الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاهة الأعراب في برامج الأحزاب

طارق قديس

2009 / 12 / 23
الادب والفن


جلس بهدوء على الأريكة في غرفة الجلوس ، بدأ يرشف فنجان القهوة، والسيجارة مخنوقة بين إصبعيه : السبابة والوسطى ، فيما عيناه تنظران بتفرس إلى كومة الأوراق المبعثرة على المنضدة أمامه ، والأفكار تعصف بدماغه ماحيةُ كلَّ صورةٍ منه إلا صورة تلك الكومة من الأوراق.

لم تكن تلك الأوراق سوى باقة من بعض برامج الأحزاب التي تمكن أخيراً من احتوائها بين يديه .

لم ينتظر طويلاً حتى أنكب على قراءتها ورقة ورقة ، وقد طار الهدوء من جسده ، ليحط مكانه العرق المتصبب منه شيئاً فشيئاً.

هو نفسه لم يكن حزبياً ، لكنه أراد أن يتمرد على حالته الفردية ، لينهض بالمجتمع نحو الأفضل ، وقد حمله وخز الرغبة على مطالعة تلك البرامج ، ليرى مواطن التقاطعات بين ما تقدمه وما يقبع في ذهنه من أفكار.

الدهشة كانت كبيرة ، فلكم كان عصيَّاً عليه أن يرى الكثير من الأحزاب يخوض سباق الكسب الجماهيري ببرامج ضبابية الملامح ، فارغة المضمون ، ومجرد سطورٍ حماسية دُلقت بالحبر على الورق الأبيض ذرَاً للرماد في العيون.

لقد تاه في تلك الكلمات الرنانة ، والبرامج الفارغة ، وأشفق في قرارة نفسه على من هم على شاكلته ، يبحثون عن ضالتهم في تلك البرامج.

لقد امتقع وجهه وهو يرى نفسه غريباً عن حلمه الوردي ، وعن تلك الأحزاب التي انتشرت كرمل البحر ، وضاهى عددها عدد النجوم في السماء ، وانقلب بعضها على بعض، دون أن تكسب قلوب الناس ، وتُحدث إزاحة في عقولهم على مستوى الارتقاء الاجتماعي.

أمام هذا الواقع ، وفيما الحزن يعسكر في صدره ، قرر أن يتمرد على الوضع الراهن ، وأن يعدل من تكتيكه شيئاً بسيطاً ، قرر أن يتخلى عن كل تلك الأحزاب جميعاً، وأن يؤسس لنفسه حزباً خاصاً ، وبعبارة أخرى أن يُفصِّلَ حزباً على هواه ، حزباً له وحده ، هو مؤسسه ، أمينه العام ، وعضوه الدائم ، هو من يدعو للانتخابات المركزية ، وهو المرشح الوحيد ، وهو من يضع البرنامج العام ، والشعارات حسب مقتضى الظروف ... أي باختصار هو الكل في الكل ، وبذلك يضمن ألا يختلف مع أحد في شاردة أو واردة مهما تعددت الآراء وتنوَّعت.

قرر أن يؤسس ذلك الحزب ، وأسسه فعلاً ، ووقف على المنصة في منزله ، وألقى بيانه الأول ، ثم جلس على الكرسي ، واستمع إلى نفسه بعد أن انتهى من إلقائه ، وقد سجله على هاتفه النقَّال.

في اليوم التالي ، ونظراً للمستجدات الدولية ، ألقى بيانه الثاني ، شاجباً ما ورد في بيانه الأول ، وكذا في اليوم الثالث ، والرابع.

وها هو بعد عدة أيام فقط على تأسيس الحزب ، عاد إلى جلسته الأولى ، عاد ليرشف فنجان القهوة ، والسيجارة في ذات المكان ، بعد أن تبدد طموحه الأخير ، وقد استقال من الحزب لمجرد اختلافٍ مع نفسه في وجهات النظر!

عاد إلى أريكته ، لكنه عاد إليها هذه المرة ، وقد نأى بنفسه عن تلك الأوراق المبعثرة فوق المنضدة هنا وهناك ، فالمنضدة خاليةٌ من أية آثار تذكر ، خاليةٌ تماماً إلا من ذكرى مسيرته في تلك المتاهة ، تلك المتاهة التي كان يحلو له أن يدعوها من وقت لآخر " متاهة الأعراب في برامج الأحزاب".

لقد عاد وفي رأسه تتصارع عشرات الأسئلة حول ما حصل ، ولكن دون إجاباتٍ شافية ، عاد وهو يردد السؤال تلو الآخر : هل تراه قد فشل لأنه مثل الكثيرين يحب المعارضة من أجل المعارضة ، حتى وإن عارض نفسه في آخر المطاف؟ أم تراه قد فشل تأكيداً للشعار القائل بأننا قد اتفقنا على ألا نتفق؟ أم تراه قد فشل في تجربته مع الآخرين ونفسه على حدٍّ سواء لأنه – ببساطة – كان يعاني من حالة انفصال في الشخصية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلام جميل
سميح مسعود ( 2009 / 12 / 24 - 05:23 )
كلام جميل
معبر عن واقع حال بعض الحزبيين
اتمنى لكاتب المقال النجاح والتوفيق

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا