة وكمسألة من مسائل الصراع الطبقي والحد من أفقه التاريخي بواسطة قرار صدر عن مؤتمر، إنما هو عمل يقارن في قصر نظره بالاعتراض على بحث المسألة في مؤتمر النقابات في كولون. إن الاشتراكية الديموقراطية الألمانية قد اعترفت في قرار مؤتمر يينا رسميا بالتحول الأساسي الذي احدثته الثورة الروسية في الظروف العالمية للصراع الطبقي البروليتاري، وبهذا القرار أعلنت الاشتراكية الديموقراطية الألمانية عن قدرتها على التطور الثوري وقدرتها على التكيف طبقا للمتطلبات الجديدة التي تفرضها المرحلة القادمة من الصراع الطبقي. وهنا تكمن أهمية قرار يينا. أما التطبيق العملي للإضراب الجماهيري في ألمانيا فإن التاريخ هو الذي سيقرره كما قرره في روسيا، ذلك التاريخ الذي تشكل الاشتراكية الديموقراطية الألمانية بقراراتها عاملا مهما من عوامله، ولكنها في الوقت نفسه ليست إلاّ عاملا واحدا بين عوامل كثيرة.


3- تطور حركة الإضراب الجماهيري في روسيا
الإضراب الجماهيري، كما يبدو في معظم النقاشات في ألمانيا، ظاهرة معزولة واضحة جدا مرسومة بدقة مخططة ببساطة. وما يجري الحديث عنه هو الإضراب الجماهيري السياسي فحسب. ويعني به انتفاضة مفردة عظيمة تقوم بها البروليتاريا الصناعية وتنبثق من دافع سياسي ذي أهمية قصوى وتقوم على أساس تفاهم متبادل مناسب بين السلطات القائدة للحزب وتلك التي تقود النقابات وينفذ بروح الانضباط الحزبي وبنظام كامل تحققه اللجان المسيرة حين تلتقي الإشارة في الوقت المناسب، تلك اللجان التي تقرر سلفا الدعم والثمن والتضحية وبكلمة واحدة تقرر الحساب المادي للإضراب الجماهيري كله.
عندما نقارن هذا المخطط النظري بالإضراب الجماهيري الحقيقي كما ظهر في روسيا قبل خمس سنوات، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على القول أن هذه الصورة التي تحتل موقعا مركزيا في النقابات الألمانية لا تكاد تنطبق على أي من الاضرابات التي وقعت بالفعل. ومن جهة أخرى فإن الإضراب الجماهيري في روسيا يتكشف عن العديد من أشكال العمل المختلفة التنوع لدرجة تجعل من المستحيل الحديث عن «الـ»إضراب الجماهيري أي الحديث عن مخطط تجريدي للإضراب الجماهيري. فليست عوامل الإضراب الجماهيري وكذلك سماته مختلفة باختلاف المدن والأقاليم في البلد الواحد فحسب، بل إن طابعه العام أيضا كثيرا ما تغير خلال الثورة. لقد مر الإضراب الجماهيري عبر تاريخ محدد في روسيا ولا يزال يتقدم عبره ولذا فان من يتحدث في روسيا يجب قبل كل شيء أن يبقى هذا التاريخ ماثلا في ذهنه.
إن الفترة الراهنة من الثورة الروسية تعود بحق إلى انتفاضة البروليتاريا في 22 يناير 1905 عندما انتهت تظاهرة قام بها 200 ألف عامل بحمام دم مخيف أمام قصر القيصر. فكانت المذبحة الدموية، كما هو معروف جيدا، إشارة اندلاع السلسلة الضخمة الأولى من الإضرابات الجماهيرية التي انتشرت على امتداد روسيا كلها خلال بضعة أيام والتي حملت نداء العمل الثوري من بطرسبورج إلى كل زاوية من زوايا الامبراطورية وبين أوسع قطاعات البروليتاريا. ولكن انتفاضة بطرسبرج في 22 يناير لم تكن غير اللحظة الحرجة في إضراب جماهيري كانت بروليتاريا العاصمة القيصرية قد بدأته في يناير 1905. ولا شك في أن إضراب يناير الجماهيري هذا قد حدث بتأثير مباشر من الإضراب العام الضخم الذي انفجر في القفقاس وباكو في ديسمبر 1904 والذي ترك روسيا كلها في حالة من الترقب المتوتر مدة طويلة. لكن أحداث ديسمبر في باكو لم تكن بدورها غير العاقبة الأخيرة القوية لتلك الإضرابات الجماهيرية العديدة التي هزت مثل هزة أرضية دورية كل جنوب روسيا والتي كان المدخل إليها الإضراب الجماهيري في باطوم في مارس 1902.
وفي النهاية فإن سنوات ست أو سبع تفصل حركة الإضراب الجماهيري الأولى التي تمثلت بالانفجارات الثورية المتصلة الراهنة عن الإضراب العام العظيم الذي قام به عمال النسيج في سانت بطرسبورج في 1896 و1897. وإذا كانت بضع سنوات من الركود الظاهري والردة الرجعية القوية تفصل ظاهريا ما بين هذه الحركة وبين الثورة الحالية فإن كل من يعرف التطور السياسي الداخلي للبروليتاريا الروسية حتى مرحلة الوعي الطبقي والنشاط الثوري الراهنة، يعي بلا شك أن تاريخ الفترة الراهنة من الإضرابات الجماهيرية يبدأ بتلك الإضرابات العامة في سانت بطرسبورج. ولذا فإن هذه الأخيرة هامة فيما يتعلق بمسائل الإضراب الجماهيري لأنها تحتوي في شكل بذور كل العوامل الرئيسية للإضرابات الجماهيرية اللاحقة.
مرة أخرى يبدو إضراب سانت بطرسبورج العام في 1896 نضالا اقتصاديا محضا وجزئيا من أجل الأجور. فقد كانت أسبابه ظروف العمل التي لا تطاق والتي كان يرزح تحت وطأتها عمال الغزل والنسيج في سانت بطرسبورج: فمن يوم عمل من ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ساعة إلى أجور تعيسة للعمل بالقطعة إلى سلسلة كاملة من الخدع الحقيرة من جانب أصحاب العمل. بيد أن العمال تحملوا هذه الظروف بصبر مدة طويلة، إلى أن أتى حادث يبدو تافها فجعل السيل يبلغ الزبى. ففي مايو 1896 احتفل بتتويج قيصر روسيا الحالي نيقولا الثاني بعد أن كان هذا التتويج قد أجل سنتين خشية الثوريين، وبهذه المناسبة عبر أصحاب الأعمال في سانت بطرسبورج عن حماسهم الوطني فأعطوا العمال ثلاثة أيام من العطلة الإجبارية، ولكن الغريب في الأمر أنهم لم يكونوا يرغبون في دفع أجور هذه الأيام للعمال. فغضب العمال لذلك وبدأوا يتحركون. وعقد ثلاثمائة من العمال الأذكياء مؤتمرا في حديقة إيكاترينوف يقرر على أثره الإضراب وصيغت المطالب الثالية: أولا دفع أجور أعياد التتويج، ثانيا يوم عمل من عشر ساعات، ثالثا زيادة وثائر الأجور للقطعة. كان ذلك في 24 مايو، وخلال أسبوع توقفت كل مؤسسات الغزل والنسيج وأضرب 40 ألف عامل. وقد يبدو هذا الحدث بالقياس إلى الإضراب الجماهيري الضخم خلال الثورة أمرا صغيرا. لكن الاضراب العام كان أمرا لم يسمع بمثله من قبل في ظل الجمود السياسي في روسيا حينئذ ، حتى أنه كان ثورة في نطاق صغير. وبالطبع إبتدأ بعد ذلك اضطهاد فظ فاعتقل ما يقرب من ألف من العمال وقمع الاضراب العام.
وهنا نرى كل السمات الأساسية للإضرابات الجماهيرية اللاحقة. كانت الفرصة التالية للحركة صدفة تماما حتى أنها لم تكن بهامة وإن كان الإنفجار عاتيا. ولكن ثمار التحريض الاشتراكي الديموقراطي بدت واضحة في نجاح الحركة ووقف المحرضون الاشتراكيون الديموقراطيون على رأس الحركة، فوجهوها واستخدموها لإثارة المزيد من التحريض الثوري. أكثر من ذلك، كان الاضراب في الظاهر مجرد نضال اقتصادي من أجل الأجور، ولكن موقف الحكومة وتحريض الاشتراكية الديموقراطية جعلاه ظاهرة سياسية من الطراز الأول. وفي النهاية قمع الإضراب و«هزم» العمال. لكن عمال النسيج في بطرسبورج كرروا الإضراب العام مرة أخرى في يناير من السنة اللاحقة، وحققوا في هذه المرة نجاحا بارزا: إقرار يوم عمل من أحد عشر ساعة في روسيا كلها. ولكن كانت هناك نتيجة أخرى أكثر أهمية بكثير. فمنذ الإضراب العام الأول عام 1896، ذلك الإضراب الذي قام دون ذرة من التنظيم ودون صناديق إضراب، بدأ نضال نقابي كثيف في روسيا انتشر في سانت بطرسبورج إلى الأجزاء الأخرى من البلد وفتح آفاقا واسعة جديدة أمام التحريض والتنظيم الاشتراكيين الديموقراطيين ، وبهذين كانت الطريق للثورة تمهد سرا خلال الفترة اللاحقة التي كانت في الظاهر هادئة هدوء الأموات.
كان اندلاع الاضراب في القفقاس في مارس 1902 صدفة في الظاهر وبفعل أسباب اقتصادية جزئية محضة قدر ما كان إضراب 1896 (وإن كان إضراب القفقاس قد نجم عن عوامل مختلفة تماما). وكان هذا الإضراب يتعلق بالأزمة الصناعية والتجارية الخطيرة في روسيا، تلك الأزمة التي كانت نذير الحرب اليابانية والتي كانت مع ذلك الحرب أقوى عامل من عوامل الهياج الثوري الناشئ. فقد أدت الأزمة إلى بطالة هائلة غذت التحريض بين الجماهير البروليتارية، ولكي تعيد الحكومة الهدوء والسكينة بين صفوف العمال عمدت إلى نقل «الأيدي الفائضة» في مجموعات إلى مناطقها الأصلية. فكان أن أدى إجراء من هذه الإجراءات شمل 400 عامل في البترول إلى احتجاج جماهيري في باطوم، وأدى هذا إلى تظاهرات واعتقالات ومذبحة وفي النهاية أدى إلى محاكمة سياسية تحولت فيها المسألة الاقتصادية المحضة والجزئية إلى حدث سياسي وثوري. فكانت أصداء الإضراب، الذي لم يؤد إلى نتيجة والذي قمع، سلسلة من التظاهرات الجماهيرية الثورية في نيجني نوفوجورد وساراتوف وغيرها من المدن، مما أدى بالتالي إلى دفع الموجة العامة للحركة الثورية دفعة قوية إلى الأمام.
في نوفمبر 1902، حدث الصدى الثوري الحقيقي الأول على شكل إضراب عام في روستوف-على-الدون. فقد حدثت مزاعات على معدلات الأجور في سكك حديد فلادي-قفقاس، أعطت لهذه الحركة قوة دافعة. إذ أن الإدارة سعت إلى تخفيض الأجور، ولذا اصدرت لجنة الدون للحزب الاشتراكي الديموقراطي بيانا دعا إلى الاضراب من أجل تحقيق المطالب التالية: يوم عمل من تسع ساعات، زيادة الأجور، إلغاء الغرامات، طرد المهندسين البغضاء الخ. فاشتركت ورشات سكك الحديد جميعها في الإضراب. وفي الحال شاركت كل الصناعات الأخرى وسادت في روستوف حالة لم يسبق لها مثيل، إذ توقف كل عمل صناعي، وأصبحت اجتماعات ضخمة تضم خمسة عشر وعشرون ألفا تعقد يوميا في الهواء الطلق، وكان يحيط بها أحيانا طوق من القوزاق، وفي هذه الاجتماعات ظهرالخطباء الاشتراكيون الديموقراطيون أول مرة، وألقت خطب لاهبة عن الاشتراكية والحرية السياسية كانت تقابل بحماس عارم ووزعت عشرات ألوف النسخ من النداءات الثورية. وبذلك حققت بروليتاريا روستوف بالقوة حق الاجتماع وحرية الكلام في ظل روسيا الحكم المطلق المتصلبة. وغني على القول أن مذبحة حصلت. لقد نمت النزاعات حول الأجور في سكة حديد فلادي قفقاس حلال بضعة أيام إلى إضراب سياسي عام ومعركة شوارع ثورية. وكصدى لذلك سرعان ما قام إضراب عام في محطة تيكوريتزكايا على خط الحديد ذاته، وهنا أيضا حدثت مذبحة كما حدثت محاكمة، وبذلك أخذت تيكوريتزكايا مكانها في السلسلة المتصلة لعوامل الثورة.
وأتى ربيع 1903 ليعطي الجواب للإضرابات المهزومة في روستوف وتيكوريتزكايا، ففي مايو ويونيو ويوليو التهب جنوب روسيا كله. وقام إضراب عام، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، في باكو وتفليس وباطوم والزافيتغراد واوديسه وكييف ونيكولاييف وإيكاترينوفسلاف. ولكن هنا أيضا لم تنشأ الحركة عن خطة مسبقة بل تدفقت في آن معا من نقاط عدة لأسباب مختلفة وبأشكال مختلفة. وكانت البداية في باكو حيث تتوجت عدة نضالات جزئية من أجل الأجور في مصانع متفرقة بإضراب عام. وفي تفليس بدأ الإضراب العام بألفي موظف تجاري كان يوم عملهم يمتد من السادسة صباحا حتى الحادية عشر ليلا، ففي الرابع من يوليو غادر هؤلاء جميعا المتاجر وطافوا بالمدينة ليطالبوا الملاك بإقفال ممتلكاتهم. وكان النصر تاما ناجزا، فقد كسب الموظفون يوم عمل من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، وسرعان ما لحقت بهم كل المصانع والمشاغل والمكاتب الخ، فلم تصدر الصحف ولم يمكن تسيير مواصلات الترام بالحماية العسكرية.
وفي ايلزافيتغراد، بدأ في 4 يوليو إضراب في كل المصانع بمطالب اقتصادية خالصة. فاستجيب لمعظم هذه المطالب وانتهى الاضراب في 14 يوليو. بيد أنه اندلع ثانية بعد أسبوع، وكان الخبازون هم الذين أعطوا الإشارة هذه المرة لينضم اليهم عمال صناعة الطوب وعمال الصباغة وعمال المطاحن وفي النهاية كل عمال المصانع.
وفي أوديسه بدأت الحركة بنضال من أجل الأجور، وخلال ذلك تطورت النقابة «الشرعية» التي كان عملاء الحكومة قد أسسوها طبقا لبرنامج الشرطي الشهير زوباتوف. فهنا اغتنم الجدل التاريخي الفرصة ليلعب واحدة من مزاحاته الثقيلة الظل. ذلك أن النضالات الاقتصادية في الفترة السابقة (ومن بينها إضراب سانت بطرسبورج العظيم عام 1896) أوقعت الاشتراكية الديموقراطية الروسية في خطأ تضخيم أهمية ما يدعى بالإقتصادية، ومهدت بهذه الطريقة السبيل في صفوف العمال لنشاطات زوباتوف الديماغوجية. ولكن التيار الثوري الهادر سرعان ما دار حول السفينة ذات العلم المزيف وأجبرها على المضي على رأس الأسطول البروليتاري الثوري. فأعطت النقابات الزوباتوفية الإشارة للإضراب العام العظيم في أوديسه في ربيع 1904، كما فعلت بالنسبة للإضراب العام في سانت بطرسبورج في يناير 1905. ولم يكن العمال في أوديسه لينخدعو بمظاهر الصداقة التي تبديها الحكومة تجاه العمال وتعاطفها مع الاضرابات الاقتصادية الخالصة، فقاموا فجأة بالمطالبة بالبرهان العملي وأجبروا «النقابة» الزوباتوفية في أحد المصانع على إعلان الإضراب لمطالب معتدلة جدا وفي الحال ألقي بالعمال في الشارع، وعندما طالبوا بحماية السلطات كما كان قائدهم قد وعدهم، اختفى الرجل تاركا العمال في هياج عارم.
وفي الحال وضع الاشتراكيون الديموقراطيون أنفسهم على رأس الأمور، وامتدت حركة الإضرابات إلى مصانع أخرى. ففي يوليو أضرب 2500 من عمال أحواض السفن عن العمل مطالبين بزيادة الأجر من 80 كوبيك إلى روبلين وتقصير يوم العمل بنصف ساعة. وفي 16 يوليو انضم البحارة إلى الحركة. وفي 13 يوليو بدأت هيئة الترامواي الإضراب. ثم عقد اجتماع لكل المضربين حضره 8 ألاف رجل وكون هؤلاء مسيرة طافت من مصنع إلى أخر وهي تنمو بإطراد ككتلة ثلج تنحدر من أعلى جبل إلى أن وصل الحشد قرابة أربعين أو خمسين ألفا توجهوا إلى أحواض السفن ليوقفوا العمل فيها. وسرعان ما سيطر إضراب عام على المدينة بكاملها.
وفي كييف بدأ إضراب في مشاغل سكة الحديد في 21 يوليو. وهنا أيضا كان السبب المباشر تعاسة ظروف العمل، وقدمت مطالب بزيادة الأجور. وفي اليوم التالي اقتدى عمال المساكب بالمثل. وفي 23 يوليو وقع حادث أعطى الإشارة لاضراب عام. فقد ألقي القبض خلال الليل على مندوبين من مندوبي عمال سكة الحديد، وفي الحال طالب المضربون بإطلاق سراحهما. ولما لم يستجب طلبهم، قرروا أن لا يسمحوا للقاطرات بمغادرة البلدة. فجلس المضربون وزوجاتهم وعائلاتهم على خط السكة الحديدي في المنطقة فاصبح الجمع أشبه ببحر من الكائنات البشرية. وعندئذ قام رجال الشرطة بتهديدهم بإطلاق صليات من طلقات البنادق، فما كان من العمال إلاّ أن كشفوا عن صدورهم وصاحوا «أطلقوا النار». فأطلقت صلبة من النار على الجمع الأعزل الجالس، وسقطت على الأرض ثلاثون أو أربعون جثة من بينها جثث نساء وأطفال. ولما بلغ الخبر مدينة كييف أعلنت المدينة الإضراب العام في اليوم ذاته. وحملت الجماهير جثث العمال القتلى على الأكف وطافت بها في تظاهرة جماهيرية. ثم اندلعت الاجتماعات والخطابات والانتقالات ومعارك متفرقة في الشوارع، وأصبحت كييف في خضم الثورة. ولكن سرعان ما أنهكت هذه الحركة. غير أن عمال المطابع ربحوا تقصير يوم العمل ساعة وزيادة الأجور روبلا، وأغلقت مشاغل سكك الحديد بأمر الوزارة، واستمرت المصالح الأخرى في إضرابات جزئية لتحقيق مطالبها.
وفي نيكولاييف نشب الإضراب العام بفعل التأثير المباشر لأبناء أوديسه وباكو وباطوم وتفليس، على الرغم من معارضة اللجنة المحلية للاشتراكيين الديموقراطيين التي أرادت أن تؤجل نشوب الحركة إلى أن يحين الوقت المحدد لمغادرة الجيش للمدينة لإجراء مناورات. ولكن الجماهير رفضت التوقف، فبدأ الإضراب في أحد المصانع وطفق ينتشر من مشغل إلى آخر، ولم تفعل مقاومة الجيش شيئا غير إذكاء النار. فحدثت مسيرات جماهيرية تطلق الأغاني الثورية واشترك فيها العمال وموظفو الترام جميعا رجالا ونساء، وكان التوقف عن العمل تاما. أما في إيكاترينوفسلاف فقد أضرب الخبازون في 5 أغسطس، وفي 7 أغسطس أضرب عمال مشاغل سكة الحديد، ومن ثم أضربت المصانع جميعا في 8 أغسطس. فتوقفت مواصلات الترام ولم تظهر الصحف.
هكذا حدث الإضراب العام الضخم في جنوب روسيا صيف 1903. وتدفق بسرعة عبر قنوات صغيرة متعددة هي قنوات النضالات الاقتصادية الجزئية والأحداث الصغيرة «العرضية» ليصبح بحرا هائجا، ويحول جنوب الإمبراطورية القيصرية كله لعدة أسابيع إلى جمهورية عمال ثورية عجيبة. «عناقات أخوية، صيحات فرح وحماسة، أغاني حرية، ضحك مرح، مزاح وحبور، هذا ما كان يسمع ويرى من جمهور من آلاف الأشخاص تعج به البلدة من الصباح حتى المساء. كانت الحالة النفسية السائدة حالة سرور بالغ ، حتى كاد المرء يظن أن حياة جديدة أفضل تبزغ على وجه الأرض. إنه لمشهد حي مهيب وفي الوقت ذاته بسيط مرح بساطة أغنيات الرعاة ومرحها»… هكذا كتب في ذلك الحين بيتر ستروفه مراسل جريدة «أوزفوبوشدنينه» الليبرالية.
وجاءت سنة 1904 لتجلب معها الحرب وهدوء حركة الإضراب ردحا من الزمن. ففي البداية انتشرت في البلاد موجة هائجة من التظاهرات الوطنية دبرتها سلطات البوليس. وفي ذلك الوقت أطاحت الشوفينية القيصرية الرسمية بالمجتمع البورجوازي «الليبرالي» أرضا. ولكن سرعان ما استولى الاشتراكيون الديموقراطيون على الحلبة، وقامت تظاهرات عمالية ثورية ضد التظاهرات التي كانت تقوم بها البروليتاريا الرثة تحت وصاية الشرطة. وفي النهاية أيقظت هزائم الجيش القيصري المخجلة المجتمع البرجوازي من سباته وبدأت حقبة من المؤتمرات الديموقراطية والمآدب والخطابات والكلمات والبيانات. فقد أفسح انهيار الحكم المطلق مؤقتا، بفعل وصمة الحرب، مجال الرؤية أمام هؤلاء السادة، فأصبحوا تدريجيا يرون كل شيء بألوان زاهية. واحتلت البورجوازية الليبرالية مركز المسرح مدة ستة شهور كاملة، بينما ظلت البروليتاريا في الظل. ولكن الحكم المطلق استيقظ من بعد ركود طويل، واستجمع القصر شتات قواه ودفع الحركة الليبرالية كلها إلى الزاوية بضربة واحدة من أكعاب القوزاق. فمنعت المآدب والخطابات والمؤتمرات بوصفها «وقاحة لا يمكن السماح بها» وفجأة وجدت الليبرالية أنها بلغت نهاية المطاف.
وعند هذه النقطة التي استنفذت فيها الليبرالية قواها بالضبط، بدأ عمل البروليتاريا. ففي ديسمبر 1904 نشب الإضراب العام في باكو بسبب البطالة، وبذلك خرجت الطبقة العاملة ثانية إلى ساحة المعركة. ولما كان الكلام قد أصبح ممنوعا ومستحيلا، فقد بدأ العمل. وأصبح الاشتراكيون الديموقراطيون سادة الموقف في خضم الإضراب العام في باكو ولعدة أسابيع، ولربما كانت أحداث القفقاس الغربية ستسبب قدرا كبيرا من الاثارة لولا أنها دفعت بسرعة إلى الظل بفعل مد الثورة الصاعد، ذلك المد الذي حركته هذه الأحداث ذاتها. فلم تكن الأنباء المذهلة المشوشة عن الإضراب العام في باكو قد وصلت كل أجزاء الامبراطورية القيصرية عندما نشب الإضراب الجماهيري في سانت بطرسبرج في يناير 1905.
وهنا أيضا، كما هو معروف جيدا، كان السبب المباشر تافها. فقد فصل عاملان من مصانع بوتيلوف بسبب من عضويتهما في النقابة الزوباتوفية المشروعة. فتسبب هذا الإجراء في إضراب تضامن وقع في 16 يناير وشمل كل عمال هذه المصانع البالغ عددهم 12 ألف عامل. فاغتنم الاشتراكيون الديموقراطيون فرصة الإضراب ليقوموا بتحريض نشيط لتوسيع آفاق المطالب المطروحة فطالبوا بيوم عمل من ثماني ساعات وبحق الانتظام في النقابات وبحرية الكلام والصحافة الخ. وسرعان ما فعلت القلاقل في مصانع بوتيلوف فعلها بسرعة على باقي البروليتاريا، فكان أن أضرب خلال بضعة أيام 140 ألف عامل. وعقدت مؤتمرات مشتركة ومناقشات عاصفة صيغ على إثرها الميثاق البروليتاري للحريات البرجوازية، ذلك الميثاق الذي حمله في 22 يناير إلى قصرالقيصر 200 ألف عامل بقيادة الأب جابون. وهكذا فإن الصدام الذي نجم عن تعرض عاملين من عمال بوتيلوف إلى عقوبة انضباطية، تحول إلى مدخل لأعنف ثورة في العصور الحديثة.
الأحداث التي تبعت ذلك معروفة جيدا، فقد أدى حمام الدم في بطرسبرج إلى إضرابات جماهيرية عملاقة وإلى إضراب عام في شهري يناير وفبراير في كل المراكز الصناعية والمدن في روسيا وبولندا وليتوانيا ومقاطعات البلطيق والقفقاس وسيبريا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. بيد أننا إذا تفحصنا الأمر بقدر أكبر من الدقة نتبين أن الإضراب الجماهيري كان يظهر في أشكال غير الأشكال التي ظهر فيها في الفترة السابقة. ففي كل مكان في ذلك الوقت كانت المنظمات الاشتراكية الديموقراطية تتقدم بنداءات، وفي كل مكان كان التضامن الثوري مع بروليتاريا سانت بطرسبرج هو الهدف المعلن والسبب المعلن للاضراب العام، وفي كل مكان وفي الوقت ذاته قامت التظاهرات والقيت الخطب ونشبت الصدامات مع العسكر.
ولكن حتى هنا لم تكن هناك خطة مسبقة وعمل منظم، ذلك أن نداءات الأحزاب لم تكن تكاد تستطيع متابعة خطى انتفاضات الجماهير العفوية، ولم يكن الوقت يمهل القادة ليصيغوا لجماهير البروليتاريا المندفعة شعاراتها. أكثر من ذلك، كانت الإضرابات الجماهيرية والعامة السابقة تنشأ عن التحام نضالات متفرقة من أجل الأجور تتحول بسرعة إلى تظاهرات سياسية بفعل المزاج العام للوضع الثوري وبتأثير التحريض الإشتراكي الديموقراطي. وكان العامل الإقتصادي والوضع المشتت للعمل النقابي هما نقطة البداية، بينما كان العمل الطبقي الشامل والتوجيه السياسي هما النتيجة. أما الآن فقد إنعكست الحركة.
نشبت الإضرابات العامة في يناير وفبراير كأعمال ثورية موحدة بقيادة الاشتراكيين الديموقراطيين، ولكن هذا العمل سرعان ما تفتت إلى سلسلة لا تنتهي من الاضرابات الإقتصادية المحلية والجزئية في مقاطعات ومدن ومصالح ومصالح ومصانع متفرقة. فعلى امتداد ربيع عام 1905 حتى منتصف الصيف شب على اتساع الإمبراطورية الشاسعة إضراب إقتصادي متصل كاد يشمل البروليتاريا كلها ضد رأس المال، ذلك النضال الذي شمل من جهة كل المهن الحرة البرجوازية الصغيرة وموظفي المؤسسات التجارية و الفنيين والممثلين والفنانيين، وتغلغل من جهة ثانية إلى خدم المنازل وموظفي الشرطة الصغار وحتى بعض شرائح البروليتاريا الرثة، ذلك النضال الذي انتشر في وقت واحد من المدن الى المقاطعات الريفية حتى أنه طرق أبواب الثكنات العسكرية.
إنها لصورة ضخمة متعددة الألوان للتوزيع العام للعمل ورأس المال، صورة تعكس كل تعقد التنظيم الاجتماعي كما تعكس الوعي السياسي لكل قطاع وكل مقاطعة. صورة يمتد شريطها الطويل من النضال النقابي المنتظم تقوم به قوة منتخبة ومجربة من بروليتاريا المصانع الكبيرة إلى الاحتجاجات التي لا شكل لها تقوم بها حفنة من البروليتاريا الزراعية إلى التململ الطفيف تقوم به ثكنة عسكرية مهتاجة، من ثورة مثقفة مرتبة أنيقة تقوم بها الياقات البيضاء والارادان المنشأة في دائرة حسابات مصرف ما إلى تمتمات جريئة-خجولة تصدر عن اجتماع خامل يعقده نفر من الشرطة المستائين في غرفة حراسة قذرة جوها عابق بالدخان.
لربما كان تحلل الإضراب السياسي العام الكبير الذي نشبت في يناير 1905 إلى عدد من النضالات الاقتصادية «غلطة كبيرة» أقعدت العمل وحولته إلى «هشيم تذروه الرياح»! طبقا لنظرية عشاق النضالات «المنضبطة المنظمة جيدا» التي تقوم طبقا لخطة ومخطط، وعلى الأخص طبقا لأولئك الذين يعرفون من بعيد أفضل من غيرهم «كيف وجب أن يكون الأمر». لكن الاشتراكية الديموقراطية في روسيا التي اشتركت في الثورة ولكنها لم «تصنعها» والتي كان عليها أن تتعلم قانونها من خط سير الثورة ذاتها، لكن هذه الاشتراكية الديموقراطية لم تعد للوهلة الأولى تؤخذ بالحسبان ردحا من الزمن بعد الجزر العقيم للطوفان العاصف، طوفان الاضراب العام. بيد أن التاريخ الذي صنع هذه «الغلطة الكبيرة» حقق بذلك، وبغظ النظر عن حجج «المعلمين»، عملا ضخما للثورة التي كانت حتمية بقدر حتمية عدم قابلية نتائجها للحساب المسبق.
لقد كانت الانتفاضة العامة التي قامت بها البروليتاريا في يناير، بفعل القوة الدافعة العظيمة لأحداث سانت بطرسبرج، عملا سياسيا كان يعني إعلان الحرب الثورية على الحكم المطلق. ولكن هذا العمل العام المباشر الأول من نوعه أحدث تفاعلا داخليا قويا لأنه أيقظ للمرة الأولى الشعور الطبقي والوعي الطبقي في ملايين وملايين كأنما هو صدمة كهربائية. وعبر هذا الاستيقاظ عن نفسه في أن الجمهور البروليتاري الذي يعد بالملايين تيقن فجأة وبحدة أن وجوده الاجتماعي والاقتصادي لا يحتمل، ذلك الوجود الذي تحمله بصبر عقودا عقدة رزح فيها في قيود الرأسمالية. ومن هنا نشأت خضة عامة عنيفة لهذه القيود، وقامت العذابات التي لا تحصى والتي تقاسيها البروليتاريا بتذكيرها بكل الجراح القديمة. فهنا شن نضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات وهناك جوبه العمل بالقطعة بالمقاومة، هنا طرد مراقبو العمل القساة وفي مكان آخر شن نضال ضد نظام الغرامات البغيض، وفي كل مكان خيضت معركة من أجل الأجور وهنا وهناك من أجل إلغاء العمل المنزلي. وفجأة أيقظ هزيم رعد يناير من يعملون في مهام مهنية في المدن الكبرى والبلدان الصغيرة في المقاطعات، أولئك الذين كانوا حتى ذلك الحين يغطون في سبات عميق، وكذلك استيقظت القرية بتراثها الإقطاعي، وذكر كل هؤلاء أنفسهم بحقوقهم وبدأوا يسعون سعيا محموما إلى التعويض عن الإهمال الذي كانوا عرضة له في السابق.
لم يكن النضال الاقتصادي هنا في الواقع تحللا، ولا كان هدرا للقوى، بل كان مجرد تغيير لجبهة القتال. كان تحولا فجائيا وطبيعيا لأول صدام عام مع الحكم المطلق إلى تصفية حسابات عامة مع رأس المال اتخذت بحكم طبيعتها شكل نضالات اقتصادية فردية مبعثرة. لم يتحطم العمل الطبقي السياسي في يناير بتحلل الإضراب العام إلى إضرابات إقتصادية، بل على العكس، فبعد أن استنفد كل محتوى ممكن للعمل السياسي في الوضع المحدد في مرحلة معينة من الثورة، اندلع هذا العمل ثانية، أو بالأحرى تحول إلى عمل اقتصادي.
ما الذي كان بمقدور الإضراب العام في يناير أن يحقق في الواقع؟ ما من أحد سوى من يفتقر إلى العقل يمكن أن يتوقع انهيار الحكم المطلق بضربة واحدة بالقيام بإضراب عام واحد «طويل الأمد» حسب الخطة الفوضوية. يجب أن تطيح البروليتاريا بالحكم المطلق في روسيا، ولكن حتى تستطيع البروليتاريا ذلك فإنها تحتاج إلى درجة عالية من الثقافة السياسية والوعي الطبقي والتنظيم. وكل هذه الشروط لا يمكن أن تتحقق بالكتيبات والمنشورات، بل فحسب في المدرسة السياسية الحية بواسطة القتال وفي القتال خلال المسيرة الطويلة للثورة. أكثر من ذلك، لا يمكن الاطاحة بالحكم المطلق في اللحظة التي نرغب فيها في ذلك بمجرد بذل «الجهد» و«التحمل» الضروريين. فسقوط الحكم المطلق ليس غير التعبير الخارجي عن التطور الاجتماعي والطبقي الداخلي للمجتمع الروسي.
فلكي تمكن الإطاحة بالحكم المطلق يجب أن تكون روسيا البورجوازية قد تشكلت داخليا، أي بتقسيماتها الطبقية الحديثة. وهذا يتطلب استقطاب الشرائح الاجتماعية والمصالح المختلفة، بالاضافة إلى تثقيف الأحزاب البروليتارية الثورية وكذلك الأحزاب الليبرالية والراديكالية البرجوازية الصغيرة والمحافظة والرجعية، إنه يتطلب وعيا للذات ومعرفة بها ووعيا طبقيا لا تحرزه فحسب شرائح الشعب بل وشرائح البرجوازية أيضا. ولكن هذا لا يتحقق ويثمر إلاّ بالنضال، إلاّ عبر عملية الثورة ذاتها، عبر مدرسة التجربة الواقعية، وبالاصطدام والاحتكاك المتبادل مع البروليتاريا وكذلك بين الطبقات بعضها ببعض. إن الدور القيادي الذي تلعبه البروليتاريا يعيق ويعقد، من جهة، هذا الإنقسام الطبقي والنضوج الطبقي للمجتمع البرجوازي وكذلك نضاله ضد الحكم المطلق، ولكن هذا الدور من جهة أخرى يحث ويعجل في هذا الانقسام والنضوج والنضال. فتتقاطع التيارات الداخلية للعملية الإجتماعية، عملية الثورة، وتوقف بعضها بعضا وتزيد التناقضات الداخلية للثورة ولكنها في النهاية تعجل انفجارات الثورة وبالتالي تجعل هذه الإنفجارات أكثر عنفا.
لذا يمكن صياغة هذه المسألة البسيطة والآلية المحضة في الظاهر على النحو التالي: الإطاحة بالحكم المطلق عملية اجتماعية طويلة مستمرة وحلها يتطلب زعزعة كاملة لأسس المجتمع، فيصبح الجزء الأعلى أسفلا والجزء الأسفل في الأعلى، يجب أن يتحول «النظام» الظاهري إلى فوضى ومن ثم يجب أن تتحول الفوضى «الفوضوية» إلى نظام جديد. ولم يكن الإضراب العام في يناير هو وحده الذي لعب دورا لا غنى عنه في عملية تحول روسيا القديمة تحولا اجتماعيا، بل لعبت هذا الدور أيضا عواصف الربيع والصيف التي تلت هذا الإضراب. ولقد أسهمت العلاقات العامة المريرة بين العمل المأجور ورأس المال في اجتذاب الشرائح المختلفة من الشعب إلى الوعي الطبقي للبروليتاريا الثورية واجتذاب الشرائح المختلفة من البرجوازية إلى الوعي الطبقي للبورجوازية الليبرالية والمحافظة. وكما أن النضال من أجل الأجور في المدن أسهم في تكوين حزب صناعي ملكي قوي في موسكو، كذلك فإن احتدام انتفاضة فلاحية عنيفة في ليفونيا أدى إلى تصفية ليبرالية الزمستفو[2]  الاريستوقراطية-الزراعية الشهيرة تصفية سريعة.
ولكن في الوقت ذاته، مكنت النضالات الاقتصادية في ربيع وصيف عام 1905 البروليتاريا المدينية من أن تتمثل فيما بعد دروس يناير، وذلك بفضل التحريض النشيط الذي قام به الاشتراكيون الديموقراطيون وبفضل توجيههم. كما مكن ذلك البروليتاريا من أن تلتقط بوضوح المهام المقبلة للثورة. وقد ارتبط بذلك أمر له طابع اجتماعي مستمر هو الارتفاع العام في مستوى معيشة البروليتاريا اقتصاديا واجتماعيا وفكريا.
ولقد انتهت إضرابات يناير 1905 بنجاح. ويمكن للدلالة على ذلك إيراد بعض الأمثلة فيما يتعلق ببعض أهم الإضرابات التي قامت في وارسو وحدها والتي نفذها الاشتراكيون الديموقراطيون البولنديون والليتوانيون. ففي المصانع الكبيرة لصناعة التعدين في وارسو وعددها 22 مصنعا، حصل العمال بعد إضراب استمر أربعة أو خمسة أسابيع (ابتداء من 25-26 يناير) على يوم عمل من تسع ساعات وزيادة في الأجور بنسبة 25% وكذلك حصلوا على تنازلات أصغر متعددة. وفي المشاغل الكبيرة لصناعة الخشب في وارسو، وعددها اثني عشر مصنعا، حصل العمال في 23 فبراير على يوم عمل من تسع ساعات، ولكنهم لم يكتفوا بذلك بل طالبوا بيوم عمل من ثماني ساعات، فحصلوا عليه كما حصلوا على زيادة في الأجور بعد إضراب لاحق استمر أسبوعا.
وفي صناعة البناء بدأ العمال جميعا في 27 فبراير إضرابا، مطالبين بيوم عمل من ثماني ساعات طبقا للشعار الذي طرحه الاشتراكيون الديموقراطيون، فحصلوا في 11 مارس على يوم عمل من عشر ساعات وزيادة في الأجر لكل أصناف العمال وكذلك حصلوا على دفع الأجور اسبوعيا بانتظام. كما أن الدهانين والحمالين والحدادين حصلوا جميعاعلى يوم عمل من ثماني ساعات دون تخفيض في الأجور.
أمّا مشاغل التليفون فقد أضربت مدة عشرة أيام فحصلت على يوم عمل من ثماني ساعات وزيادة في الأجور تبلغ 10 إلى 15%. كذلك حصل عمال مؤسسة للنسيج يبلغ عددهم 10 آلاف عامل على إنقاص يوم العمل ساعة واحدة وزيادة أجور تبلغ 5 إلى 10%، وذلك بعد إضراب استمر تسعة أسابيع. كذلك نتجت نتائج مشابهة متنوعة جدا في الفروع الصناعية القديمة في وارسو ولودز وسوسنوفيتز.
وفي روسيا ذاتها لم يكسب يوم عمل من 8 ساعات في عام 1904 سوى بضعة أصناف من عمال البترول في باكو، وفي مايو 1905 كسبه عمال السكر في مقاطعة كييف وفي يناير 1905 أقر يوم عمل من 8 ساعات في كل مطابع روسيا (وفي الوقت ذاته زيد معدل أجر القطعة وألغيت الغرامات المالية)، وفي فبراير من العام ذاته تحقق يوم العمل من 8 ساعات في مصنع يصنع الأدوات الطبية للجيش وفي مصنع أثاث وفي مصنع طلقات في سانت بطرسبرج. وفيما بعد تحقق يوم العمل من ثماني ساعات في مناجم فلاديفستوك وفي مارس تحقق في المشاغل الميكانيكية الحكومية وفي مايو حققه موظفو سكة الحديد الكهربائية في مدينة تفليس. وفي الشهر ذاته تحقق يوم عمل من 8,5 ساعات في مصنع نسيج القطن الكبير في موروسوف (وفي الوقت ذاته إلغاء العمل الليلي وزيادة الأجور بنسبة 8%)، وفي يونيو تحقق يوم عمل من 8 ساعات في بعض معامل البترول في سانت بطرسبرج وموسكو، وفي يوليو تحقق يوم عمل من 8,5 ساعات في ورش الحداد في أحواض سانت بطرسبرج وتحقق في نوفمبر في كل مؤسسات الطباعة الخاصة في أوريل. (وفي الوقت ذاته تحقق زيادة في معدلات الوقت بنسبة 20% وزيادة في معدلات أجور العمل بالقطعة تبلغ 100%. كما تم كذلك إنشاء مجلس تفاهم مُثل فيه العمال وأصحاب العمل بالتساوي).
وقد تحقق يوم عمل من 9 ساعات في فبراير في كل مشاغل سكة الحديد وفي كثير من مشاغل الحكومة العسكرية منها والبحرية وفي معظم مصانع مدينة «برديانسك» وفي كل مطابع مدينة «بولتافا» ومدينة «موسك»، كما تحقق يوم عمل من 9,5 ساعات في أحواض السفن وفي المشاغل الميكانيكية وفي المساكب في بلدة «نيكولاييف»، كما تحقق في يونيو في كثير من المطاعم والمقاهي وذلك بعد إضراب عام قام به عمال المطاعم (وفي الوقت ذاته حصلوا على زيادة في الأجور تبلغ 20 إلى 40% وعطلة مقدارها أسبوعان في السنة).
وتحقق يوم عمل من 10 ساعات في كل مصانع مدن لودز وسوسنوفيتس وريغا وكوفنو وأدفال ودورفات ومنسك وخاركوف وكذلك في مخابز أوديسا وبين العمال الميكانيكيين في كشنيف وفي بعض مشاغل صهر المعادن في سانت بطرسبرج وفي مصانع الثقاب وفي كوفنو (صاحبت ذلك زيادة في الأجور تبلغ 10%) وفي كل المشاغل البحرية الحكومية وبين عمال الأحواض.
وكانت زيادات الأجور أصغر بشكل عام من تقليل ساعات العمل ولكنها كانت على الدوام أكثر أهمية: ففي وارسو ثبتت دائرة المعامل البلدية في منتصف مارس سنة 1905 زيادة عامة في الأجور تبلغ 15% وفي مركز صناعة النسيج بلغت زيادة الأجور 7-15%، وفي كوفنو أصابت زيادة الأجور 73% من العمال. وأقر حد ثابت أدنى للأجور في بعض المخابز في أوديسا وفي بعض أحواض بناء السفن في سانت بطرسبرج.
وغني عن القول أن هذه التنازلات قد سحبت ثانية مرة هنا ومرة هناك ولكن هذا لم يكن على أية حال سوى سبب لتجدد النضال أدى إلى نضالات ثأرية أكثر مرارة. هكذا جعلت فترة الاضرابات في ربيع 1905 من نفسها مدخلا لسلسلة لا متناهية من النضالات الاقتصادية المنتشرة أبدا المتقاطعة دوما التي استمرت إلى يومنا هذا. وفي الفترة التي كان يبدو فيها ركود ثوري ظاهري في روسيا وبينما لم تعد البرقيات تحمل أنباء مثيرة من مسرح الحرب الروسي إلى العالم الخارجي، عندما أصبح الأوروبي الغربي يلقى بجريدته جانبا بخيبة أمل ملاحظا «أن ما من شيء يجري» في روسيا، في ذلك الحين كان العمل السري العظيم للثورة يجري في الواقع بلا توقف يوما فيوم وساعة إثر أخرى في قلب الإمبراطورية ذاتها. ولقد أدت النضالات الإقتصادية الكثيفة الدؤوب بوسائل سريعة مختصرة إلى انتقال الرأسمالية من مرحلة التراكم البدائي ووسائل العمل الأبوية غير المنهجية إلى مرحلة متحضرة حديثة جدا.
أما في الوقت الحاضر فإن يوم العمل الحقيقي في الصناعة الروسية لا يقل عما يفرضه التشريع الصناعي الروسي (أي يوم العمل الشرعي من 11 ساعة) فحسب ولكنه يتخطى أيضا الظروف القائمة في ألمانيا. ففي معظم قطاعات الصناعة الروسية يسود يوم عمل من 10 ساعات بينما يعتبر يوم العمل من 10 ساعات في ألمانيا هدفا غير قابل للتحقيق طبقا للتشريع الإجتماعي. الأنكى من ذلك أن «الدستورية الصناعية» التي طال الشوق إليها والتي تحضى بحماسة بالغة في ألمانيا ولدت فعلا مع الدستورية السياسية في خضم العاصفة الثورية في روسيا، ولدت من الثورة ذاتها، هذا في الوقت الذي يحرص فيه دعاة التكتيكات الإنتهازية في ألمانيا على منع أية ريح من أن تهب على مياه برلمانيتهم الراكدة من أجل «الدستورية الصناعية» ذاتها. وفي الواقع ليس ما حدث مجرد رفع مستوى معيشة الطبقة العاملة أو مستواها الثقافي فمستوى المعيشة المادي كمرحلة دائمة من الرفاهية ليس له مكان دائم في الثورة. فالثورة بامتلائها بالتناقضات والمفارقات تؤدي في الوقت ذاته إلى انتصارات اقتصادية مذهلة وإلى أعنف أعمال الانتقام من جانب الرأسماليين فتكون النتيجة أن يتحقق يوم عمل من 8 ساعات اليوم ليجري إقفال المصانع على نطاق واسع وطرد العمال منها وتعرض مليون من البشر للمجاعة فعلا في الغد.
لكن الأمر الأثمن في هذا المد والجزر السريع لموجة الثورة هو ما يترسب على المستوى العقلي: النمو الثقافي والفكري للبروليتاريا الذي يتقدم قفزات وقفزات والذي يضمن تقدم البروليتاريا فيما بعد تقدما لا يقاوم في نضالها الاقتصادي كما في نضالها السياسي. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن علاقات العامل بصاحب العمل تنقلب، فمنذ الإضراب العام في يناير وإضرابات عام 1905 التي تبعته ألغي في واقع الأمر مبدأ «سيادة الرأسمالي على المصنع». ففي كل المصانع الكبيرة وفي كل المراكز الصناعية الهامة نشأت اللجان العمالية كما لو كانت قد نشأت من تلقاء نفسها، ومع هذه اللجان فحسب يتفاوض صاحب العمل وهي التي تحسم كل النزاعات.
وفي النهاية هناك أمر آخر. إن الاضرابات «الفوضوية» ظاهرا والعمل الثوري «غير المنظم» بعد الاضراب العام في يناير تصبح اليوم نقطة انطلاق عمل تنظيمي محموم. وبذلك يقف التاريخ من بعيد هازئا بالبيروقراطيين الذين يقبضون على مقاليد الأمور في النقابات الألمانية. فالتنظيمات الصلبة التي يفترض قادة النقابات الألمانية أنها يجب أن تحصن لتصبح قلعة لاتخترق من أجل القيام بالاضراب العام في النهاية، هذه التنظيمات ولدت في روسيا على العكس من ذلك من الإضراب الجماهيري. وبينما يخاف الوصاة على النقابات الألمانية أن تتفتت هذه التنظيمات في الدوامة الثورية كما لو أنها كانت زجاجا نادرا، فإن الثورة الروسية تبين لنا صورة مخالفة تماما: فمن الدوامة والعاصفة ومن نار الإضراب الجماهيري وقتال الشوارع تنبثق النقابات ثانية كما ظهرت فينوس من الأمواج فتية قوية نشيطة.
وهنا نورد مثالا صغيرا يصح على الامبراطورية جميعها. ففي المؤتمر الثاني للنقابات الروسية في نهاية فبراير 1906في سانت بطرسبرج، قال ممثل نقابات بوطرسبرج في تقريره عن تطور المنظمات النقابية في العاصمة القيصرية:
«لقد كان 22 يناير 1905 الذي قضى على نقابة غابون نقطة انعطاف. فقد تعلمت أعداد كبيرة من العمال بتجربتها أن تقدر وتفهم أهمية التنظيم وتعلمت أن العمال وحدهم هم من يستطيع خلق هذه المنظمات. ومن ثم نشأت النقابة الأولى، نقابة عمال الطباعة، في علاقة مباشرة مع حركة يناير. فقامت الهيئة المعنية لوضع التعرفة بصياغة بنود النظام الأساسي للنقابة، وظهرت هذه النقابة إلى الوجود في 19 يوليو. وفي حوالي هذا الوقت أيضا ظهرت إلى الوجود نقابة عمال المكاتب ونقابة ماسكي الحسابات.
«وبالإضافة إلى هذه التنظيمات التي وجدت علنية تقريبا، ظهرت من يناير حتى أكتوبر 1905 نقابات نصف مشروعة وغير مشروعة. فمثلا كانت نقابة مساعدي الكيميائيين ونقابة الموظفين التجاريين ينتميان إلى النقابات نصف المشروعة. أمّا النقابات غير المشروعة فتستحق الإنتباه من بينها نقابة الساعاتيين التي عقدت جلستها السرية الأولى في 24 أبريل. فقد فشلت كل المحاولات لعقد اجتماع علني عام بسبب المعارضة العنيدة التي أبدتها الشرطة وأبدتها غرفة التجارة نيابة عن أصحاب العمل، ولكن هذا لم يمنع النقابة من أن توجد، فعقدت اجتماعات سرية للأعضاء في 9 يونيو وفي 14 أغسطس عدا عن اجتماعات اللجنة التنفيذية للنقابة. أمّا نقابة الخياطين والخياطات فقد تأسست في 1905 في اجتماع حضره سبعون خياطا وعقد في غابة. فبعد بحث مسألة بحث مسألة إقامة نقابة شكلت هيئة كلفت بصياغة النظام الأساسي. ولكن كل محاولات هذه الهيئة تحقيق وجود شرعي للنقابة ذهبت أدراج الرياح، فاقتصر عملها على التحريض وضم أعضاء جدد في المشاغل المختلفة. ولاقت نقابة صانعي الأحذية مصيرا مشابها، ففي يوليو عقد اجتماع سري في الليل في غابة قريبة من المدينة، وحضره أكثر من 100 عامل، وألقي فيه تقرير عن أهمية الحركة النقابية وتاريخها في أوروبا الغربية ومهامها في روسيا. ثم تقرر تشكيل نقابة، واختيرت هيئة من 12 عضوا لتصيغ بنود النظام الأساسي وتدعو إلى اجتماع عام لصانعي الأحذية. فوضع النظام الأساسي، ولكن تبين في هذه الأثناء أنه ليس بالإمكان طباعته ولم يعقد الاجتماع العام».
كانت هذه البدايات الصعبة الأولى. ثم أتت أيام أكتوبر، أيام الإضراب العام الثاني وبيان القيصر في 30 اكتوبر و«الفترة الدستورية» القصيرة. فألقى العمال بأنفسهم بحماسة متقدة إلى أمواج الحرية السياسية ليستخدموها بهدف العمل التنظيمي. وفي الحال جرى تطوير النقابات بالإضافة إلى الإجتماعات السياسية اليومية والمناقشات وإنشاء النوادي. فظهرت في اكتوبر ونوفمبر أربعون نقابة جديدة في سانت بطرسبرج، وفورا أنشئ «مكتب مركزي»، أي مجلس للنقابات، وظهرت صحف لنقابات مختلفة ومنذ نوفمبر بدأت تصدرصحيفة مركزية هي «النقابة».
يصح الكلام المتعلق بسانت بطرسبرج والوارد أعلاه، يصح أيضا على موسكو وأوديسا وكييف ونيكولاييف وساراتوف وفورونيج وسمارا ونيجني نوفوجورد وكل البلدان الكبيرة في روسيا وبدرجة أعلى في بولونيا. وصارت النقابات في البلدان المختلفة تسعى للاتصال ببعضها البعض لعقد مؤتمرات. لكن نهاية «الفترة الدستورية» وعودة الرجعية في ديسمبر 1905 وضعت لفترة من الزمن حدا للنشاط العلني الواسع للنقابات ولكنها على أية حال لم تقض عليها تماما. فهي لا تزال تعمل كمنظمات سرية وتقود بين الحين والآخر نضالا علنيا من أجل رفع الأجور. وتبنى حياة نقابية غريبة لكونها مزيجا من الشرعية واللا شرعية، حياة تتوافق مع الوضع الثوري المتناقض جدا.
لكن العمل التنظيمي يتوسع ويمتد في خضم النضال بطريقة شاملة إن لم نقل بطريقة مغالية في دقتها. فمثلا تزود النقابات الاشتراكية الديموقراطية في بولندا وليتوانيا، وهي التي مثلت في المؤتمر الأخير بخمسة ممثلين من بين عشرة آلاف ممثل حضروا المؤتمر، تزود بالأنظمة الأساسية المعتادة وببطاقات العضوية المطبوعة وبالأختام الخ. أمّا الخبازون وصانعو الأحذية والمهندسون وعمال الطباعة في وارسو ولودز هم أنفسهم الذين وقفوا وراء المتاريس في يونيو 1905 وكانوا في ديسمبر ينتظرون فحسب الإشارة من سانت بطرسبرج ليبدأوا القتال في الشوارع، أمّا هؤلاء فإنهم اليوم يجدون الوقت والاهتمام الكافيين لمناقشة الأنظمة الأساسية للنقابات بحماسة وذلك بين إضراب جماهيري وآخر وبين السجن وإقفال المصانع دونهم وفي ظل حالة من الحصار. ولقد قام هؤلاء الذين كانوا مقاتلي المتاريس بالأمس وسيكونون مقاتلي متاريس الغد، قاموا أكثر من مرة بتوبيخ قادتهم في الإجتماعات وتهديدهم بأنهم سينسحبون في الحزب وما ذلك إلاّ لأن بطاقات العضوية لم تطبع بالسرعة الكافية في مطابع سرية وفي ظل اضطهاد بوليسي حثيث. وتستمر هذه الحماسة حتى اليوم. فمثلا ظهر خلال الأسبوعين الأولين من يوليو 1906 خمسة عشر نقابة جديدة في إيكاترينوسلاف وست في كوستروما، وعدد منها في كييف وبولتافا وسمولسنك وشيركاسي وبروسكيرفو حتى آخر البلدان غير الهامة في المقاطعات.
ولقد تقرر في جلسة مجلس اتحادات عمال موسكو في 4 يونيو من هذا العام، وبعد قبول التقارير التي قدمتها وفود النقابات المختلفة، تقرر «أن على النقابات أن تضبط أعضاءها وتكبح اضطرابات الشوارع لأن الوقت غير مناسب للإضراب الجماهيري . وفي وجه احتمال قيام الحكومة بالاستفزاز، يجب أن تتخذ الاحتياطات لئلا تتدفق الجماهير إلى الشوارع». وقرر المجلس أيضا أنه إذا ما بدأت إحدى النقابات إضرابا فإن على النقابات الأخرى أن تمتنع عن القيام بأي تحركات من أجل الأجور. واليوم فإن النقابات توجه معظم النشاطات الإقتصادية.
هكذا شكل النضال الاقتصادي العظيم الذي تقدم منذ الإضراب العام في يناير والذي لم يتوقف حتى يومنا هذا، شكل خلفية عريضة للثورة. ومن هذه الخلفية وبالتفاعل المتبادل المستمر مع التحريض السياسي والأحداث الخارجية للثورة تنشأ هنا وهناك انفجارات معزولة حينا، وحينا آخر ينشأ عمل بروليتاري عام عظيم. وهكذا تتابع على هذه الخلفية الأحداث التالية الواحد منها تلو الآخر. حدث في وارسو في تظاهرة أول ماي إضراب عام لم يسبق له مثيل وانتهى بصدام دموي بين الجمهور الأعزل وبين الجنود. وفي لودز حدث تجمع جماهيري في يونيو فقام الجنود بتفرقته بالقوة، مما أدى إلى تظاهرة ضمت 100 ألف عامل في جنازة بعض ضحايا قسوة الجنود وأدى ذلك إلى اصطدام جديد مع الجنود وفي النهاية تحول الأمر في 24 و25 يونيو إلى أول قتال متاريس في الامبراطورية القيصرية. وبالمثل انفجر في يونيو أول تمرد كبير يقوم به بحارة أسطول البحر الأسود، ونتج التمرد في ميناء أوديسه عن حادث بسيط وقع على ظهر المدمرة بوتمكين وفي الحال حدثت لهذا التمرد ردود فعله في أوديسا ونيكولاييف على شكل إضراب جماهيري عنيف. وكصدى لذلك حدثت فيما بعد إضرابات جماهيرية وتمرد قام به البحارة في كرونشتادت وليبو وفلاديفستوك.
وفي شهر اكتوبر قامت تجربة سانت بطرسبرج العظيمة: تحقيق يوم عمل من 8 ساعات. فقد قرر المجلس العام لمندوبي العمال أن يحقق يوم العمل من 8 ساعات بطريقة ثورية. وهذا يعني أن على جميع العمال أن يخبروا أصحاب العمل في يوم محدد متفق عليه أنهم لا يرغبون في العمل أكثر من 8 ساعات وأن يغادروا أماكن عملهم عند انقضاء الساعات الثماني. فكان أن صارت هذه الفكرة فرصة للتحريض الحي وقبلتها البروليتاريا بحماس ونفذتها، ولكن هذا لم يجنب البروليتاريا تضحيات عظيمة. فمثلا كان يوم العمل من 8 ساعات يعني لعمال النسيج هبوطا كبيرا في أجورهم فقد كانوا حتى ذلك الحين يعملون 11 ساعة في اليوم على أساس الأجر للقطعة، بيد أنهم قبلوا ذلك طوعا. وبذلك وخلال أسبوع واحد ساد يوم العمل من 8 ساعات كل مصانع ومعامل بطرسبرج ولم يعرف فرح العمال لذلك حدودا. ولكن سرعان ما نظم أصحاب العمل، الذين أخذوا في البداية على حين غرة، دفاعهم وهددوا في كل مكان بأنهم سيغلقون مصانعهم. فكان أن أذعن بعض العمال وقبلوا التفاوض فحصلوا على يوم عمل من 10 ساعات هنا ويوم عمل من 9 ساعات هناك. ولكن نخبة بروليتاريا بطرسبرج عمال المؤسسات الهندسية الحكومية الكبيرة، لم يرف لها جفن، فكان أن أغلقت المصانع دون العمال وألقي بـ 45-50 ألف عامل إلى الشارع. وعند التسوية تحولت حركة يوم العمل من 8 ساعات إلى إضراب عام في ديسمبر، ولكن إغلاق المصانع على نطاق واسع أعاق الإضراب إلى حد بعيد.
وفي هذه الأثناء، قام الإضراب العام الكبير الثاني في نوفمبر والذي شمل الإمبراطورية كلها ردا على مشروع «دوما بوليجين»، وقد أعطى عمال سكة الحديد إشارة البدء لهذا الإضراب، ويحمل هذا العمل العظيم الثاني الذي قامت بع البروليتاريا طابعا مختلفا جوهريا عن طابع العمل الأول في يناير، فقد لعب الوعي السياسي دورا أكبر بكثير في الإضراب الثاني. ولكن هنا أيضا وبالتأكيد كان السبب المباشر لاندلاع الإضراب سببا ثانويا وعرضيا في الظاهر: خلاف عمال سكك الحديد مع الإدارة حول صندوق التقاعد. ولكن نهوض البروليتاريا نهوضا عاما فيما بعد سار طبقا لأفكار سياسية واضحة. لقد كان المدخل إلى إضراب يناير مسيرة اتجهت إلى القيصر مطالبة بالحرية السياسية، أمّا إضراب اكتوبر فقد ذهب إلى غير رجعة بكوميديا الدستورية القيصرية.
وبفضل النجاح الفوري الذي أحرزه الإضراب العام وبيان القيصر في 30 اكتوبر، لم تتقوقع الحركة على نفسها بل إندفعت إلى الأمام بنشاط محموم في ظل حرية سياسية حديثة العهد. فتوالت التظاهرات والإجتماعات والمناقشات العامة وفي النهاية جاءت المذابح الدموية لتستثير إضرابات جماهيرية وتظاهرات جديدة. هكذا كانت الصورة العاصفة لأيام نوفمبر وديسمبر. ففي نوفمبر قام أول إضراب جماهيري تظاهري بتحريض من الاشتراكيين الديموقراطيين في بطرسبرج وذلك احتجاجا على الأعمال الدموية في بولنده وليفونيا وعلى إعلان حالة الحصار فيهما.
وفي النهاية أدى الهياج الذي تبع الفترة الدستورية، بالإضافة إلى اليقظة الرائعة، إلى اندلاع الإضراب الجماهيري العام الثالث في ديسمبر على امتداد الإمبراطورية كلها. وفي هذه المرة كان سير الإضراب ونتيجته مختلفان تماما عنهما في المرتين الأوليين. فلم يتحول العمل السياسي إلى عمل اقتصادي كما في يناير، ولكنه كذلك لم يحرز نصرا سريعا كما في اكتوبر. فلم تعد الحاشية القيصرية تجرب الحرية السياسية الحقيقية، ومن هنا كان على العمل الثوري أن يصطدم للمرة الأولى وعلى امتداد المرحلة اللاحقة بجدار العنف الجسدي الذي يمارسه الحكم المطلق. وتحولت تجربة الإضراب الجماهيري بفعل منطق تطورها الداخلي المتسارع إلى انتفاضة معلنة وإلى متاريس مسلحة وقتال في شوارع موسكو. وبذلك ختمت أيام ديسمبر السنة الأولى الحافلة للثورة في أعلى نقطة في الخط الصاعد للعمل السياسي ولحركة الإضراب الجماهيري.
إن أحداث موسكو تتبدى عن صورة نموذجية للتطور المنطقي وفي الوقت ذاته لمستقبل الحركة الثورية بشكل عام: النهاية الحتمية للحركة الثورية هي انتفاضة عامة معلنة، لا يمكن بدورها أن تأتي إلاّ عبر سلسلة من الانتفاضات الجزئية التمهيدية التي قد تبدو إذا ما أخذ كل منها على حدة «هزائم» و«غير ناضجة».
وتأتي سنة 1906 لتجلب معها انتخابات الدوما وحوادث الدوما. فتقوم البروليتاريا بفعل غريزة ثورية قوية ومعرفة واضحة بالوضع بمقاطعة المهزلة الدستورية القيصرية، فتحتل الليبرالية مركز الحلبة ثانية لبضعة أشهر. فيبدو أن الوضع في عام 1904 يتكرر فتكون الفترة فترة أقوال بدل الأفعال وتمشي البروليتاريا لبعض الوقت في الظل لتكرس نفسها بقدر أكبر من الحيطة للنضال النقابي والعمل التنظيمي. فلم يعد أحد يتكلم عن الإضراب الجماهيري بينما تنطلق صواريخ ضجة الخطابة الليبرالية يوما إثر آخر. وفي النهاية تتمزق الستارة الحديدية ويتفوق الممثلون ولا يبقى من صواريخ الليبرالية غير البخار والدخان. أمّا محاولة اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي الدعوة إلى إضراب جماهيري كتظاهرة للدوما وعودة فترة الخطابة الليبرالية ، أمّا هذه المحاولة فتذهب هدرا. لأن دور الإضراب الجماهيري السياسي قد أستنفذ، ولكن في الوقت ذاته لم يتحقق بعد الانتقال من الإضراب الجماهيري إلى الانتفاضة الشعبية العامة. لقد انتهت الفترة الليبرالية ولكن الفترة البروليتارية لم تبدأ بعد، وبذلك يظل المسرح خاليا لبعض الوقت.


4- تفاعل النضالين السياسي والاقتصادي
حاولنا فيما سبق تقديم الملامح السريعة لتاريخ الإضراب العام في روسيا. إن نظرة خاطفة على هذا التاريخ تبين لنا صورة لا تشبه بأي شكل تلك التي تتكوّن عادة عبر النقاشات التي تجري في ألمانيا حول الإضراب العام. فبدلا من الهيكل الجامد الفارغ لعمل سياسي مجدب قاحل يجري طبقا لقرارات أعلى اللجان وتوضع له خطة وصورة شاملة، نرى بعضا من النبض كنبض الدم واللحم لا يمكن فصمه عن الإطار العريض للثورة فهو يرتبط بكل أجزاء الثورة بآلاف الشرايين.
فالإضراب العام، كما تبينه الثورة الروسية لنا، ظاهرة شديدة التغير لدرجة تنعكس معها كل أطوار النضال السياسي والاقتصادي وكل مراحل وعوامل الثورة. ذلك أن تكيف الاضراب العام وفعاليته وعوامل نشوئه تتغير باستمرار، وهو يفتح فجأة آفاقا جديدة وعريضة للثورة عندما تبدو الأمور وكأن الثورة قد وصلت طريقا ضيقا وعندما يصبح مستحيلا لأي كان أن يعتمد على الثورة بأي درجة كانت من اليقين. إن الإضراب العام يندفع حينا كالموجة العارمة على امتداد المملكة كلها، وحينا يتفرع إلى شبكة كبيرة جدا من الروافد الصغيرة، حينا ينبثق من باطن الأرض كالنبع وحينا يختفي في جوف الأرض. إضرابات سياسية واقتصادية، إضرابات جماهيرية وإضرابات جزئية، إضرابات تظاهرية وإضرابات صدامية، إضرابات عامة في فروع فردية من الصناعة وإضرابات عامة في مدن معينة، نضالات سلمية من أجل الأجور ومذابح شوارع، قتال متاريس، كل هذه يسير الواحدة منها عبر الآخر، الواحد منها جنب الآخر، يقطع الواحد منها الآخر، يسير الواحد منها في الآخر وفوق الآخر. إنه لخضم من الظواهر يتغير ويتحرك بلا انقطاع. وقانون حركة هذه الظواهر واضح: إنه لا يكمن في الإضراب الجماهيري ذاته ولا في تفاصيله الفنية، بل في النسب السياسية والاجتماعية لقوى الثورة.
الإضراب الجماهيري مجرد شكل للنضال الثوري، وكل تغير في علاقات القوى المتصارعة وفي تطور الحزب وفي التقسيم الطبقي وفي موقع قوى الثورة المضادة يؤثر حالا على الإضراب بالف وجه غير مرئي تكاد السيطرة عليها تكون غير ممكنة. غير أن عمل الإضراب ذاته لا يتوقف لحظة واحدة. لكنه يغير فحسب أشكاله وأبعاده وأثره. فهو النبض الحي للثورة وفي الوقت ذاته أقوى قواها الدافعة. باختصار، ليس الإضراب العام كما تبينه لنا الثورة الروسية وسيلة متقنة اكتشفت بالتفكير الحاذق لجعل النضال البروليتاري أكثر فعالية، بل هو وسيلة حركة الجمهور البروليتاري والشكل الظاهراتي للنضال البروليتاري في الثورة.
يمكن لنا الآن تفحص بعض الأوجه العامة التي قد تعيننا على صياغة تقدير صحيح لمسألة الإضراب الجماهيري.
1- من السخف أن يظن المرء أن الإضراب الجماهيري عمل واحد معزول. فالإضراب العام هو الإشارة والفكرة الحاشدة لفترة كاملة من النضال الطبقي تمتد سنوات وربما عقودا. كانت الصورة العامة للإضراب الجماهيري في الإضرابات العديدة المختلفة التي حدثت في روسيا خلال السنوات الأربع الأخيرة صورة حركة سياسية محضة تبدأ وتنتهي طبقا لخطة موضوعية تفتقر إلى الحيوية، صورة عمل قصيرة الأمد ومنعزلة ومن نوع واحد، نوع ثانوي هو الإضراب التظاهري المحض. وفي فترة السنوات الخمس جميعا نرى في روسيا بضعة إضرابات تظاهرية فقط، وتجدر الملاحظة أن هذه الإضرابات اقتصرت بشكل عام على مدن منفردة. هكذا كان الإضراب العام في وارسو في بولندا ولودز في روسيا في عيد أول ماي الذي لم يحتف به قبلا بالتغيب عن العمل إلى أي حد ملحوظ، وكذلك كان الإضراب الجماهيري في وارسو في 11 أيلول /سبتمبر 1905 احتفالا أقيم تكريما لذكرى مارتن كاسبرزاك الذي نفذ فيه حكم الإعدام، وكان إضراب تشرين الثاني/نوفمبر 1905 في بطرسبرج تظاهرات احتجاجية على إعلان حالة الحصار في بولندا وليفونيا، وكان إضراب 22 كانون الثاني/يناير 1906 في وارسو ولودز وزنتوخن وفي مناجم الفحم في دومبروفا وكذلك جزئيا في بضع مدن روسية تخليدا لذكرى حمام الدم في بطرسبرج، بالإضافة إلى الإضراب العام في تموز/يوليو 1906 في تفليس الذي كان تظاهرة تعاطف مع الجنود الذين حوكموا أمام المحكمة العسكرية بتهمة القيام بثورة عسكرية، وفي النهاية كان الإضراب العام للسبب ذاته في أيلول/سبتمبر 1906 خلال مداولات المحكمة العسكرية في ريفال. لم تكن كل هذه الإضرابات الجماهيرية الجزئية والعامة إضرابات تظاهرية بل إضرابات صدامية، كما أنها نشأت في معظمها عفويا نتيجة أسباب محلية محددة حدثت صدفة وبدون خطة مسبقة ونمت بقوة طبيعية كامنة فيها إلى حركات كبرى، وفيما بعد لم تبدأ هذه الإضرابات «تراجعا منتظما» بل تحولت حينا إلى نضالات اقتصادية وحينا آخر إلى قتال شوارع وحينا ثالثا انهارت من تلقاء ذاتها.
يلعب الإضراب التظاهري السياسي المحض دورا ثانويا تماما في هذه الصورة العامة –نقاط صغيرة معزولة في خضم هذا المحيط الشاسع القوي. وبذلك تتبدى السمات التالية إذا نظر إلى الأمر وقتيا: إن الإضرابات التظاهرية التي تبدي بخلاف الإضرابات الصدامية أكبر قدر من الانضباط الحزبي والتوجيه الواعي والتفكير السياسي، والتي ينبغي لذلك أن تظهر في أروع وأنضج شكل من أشكال الإضراب الجماهيري، تلعب في الواقع الدور الأكبر في بدايات الحركة. هكذا كان التوقف التام عن العمل في أيار/ماي 1905 في وارسو تجربة على جانب عظيم من الأهمية للحركة البروليتارية في بولندا بصفته أول قرار يتخذه الاشتراكيون الديموقراطيون وينفذ بهذا الشكل المدهش. وبالطريقة ذاتها ترك الإضراب التعاطفي في السنة ذاتها في بطرسبرج أثرا عظيما كأول تجربة للعمل الجماهيري الواعي المنظم في روسيا. وبطريقة مشابهة سيلعب «الإضراب الجماهيري التجريبي» الذي قام به رفاقنا في هامبورج في 17 كانون الثاني/يناير 1906 دورا بارزا في تاريخ الإضراب الجماهيري في ألمانيا في المستقبل كأول تجربة قوية لهذا السلاح الذي يثير قدرا كبيرا من الخلاف وكتجربة مدهشة ومقنعة وناجحة جدا للمزاج الصدامي والرغبة في القتال لدى الطبقة العاملة في هامبورج. وستؤدي فترة الإضرابات الجماهيرية في ألمانيا، عندما عندما تبدأ بجد حقيقي، إلى توقف عام عن العمل في عيد اول أيار/ماي. وبالطبع يمكن أن يرفع الإحتفال بأول أيار /ماي إلى موقع مشرف كأول تظاهرة عظيمة تحت راية النضال الجماهيري. وبهذا المعنى لا يزال أمام «الحصان الكسيح»، كما سمي الإحتفال بأول أيار/ماي في مؤتمر اتحادات العمال في كولون، مستقبلا عظيما ودورا هاما في النضال البروليتاري الطبقي في ألمانيا.
ولكن أهمية تظاهرات كهذه تضمحل بسرعة مع تطور النضال الثوري الجاد. فالعوامل التي تسهل تحقيق الإضراب الجماهيري موضوعيا طبقا لخطة مسبقة ولأوامر قيادة الحزب – وهي بالتحديد نمو الوعي السياسي للبروليتاريا ونمو خبرتها – هي ذاتها ما يجعل الإضراب الجماهيري من هذا النوع مستحيلا. فالبروليتاريا في روسيا، وهي اليوم أقدر طليعة للجماهير لا تريد أن تعرف شيئا عن الإضراب الجماهيري، فلم يعد العمال ميالين للهزل ولن يفكروا الآن إلاّ بالنضال الجدي بكل نتائجه. وبينما لعب العامل التظاهري دورا عظيما في الإضراب الجماهيري الكبير لأول في كانون الثاني/ يناير 1905، لا بشكل مقصود بل في الواقع بشكل عفوي غريزي، إنهارت محاولة اللجنة المركزية للاشتراكيين الديموقراطيين الروس للدعوة إلى إضراب جماهيري في آب/أغسطس للتظاهر احتجاجا على حل الدوما، وذلك من جملة أسباب أخرى بسبب العزوف الإيجابي الذي أبدته البروليتاريا المثقفة عن القيام بأعمال مجزوءة ضعيفة وتظاهرية فحسب.
2- بيد أننا عندما نأخذ بالاعتبار الإضراب الأقل أهمية من النوع التظاهري بدلا من الإضراب الصدامي الذي يشكل اليوم في روسيا الأداة الفعلية للعمل البروليتاري، فإننا نرى بقدر أكبر من الوضوح استحالة فصل العوامل الاقتصادية عن بعضها البعض. فهنا أيضا تختلف الحقيقة الواقعة من المخطط النظري العام، ويتضح أن الصورة النظرية التعليمية خاطئة تماما، تلك الصورة التي تشتق الإضراب الجماهيري السياسي المحض منطقيا من الإضراب العام الذي تقوم به النقابات وتصوره على أنه المرحلة الأعلى والأرفع من هذا الإضراب وفي الوقت ذاته تصوره متميزا عن هذا الإضراب. وهذا ما تبينه حقيقة أن الإضرابات الجماهيرية، في النضال الكبير الأول الذي قام به عمال النسيج في بطرسبرج في 1896-1897 إلى آخر اضراب جماهيري كبير في كانون الثاني /يناير 1905، كانت تنتقل بشكل غير ملحوظ في الحقل الإقتصادي إلى الحقل السياسي، مما يجعل مستحيلا تقريبا رسم خط فاصل بينهما.
إن كل واحد من الإضرابات الجماهيرية يصير على نطاق صغير إذا صح القول كل تاريخ الإضراب الجماهيري الروسي، فكل منها يبدأ بصدام اقتصادي أو في كل الأحوال صدام نقابي ليمر بكل المراحل وصولا إلى التظاهرة السياسية. فقد نشأت موجة الإضرابات الجماهيرية العاتية في جنوب روسيا في 1902 و 1903 عن صدام وقع في باكو نتيجة إيقاع عقاب إداري بالعاطلين عن العمل، ونشأت في روستوف عن خلافات حول الأجور في مشاغل سكة الحديد، وفي تفليس عن نضال الموظفين التجاريين في سبيل تخفيض ساعات العمل، وفي أوديسا عن خلاف حول الأجور حصل في مصنع صغير واحد. كما أن الإضراب الجماهيري في كانون الثاني/يناير 1905 نشأ عن صدام داخلي في مشاغل بوتيلوف، وإضراب تشرين الأول /أكتوبر عن نضال عمال السكة الحديدية من أجل إقامة صندوق تقاعد ،وأخيرا نشأاضراب كانون الأول /ديسمبر عن نضال موظفي البرق والبريد من أجل حقهم في الانتظام. إن تقدم الحركة بشكلها العام لا يعبر عنه بالظروف التي تحذف فيها المرحلة الأولية الإقتصادية، بل في السرعة التي تقطع بها كل المراحل وصولا إلى التظاهرة السياسية وفي بُعد النقطة التي يتقدم إليها الإضراب.
ولكن الحركة بشكل عام لا تتقدم من النضال الاقتصادي إلى النضال السياسي ولا العكس. فكل عمل سياسي جماهيري كبير يتفتت بعد أن يصل أعلى نقطة سياسية له إلى عدد من الإضرابات الاقتصادية. ولا ينطبق هذا فحسب على كل إضراب جماهيري كبير، بل ينطبق أيضا على الثورة ككل. فالنضال الاقتصادي لا يتراجع بانتشار ووضوح وتعقد النضال السياسي، بل يمتد ويتنظم ويكون بين الاثنين تفاعل متبادل كامل.
إن كل انبثاق جديد للنضال السياسي وكل انتصار حديث له يتحول إلى قوة دافعة قوية للنضال الاقتصادي، فهو في الوقت ذاته يوسع احتمالات النضال الاقتصادي الخارجية ويكثف الدافع الداخلي الذي يدفع العمال لتحسين وضعهم ويكثف رغبتهم في النضال. وبعد كل موجة مرغية مزبدة من العمل السياسي تتخلف بقايا مفتتة تنطلق منها آلاف النضالات الاقتصادية، وبالعكس. كما أن صراع العمال الاقتصادي المستمر مع الرأسماليين يبقي طاقتهم القتالية حية في كل فترة سياسية، ويشكل ان صح القول مخزونا دائما لقوة الطبقات البروليتارية يجدد النضال السياسي منه قوته، ويؤدي في الوقت ذاته بأدوات الاختبار الاقتصادية الدائمة النشاط للطبقة العاملة في كل الأوقات إلى صدامات حادة متفرقة طورا هنا وتارة هناك، ومن هذه الصدامات تنفجر فجأة صدامات سياسية على نطاق واسع.
بكلمة واحدة، إن النضال الاقتصادي هو جهاز الإرسال من مركز سياسي إلى آخر، والنضال السياسي هو الثمرة التي تنتجها دوريا تربة النضال الاقتصادي. وهنا يتبادل السبب والنتيجة موقعيهما باستمرار، وهكذا يشكل العاملان الاقتصادي والسياسي في فترة الإضراب الجماهيري الوجهين المتداخلين للنضال الطبقي البروليتاري في روسيا، برغم أن الخطة النظرية تفصل ما بينهما فصلا تاما وتبعدهما عن بعضهما كثيرا وتعزل كلا منهما عن الآخر. ووحدة هذين العاملين هي بالضبط الإضراب الجماهيري. وإذا كانت النظرية الممزوقة تحاول القيام بتشريح منطقي ذكي للإضراب الجماهيري قصد الوصول إلى «الاضراب السياسي المحض»، فإنها بهذا التشريح، كما بأي تشريح آخر، لا تنظر إلى الظاهرة بجوهرها الحي، بل تقتلها تماما.
3- في النهاية تبين لنا الأحداث في روسيا أن الإضراب الجماهيري لا يمكن فصله عن الثورة، فتاريخ الإضرابات الجماهيرية الروسية هو تاريخ الثورة الروسية. وعندما يسمع ممثلو الإنتهازية الألمانية كلمة «ثورة» يتبادر إلى أذهانهم بالتأكيد سفك الدماء وقتال الشوارع وطلقات الرصاص ودوي المدافع، ومن هنا يصلون إلى الاستنتاج المنطقي التالي: الإضراب الجماهيري يؤدي حتما إلى الثورة، ولذا فإننا لا نجرؤ على الإقدام عليه. وفي الحقيقة نرى في روسيا أن كل إضراب جماهيري يؤدي في المدى البعيد إلى صدام مع حراس النظام القيصري المسلحين، ومن هنا فإن ما يسمى بالاضرابات السياسية يشبه تمام الشبه النضالات الاقتصادية الكبيرة. بيد أن الثورة شيء غير سفك الدماء وأكثر من سفك الدماء. فالتفسير الاشتراكي العلمي يرى في الثورة قبل كل شيء تصحيحا داخليا كاملا للعلاقات الطبقية الاجتماعية، وذلك على العكس من التفسير البوليسي الذي لا يرى في الثورة غير اضطرابات شوارع وشغب أي «إخلال بالنظام». ولذا تقوم من وجهة النظر الاشتراكية العلمية علاقة بين الإضراب الجماهيري والثورة في روسيا مختلفة تماما عن تلك العلاقة التي يتضمنها المفهوم المعتاد القائل أن الإضراب الجماهيري يؤدي عموما إلى سفك الدماء.
رأينا فيما سبق الآلية الداخلية للإضراب الجماهيري الروسي التي تعتمد على التأثير المتبادل الدائم بين النضالات السياسية والاقتصادية. ولكن هذا التأثير المتبادل يتكيف خلال الفترة الثورية. إذ لا يمكن لأي صدام جزئي صغير بين رأس المال والعمل أن يتحول إلى انفجار عام إلاّ في جو الفترة الثورية المتقد. ففي ألمانيا تحدث أعنف وأشرس التصادمات بين العمال وأصحاب العمل كل سنة وكل يوم دون أن يتخطى الصراع حدود الدوائر المنفردة أو المدن المنفردة المعنية أو حتى حدود المصانع المنفردة. إن معاقبة العمال المنظمين في بطرسبرج والبطالة في باكو ونضالات الأجور في أوديسا والنضالات من أجل حق الانتظام في موسكو مطروحة جميعا على جدول الأعمال في ألمانيا اليوم. بيد أن واحدا من هذه الحالات لا يتحول فجأة إلى عمل طبقي عام. وعندما تنمو هذه الحالات إلى إضرابات جماهيرية معزولة لها بدون شك لون سياسي فإنها لا تؤدي إلى عاصفة عامة. والإضراب العام الذي قام به عمال سكة الحديد الهولنديون والذين اضمحل وسط السلبية الكاملة من جانب البروليتاريا الهولندية، على الرغم من التأييد الحار الذي كان يتمتع به، يقدم برهانا جليا على هذا الأمر.
على العكس من ذلك، فقط في فترة الثورة، عندما تتخلخل الأساسات والجدران الاجتماعية للمجتمع الطبقي وتتعرض إلى عملية دائمة من الاختلال، يستطيع أي عمل سياسي طبقي تقوم به البروليتاريا أن يوقظ في ساعات معدودات قطاعات كاملة من الطبقة العاملة، لم تكن قد تأثرت حتى ذلك الحين، من حالتها السلبية، وسرعان ما يعبر هذا الأمر عن نفسه بالطبع على شكل نضال اقتصادي عاصف. فالعامل الذي يستيقظ فجأة بفعل الصدمة الكهربائية التي يصيبه بها العمل السياسي يقبض حالا على السلاح الذي في متناول يده ليقاتل ضد حالة العبودية الاقتصادية التي يعيشها: فالبادرة العاصفة التي يقوم بها النضال السياسي تجعله يشعر بحدة مفاجئة بثقل وضغط قيوده الاقتصادية. وبينما لم تمارس أكثر النضالات السياسية عنفا في ألمانيا مثلا –النضال الإنتخابي أو البرلماني بصدد التعرفة الجمركية- غير أثر لا يكاد يلحظ على مجرى وحدة نضال الأجور الذي كان يشن في الوقت ذاته في ألمانيا، كان كل عمل سياسي تقوم به البروليتاريا في روسيا يعبر عن نفسه حالا بتوسيع رقعة النضال الاقتصادي وزيادة حدته وتعميقه.
الثورة إذا تبدأ بخلق الشروط الاجتماعية التي يمكن بها تحول النضال الإقتصادي إلى نضال سياسي والنضال السياسي إلى نضال اقتصادي، ذلك التحول الذي يجد تعبيره فيه الإضراب الجماهيري. وإذا كان الفكر المبتذل لا يرى العلاقة بين الإضراب الجماهيري والثورة إلاّ في الحوادث الدامية التي ينتهي بها الإضراب الجماهيري، فإن نظرة أكثر عمقا بقليل على الأحداث في روسيا تبين رابطة مناقضة تماما: لا ينتج الإضراب الجماهيري الثورة في الواقع، بل إن الثورة هي التي تنتج الإضراب الجماهيري.
4- يكفي لفهم ما سبق تفسير مسألة التوجيه الواعي والمبادرة في الإضراب الجماهيري. ذلك أنه إذا لم يكن الإضراب الجماهيري عملا معزولا بل فترة كاملة من النضال الطبقي، وإذا كانت هذه الفترة مماثلة لفترة الثورة، فإن من الواضح أن الإضراب الجماهيري لا يمكن أن يقرر إراديا حتى عندما يكون القرار صادرا عن أعلى لجنة في أقوى حزب اشتراكي ديموقراطي. وما دامت الاشتراكية الديموقراطية لا تستطيع تحضير وتسيير ثورات طبقا لرغائبها فإن أعظم حماس ونفاد صبر تبديه القوى الاشتراكية الديموقراطية لا يكفي لإحداث فترة إضراب جماهيري حقيقي كحركة شعبية حية قوية. لا شك أنه يمكن تنظيم تظاهرة قصيرة واحدة تنظيما حسنا على أساس قرار تتخذه قيادة الحزب وعلى أساس الانضباط الحزبي، كما حدث في الإضراب الجماهيري السويدي أو في آخر إضراب نمسوي أو حتى كما حدث في الإضراب الجماهيري في هامبورج في كانون الثاني/يناير 1917. غير أن هذه التظاهرات تختلف عن فترة إضراب جماهيري ثورية فعلية بالطريقة ذاتها التي تختلف بها التظاهرات المعروفة جيدا في الموانئ الأجنبية خلال فترة علاقات دبلوماسية متوترة عن الحرب البحرية. لا يمكن للإضراب الجماهيري الذي ينشأ عن الانضباط والحماس المجردين أن يلعب في أحسن الأحوال دورا أكثر من دور حدث أو عرض من أعراض المزاج القتالي للطبقة العاملة الذي تنعكس عليه، على أي حال، ظروف الفترة المسالمة.
وبالطبع، لا تسقط الإضرابات الجماهيرية من السماء ،حتى خلال الثورة. بل يجب أن يبدأها العمال بطريقة أو بأخرى. كما أن تصميم العمال وعزمهم يلعبان دورا، ويقع التوجيه العام والمبادرة بالطبع على عاتق لباب البروليتاريا، أي ذلك القطاع المنظم الأكثر وعيا منها. لكن مجال هذه المبادرة وهذا التوجيه يقتصر في غالب الأحيان على أعمال فردية وإضرابات فردية عندما تكون الفترة الثورية قد بدأت فعلا، وهما فعلا يقتصران في معظم الحالات على مدينة واحدة. وهكذا نجح الاشتراكيون الديموقراطيون، كما رأينا، في حالات عدة في الدعوة إلى إضراب جماهيري كما في باكو ووارسو ولودز وبطرسبرج. ولكن هذا النجاح لا يحدث إلاّ قليلا عندما يتعلق الأمر بحركات عامة للبروليتاريا كلها.
عدا ذلك، هناك حدود واضحة ومحدودة للتوجيه الواعي والمبادرة. ففي خلال الثورة، يصبح من الصعوبة بمكان على أي هيئة قيادية من حركات البروليتاريا أن تتنبأ وتحسب الظروف والعوامل التي يمكن أن تؤدي إلى انفجارات والظروف والعوامل التي لا يمكنها ذلك. وهنا أيضا لا تكمن المبادرة ولا يكمن التوجيه في إصدار أوامر طبقا لميول هذا أو ذاك، بل في التكيف البارع مع الوضع المعطى وفي أكبر قدر ممكن من الاتصال بالمزاج الجماهيري. فعنصر العفوية يلعب كما رأينا دورا كبيرا في كل الإضرابات الجماهيرية الروسية سواء كان هذا الدور قوة دافعة أو دور تأثير كابح. غير أن هذا لا يحدث في روسيا بسبب من حداثة الاشتراكية الديموقراطية أو ضعفها، بل يحدث لأن كل عمل نضالي فرد يتعرض لعوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية ومحلية وعامة ومادية ومجسدة هامة كثيرة تتفاعل مع بعضها البعض بحيث يستحيل ترتيب وحل أي عمل فرد كما لو كان مسألة حسابية. فالثورة حتى عندما تلعب البروليتاريا، والاشتراكية الديموقراطية على رأسها، دورا قياديا فيها ليست مناورة تقوم بها البروليتاريا في معركة مكشوفة، بل إنها قتال في خضم التحطم والتخلخل والانهيار الدائب للأساس الاجتماعي. باختصار، يلعب عامل العفوية دورا غالبا في الإضراب الجماهيري في روسيا، لا لأن البروليتاريا «ليست مثقفة» بل لأن الثورات لا تسمح لأي كان أن يلعب دور الأستاذ.
من جهة أخرى، نرى في روسيا أن الثورة ذاتها التي جعلت قيادة الاشتراكيين الديموقراطيين للإضراب الجماهيري أمرا صعبا إلى هذا الحد، والتي اختطفت من أيديهم «عصا المايسترو» أو وضعتها في هذه الأيدي بطريقة جد هزلية، نرى أن هذه الثورة ذاتها حلت من تلقاء نفسها كل صعوبات الإضراب الجماهيري، تلك الصعوبات التي تعتبر في المناقشات الألمانية النظرية موضع الاهتمام الرئيسي «للهيئة القائدة»، صعوبات «الإستعداد المسبق» و«اكتشاف الثمن والتضحية». وغني عن القول أن الثورة لا تحل هذه المصاعب بالطريقة التي يمكن أن تحل بها في المناقشات السرية الهادئة بين الهيئات القيادية العليا للحركة العمالية بينما يمسك كل من الأعضاء قلمه بيديه. إن «تنظيم» كل هذه المسائل يتألف نتيجة أن الثورة تدفع بجماهير غفيرة من أبناء الشعب إلى المسرح بدرجة تجعل كل حساب أو تقدير لثمن الحركة من النوع الذي يجري في عملية مدينة يبدو عملا لا طائل تحته.
لا شك أن التنظيمات القيادية في روسيا تحاول بكل ما تستطيع دعم الضحايا المباشرين. فمثلا قامت هذه التنظيمات على مدى أسابيع بإعالة ضحايا إقفال المصانع على نطاق ضخم في بطرسبورج بعد حملة يوم عمل من 8 ساعات. ولكن هذه الإجراءات جميعا لا تعدو في ميزان الثورة الهائل كونها نقطة في بحر. وفي اللحظة التي تبدأ فيها جديا فترة إضرابات جماهيرية، تصبح كل «حسابات الثمن» هذه كمشاريع لافراغ المحيط من مياهه بقدح. وأنه حقا لمحيط من الحرمان المريع والمعاناة القاسية ذلك الذي تغرق فيه كل ثورة جماهيرها البروليتارية. لكن الحل الذي تقدمه الثورة لهذه الصعوبة التي تبدو مستعصية هو أن حجما هائلا من المثالية ينطلق في الوقت ذاته من الجماهير ليجعلها غير حساسة تجاه أقسى العذاب. ول يمكن صنع الاضراب الجماهيري ولا صنع الثورة بنفسية عضو النقابة الذي لا يضرب عن العمل في عيد أول أيار/ماي إلاّ إذا تأكد مسبقا من أنه سيلقى قدرا معينا من الدعم إذا ما أصابه ضرر من جراء ذلك. ولكن في خضم العاصفة الثورية يتحول البروليتاري من رجل حكيم يطلب المعونة إلى «رومانتيكي ثوري» لا تساوي الحياة ذاتها لديه شيئا بالمقارنة مع مثل النضال.
بيد أنه إذا كان توجيه الإضراب الجماهيري بمعنى السيطرة على نشوئه وبمعنى حساب ثمنه مسألة تتعلق بالفترة الثورية ذاتها، فإن توجيه الإضراب الجماهيري يصبح بمعنى مختلف تماما الواجب الملقى على عاتق الاشتراكية الديموقراطية وهيئاتها القيادية. وينبغي على الاشتراكيين الديموقراطيين أن يتولوا القيادة السياسية في خضم الفترة الثورية بدل أن يحاروا في الجانب التقني للإضراب الجماهيري أي بآليته.
إن المهمة الكبرى التي تقع على الهيئة القيادية للحزب في فترة الإضرابات الجماهيرية هي تعيين دور النضال وتوحيد وجهته وتنظيم تاكتيك النضال السياسي في كل مرحلة من مراحله وفي كل لحظة من لحظاته بحيث يجد المجموع الكلي لقوى البروليتاريا التي انطلقت وأصبحت فعالية بقيده في اتجاه الحزب وضعا قتاليا. إن هذه المهمة هي تحديد تاكتيكات الاشتراكيين الديموقراطيين تحديدا حازما وحاذقا، والتأكد من أن هذه التاكتيكات لا تسقط أبدا تحت المستوى الذي تتطلبه العلاقات الحقيقية للقوى بل ترتفع فوقه على الدوام . وهذا التوجيه يتحول من تلقاء نفسه إلى توجيه تقني بدرجة ما. إن تاكتيكا حازما متناسقا متطورا من جانب الاشتراكيين الديموقراطيين يحقن الجماهير بإحساس من الأمن والطمأنينة والثقة بالنفس والرغبة في القتال، بينما يحدث تاكتيك ضعيف متذبذب يقوم على التقليل من قدرات البروليتاريا أثرا مشوشا ومقعدا على الجماهير. ففي الحالة الأولى تنفجر الإضرابات الجماهيرية «من تلقاء ذاتها» وفي «الوقت المناسب»، بينما تبقى في الحالة الثانية غير فعالة وسط نداءات مباشرة توجهها الهيئة القيادية داعية إلى الإضراب. ولنا في الثورة الروسية مثلا بارزا على الحالتين.


5- دروس الحركة العمالية في روسيا التي تنطبق على ألمانيا
لنبحث الآن إلى أي مدى يمكن للدروس المستخلصة من الإضرابات الجماهيرية الروسية أن تنطبق على ألمانيا. إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتاريخ ومنزلة الحركة العمالية مختلفة جدا في ألمانيا عنها في روسيا. وقد يبدو أول وهلة أن القانون الداخلي للإضرابات الجماهيرية الروسية، كما أوضحناه بخطوطه العريضة، مجرد نتاج للظروف الروسية المخصوصة وأنه لا حاجة بالبروليتاريا الألمانية إلى أخذ هذه الإضرابات بعين الاعتبار. هناك في الثورة الروسية صلة داخلية وثيقة بين النضالين السياسي والاقتصادي، وتصبح وحدتهما حقيقة واقعة في فترة الاضرابات الجماهيرية .ولكن أليس ذلك ببساطة نتيجة الحكم المطلق في روسيا ؟ ففي بلد يحظر فيه كل شكل من أشكال التعبير على الحركة العمالية ويعتبر ابسط الاضرابات جريمة سياسية ، لابد ان يصبح النضال الاقتصادي منطقيا نضالا سياسيا .
عدا ذلك ، لم تكن تصفية الحسابات الشاملة بين الطبقة العاملة الروسية وأصحاب العمل نتيجة أول اندلاع للثورة السياسية سوى نتيجة الظروف الخاصة بالعمل الروسي الذي كان حتى ذلك الحين يعيش في مستوى معيشي منخفض حدا والذي لم يكن قد خاض بعد نضالا اقتصاديا واحدا لتحسين حالته. وبذلك كان على البروليتاريا الروسية أولا أن تجد إلى حد ما طريقها للخروج من هذه الظروف التاعسة، فما الذي يدعو للعجب إن كانت هذه البروليتاريا قد استخدمت بحماس الشباب أول وسيلة لبلوغ هذا الهدف حالما جعلت الثورة أول نسمة عليلة تهب في هواء الحكم المطلق الثقيل؟
وفي النهاية يفسر السبل الثوري العاصف الذي سلكته الإضرابات الجماهيرية الروسية وكذلك طابعها العفوي الغالب بالتخلف السياسي في روسيا من جهة وبضرورة الإطاحة أولا بالاستبداد الشرقي، ومن جهة أخرى بحاجة البروليتاريا الروسية إلى التنظيم والانضباط. أمّا في بلد تملك فيه خبرة ثلاثين سنة من الحياة السياسية، وحزبا اشتراكيا ديموقراطيا قويا يبلغ عدد أعضائه ثلاثة ملايين بالإضافة إلى ربع مليون مختارين ومنظمين في نقابات، في بلد كهذا لا يمكن للإضراب الجماهيري ولا للنضال السياسي أن يتخذا الطابع العاصف الجائح كما فعلا في دولة نصف بربرية قفزت لتوها من العصور الوسطى إلى النظام البرجوازي الحديث. هذا هو المفهوم السائد اليوم بين أولئك الذين يقرأون مرحلة نضوج الظروف الاجتماعية لبلد ما من نصوص القوانين المكتوبة.
فلنبحث المسألة بالترتيب. أولا من الخطأ تأريخ بداية النضال الاقتصادي في روسيا باندلاع الثورة فقط. ففي الواقع، كانت الإضرابات والنزاعات على الأجور قد أصبحت مطروحة على جدول الأعمال في روسيا باضطراد منذ تسعينات القرن الماضي وفي بولندا الروسية منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد استطاع هذا النضال في النهاية تحصيل الحقوق المدنية للعمال. وبالطبع كثيرا ما كانت هذه الإضرابات والنزاعات تتبع بإجراءات بوليسية فظة، ولكنها مع ذلك كانت ظواهر تتكرر يوميا. مثلا كان في كل من وارسو ولودز صندوق إضراب كبير يعود إلى وقت مبكر هو العام 1891 وكان الحماسة للنقابية (التريديونيونية) في هذه السنوات بالغا لدرجة أنه خلق الوهم «الاقتصادي» في بولندا، وبعد ذلك ببضع سنوات ساد هذا الوهم في بطرسبرج وباقي روسيا.
كذلك فإن هناك قدرا كبيرا من المبالغة في القول أن البروليتاري في الإمبراطورية القيصرية كان يعيش قبل الثورة في مستوى معيشة العالة على الغير. فقد كانت شرعية العمال في الصناعات الكبرى في المدن الكبيرة، وهي التي كانت الأكثر حماسا ونشاطا في النضال السياسي وكذلك في النضال الاقتصادي، تعيش من حيث الظروف المادية في مستوى لا تكاد يقل عن مستوى مثيلتها في ألمانيا، وفي بعض المهن كانت الأجور في روسيا تتساوى مع الأجور في ألمانيا، حتى أنها كانت تفوقها هنا وهناك. أمّا فيما يتعلق بمدة يوم العمل فقد كان الفارق في الطاعات الكبرى بين البلدين غير هام هنا وهناك. كذلك فإن الفكرة التي تفترض أن الطبقة العاملة الروسية كانت تعيش حالة من العبودية الاقتصادية والثقافية فكرة لا أساس لها في الواقع. فهذه الفكرة تتعارض كما يتبين بقليل من التفكير مع الثورة ذاتها ومع الدور البارز الذي لعبته البروليتاريا فيها. فما من ثورة بهذا القدر من النضج السياسي والذكاء الفكري يمكن أن تقوم بمن هم عالة على الغير، والعامل الصناعي في بطرسبرج ووارسو وموسكو وأوديسه الذي وقف في طليعة النضال أقرب ثقافيا وعقليا إلى النمط الأوروبي الغربي أكثر بكثير مما يخيل لأولئك الذين يعتقدون أن البرلمانية البورجوازية والممارسة النقابية الدائبة هي المدرسة التي لا غنى عنها ،وحتى المدرسة الوحيدة، لتثقيف البروليتاريا. إن التطور الرأسمالي الحديث الواسع في روسيا والتأثير الفكري الذي مارسته الاشتراكية الديموقراطية عقدا ونصف، شجعت فيه النضال الاقتصادي ووجهته، قد خلقا عملا ثقافيا هاما بدون الضمانات البرانية التي يعطيها النظام القانوني البرجوازي.
بيد أن التباين يقل عندما ننظر من جهة أخرى نظرة أدق إلى مستوى معيشة الطبقة العاملة الألمانية. لقد استثارت الاضرابات الجماهيرية السياسية الكبرى في روسيا أوسع شرائح البروليتاريا منذ البداية ودفعت بها إلى نضال اقتصادي محموم. ولكن أليس هناك في ألمانيا قطاعات جاهلة تماما بين العمال لا يكاد ينفذ إليها حتى الآن دفء الضوء الذي تبعثه الحركة النقابية، وقطاعات كاملة لم تحاول حتى اليوم أن ترفع نفسها فوق عبوديتها الاجتماعية بواسطة النضالات اليومية من أجل الأجور، أو أنها حاولت ذلك عبثا؟
لنبحث فقر عمال التعدين. لم يعبر نضال عمال التعدين من أجل الأجور في ظل يوم العمل الهادئ وفي جو الرتابة البرلمانية البارد في ألمانيا –وكذلك في الأقطار الأخرى وحتى في بريطانيا العظمى جنة التريديونونية- لم يعبر عن نفسه إبدا إلاّ بانفجارات عنيفة بين الحين والآخر في اضرابات جماهيرية ذات طابع نموذجي عاصف. وهذا يبين أن التناقض العدائي بين العمل ورأس المال حاد وعنيف لدرجة لا يمكن معها أن يسمح لنفسه بالاضمحلال نتيجة نضالات نقابية هادئة مستمرة وجزئية. إن تعاسة عمال التعدين، بتربتها المتفجرة التي تشكل مركزا عاصفا لأعظم العنف، لا بد أن تنفجر حالا في نضال اقتصادي اشتراكي مع كل عمل سياسي كبير تقوم به الطبقة العاملة ومع كل اهتزاز عنيف يحدث خللا في التوازن اللحظي للحياة الاجتماعية اليومية.
ولنأخذ أيضا حالة فقر عمال النسيج. هنا أيضا تعطي الانفجارات المريرة للنضال من أجل الأجورالتي كانت تجتاح فوجتلاند كل بضعة أعوام، والتي غالبا ما كانت عقيمة، تعطي فكرة أولية عن العنف الذي لا بد أن تنفجر به الكتلة الكبيرة من عبيد رأس المال المتمركز في تروستات، خلال كل تشنج سياسي وخلال كل عمل سياسي قوي جريء تقوم به البروليتاريا الألمانية. مرة ثانية لنأخذ فقر عمال البيوت وعمال الملابس الجاهزة وعمال الكهرباء، تلك المراكز العاصفة الحقيقية التي ستندلع فيها النضالات العنيفة بصورة أكيدة مع كل اختلال في الجو السياسي في ألمانيا، فكلما قلت نضالات البروليتاريا في أزمنة الهدوء، كلما قلت فرص نجاحهم في النضال في أي وقت من الأوقات وكلما أجبرها رأس المال بشراسة على العودة إلى ربقة العبودية وهي تصك أسنانها.
بيد أنه يجب أن تؤخذ بالاعتبار قطاعات كاملة كبيرة من البروليتاريا، تلك القطاعات التي لا يمكن لها أن تستطيع، إذا سارت الأمور «سيرا طبيعيا» في ألمانيا، الاشتراك في النضال الاقتصادي السلمي لتحسين ظروفها ولا تستطيع كذلك الحصول على حقها في الانتظام. وهنا نضرب مثلا ساطعا بموظفي سكك الحديد والبريد أولا وقبل كل ما عداهم. فهؤلاء الموظفون الحكوميون يعيشون في ظروف روسية في ظل الدولة الدستورية البرلمانية الألمانية أي في ظروف روسية كما كانت هذه الظروف قبل الثورة خلال الاشراقة الهادئة للحكم المطلق. لقد كان عمال سكك الحديد الروس بإضرابهم العظيم في تشرين الأول/أكتوبر 1905 في روسيا التي كانت حينئذ تحكم رسميا حكما مطلقا يتفوقون على الألمان فيما يتعلق بالحرية الاجتماعية والاقتصادية التي تتمتع بها حركتهم. لقد حصل عمال سكك الحديد الروس على اعتراف واقعي بحقهم في الانتظام وذلك في خضم المعركة، وإذا كانت المحاكمة تلو الأخرى والاضطهاد هي القاعدة فإن ذلك لم يكن ليؤثر على وحدة العمال الداخلية.
بيد أن من الخطأ في الحساب السيكولوجي الافتراض، كما تفعل الرجعية الالمانية، بأن الطاعة الخانعة التي يبديها موظفو سكك الحديد والبريد في ألمانيا ستستمر الى الأبد وأنها صخرة لن تتحطم. إن قادة النقابات الألمانية اعتادو على الظروف القائمة الى حد أنهم ينظرون بعين الرضا الكامل إلى نتائج النضال النقابي في ألمانيا غير آبهين لعدم الاكتراث الذي ليس له مثيل في كل أوروبا. ولكن مع ذلك فإن الكراهية العميقة التي كبتت طويلا وتاتي تعتمل في صدور عبيد الدولة غير الواعين ستجد حتما متنفسا لها في انتفاضة عامة يقوم بها العمال الصناعيين. وعندما تحصل الطليعة الصناعية للبروليتاريا بواسطة الإضرابات الجماهيرية على حقوق سياسية جديدة أو تحاول حماية حقوق موجودة، فإن أفراد جيش موظفي سكك الحديد والبريد العظيم سيفكرون بالضرورة في تعاستهم الخاصة، وينهضون في النهاية ليحرروا أنفسهم من القسط الإضافي من «الحكم المطلق الروسي» المخصص لهم خصيصا في ألمانيا.
إن المفهوم التعليمي الذي يعتقد أن الحركات الجماهيرية العظيمة تقوم طبقا لخطة ووصفة يعتبر أن حصول عمال سكك الحديد على حقهم في الإنتظام ضروري قبل أن «يجرؤ» أي كان على التفكير في إضراب جماهيري في ألمانيا. إلا أن سير الأحدات الواقعي والطبيعي لا يمكن إلا أن يكون معاكسا لذلك: إذ لايمكن في الواقع أن يولد حق الإنتظام لعمال سكك الحديد وكذلك لعمال البريد إلا من إضراب جماهيري عفوي عظيم القوة. وستجد المسائل التي لاحل لها في الظروف القائمة في ألمانيا حلا مفاجئا بتأثير وضغط عمل سياسي جماهيري شامل تقوم به البروليتاريا.
وأخيرا هناك الأمر الأعظم والأكثر أهمية: فقر العمال الزراعيين. فإذا كانت النقابات البريطانية تقتصر على العمال الصناعيين، فذلك أمر يمكن فهمه بالنظر إلى الطابع الخاص للاقتصاد البريطاني والدور غير الهام الذي تلعبه الزراعة بشكل عام في الحياة الاقتصادية لبريطانيا. أما في ألمانيا، فإن نقابة تحتوي على العمال الصناعيين فقط ويتعذر دخولها على جيش العمال الزراعيين العظيم ستعطي مهما بلغ حسن بنائها صورة مجزوءة وضعيفة لأوضاع البروليتاريا. ولكن ثانية، أنه لوهم قاتل أن يظن المرء أن الظروف في البلد لا تتغير ولا تتحرك، وأن العمل التثقيفي الذي لا يكل ولا يمل الذي يقوم به الاشتراكيون الديموقراطيون، وكذلك السياسة الطبقية الداخلية كلها في ألمانيا، لا تقلل باستمرار من السلبية الظاهرية للعمال الزراعيين، أو أن هذه الأمور جميعا لا تجذب البروليتاريا الريفية إلى حلبة الصراع.
وبشكل مشابه، تتغير إلى حد كبير صورة ما يدعى من تفوق البروليتاريا الألمانية اقتصاديا على البروليتاريا الروسية، عندما نشيح النظر عن جداول الصراعات والمؤسسات المنظمة في نقابات، ونلقي نظرة على تلك الجماعات الكبيرة من البروليتاريا التي تقف خارج النضال النقابي بكامله، أو التي لا يسمح لها وضعها الاقتصادي الخاص بأن تحشر في الأطار الضيق لحرب العصابات اليومية التي تشنها النقابات. فهناك نرى حلبة هامة إثر أخرى وصلت فيها حدة التعاديات درجتها القصوى وتراكم فيها فيض غزير من المواد السريعة الاشتعال، حيث يتبدى هناك قدر كبير من «الحكم المطلق الروسي» بأكثر أشكاله عريا، وحيث يجب أن تحدث أولا أكثر المجابهات الاقتصادية مع رأس المال أولية.
إذن، لا بد أن تقدم كل هذه الحسابات إلى النظام السائد في إضراب جماهيري سياسي عام تقوم به البروليتاريا. ولذا فإن تظاهرة تقوم بها البروليتاريا المدينية وترتب بصورة مصطنعة وتحدث مرة واحدة، ومجرد إضراب جماهيري ينبثق عن الانضباط وتوجهه بعصى المايسترو اللجنة التنفيذية للحزب قد يترك جماهير واسعة من الشعب غير مبالية ويجعلها تقابل الامر بالبرود .ولكن عملا قتاليا شجاعا وقويا تقوم به البروليتاريا الصناعية و يولد من وضع ثوري سيفعل بالتأكيد فعله على الشرائح الأعمق ، ويجتذب في النهاية إلى حلبة النضال الاقتصادي العاصف كل اولئك الذين يقفون في الأوقات العادية بعيدا عن النضال النقابي اليومي.
ولكن من جهة أخرى، عندما نعود إلى الطليعة المنظمة للبروليتاريا الصناعية الألمانية، ونأخذ بالاعتبار أهداف النضال الاقتصادي التي كافحت من أجلها الطبقة العاملة الروسية، فإننا لا نجد إطلاقا سببا يدعو للتقليل من هذه الأهداف الشابة، كما تفعل الاتحادات النقابية الألمانية الشائخة. هكذا فإن أهم مطلب عام تناضل الإضرابات الروسية من أجله منذ 22 كانون الثاني/يناير، ألا وهو يوم عمل من ثماني ساعات، ليس برنامجا لا تستطيع البروليتاريا الألمانية تحقيقه، بل هو في معظم الأحيان هدف جميل بعيد. وينطبق هذا أيضا على برنامج «السيادة على المصانع» وعلى النضال من أجل إدخال لجان العمال إلى المصانع وإلغاء العمل بالقطعة وإلغاء العمل الإضافي المنزلي في الحرف اليدوية والمحافظة التامة على الراحة في أيام الآحاد والاعتراف بحق العمال في الانتظام في نقابات. نعم، يتضح بتفحص أكثر دقة للأهداف الاقتصادية التي تناضل البروليتاريا الروسية من اجلها أن هذه الاهداف حقيقية بالنسبة للطبقة العاملة الألمانية، وتمس نقطة حساسة جدا في حياة العمال.
لذا يتبع حتميا مما سبق أن الإضراب الجماهيري السياسي في ألمانيا ليس سوى خطة نظرية لا حياة فيها. أما إذا نجحت الإضرابات الجماهيرية بطريقة طبيعية عن هياج ثوري قوي ونتج عنها نضال سياسي حازم يقوم به عمال المدن، فإنها ستتحول بطريقة طبيعية أيضا وكما حدث في روسيا إلى فترة كاملة من النضالات الإقتصادية الأولية. من هنا فإن مخاوف القادة النقابيين من أن النضال من أجل المصالح الإقتصادية، خلال فترة كفاح سياسي عاصف وفي فترة إضرابات جماهيرية، يمكن ببساطة أن يطاح به جانبا ويقمع، هذه المخاوف تقوم على مفهوم سطحي ولا أساس له البتة لسير الأحداث. إن فترة ثورية في ألمانيا ستحول طابع النضال النقابي وتطور إمكانياته إلى حد تصبح معه حرب العصابات الراهنة التي تخوضها النقابات الهية صبية بالمقارنة. ومن جهة أخرى فإن النضال السياسي سيبقى على الدوام قوة دافعة وعزما جديدين من العاصفة الاقتصادية الأولية التي تثيرها الإضرابات الجماهيرية. أمّا الفعل المتبادل للنضالين السياسي والاقتصادي، الذي يمثل العمود الفقري للإضرابات الحالية في روسيا ويمثل في الوقت ذاته الآلية الضابطة للعمل الثوري البروليتاري، فسينشأ في ألمانيا بصورة طبيعية عن الظروف ذاتها.


6- تعاون العمال المنظمين وغير المنظمين ضروري للنصر
تتخذ مسألة التنظيم فيما يتعلق بمشكلة الإضراب الجماهيري في ألمانيا منحى مختلفا جوهريا بالعلاقة بما سبق.
يمكن بشكل عام تلخيص موقف الكثيرين من قادة النقابات في الجملة التالية: «لسنا أقوياء بما فيه الكفاية لنخاطر بالدخول في تجربة للقوة خطيرة كالإضراب الجماهيري». إن هذا الموقف يتعذر الدفاع عنه، إذ لا يمكن، بطريقة سلمية وبعدّ الرؤوس، تحديد الوقت الذي تصبح فيه البروليتاريا «قوية بما فيه الكفاية» للقيام بأي نضال. فقبل ثلاثين سنة كان عدد أعضاء النقابات الألمانية 50 ألفا. وهذا عدد من الواضح أنه يجعل الإضراب الجماهيري على النطاق المشار إليه آنفا أمرا لا يمكن أن يخطر ببال. لكن النقابات أصبحت بعد 15 سنة من ذلك الحين أقوى بأربع مرات وأصبح عدد أعضائها 237 ألفا. بيد أنه لو سئل قادة النقابات حينداك ما إذا كان تنظيم البروليتاريا إذ ذاك ناضجا بما فيه الكفاية للإضراب الجماهيري ، لأجابوا بالتأكيد أن الأمر أبعد ما يكون من ذلك وأنه يجب أولا أن يبلغ عدد المنظمين في النقابات الملايين.
واليوم دخل عدد أعضاء النقابات مليونه الثاني؛ ولكن آراء القادة النقابيين لا يزال كما في السابق بالضبط، وقد تظل كذلك حتى النهاية. فالافتراض الضمني هو أن الطبقة العاملة الألمانية كلها حتى آخر رجل وآخر امرأة يجب أن تنضم إلى المنظمة قبل أن تصبح المنظمة «قوية بما فيه الكفاية» للاقدام على اضراب جماهيري، وحينذاك وحسب المعادلة القديمة يصبح الإضراب الجماهيري أمرا «لا حاجة له». بيد أن هذه النظرية طوباوية لسبب بسيط هو أنها تعاني من تناقض داخلي وأنها تدور في حلقة مفرغة. يجب أن ينظم العمال جميعا قبل أن يستطيعوا خوض أي نضال طبقي مباشر. ولكن ظروف وأوضاع التطور الرأسمالي والدولة البورجوازية تجعل مستحيلا في الحالة العادية وبدون نضال طبقي عاصف تنظيم قطاعات معينة من البروليتاريا هي القطاعات الأكبر والأهم والأدنى والأكثر تعرضا للاضطهاد من جانب رأس المال. ففي بريطانيا حيث قرن كامل من الجهد النقابي الذي لا يكل ولا يمل دون «إزعاجات» – إلاّ في بداية فترة الحركة الشارتية – ودون أية أخطاء أو غوايات «ثورية رومانتيكية»، نرى أنه لم يكن من الممكن فعل شيء أكبر من تنظيم أقلية من القطاعات البروليتارية التي تتلقى أجرا أفضل.
ومن جهة أخرى، لا تستطيع النقابات، ككل منظمات البروليتاريا النضالية، أن تحافظ على نفسها دوما بغير النضال، لا النضال من نوع الحرب بين الضفادع والفئران في مياه الفترة البرلمانية البرجوازية الراكدة، بل النضال في فترة الإضراب الجماهيري الثورية المضطربة. إن المفهوم الميكانيكي البيروقراطي لا يستطيع تصور النضال إلاّ نتاجا للتنظيم في مرحلة معينة من القوة. وعلى العكس من ذلك فإن التفسير الجدي الحي يرى أن التنظيم ينبثق نتيجة للنضال. ولقد رأينا مثلا عظيما على هذه الظاهرة في روسيا حيث استطاعت بروليتاريا تكاد تفتقر إلى التنظيم تماما خلق شبكة شاملة من الخلايا التنظيمية في سنة ونصف من النضال الثوري العاصف.
ويعطي تاريخ النقابات الألمانية مثلا آخر من هذا النوع. فقد كان عدد النقابات في العام 1878 يبلغ 50 ألفا. وكان هذا التنظيم كما قلنا سابقا وطبقا لنظرية قادة النقابات الحاليين غير«قوي بما فيه الكفاية» للدخول في نضال سياسي عنيف. ولكن النقابات الألمانية برغم ضعفها قامت بالنضال – بالتحديد النضال ضد القانون المعادي للاشتراكية – وبرهنت على أنها كانت «قوية بما فيه الكفاية» لا للخروج من النضال منتصرة فحسب بل لزيادة قوتها خمس مرات أيضا، فأصبح عدد أعضائها في العام 1891 بعد إلغاء القوانين المعادية للاشتراكية 227659 عضوا. صحيح أن الوسائل التي انتصرت بها النقابات في هذا النضال لا تتفق مع مثال عملية مسالمة غير متقطعة: فقد تحطمت النقابات تماما وأصبحت أنقاضا لترتفع في موجة ثانية فتولد من جديد. ولكن هذه هي بالتحديد الطريقة التي تنمو بها التنظيمات الطبقية للبروليتاريا: ان تختبر بالنضال وتتقدم من النضال وقد ازدادت قوة.
إن تفحصا أدق للظروف الألمانية ولظروف القطاعات المختلفة من الطبقة العاملة، تبين بوضوح أن فترة النضالات السياسية الجماهيرية العارمة لن تؤدي إلى الانهيار المريع للنقابات الألمانية، بل ستؤدي على العكس من ذلك إلى فتح آفاق لامتداد مناطق قوتها لم يحلم بها حتى الآن، وسيتسع هذا الامتداد بسرعة وبقفزات كبيرة. ولكن لا تزال للمسألة وجه آخر. إن خطة القيام بإضرابات جماهيرية كعمل سياسي طبقي جدي بالعمل المنظمين فقط خطة لا رجاء فيها إطلاقا. ذلك أنه إذا أريد للاضراب الجماهيري، أو بالأحرى الإضرابات الجماهيرية، والنضال الجماهيري أن تنجح فإنها يجب أن تصبح «حركة الشعب» حقا، أي أنها يجب أن تجتذب إلى ساحة القتال أوسع قطاعات البروليتاريا. حتى في الوقت الراهن، لا تقوم قوة الصراع الطبقي البروليتاري في الشكل البرلماني على المجموعة الصغيرة المنظمة بل على جماهير البروليتاريا ذات العقلية الثورية المحيطة بالمنظمة. ولو كان الاشتراكيون الديموقراطيون يدخلون المعركة الانتخابية معتمدين على بضعة مئات الآلاف من الأعضاء المنظمين، لقضوا على أنفسهم بالعقم. وعلى الرغم من ميل الاشتراكية الديموقراطية حيثما أمكن إلى اجتذاب الجيش العظيم ممن يدلون بأصواتهم في صالحها إلى تنظيم الحزب، فإن جماهير منتخبي الاشتراكية الديموقراطية لم يزيدوا بعد ثلاثين سنة من تجربتها عبر نمو التنظيم الحزبي. بل على العكس من ذلك، تشكل قطاعات البروليتاريا التي يجري اليوم كسبها عبر النضال الإنتخابي الأرض الخصبة للتنظيم في المستقبل. هنا لا تقدم المنظمة قوات للنضال، ولكن النضال هو الذي يقدم بدرجة تتزايد على الدوام مجندين للمنظمة.
ومن الواضح أن هذا ينطبق بدرجة أكبر بكثير على النضال الجماهيري السياسي المباشر أكثر من النضال البرلماني. وإذا كان الاشتراكيون الديموقراطيون بصفتهم النواة المنظمة للطبقة العاملة، هم الطليعة الأكثر أهمية لكل العمال، وإذا كان الوضوح السياسي للحركة العمالية وقوتها ووحدتها تنبثق جميعا من هذه المنظمة، فإنه ليس من المسموح به أبدا تصوير الحركة الطبقية للبروليتاريا على أنها حركة الأقلية المنظمة، إن كل نضال طبقي كبير وحقيقي لا تأخذ هذا التعاون في حسابها وتقوم على فكرة المسيرة المنظمة بدقة المسرحية يقوم بها الجزء المدرب جيدا من البروليتاريا مقضي عليها سلفا بأن تتمخض عن مهزلة تاعسة.
لذا فإن الإضرابات الجماهيرية والنضال الجماهيري في ألمانيا لا يمكن أن تتحقق بالعمال المنظمين فقط،ولا يمكن تقييمها بـ«التوجيه» المنتظم من جانب اللجنة المركزية للحزب. ففي هذه الحالة، كما في روسيا بالضبط، لا تعتمد الإضرابات على «الانضباط» و«التدريب» وعلى أدق قدر ممكن من الضبط المسبق لمسائل الدعم والثمن، بقدر اعتمادها على العمل الطبقي الحازم الثوري الذي يستطيع أن يكسب ويجتذب إلى النضال أوسع قطاعات العمال غير المنظمين طبقا لظروفهم ومزاجهم.
إن التقدير المبالغ فيه والتقدير الخاطئ لدور التنظيمات في الصراع الطبقي للبروليتاريا يتعززان في العادة بالتقليل من دور الجماهير البروليتارية غير المنظمة والتقليل من شأن نضجها السياسي. ففي الفترة الثورية وخلال عاصفة النضالات الطبقية العظيمة التي لا تهدأ يظهر كل الفعل التثقيفي للتطور الرأسمالي السريع وللتأثيرات الاشتراكية الديموقراطية على أوسع قطاعات الشعب، ذلك الفعل الذي لا تعطي جداول المنظمين في أوقات السلام وحتى الإحصائيات الإنتخابية سوى فكرة شاحبة عنه. لقد رأينا في روسيا وخلال قرابة عامين أن العمل العام العظيم للبروليتاريا يمكن أن ينبثق من أصغر الصدامات الجزئية بين العمال وأصحاب العمل ومن أتفه أعمال الوحشية من جانب الأجهزة الحكومية. إن الجميع بالطبع يرون ذلك ويؤمنون به، لأن «الثورة» في روسيا قائمة حقا. ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أن الحس الطبقي، الغريزة الطبقية، حية وفعالة جدا في البروليتاريا الروسية، لدرجة تجعلها على الفور تعتبر كل مسألة جزئية تتعلق بأي مجموعة صغيرة من العمال مسألة عامة وأمرا طبقيا، وسرعان ما تبدي بسرعة البرق رد فعل موحد تجاه تأثيرها. بينما لا تكاد أعنف النزاعات النقابية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا تحفز أي عمل عام من جانب الطبقة العاملة، وعندما تفعل فإن الجزء المنظم من العمال هو الذي يتحرك، أمّا في روسيا فإن أصغر نزاع يثير عاصفة. ولا يعني هذا شيئا غير أن الغريزة الطبقية للبروليتاريا الروسية الأصغر والأقل تدريبا والأسوأ تثقيفا وتنظيما أقوى بما لا يقاس من غريزة الطبقة العاملة المنظمة المدربة المتنورة في ألمانيا أو أي قطر آخر من أقطار أوروبا الغربية –على الرغم من التناقض الظاهري لهذا الأمر. ولا يجب أن يعتبر هذا ميزة خاصة «للشرق الشاب غير المستنفد» بالمقارنة مع «الغرب البليد». فهو ببساطة نتيجة العمل الثوري الجماهيري المباشر.
أما في حالة الطبقة العاملة المتنورة في ألمانيا فإن الوعي الطبقي الذي تغرسه فيها الاشتراكية الديموقراطية وعي نظري وكامن: فهو في فترة البرلمانية البرجوازية لا تستطيع كقاعدة الاشتراك بنشاط في عمل جماهيري مباشر، فهي المجموع المثالي لأربع مئة عمل متوازية في الدوائر الانتخابية خلال النضال الانتخابي وللكثير من الإضرابات الاقتصادية الجزئية وما إلى ذلك. ولكن وقت الثورة، وعندما تظهر الجماهير ذاتها في المعركة السياسية فإن هذا الوعي الطبقي يصبح عمليا وفعالا. ولذا فإن سنة من الثورة منحت البروليتاريا الروسية «دربة» لا تستطيع ثلاثون سنة من البرلمانية والنضال النقابي منحها للبروليتاريا الالمانية .وبالطبع ستتضاءل حدة شعور البروليتاري الطبقي الفعال الحي هذا، أو بالأحرى يتحول هذا الشعور إلى حالة مخفية كامنة، بعد انتهاء فترة الثورة وإقامة الدولة البرجوازية البرلمانية الدستورية.
من جهة أخرى وبالمثل، لا بد أن يؤثر الشعور الطبقي البروليتاري الحي القادر على العمل على أوسع وأعمق شرائح البروليتاريا في ألمانيا في فترة المجابهة السياسية الحادة، وحينئذ سينفذ عمل الاشتراكية الديموقراطية التثقيفي إلى هذه الشرائح بسرعة أكبر وعمق أكبر وحيوية أكثر. إن هذا العمل التثقيفي، بالإضافة إلى الأثر المثور والمستثير لسياسة ألمانيا الراهنة كلها، سيعبر عن نفسه في الفترة الثورية الجدية بالعمل على الجماعات التي لا تزال في الوقت الراهن، في غباوتها السياسية الظاهرة، غير مستجيبة لكل المحاولات التنظيمية من جانب الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، فيؤدي بها فجأة إلى السير وراء علم الاشتراكية الديموقراطية. إن ستة أشهر من الفترة الثورية ستتم تدريب الجماهير التي لم تنظم بعد .وهذا ما لا تستطيع عشر سنوات من التظاهرات العامة وتوزيع المنشورات. وعندما تصل الظروف في ألمانيا إلى المرحلة الحرجة من فترة كهذه، فإن القطاعات التي لا تزال اليوم مختلفة وغير منظمة ستبرهن بالنضال أنها ليست بالعنصر الذي يجر جرا، بل إنها العنصر الأكثر راديكالية والأكثر اندفاعا. إذا قدر للاضرابات الجماهيرية في ألمانيا أن حدث، فإن من سينمون في أنفسهم أعظم طاقة للعمل لن يكونوا بالتأكيد العمال الأفضل تنظيما –ليس عمال الطباعة بالتأكيد – بل العمال الأسوأ تنظيما أو غير المنظمين – عمال التعدين وعمال النسيج وربما حتى العمال الزراعيين.
وبهذه الطريقة نصل بالنسبة لألمانيا إلى النتائج ذاتها التي توصلنا إليها في تحليلنا للأحداث في روسيا فيما يتعلق بالمهام المحددة «للتوجيه» بالعلاقة مع دور الاشتراكية الديموقراطية في الاضراب الجماهيري. فإذا طرحنا جانبا الخطة غير العملية للاضراب الجماهيري التظاهرية التي تقوم بصورة مصطنعة طبقا لأوامر الأحزاب والنقابات، واتجهنا إلى الصورة الحية لحركة شعبية تنبثق بطاقة جبارة من تفاقم التناقضات الطبقية العدائية ومن الوضع السياسي – حركة تنتقل سياسيا واقتصاديا إلى نضالات جماهيرية وإضرابات جماهيرية – فإنه يتضح لنا أن مهمة الاشتراكية الديموقراطية ليست الإعداد التقني للاضرابات الجماهيرية أو توجيهها بل القيادة السياسية للحركة كلها أولا وقبل كل شيء.
إن الاشتراكيين الديموقراطيين هم طليعة البروليتاريا الأكثر تنورا والأكثر وعيا طبقيا. وهم لا يستطيعون أن ينتظروا مكتوفي الأيدي وبطريقة قدرية قدوم «الوضع الثوري»، أن ينتظروا ذلك الذي يهبط من السماء في كل حركة شعبية عفوية. على العكس من ذلك، يجب عليهم الان، كما على الدوام، أن يعجلوا تطور الأمور ويحاولوا تسريع الأحداث، ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك بأن يطلقوا فجأة «شعار» الإضراب الجماهيري عفوا وفي أية لحظة يريدون، بل إنهم يستطيعون ذلك أولا وقبل كل شيء بأن يوضحوا لأوسع قطاعات البروليتاريا «القدوم المحتوم» لهذه الفترة الثورية و«العوامل الاجتماعية» التي تفعل ذلك و«النتائج السياسية» له. وإذا كان للاشتراكيين الديموقراطيين أن يكسبوا إلى نضالهم السياسي الجماهيري أوسع شرائح البروليتاريا، وبالعكس إذا كان للاشتراكيين الديموقراطيين أن يقبضوا على زمام القيادة الحقيقية للحركة الجماهيرية ويحتفظوا به –أي إذا كان لهم أن يصبحوا بمعنى سياسي حكام الحركة كلها، فإن عليهم أن يعلموا البروليتاريا الألمانية بتاكتيكاتهم وأهدافهم في فترة النضال القادم وأن يفعلوا ذلك بأكبر قدر من الوضوح والاتساق والتصميم.


7- دور الإضراب الجماهيري في الثورة
رأينا أن الاضراب الجماهيري في روسيا ليس نتاجا مصطنعا لتاكتيكات جرى التفكير فيها مسبقا من جانب الاشتراكيين الديموقراطيين، بل إنه ظاهرة تاريخية طبيعية على أرض الثورة الراهنة. والآن ما هي العوامل التي أدت في روسيا إلى قيام هذا الشكل الظاهري phanomenal الجديد من الثورة؟
المهمة التالية للثورة الروسية هي إلغاء الحكم المطلق وخلق دستورية برلمانية بورجوازية حديثة. وهذه المهمة هي في الشكل كتلك التي جابهت ثورة مارس في ألمانيا، والثورة الكبرى في نهاية القرن 19 في فرنسا. ولكن الظروف والوسط التاريخي التي حدثت فيها هذه الثورات المتشابهة شكليا تختلف اختلافا أساسيا عن ظروف روسيا اليوم ووسطها التاريخي. والاختلاف الأكثر حسما هو أن دورة كاملة من التطور الرأسمالي اكتملت بين تلك الثورات البرجوازية في الغرب والثورة البرجوازية الراهنة في الشرق. ولم يأخذ هذا التطور برقبة البلدان الأوروبية الغربية فقط بل برقبة روسيا ذات الحكم المطلق. فقد أصبحت الصناعة الصناعة الكبيرة بكل نتائجها – الانقسامات الطبقية الحديثة والتناقضات الاجتماعية الحادة والحياة الحديثة في المدن الكبيرة والبروليتاريا الحديثة – الشكل السائد في روسيا أي النمط الإنتاجي المقرر في التطور الاجتماعي.
وينشأ عن ذلك وضع تاريخي هام متناقض هو أن الثورة البورجوازية طبقا لمهامها الشكلية ستقوم بها بروليتاريا حديثة واعية طبقيا وفي وسط عالمي سمته المميزة هي دمار الديموقراطية البورجوازية. فليست البورجوازية اليوم هي الصفر الثوري القيادي كما كان الأمر في الثورات السابقة في الغرب حيث كانت الجماهير البروليتارية المشتتة ضمن البورجوازية الصغيرة توفر مددا بشريا لجيش البورجوازية. على العكس من ذلك، إن البروليتاريا الواعية طبقيا هي العنصر القيادي والدافع بينما البرجوازية الكبيرة مضادة للثورة مباشرة في جزء منها وليبرالية بضعف في الجزء الآخر وليس هناك سوى البورجوازية الصغيرة الريفية و انتلجنسيا البورجوازية الصغيرة المدينية من يتخذ موقفا معارضا أو حتى يتمتع بتفكير ثوري.
بيد أن البروليتاريا الروسية التي قدر لها أن تلعب الدور القيادي في الثورة البورجوازية تدخل القتال متحررة من كل أوهام الديموقراطية البورجوازية متمتعة بوعي قوي نام لمصالحها الطبقية المحددة، في وقت وصل فيه التعادي بين العمل ورأس المال أوج حدته. ويجد هذا الوضع المتناقض تعبيره في أنه في هذه الثورة البورجوازية شكلا يصبح التناقض العدائي بين المجتمع البورجوازي والحكم المطلق محكوما بالتناقض العدائي بين البروليتاريا والمجتمع البورجوازي، وفي أن نضال البروليتاريا يتجه في الوقت ذاته وبالقدر ذاته من القوة ضد الحكم المطلق والاستغلال الرأسمالي معا، وفي أن برنامج النضال الثوري يركز بالقدر ذاته من التأكيد على الحرية السياسية وكسب يوم عمل من 8 ساعات والوصول إلى مستوى إنساني لمعيشة البروليتاريا المادية. إن هذا الطابع المزدوج للثورة الروسية يجد تعبيره في الاتحاد الوثيق بين النضال السياسي والنضال الاقتصادي وفي تفاعلهما المتبادل الذي رأينا أنه ظاهرة مميزة للأحداث الروسية والذي يجد تعبيره المناسب في الإضراب الجماهيري.
لقد كانت معركة المتاريس القصيرة الأمد هي الشكل المناسب للنضال الثوري في الثورات البورجوازية الأولى، حيث كانت الأحزاب البورجوازية هي التي تتولى القيادة والتدريب السياسيين للجماهير الثورية وحيث كانت المسألة فحسب مسألة الإطاحة بالحكومة القديمة. أمّا اليوم حيث تعي الطبقات العاملة وتتنور عبر النضال الثوري وحيث يجب على هذه الطبقات أن تجمع قواها وتقود نفسها بنفسها وحيث تتوجه الثورة ضد سلطة الدولة القديمة بقدر ما تتوجه ضد الاستغلال الرأسمالي فإن الإضراب الجماهيري يصبح السبيل الطبيعي لتجنيد أوسع الشرائح البروليتارية للنضال وفي الوقت ذاته سبيل إضعاف سلطة الدولة القديمة والإطاحة بها واجتثاث الاستغلال الرأسمالي. إن البروليتاريا الصناعية المدينية هي اليوم روح الثورة في روسيا. ولكن يجب على البروليتاريا كي تقوم بالنضال السياسي المباشر ككتلة أن تتجمع أولا ككتلة، ولذا يجب عليها أن تخرج من المصنع والمشغل من المنجم والمسبك وأن تتغلب على التحلل والانسحاق الذي تتعرض له يوميا تحت وطأة النير الرأسمالي.
إن الإضراب الجماهيري هو الشكل الطبيعي الأول لكل نضال ثوري عظيم تقوم به البروليتاريا، وكلما كان التناقض العدائي بين العمل ورأس المال أكثر تطورا كلما وجب أن تصبح الاضطرابات الجماهيرية أكثر فعالية وحدة. أمّا الشكل الرئيسي للثورات البرجوازية السابقة الا وهو القتال عند المتاريس والصدام المباشر مع القوة المسلحة للدولة فليس في ثورة اليوم إلاّ نقطة الأوج، ليس إلاّ لحظة في عملية النضال البروليتاري الجماهيري. وبذلك في هذا الشكل الجديد للثورة نصل إلى تمدين وتخفبف الصراع الطبقي الذي تنبأ به انتهازيو الاشتراكية الديموقراطية الألمانية – البرينشتاينيون والدافيديون الخ. صحيح أن هؤلاء رأوا تمدين وتخفيف الصراع الطبقي سيتقلص لينحصر تماما في نطاق برلماني وسيذهب قتال الشوارع بكل بساطة أدراج الرياح. لكن التاريخ وجد الحل بطريقة أفضل وأدق وأكثر عمقا في حلول الاضرابات الجماهيرية الثورية، وهذه لا تحل بالطبع محل معارك الشوارع ولا تجعلها غير ضرورية ولكنها تقلصها لتصبح لحظة في فترة طويلة من النضال السياسي وفي الوقت ذاته توحد ما بين الفترة الثورية وبين عمل ثقافي عظيم بأدق معنى لكلمة «ثقافي» : رفع الطبقة العاملة كلها ماديا وفكريا عبر «تمدين» الأشكال البربرية للاستغلال الرأسمالي.
هكذا يتبين لنا أن الإضراب الجماهيري ليس نتاجا روسيا مخصوصا انبثق من الحكم المطلق بل شكلا من أشكال الصراع الطبقي البروليتاري ينجم عن المرحلة الراهنة من التطور الرأسمالي والعلاقات الطبقية. ومن هذا المنظور تمثل الثورات البورجوازية الثلاث –الثورة الفرنسية الكبرى وثورة مارس الألمانية والثورة الروسية الراهنة- سلسلة متصلة من التطور يظهر فيها مصير ونهاية القرن الرأسمالي. ففي الثورة الفرنسية الكبرى أعطت التناقضات الداخلية، التي لم تكن قد نضجت أبدا، مجالا لفترة طويلة من النضالات العنيفة، تفجرت فيها دون معيق ودون تحفظ وبروح راديكالية شجاعة كل التناقضات التي نشأت ونضجت أولا في حرارة الثورة. وبعد قرن من ذلك جاءت الثورة البورجوازية الألمانية التي انفجرت في منتصف التطور الرأسمالي فكانت أن أعاقها من الجانبين تناقض مصالح رأس المال والعمل وتوازن القوة بينهما، لتسوى هذه الثورة بحل وسط بين الإقطاع والبورجوازية وضع حدا سريعا لفترة قصيرة تاعسة انتهت بكلمات.
وبعد نصف قرن آخر جاءت الثورة الروسية الراهنة لتقف في خط التطور التاريخي على نقطة تخطت بالفعل القمة، نقطة على الجانب الآخر من نقطة ذروة المجتمع الرأسمالي. نقطة لا يمكن أن تسوى فيها الثورة البرجوازية ثانية بفعل التناقض العدائي بين البرجوازية والبروليتاريا. بل على العكس من ذلك ستتسع الثورة لتشمل فترة طويلة جديدة من النضالات الاجتماعية العنيفة، ستبدو فيها تصفية الحسابات مع الحكم المطلق الروسي أمرا تافها بالمقارنة مع الحسابات الجديدة الكثيرة التي تفتح الثورة ذاتها آفاقها. إن الثورة الروسية الراهنة تحقق، في الظروف الخاصة لروسيا الحكم المطلق، النتائج العامة للتطور الرأسمالي العالمي، وهي لا تبدو الخلف الأخير للثورات البورجوازية القديمة بقدر ما تبدو السلف لسلسلة جديدة من الثورات البروليتارية في الغرب. ومن هنا فإن أكثر البلدان تخلفا، بسبب تأخره الذي لا يغتفر في القيام بثورته البورجوازية، يضع أمام بروليتاريا ألمانيا وأكثر الأقطار الرأسمالية تقدما سبلا ووسائل جديدة للصراع الطبقي.
من هنا، إذا نظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فإنه يبدو من الخطأ الفاحش اعتبار الثورة الروسية مسرحية جيدة أو أمرا «روسيا» مخصوصا، أو في أحسن الأحوال الإعجاب ببطولة المناضلين. فالأهم من ذلك بكثير أن يتعلم العمال الألمان النظر إلى الثورة الروسية على أنها مسألة تخصهم، لا كمسألة من مسائل التضامن الأممي مع البروليتاريا الروسية فحسب، بل أولا وقبل كل شيء كفصل من تاريخهم السياسي والإجتماعي. إن القادة النقابيين ورجال البرلمانية الذين يعتبرون البروليتاريا الألمانية «أضعف من» أن تقوم بنضالات جماهيرية وأن الظروف الألمانية «ليست بعد ناضجة بما فيه الكفاية» لهذه النضالات، إن هؤلاء لا يعرفون إطلاقا أن مقياس درجة نضوج العلاقات الطبقية في ألمانيا وقوة البروليتاريا فيها ليس احصاءات النقابات الألمانية ولا الأرقام الانتخابية، بل إن هذا المقياس هو أحداث الثورة الروسية. فتماما كما انعكس نضج التناقضات الطبقية العدائية في فرنسا تحت حكم ملكية يوليو وكذلك معركة يونيو في باريس في ثورة مارس الألمانية وفي ألمانيا في أحداث الثورة الروسية وفي قوتها. إن بيروقراطيي الحركة العمالية الألمانية يوسعون إدراج مكاتبهم بحثا عن معلومات تتعلق بقوة البروليتاريا ونضجها وهم لا يعلمون أن ما يبحثون عنه موجود أمام أعينهم في ثورة تاريخية عظيمة. ذلك أن الثورة الروسية هي من وجهة تاريخية انعكاس لقوة الحركة العمالية العالمية ولذا وفي المقام الأول إنعكاس لقوة الحركة العمالية الألمانية.
ولذا فإن نتائج الثورة الروسية ستكون غير ذات بال وغير مهمة إطلاقا لو أن البروليتاريا الألمانية لم تستخلص سوى الدرس الذي يريد لها الرفاق فروهم والم وغيرهم ان تستخلصه. وهذا الدرس هو ان يستخدم هذا الشكل المتطرف من النضال، الإضراب الجماهيري، في حالة سحب التصويت البرلماني، وبالتالي أن تضعف البروليتاريا ذاتها لتصبح مجرد قوة احتياطية ووسيلة سلبية للدفاع البرلماني. عندما نحرم من التصويت البرلماني فإننا سنقاوم. إن هذا قرار واضح بذاته. ولكن ليس من الضروري لاتخاذ قرار كهذا أن يتخذ المرء مظهرا بطوليا كما فعل الرفيق الم مثلا في يينا. ذلك أن الدفاع عن أبسط أوجه الحق البرلماني ليس اختراعا هائلا كان من الضروري لتشجيعه قيام المذابح المريعة في الثورة الروسية، بقدر ما هو أبسط وأول واجبات أي حزب معارض. ولكن الدفاع المجرد لا يستنفد سياسة البروليتاريا في فترة ثورة. وإذا كان من الصعب من جهة التنبؤ بأي قدر من اليقين بما إذا كان تدمير الاقتراع العام سيخلق في ألمانيا وضعا يستدعي القيام بفعل إضرابي جماهيري فوري، كذلك من جهة أخرى فإن من المؤكد بصورة مطلقة أننا عندما نلج في ألمانيا فترة أعمال جماهيرية عاصفة فسيكون من المستحيل على الاشتراكيين الديموقراطيين إقامة تكاتيكاتهم على مجرد الدفاع البرلماني.
ليس بمقدور الاشتراكية الديموقراطية أن تحدد سلفا السبب الذي سيؤدي إلى اندلاع الإضرابات الجماهيرية في ألمانيا أو اللحظة التي ستندلع هذه الإضرابات فيها، وما ذلك إلاّ لأنه ليس بمقدور الإشتراكية الديموقراطية أن تحدث أوضاعا تاريخية باتخاذ قرارات في مؤتمرات الحزب. ولكن ما تستطيع وما يجب أن تفعله هو توضيح الاتجاهات السياسية عندما تظهر وصياغتها في تاكتيكات منسقة وحازمة. إن الإنسان ان يؤخر الأحداث التاريخية حتى يقوم بوضع وصفات لها ولكنه يستطيع أن يرى سلفا نتائجها الظاهرة التي يمكن حسابها وأن يرتب نمط عمله طبقا لذلك.
لقد كان الخطر السياسي الأول الذي شغلت به البروليتاريا الألمانية نفسها عدة سنوات في خطر انقلاب رجعي ينتزع من الجماهير العريضة أهم حق سياسي لها وهو حق الإقتراع العام. وعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا الحدث المحتمل، إلا أن من المستحيل، كما رأينا سابقا، أن يؤكد المرء بأي قدر من اليقين أن حركة جماهيرية ستنفجر بعد الانقلاب مباشرة. وذلك لأن عوامل وظروفا عدة يجب أن تؤخذ بالإعتبار. ولكن عندما نأخذ بعين الاعتبار الحدة البالغة للظروف في ألمانيا، ومن جهة أخرى ردود الفعل العالمية المتعددة الأوجه للثورة الروسية ولروسيا المستقبل وقد استعادت شبابها، فإنه يصبح من الواضح أن انهيار السياسة الألمانية الذي قد ينشأ عن إلغاء حق الإقتراع العام لن يؤدي وحده إلى وقف النضال من أجل هذا الحق. والأغلب أن هذا الإنقلاب سيستتبع في فترة قصيرة أو طويلة وبقوة الأعاصير تسوية حسابات سياسية عامة من جانب جماهير الشعب المنتفعة المستيقظة .تسوية حسابات مع الربا ومع ندرة اللحم المفتعلة ومع الانفاق على المؤسسة العسكرية والأسطول بشكل واسع وفساد السياسة الكولونيالية، مع المهانة القومية لمحاكمة كونيكسبرج وتوقف الإصلاحات اإجتماعية وفصل عمال سكك الحديد وموظفي البريد والعمال الزراعيين، مع إهانة عمال التعدين ومخادعتهم ومع الحكم على لوبتاو وكل نظام العدالة الطبقي، مع نظام اقفال المصانع تحديا لمطالب العمال، وباختصار مع ثلاثين سنة من الاضطهاد الذي يمارسة الحكم المشترك لليونكرز ورأس المال المتمركز في تروستات.
ولكن إذا بدأت الكرة مرة تتدحرج فلن تستطيع الاشتراكية الديموقراطية أن توقفها ثانية سواء أرادت ذلك أم لم ترد. لقد أعتاد معارضو الاضراب الجماهيري على إنكار أن دروس ومثل الثورة الروسية يمكن أن تكون معيارا لألمانيا وذلك أولا وقبل كل ما عداه لأن روسيا يجب أن تقفز من الاستبداد الشرقي إلى النظام القانوني البرجوازي الحديث. ويقال أن المسافة الشكلية بين هذين النظامين السياسيين القديم منها والحديث تشكل تفسيرا كافيا لعنفوان وعنف الثورة في روسيا. أما في ألمانيا فقد حصلنا منذ أمد على معظم أشكال وضمانات الدولة الدستورية، ويتبع من ذلك أن الإنفجار العنيف للتناقضات العدائية الاجتماعية مستحيل هنا.
إن أولئك الذين يتوقعون الأمور على هذا النحو ينسون أنه عندما تصل المسألة في ألمانيا إلى إنفجار النضالات السياسية فإن الهدف المحدد تاريخيا سيكون مختلفا تماما عن الهدف في روسيا. وذلك بالضبط لأن النظام القانوني البورجوازي وجد في ألمانيا منذ أمد طويل ولذا فقد كان لديه الوقت الكافي ليستنفذ نفسه تماما ويمثل إلى نهايته، ولأن الديموقراطية والليبرالية البرجوازية قد أخذت وقتا كافيا لتضمحل، لم يعد هناك مجال للحديث عن ثورة برجوازية في ألمانيا ولذا لا يمكن أن يكون الهدف التاريخي الضروري النهائي في فترة نضالات شعبية سياسية عالمية في ألمانيا غير ديكتاتورية البروليتاريا، بيد أن المسافة بين هذا الهدف والأوضاع الحالية في ألمانيا أكبر من المسافة التي تفصل النظام القانوني البرجوازي عن الاستبداد الشرقي، ولذا لا يمكن تحقيق هذا الهدف بضربة واحدة بل إنه يجب أن ينجز عبر فترة طويلة من النضالات الاجتماعية العملاقة.
ولكن أليس في الصورة التي رسمنا تناقضا ضخم؟ فهي من ناحية تعني أنه في فترة عمل سياسي جماهيري في المستقبل البعيد ستحصل الشرائح الأكثر تخلفا من البروليتاريا الألمانية – العمال الزراعيون، عمال سكك الحديد، وعبيد البريد – أولا على حق الانتظام، وأن الاستغلال الأكثر بشاعة يجب أن يقضي عليه أولا، وهي من ناحية أخرى تعني أن الهدف السياسي لهذه الفترة هو استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية! من جهة نضالات اقتصادية ونقابية من أجل المصالح المباشرة، من أجل رفع المستوى المعيشي المادي للطبقة العاملة، ومن جهة أخرى الهدف النهائي للاشتراكية الديموقراطية! ان هذه تناقضات كبيرة بالنتأكيد، ولكنها ليست تناقضات في تفكيرنا، بل تناقضات نجمت عن التطور الرأسمالي. وهي لا تسير في خط مستقيم جميل بل في خط متعرج تعرج البرق. فكما أن الأقطار الرأسمالية المختلفة تمثل مراحل تطور متنوعة جدا، كذلك تتمثل الشرائح المختلفة للطبقة العاملة ذاتها في البلد الواحد. ولكن التارسخ لا ينتظر بصبر حتى تلتقي الأقطار المتخلفة والشرائح الأكثر تقدما معا، فتتقدم الجماهير جميعا إلى الأمام بطريقة متوازنة وكأنها بنيان مرصوص بل أنها تؤدي بالإجزاء الأكثر استعدادا إلى الإنفجار حالما تنضج الظروف لذلك، ومن ثم وفي عنفوان الفترة الثورية تستعاد الأرض المفقودة وتتساوى الأشياء غير المتساوية وتتضاعف بضربة واحدة سرعة خطى التقدم الإجتماعي.
وكما أن كل مراتب التقدم وكل مصالح الشرائح المختلفة من الطبقة العاملة في الثورة الروسية تتحد في البرنامج الاشتراكي الديموقراطي للثورة وكما أن النضالات الجزئية التي لا تحصى تتحد في العمل الطبقي العظيم المشترك للبروليتاريا، كذلك فإن هذا سيكون هو الأمر في ألمانيا عندما تنضج الظروف لذلك، وعندئد تصبح مهمة الاشتراكية الديموقراطية تنظيم تكتيكاتها لا طبقا لأكثر مراحل التطور تخلفا بل طبقا لأكثرها تقدما.


8- الحاجة إلى عمل موحد بين الاشتراكية الديموقراطية والنقابات
إن أهم الأماني التي يؤمل من الطبقة العاملة الألمانية في فترة النضالات العظيمة التي ستأتي آجلا أو عاجلا هي، بعد الحزم والتنسيق الكاملين للتكتيكات، القدرة القصوى على العمل وبالتالي أكبر قدر ممكن من وحدة الجزء الاشتراكي الديموقراطي القيادي من الجماهير البروليتارية. أمّا اليوم فقد تكشفت المحاولات الضعيفة الأولى للإعداد لأعمال جماهيرية ضخمة عن عطب خطير فيما يتعلق بهذا الأمر: الانفصال الكامل لمنظمتي الحركة العمالية واستقلالهما عن بعضهما، وهاتان المنظمتان هما الاشتراكية الديموقراطية والنقابات.
يتضح لنا من تفحص أدق للاضرابات الجماهيرية في روسيا وكذلك للظروف في ألمانيا ذاتها أن أي عمل جماهيري كبير لا يمكن أن يجري التفكير به على أساس ما يسمى بالاضراب الجماهيري السياسي، هذا إذا أريد لهذا العمل أن لا يقتصر على مجرد تظاهرة تدوم يوما واحدا بل أن يكون عملا قتاليا حقيقيا. وكل عمل كهذا في ألمانيا سيشمل النقابات يحسبون أن الاشتراكيين الديموقراطيين، بالنظر إلى كون منظمتهم أصغر من تنظيم إتحادات العمال، لن يكون لهم من مصدر للدعم غير مليون وربع المليون من أعضاء النقابات، وأن الإشتراكيين الديموقراطيين لن يستطيعون شيئا دون هؤلاء. بل إن ذلك يعود إلى سبب أعمق بكثير: لأن أي عمل جماهيري مباشر في فترة النضالات الطبقية المفتوحة سيكون في الوقت ذاته عملا سياسيا واقتصاديا. وإذا ما حدثت في ألمانيا لأي سبب وفي أي وقت نضالات سياسية كبيرة وإضرابات جماهيرية، فإن مرحلة من النضالات النقابية العنيفة ستبدأ في ألمانيا دون أن تنتظر الأمور موافقة القادة النقابيين على الحركة. وإذا ما وقف هؤلاء جانبا أو حاولوا مقاومة الحركة فإن النتيجة ستكون ازاحتهم من الطريق بفعل اندفاع الأحداث وستستمر الجماهير في نضالاتها السياسية والاقتصادية دونهم، تماما كما يحدث لقادة الحزب في أية حالة مماثلة.
في الواقع ليس فصل النضالين السياسي والاقتصادي واستقلالهما عن بعضهما البعض غير نتاج مصطنع للفترة البرلمانية، حتى ولو كان هذا النتاج محددا تاريخيا. ومن جهة أخرى يتفتت النضال الاقتصادي ويتحلل خلال مسيرة المجتمع البرجوازي المسألة «الطبيعية» إلى عدد كبير من النضالات الفردية في كل مصلحة وفي كل فرع من فروع الإنتاج. ومن جهة أخرى لا توجه الجماهير ذاتها النضال السياسي في عمل مباشر بل طبقا لشكل الدولة البرجوازية بطريقة تمثيلية بواسطة وجود التمثيل التشريعي. ولكن حالما تبدأ فترة نضالات ثورية أي حالما تظهر الجماهير على مسرح الصراع يتوقف تفتت النضال الاقتصادي إلى أجزاء عدة كما يتوقف الشكل البرلماني غير المباشر للنضال السياسي. ففي العمل الجماهيري الثوري يصبح النضالان السياسي والاقتصادي كلا واحدا وكذلك يتحطم الفاصل المصطنع ما بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية كشكلين منفصلين مستقلين تاما للحركة العمالية. ولكن ما يجد تعبيره الملموس في الحركة الجماهيرية الثورية يجد أيضا تعبيره في الفترة البرلمانية كأمر واقع. وليس هناك نضالان طبقيان مختلفان للطبقة العاملة أحدهما اقتصادي والآخر سياسي، بل هناك فحسب نضال طبقي واحد يهدف في الوقت ذاته إلى الحد من الاستغلال الرأسمالي داخل المجتمع الرأسمالي وإلى إلغاء الاستغلال والمجتمع البرجوازي معا.
عندما يفصل هذان الجانبان من النضال الطبقي أحدهما عن الآخر في الفترة البرلمانية لأسباب فنية، فإنهما لا يشكلان عملين متوازيين يحدثان في الوقت ذاته بل يشكلان وجهين أو مرحلتين من مراحل النضال من أجل انعتاق الطبقة العاملة. إن النضال النقابي يشمل المصالح المباشرة للطبقة العاملة بينما يشمل النضال الاشتراكي الديموقراطي مصالحها المستقبلة. يقول البيان الشيوعي أن الشيوعيين يمثلون المصالح المشتركة للبروليتاريا ككل بعكس المصالح الجزئية المتعددة سواء أكانت محلية أو قومية، وهم في المراحل المختلفة لتطور الصراع الطبقي يمثلون مصالح الحركة كلها أي يمثلون الهدف النهائي الا وهو تحرير البروليتاريا. أمّا النقابات فتمثل فقط المصالح الفئوية وفي مرحلة واحدة من مراحل تطور الحركة العمالية. إن الاشتراكية الديموقراطية تمثل الطبقة العاملة وهدف تحررها ككل. من هنا فإن علاقة النقابات بالإشتراكية الديموقراطية هي علاقة الجزء بالكل. وعندما تجد نظرية «السلطة المتساوية» للنقابات والاشتراكية الديموقراطية هذا القدر من الصدى الإيجابي بين قادة النقابات فإنها تقوم على سوء فهم أساسي لماهية النقابية ولدورها في النضال العام من أجل حرية الطبقة العاملة.
غير أن نظرية العمل المتوازي للاشتراكية الديموقراطية والنقابات، وسلطتها المتساوية ليست بدون أساس إطلاقا، فإن لها جذورها التاريخية. إنها تقوم على الوهم الذي تشيعه الفترة المسالمة «الطبيعية» للمجتمع البرجوازي حيث يبدو النضال السياسي للاشتراكية الديموقراطية مستنفدا في النضال البرلماني. بيد أن النضال البرلماني وهو الجزء المقابل للنضال النقابي نضال يشن على أساس النظام الاجتماعي البرجوازي كما النضال النقابي ذاته. فهو بطبيعته عمل اصلاحي سياسي كما أن العمل النقابي عمل إقتصادي إصلاحي. إنه يمثل العمل السياسي في الوقت الراهن كما أن النقابات تمثل العمل الاقتصادي في الوقت الحاضر. إنه، كما النقابات ذاتها مجرد وجه ومرحلة من التطور في عملية كاملة هي عملية الصراع الطبقي البروليتاري الذي يتخطى هدفه النهائي النضال البرلماني بالقدر الذي يتخطى به النضال النقابي. وما النضال البرلماني بالعلاقة مع السياسة الاشتراكية الديموقراطية غير جزء من كل، كما العمل النقابي. إن الاشتراكية الديموقراطية اليوم تضم النضالين البرلماني والنقابي في نضال طبقي واحد يهدف إلى إلغاء النظام الاجتماعي البرجوازي.
وبالمثال فإن نظرية «السلطة المتساوية» للنقابات والاشتراكية الديموقراطية ليست مجرد سوء فهم نظري وليس مجرد تشوش، بل هي تعبير عن اتجاه الجناح الانتهازي المعروف جيدا من الاشتراكية الديموقراطية والذي يحصر النضال السياسي للطبقة العاملة في النطاق البرلماني والذي يريد أن يحول الاشتراكية الديموقراطية من حزب بروليتاري ثوري إلى حزب إصلاحي برجوازي صغير.[3]»
وإذا كان للاشتراكية الديموقراطية أن تتقبل نظرية «السلطة المساومة» لاتحادات العمال، فإنها بذلك تكون قد قبلت ضمنا وبصورة غير مباشرة ذلك التحول الذي طالما كافح من أجله ممثلو الاتجاه الانتهازي.
ولكن في ألمانيا تبادل في العلاقات داخل الحركة العاملة لا يمكن أن يوجد في أي قطر آخر. إن المفهوم النظري الذي تكون النقابات بموجبه مجرد جزء من الاشتراكية الديموقراطية يجد تعبيره في الوقائع في ألمانيا في الممارسة العملية، وذلك في ثلاثة اتجاهات.
أولا- النقابات الألمانية نتاج مباشر للاشتراكية الديموقراطية، فالاشتراكية الديموقراطية هي التي خلقت بدايات الحركة النقابية في ألمانيا وهي التي مكنت هذه الحركة من أن تأخذ أبعادا كبيرة، والاشتراكية الديموقراطية قي التي تزود النقابات إلى يومنا هذا بقيادتها وأكثر منظميها نشاطا.
ثانيا- النقابات الألمانية نتاج للاشتراكية الديموقراطية أيضا بمعنى أن التعاليم الاشتراكية الديموقراطية هي روح ممارسة النقابات. فالنقابات مدينة بتفوقها على كل منظمات العمال البرجوازية لفكرة الصراع الطبقي. ونجاحها العملي وقوتها نتيجة مباشرة لكون ممارساتها تهتدي بنظرية الاشتراكية العلمية فترتفع بذلك فوق مستوى الاشتراكية الضيقة الأفق. إن قوة «السياسة العملية» للنقابات الألمانية تكمن في تبصرها بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية العميقة للنظام الرأسمالي وهي مدينة بهذا التبصر لنظرية الاشتراكية العلمية التي تقيم ممارستها عليها كليا. إن كل محاولة لتحرير النقابات من النظرية الاشتراكية الديموقراطية لصالح هذه «النظرية النقابية» المضادة للاشتراكية الديموقراطية أو تلك ليست من وجهة نظر النقابات ذاتها ومن وجهة نظر مستقبلها غير محاولة انتحار. ففصم الممارسة النقابية عن نظرية الاشتراكية العلمية يعني للنقابات الألمانية فقدانها الفوري لكل تفوقها على جميع أنواع اتحادات العمال البرجوازية ووقوعها من عليائها الحالية إلى مستوى التجريبية الخاملة والتمرس المتذبذب لطريقها.
ثالثا- وفي النهاية، إن النقابات نتاج للحركة الاشتراكية الديموقراطية وللتحريض الاشتراكي الديموقراطي حتى فيما يتعلق بصددها،على الرغم من أن قادتها قد غفلوا عن هذه الحقيقة. صحيح أن التحريض النقابي يسبق في كثير من المناطق التحريض الاشتراكي الديموقراطي وأن عمل النقابات لعمل الحزب .فالحزب والنقابات من وجهة نظر الأثر تساعد بعضها إلى أكمل حد. ولكن عندما ينظر إلى صورة الصراع الطبقي في ألمانيا ككل وعندما ينظر إلى ارتباطاتها الأعمق فإن النسب تتغير إلى حد بعيد. لقد اعتاد كثيرون من قادة النقابات النظر بزهو من علياء تعداد أعضاء نقاباتهم البالغ مليون وربع على العدد القليل لأعضاء الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي لم يبلغ بعد نصف مليون، وذلك عندما يتذكرون كيف كان الاشتراكيون الديموقراطيون قبل عشرة أو اثنتي عشر سنة ينظرون بتشاؤم إلى احتمالات تطور النقابات.
وهم يرون بين هذين الأمرين – العدد الضخم لأعضاء النقابات المنظمين والعدد القليل للاشتراكيين الديموقراطيين المنظمين – علاقة سببية إلى هذا الحد أو ذاك. فآلاف مؤلفة من العمال لا تنضم لمنظمات الحزب لأنها تنضم للنقابات. وطبقا لهذه النظرية يجب أن يكون العمال جميعا بصورة مزدوجة فيحضرون نوعين من الاجتماعات ويدفعون تبرعات مضاعفة ويقرأون نوعين من الصحف العمالية الخ. ولكن من الضروري لهذا وجود مستوى أعلى من الذكاء ومن المثالية التي تجعل العامل، بسبب من احساسه بالواجب تجاه الحركة العمالية، مستعدا للتضحية اليومية بالوقت والمال، كما أن من الضروري له الاهتمام الحماسي بالحياة الفعلية للحزب، ذلك الاهتمام الذي لا يمكن أن يتحقق بالانخراط في عضوية منظمة للحزب. وكل هذا ينطبق على الأقلية الذكية والمتنورة من العمال الاشتراكيين الديموقراطيين في المدن الكبيرة حيث حياة الحزب غنية وجذابة وحيث مستوى معيشة العمال مرتفع. ولكن من الصعب تحقيق الشكل المزدوج من التنظيم بين القطاعات الأوسع من الجماهير العمالية في المدن وكذلك في المقاطعات والمدن الصغيرة والصغرى حيث الحياة السياسية المحلية ليست أمرا مستقلا بل انعكاسا لسير الأحداث في العاصمة، وبالتالي حيث حياة الحزب خاوية ورتيبة وحيث المستوى الاقتصادي لمعيشة العمال تاعس في غالب الأحيان.
يجد العامل ذو التفكير الاشتراكي الديموقراطي حلا للمسألة بالانضمام إلى نقابة. فالمصالح المباشرة لنضاله الاقتصادي التي تضعها طبيعة النضال ذاته لا يمكن أن تتحقق بأي وسيلة غير العضوية في تنظيم نقابي. فالتبرع الذي لا يمكن أن يتحقق بأي وسيلة غير العضوية في تنظيم نقابي. فالتبرع الذي يدفعه، غالبا بالتضحية بمستوى معيشته، يؤدي له نتائج مباشرة مرئية. وفي الوقت ذاته تسير له ميوله الاشتراكية الديموقراطية الاشتراك في أنواع متعددة من العمل دون أن ينخرط في إحدى منظمات الحزب وذلك بالتصويت في الانتخابات البرلمانية وحضور الاجتماعات الاشتراكية الديموقراطية العلنية، ومتابعة التقارير عن الخطب الاشتراكية الديموقراطية في الهيئات التمثيلية وقراءة صحف الحزب. وللدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين عدد الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين أو عدد المشتركين في صحيفة «فوروارتز» في برلين بعدد أعضاء الحزب المنظمين.
والأهم من ذلك أن العامل العادي ذا التفكير الاشتراكي الديموقراطي لا يمكن لكونه رجلا بسيطا أن يفهم تلك النظرية المعقدة الدقيقة المسماة نظرية الروح المزدوجة، فهو يشعر في النقابة أنه منظم في الاشتراكية الديموقراطية. وعلى الرغم من أن اللجان المركزية للنقابات ليس لها صفة حزبية رسمية، إلاّ أن العامل من بين جماهير كل بلدة ومدينة يرى أن أكثر القادة نشاطا على رأس النقابة التي ينضم إليها، هم زملاء يعرف أنهم أيضا رفاق واشتراكيون ديموقراطيون. فهم حينا ممثلون في الرايشتاغ أو اللاندفتاغ أو ممثلون محليون، وهم حينا آخر رجال الاشتراكية الديموقراطية الثقاة وهم حينا ثالثا أعضاء انتخابية وحينا آخر محررون في صحف الحزب أو أمناء لفروعه او يعرفهم ، على أنهم مجرد خطباء ومحرضين. أكثر من ذلك، يسمح العامل التحريضي الذي تقوم به النقابة الأفكار المحببة لديه والتي يفهمها تماما، أفكار الاستغلال الرأسمالي والعلاقات الطبقية الخ، وهي أفكار أتت إليه من التحريض الاشتراكي الديموقراطي. وبالفعل، أن أكثر من تحبهم الجماهير من خطباء الاجتماعات النقابية هم الخطباء الاشتراكيون الديموقراطيون ذاتهم.
هكذا يتضافر كل شيء ليعطي العامل العادي الواعي طبقيا إحساسا بأنه بانتظامه في نقابته إنما ينتظم ذلك في حزبه العمالي ويصبح منظما اشتراكيا ديموقراطيا. وهنا تكمن قوة النقابات الألمانية عدديا. فالنقابات المركزية لم تستطع إحراز قوتها الراهنة بسبب من تظاهرها بالحياد بل بسبب حقيقتها الاشتراكية الديموقراطية في الواقع. وقد حدث هذا ببساطة عبر التعايش مع النقابات المختلفة التي أنشأتها الأحزاب البرجوازية والتي سعت إلى إقامة ضرورة ذلك «الحياد» السياسي. وعندما يكون للعامل الألماني ملء حرية الاختيار في الارتباط بنقابة مسيحية أو كاثوليكية أو إنجيلية فلا يختار أيا من هذه بل يختار «نقابة حرة» بدلا من ذلك أو يترك إحدى النقابات الأولى لينضم إلى هذه الأخيرة، فإنه إنما يفعل ذلك لأنه يعتبر النقابات المركزية منظمات مكرسة للصراع الطبقي الحديث أو أنها نقابات اشتراكية ديموقراطية وهذا هو الشيء ذاته في ألمانيا.
في كلمة واحدة، إن مظهر «الحياد» الموجود في مختلف قادة النقابات غير موجود إطلاقا بالنسبة لجمهور أعضاء النقابات المنظمين، وما هذا إلاّ من حسن حظ الحركة النقابية. ذلك أنه ما قدر للمظهر «الحيادي»، أي انفصام وانفصال النقابات عن الاشتراكية الديموقراطية، أن يصبح حقيقة واقعة في نظر الجماهير البروليتارية، فإن النقابات هنا إذن ستخسر كل ميزاتها على الاتحادات البرجوازية المنافسة وبالتالي تخسر قوتها العددية أي وقودها الحيوي. وهذا أمر تثبته الوقائع المعروفة جيدا فمظهر «حياد» النقابات سياسيا عن الحزب يمكن أن يؤدي كوسيلة اجتذاب خدمة لا تقدر بثمن للنقابات في بلد لا تتمتع فيه الاشتراكية الديمقراطية نفسها برصيد بين الجماهير،أي بلد لا تضر فيه وصمة ارتباط المنظمة العمالية بالحزب المنظمة بدلا من أن تفيدها، وباختصار في بلد يتعين فيه على النقابات أن تجند قواها من بين جمهور غير متنور أبدا وذي تفكير برجوازي.
لقد كان افضل مثل على هذا البلد خلال القرن الماضي وإلى حد ما حتى اليوم هو بريطانيا العظمى. أمّا في ألمانيا فعلاقات الحزب مختلفة تماما. ففي بلد كهذا، الاشتراكية الديموقراطية هي أقوى حزب سياسي فيه وحيث تتمثل القوة التي يمكن للحزب أن يجند منها بجيش يربو عدده على ثلاثة ملايين بروليتاري، فإن من السخف الحديث عن التأثير الرادع للاشتراكية الديموقراطية وعن ضرورة التزام منظمة قتالية للعمال الحياد السياسي. إن مجرد مقارنة أرقام الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين بأرقام المنظمات النقابية في ألمانيا يكفي لأن يبرهن لأكثر الناس سذاجة أن النقابات الألمانية لا تستمد قواها كما في إنجلترا من جمهور غير متنور ذي تفكير برجوازي، بل من جمهور بروليتاري عبأته الاشتراكية الديموقراطية وكسبته لفكرة الصراع الطبقي. إن كثيرين من قادة النقابات يرفضون هذه الفكرة – وهذا شرط لازم «لنظرية الحياد» – ويعتبرون أن النقابات مدرسة تجنيد للاشتراكية الديموقراطية. يصبح هذا الافتراض المهين في الظاهر، الباعث على الزهو في الحقيقة، مجرد خيال، لأن الأمور معكوسة، فالاشتراكية الديموقراطية هي مدرسة التجنيد للنقابات.
بالإضافة إلى ذلك، إذا كان العمل التنظيمي للنقابات في معظمه من نوع صعب جدا ومزعج، فإن ذلك، باستثناء بضع حالات وبعض مناطق، لا يعود لأن الأرض لم يمهدها المحراث الاشتراكي الديموقراطي فحسب، بل أيضا لأن بذار النقابات ذاتها والبذار كذلك يجب أن يكون جميعا «حمراء» أي اشتراكية ديموقراطية قبل أن تزدهر الغلال، ولكننا عندما نقارن بهذه الطريقة أرقام عدد أعضاء النقابات، لا بتعداد المنظمات الاشتراكية الديموقراطية، بل كما يجب بتعداد جماهير الناخبين الاشتراكيين الديموقراطيين، فإننا نستخلص نتيجة تختلف كثيرا عن وجهة النظر السائدة الان بالنسبة للمسألة. إذ نتبين أن «النقابات الحرة» لا تمثل في الواقع سوى أقلية من العمال الواعين طبقيا في ألمانيا وأنها حتى بأعضائها المنظمين البالغ عددهم 2,25 مليون لم تستطع بعد أن تجتذب إلى صفوفها نصف أولئك الذين استطاعت الاشتراكية الديموقراطية أن توقظهم. إن أهم نتيجة تستخلص من الحقائق التي أوردناها هي أن الوحدة الناجزة بين الحركة النقابية والحركة الاشتراكية الديموقراطية، تلك الوحدة الضرورية ضرورة مطلقة للنضالات الجماهيرية القادمة في ألمانيا، موجودة بالفعل ومتضمنة في الجماهير العريضة التي تشكل في وقت معا أساس الاشتراكية الديموقراطية والنقابات والتي يلتحم جزءا الحركة في وعيها وحدة عقلية. وبذلك يتقلص التناقض المزعوم بين الاشتراكية الديموقراطية والنقابات إلى تناقض بين الاشتراكية الديموقراطية وجزء معين من رسميي النقابات، وذلك التناقض الذي هو في الوقت ذاته تناقض داخل النقابات ذاتها بين هذا الجزء من القادة النقابيين وبين الجمهور البروليتاري المنظم في النقابات.
لقد أدى النمو السريع الذي شهدته النقابات في ألمانيا خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، وخاصة في فترة الازدهار الاقتصادي الكبير 1895-1900، أدت إلى تمتع النقابات بقدر كبير من الاستقلال وبتخصص في أساليبها النضالية وفي النهاية إلى إيجاد موظفين يعملون في اتحادات العمال بصورة منتظمة. إن هذه الظواهر أمر يمكن فهمه، وهي نتائج تاريخية طبيعية لنمو النقابات في فترة الخمسة عشر عاما وخلال الازدهار الاقتصادي والهدوء السياسي في ألمانيا، وهي بلا أدنى شك شر لا بد منه تاريخيا على الرغم من كونها ترتبط ارتباطا وثيقا ببعض النكسات. ولكن جدل التطور يؤدي أيضا إلى وضع تصبح معه الوسائل الضرورية لتنمية النقابات عقبات في سبيل تطورها اللاحق في مرحلة معينة من التنظيم وفي درجة معينة من نضج الظروف.
إن تخصص قادة النقابات في النشاط المهني، وكذلك الأفق المحدود بطبيعته المرتبط بالنضالات الاقتصادية المتناثرة في فترة سلمية يؤدي بقدر كبير من السهولة إلى انتشار البيروقراطية وحد معين من ضيق الأفق بين موظفي النقابات. وكلاهما على أية حال يعبر عن نفسه في سلسلة من الاتجاهات قد تكون مضرة إلى أقصى حد بمستقبل الحركة النقابية. فهناك أولا وقبل كل شيء المبالغة في تقدير التنظيم الذي تحول تدريجيا من وسيلة إلى غاية بحد ذاته، إلى شيء ثمين يجب أن تخضع له كل مصالح النضالات، ومن هذا تنبثق الحاجة التي يعترف بها علنا للسلام والتي تتخاذل أمام المخاطر العظيمة والأخطار المفترضة لتتقوقع في استقرار النقابات. كما ينبثق منها أيضا المبالغة في تقدير الوسيلة النقابية في النضال وآفاقها ونجاحاتها. إن قادة النقابات ينهمكون باستمرار في حرب العصابات الاقتصادية التي تضع لنفسها هدفا هو جعل العمال يعلقون قدرا هائلا من الأهمية على أصغر المكتسبات الاقتصادية وعلى كل ازدياد في الأجور وعلى كل تخفيض في يوم العمل. وبذلك يفقد هؤلاء القدرة على رؤية الارتباطات الأكبر وعلى القيام بمسح شامل للموقف كله. وبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نفسر لماذا يشير كثير من قادة النقابات بأعظم الرضى إلى إنجازات الأعوام الخمس عشرة الأخيرة. بدلا من أن يفعلوا العكس ويؤكدوا على الوجه الأخر للمسألة: الانخفاض الكبير الذي طرأ في الوقت ذاته على مستوى المعيشة البروليتاري بفعل الربا وبفعل السياسة الضريبية والجمركية وبفعل جشع الملاك الذين زادوا ايجار البيوت إلى حد مخيف، وباختصار بفعل كل الوجهات الموضوعية للسياسة البرجوازية التي وازنت إلى حد كبير إنجازات خمسة عشر عاما من العمل النقابي. إن الحقيقة الاشتراكية الديموقراطية كلها يجب، في الوقت الذي تؤكد فيه على أهمية العمل الحالي وضرورته المطلقة، ان تعلق الأهمية الرئيسية على نقد هذا العمل وتبيان حدوده. إلاّ أن النقابات تأخذ بالاعتبار نصف الحقيقة فتؤكد على الجانب الايجابي للنضال اليومي.
في النهاية، فإن اخفاء الحدود الموضوعية التي يضعها النظام الاجتماعي البرجوازي أمام نضال النقابات يولد عداء لكل نقد نظري يشير إلى هذه الحدود بالعلاقة مع الأهداف النهائية للحركة العمالية. وبذلك يعتبر التفاؤل الذي لا حد له ودغدغة الغرور واجب كل «صديق للحركة النقابية». لكن وجهة نظر الاشتراكية الديموقراطية تتكون بالضبط من النضال ضد تفاؤل النقابات غير النقدي وكذلك من النضال ضد التفاؤل البرلماني غير النقدي. ولذا فإن جبهة تتشكل في النهاية ضد النظرية الاشتراكية الديموقراطية، فيتلمس البعض طريقه إلى «نظرية نقابية (تريديونيونية) جديدة» أي نظرية تفتح أفقا غير محدود للتقدم الاقتصادي أمام النضال النقابي ضمن النظام الرأسمالي ضد العقيدة الاشتراكية الديموقراطية. ولقد وجدت نظرية كهذه بالفعل منذ بعض الوقت، نظرية البروفيسور سومبارت التي أذيعت وكان هدفها المعلن دق أسفين بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية واجتذاب النقابات إلى الموقع البرجوازي.
وتظهر بالعلاقة مع هذه الاتجاهات النظرية ثورة في العلاقات بين القادة والقاعدة. وبدلا من التوجه الرفاقي عبر اللجان المحلية، مع كل عدم كفاية هذا الأسلوب، يظهر أسلوب جديد هو توجيه قادة النقابات لهذه النقابات على طريقة رجل الأعمال. وبذلك تقع مهمة المبادرة وسلطة اتخاذ القرارات على عاتق الاختصاصيين في النقابات، بينما يقتصر دور جماهير القاعدة على الالتزام بالفضيلة السلبية، فضيلة الانضباط. إن هذا الجانب المظلم من البيروقراطية يخفي وراءه أيضا أخطارا عظيمة تتهدد الحزب. فالابتكار الجديد وهو إقامة هيئات أمانة عامة لمحليات الحزب يمكن أن يؤدي إلى ذلك بسهولة إذا لم تحرص الجماهير الاشتراكية الديموقراطية على إبقاء هذه الهيئات مجرد أدوات لتنفيذ القرارات وعدم اعتبارها بأي شكل هيئات معينة للقيام بالمبادرة في حياة الحزب المحلية وتوجيهها. ولكن طبيعة الأمور ذاتها وطبيعة النضال السياسي تضع للبيروقراطية في الاشتراكية الديموقراطية حدودا ضيقة ليست كتلك التي في حياة النقابات.
ولكن التخصص الفني لمناضلين يتلقون أجرا، كثيرا ما يعني كما حدث في المصادقة على اتفاقات التعرفة وما شابهها منع جمهور العمال المنظمين من القيام «بمسح للحياة الصناعية بكاملها» وبذلك تتقنن عدم قدرة هذا الجمهور على اتخاذ القرارات. وإحدى نتائج هذا المفهوم هي الحجة التي تحرم كل نقد نظري لاحتمالات وآفاق الممارسة النقابية بزعم أن نقدا كهذا يهدد بالخطر المشاعر الجماهيرية الموالية للنقابات. ومن وجهة النظر هذه استخلصت نتيجة فحواها أن الجماهير لا يمكن كسبها إلى التنظيمات النقابية وإبقائها فيها إلاّ بالإيمان الطفولي الأعمى بفعالية النضال النقابي. إن الاشتراكية الديموقراطية تقيم نفوذها على اتحاد الجماهير في خضم تناقضات النظام القائم وعبر الطابع المعقد لهذه التناقضات، وكذلك على اتخاذ الجماهير موقفا نقديا تجاه كل عوامل ومراحل نضالها الطبقي ذاته. أمّا النقابات فقد أقامت سلطتها ونفوذها على النظرية المقلوبة رأسا على عقب والقائلة بعدم قدرة الجماهير على النقد واتخاذ القرارات. «تجب المحافظة على إيمان الشعب»، هذا هو المبدأ الأساسي الذي يستخدمه الكثيرون من النقابات ليصموا كل نقد كفاية النقابية موضوعيا بأنه محاولة لقتل الحركة النقابية.
والنتيجة الأخيرة لهذا التخصص والتبقرط بين قادة النقابات هي الاستقلال الكبير و«الحياد» الذي تتمتع به النقابات في علاقاتها مع الاشتراكية الديموقراطية. لقد نشأ الاستقلال الكبير لتنظيم النقابات كنتيجة طبيعية لنموها، وكعلاقة نجمت عن الفصل التقني بين الشكلين السياسي والنقابي للنضال. أمّا «حياد» النقابات الألمانية فقد نشأ من جهته عن تشريع النقابات الرجعي الذي أصدرته الدولة البوليسية الألمانية-البروسية. ولكن بمرور الوقت تحولت طبيعة هذين طبيعة هذين الوجهين. فانبثقت من حالة «حياد» النقابات السياسي التي فرضها البوليس نظرية حياد طوعي كضرورة مبنية على الطبيعة المزعومة للنضال النقابي نفسه. كما أن استقلال النقابات استقلالا فنيا يقوم على تقسيم العمل ضمن النضال الطبقي الاشتراكي الديموقراطي الموحد وفصل النقابات عن الاشتراكية الديموقراطية وعن وجهات نظرها وقيادتها تحول إلى ما يدعى نظرية السلطة المتساوية للنقابات والاشتراكية الديموقراطية.
بيد أن هذا الانفصال الظاهري والمساواة الظاهرية بين النقابات والاشتراكية الديموقراطية قد تجسد بصورة رئيسية في قادة النقابات وتعزز عبر الجهاز الإداري للنقابات. فوجد هيئة كاملة من موظفي النقابات ولجنة مركزية مستقبلة تماما وصحافة مهنية متعددة ومؤتمر نقابات قد خلق وهما بوجود ما يوازي بالضبط الجهاز الإداري للاشتراكية الديموقراطية واللجنة التنفيذية للحزب وصحافة الحزب ومؤتمر الحزب. وقد أدى هذا الوهم بتساوي الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، من بين أمور أخرى، إلى مشهد مريع هو أن جدولي أعمال متماثلين جزيئا يبحثان في مؤتمرات الحزب ومؤتمرات النقابات وأن قرارات مختلفة وحتى متعارضة تماما تتخذ بصدد المسائل ذاتها. ومن تقسيم العمل الطبيعية بين مؤتمر الحزب، الذي يمثل المصالح والمهام العامة للحركة العمالية، وبين مؤتمر النقابات، الذي يعالج مجالا أضيق بكثير من المسائل والمصالح الاجتماعية، اصطنع انقسام مفتعل بين وجهة نظر الاشتراكية الديموقراطية ووجهة نظر النقابات مسائل ومصالح الحركة العمالية العامة ذاتها.
ومن هنا نشأ وضع شاد هو أن الحركة النقابية التي تشكل من تحت وبالنسبة لجماهير البروليتاريا كلا واحدا بصورة مطلقة مع الاشتراكية الديموقراطية، تفترق عن الاشتراكية الديموقراطية من فوق في البنية الفوقية للإدارة، وتضع نفسها كقوة عظيمة مستقلة. ولذا فإن الحركة العمالية الألمانية تأخذ وضعا شاذا على شكل هرم مزدوج تتكون قاعدته وجسمه من كتلة واحدة متراصة بينما تفترق قمتاه.
من هذا التصوير للحالة القائمة تتضح الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تحقيق الوحدة المتراصة للحركة العمالية الألمانية بطريقة طبيعية وناجحة، تلك الوحدة الضرورية التي لا غنى عنها بالنظر إلى النضالات الطبقية المقبلة والمصالح المحددة لتطوير النقابات. ولن تكون هناك طريقة أكثر شذوذا وعبثا لتحقيق الوحدة المرجوة من إجراء مفاوضات متفرقة ودورية بين قيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي واللجان المركزية للنقابات بصدد المسائل المتفرقة التي تؤثر على الحركة العمالية. فكما رأينا، أن الدوائر الأعلى لشكلي الحركة العمالية هي التي تجسد انفصالهما واكتفائهما الذاتية، وهما بالتالي من يشجع وهم السلطة المتساوية والوجود المتوازي للاشتراكية الديموقراطية والنقابية.
إن الرغبة في تحقيق الوحدة عبر اتحاد اللجنة التنفيذية للحزب واللجنة العامة للنقابات تعني الرغبة في بناء جسر بين ابعد نقطتين حيث العبور اصعب ما يكون. فضمان الوحدة الحقيقية للحركة العمالية لا يكمن فوقا بين رؤوس المنظمات القيادية الموجهة وعبر تحالفها الفيدرالي بل يكمن تحتا بين الجماهير البروليتارية المنظمة، فالحزب والنقابات تشكل في الواقع كلا واحدا في وعي أعضاء النقابات المليون وهما تمثلان شكلين مختلفين من أشكال النضال الاشتراكي الديموقراطي لتحرير البروليتاريا ومن هنا تنبثق بصورة أتوماتيكية الحاجة إلى القضاء على كل أسباب الاحتكاك الذي نشأ بين الاشتراكية الديموقراطية وجزء من النقابات وإلى تكييف علاقاتهما المتبادلة طبقا لوعي الجماهير البروليتارية، أي إلى إعادة ربط النقابات بالاشتراكية الديموقراطية. وبذلك يجري التعبير عن تركيب التطور الحقيقي الذي قاد من اندماج اتحادات العمال بالاشتراكية الديموقراطية إلى انفصالها عنها، وسيكون السبيل ممهدا لفترة النضالات الجماهيرية البروليتارية العظيمة القادمة وخلال فترة النمو القوي لكل من النقابات والاشتراكية الديموقراطية سيصبح اتحادهما من أجل مصالحهما كليهما ضرورة.
ليست المسألة بالطبع مسألة دمج تنظيم النقابات بالحزب ولكنها مسألة إعادة توحيد الاشتراكية الديموقراطية والنقابات، تلك الوحدة تنطبق على العلاقة الواقعية بين الحركة العمالية ككل وبين تعبيرها النقابي الجزئي. ولا شك أن ثورة كهذه ستجد لا محالة معارضة شديدة من جزء من قيادة النقابات. ولكن حان الوقت لجماهير الاشتراكية الديموقراطية العاملة أن تتعلم كيف تعبر عن قدرتها على التقرير والفعل. فتبين بالتالي نضجها للنضالات العظيمة والمهام العظيمة التي ستكون الجماهير جوقتها الفعلية بينما تلعب الهيئات القيادية دور الأجزاء الناطقة فقط، أي أنها ستكون فحسب المترجمة لإرادة الجماهير.
إن الحركة النقابية ليست ذلك الوهم اللاعقلاني الذي يعيش في مخيلة أقلية ضئيلة من قادة النقابات. ولكن تلك الحقيقة التي تعيش في وعي جماهير البروليتاريين الذين تم كسبهم للصراع الطبقي، والحركة النقابية في هذا الوعي جزء من الاشتراكية الديموقراطية. «وكما هي يجب أن تجرؤ على الظهور».
كتبته روزا لوكسمبورغ سنة 1906
 تحويل رقمي: جريدة المناضل-ة (أبريل 2005)
 


[1] الحركة الشارتية «الميثاقية»: حركة جماهيرية بريطانية كبيرة ابتدأت عام 1838 وامتدت إلى أوائل الخمسينات من القرن التاسع عشر. وكانت حركة تناضل من أجل الديموقراطية السياسية والمساواة الاجتماعية نضالا كاد أن يكون ثوريا. تمحورت الحركة الشارتية حول برنامج (ميثاق) للاقتراع العام وغيره من الإصلاحات السياسية الديموقراطية، وضعته رابطة شغيلة لندن.
[2] الزمستفو: مجالس ريفية في روسيا القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لها سلطات محدودة جدا وتقوم بمهام اقتصادية وثقافية فقط.
[3] يشعر المرء بالامتنان للصراحة التي صاغ بها الاتجاه الانتهازي حديثا أهدافه، وذلك لأن وجود مثل هذا الاتجاه داخل الاشتراكية الديموقراطية الألمانية ينكر بشكل عام. في اجتماع حزبي عقد في 10 أيلول / سبتمبر 1909 تقدم الدكتور دافيد بالاقتراح التالي:
«في الوقت الذي يفسر فيه الحزب الاشتراكي الديموقراطي إصلاح ثورة بمعنى التطور المسالم لا بمعنى الإطاحة العنيفة أي بمعنى التحقيق التدريجي لمبدأ اقتصادي جديد، فإن الاجتماع العلني للحزب يستنكر كل نوع من أنواع الرومانتيكية الثورية.
«يرى الإجتماع أن الاستيلاء على السلطة السياسية لا تعدو كسب أغلبية الشعب لآراء ومطالب الاشتراكية الديموقراطية وهذا الإستيلاء لا يمكن أن يتحقق بواسطة العنف بل فحسب بتثوير العقل بواسطة الدعاية الفكرية والعمل الاصلاحي في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
«إعتقادا منا بأن الاشتراكية الديموقراطية تزدهر أكثر بكثير عندما تستخدم الطرق القانونية مما تزدهر عندما تعتمد على الوسائل غير القانونية والثورة، فإن الاجتماع يشجب العمل الجماهيري المباشر، كمبدأ تكتيكي ويتمسك بشدة بمبدأ العمل الاصلاحي البرلماني، أي أن الاجتماع يرغب في أن يحاول الحزب في المستقبل كما في الماضي تحقيق أهدافه بالتشريع بالتشريع والتطور التدريجي المنظم.
«إن الشرط الذي لا غنى عنه لهذه الطريقة الاصلاحية في النضال هو أن لا تقلل امكانية اشتراك الجماهير المفقرة من الشعب في التشريع للامبراطورية وللولايات المختلفة بل تزاد إلى أقصى حد ممكن. ولهذا السبب فإن الاجتماع يعلن أن حق الطبقة العاملة في الامتناع عن العمل مدة تطول أو تقصر في وجه الهجمات على حقوقها الشرعية أو لكسب حقوق أخرى هو حق لا يناقش عندما تفشل كل الوسائل الأخرى.
«ولكن بما أن الاضراب الجماهيري السياسي لا يمكن أن ينتصر إلاّ إذا أبقي ضمن الحدود القانونية وعندما لا يعطي العمال المضربون للسلطات أي عذر للجوء إلى القوة، فإن الاجتماع يرى أن الاعداد الحقيقي والضروري لممارسة هذه الوسيلة في النضال هو توسيع المنظمات السياسية والتعاونية والنقابية فبذلك فقط يمكن أن تخلق بين الجماهير العريضة الظروف التي تضمن تنفيذا ناجحا للاضراب الجماهيري: الانظباط الواعي والدعم الاقتصادي الكافي».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - روزا لوكسمبورغ تقع ضحية لخطأ مزدوج
طلال الربيعي ( 2014 / 2 / 7 - 13:05 )
ان روزا لوكسمبورغ نفسها هنا تقع ضحية لخطأ مزدوج بخصوص الاضرابات والعمل الجماهيري. الاول هو اصابتها بعمى الوان سياسي حيث لا وجود الا للونين الابيض والاسود- اما/او. والخطأ الثاني هو وقوعها ضحية لايمان بحتمية تاريخية تقزم الانسان ودوره في صنع التاريخ.


2 - البحث عن الوضع النموجي أشبه بوهم أو سراب
حميد خنجي ( 2014 / 2 / 7 - 14:37 )
روزا مناضلة وثورية عظيمة، كانت مستعدة للتضحية دائما. ولكن هي دأبها كآلاف الماركسيين الذين يعانون من السقوط في النظرة المثالية لشتى الامور النظرية والنضالية، بحيث أنهم دائما يبحثون عن الوضع النموذجي و- الديمقراطي- مائة في المائة ! وهو وضع غير موجود في الواقع على الارض، بل موجود في اذهان اصحابها فحسب

اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024