الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلسوف في المنفى

طارق قديس

2009 / 12 / 30
الادب والفن


نظر إلى ساعته ، كانت تشير إلى الثانية عشرة ليلاً إلا خمس عشرة دقيقة، تنهد بعمق ، ونفث بقوة ما تجمع في صدره من هواء فاسد إلى الخارج ، والكآبة تُخَيِّمُ على وجهه.

قال في نفسه : يا الله ! لقد بقيت ربع ساعة فقط على السنة الجديدة.

تذكر للحظة أنه في الغربة بعيداً عن أهله . تذكر كيف أخذته لقمة العيش بعيداً عنهم ، وبعيداً عن خطيبته السابقة . تذكر لقاءه الأخير معها عندما رسم على ظاهر يدها قبلةٌ دافئة ، فيما هي تَهُمُّ لخلع الخاتم من إصبعها ، كي تدفنه في باطن كفه إلى غير رجعه.

تذكر ، وتذكر ، لكنه سرعان ما عاد إلى حيث هو.

نظر إلى صديقه ، رآه سعيداً وهو يقلب بالروموت كونترول القنوات الفضائية بحثاً عن أغنية هابطة ، فيديو كليب راقص ، قبلة طائشة في مشهدٍ عاطفي مبتذل ، وذلك دون كلل أو ملل ، فيما يده الأخرى تلقم إلى فمه رقائق الشيبس من على الطاولة واحدة تلو الأخرى.

تناول الريموت كونترول من يده ، أدار على نشرة الأخبار ، لم يكن فيها سوى الأخبار الآتية من الشرق الأوسط : قتلى في العراق ، جرحى في فلسطين ، اعتصام في لبنان ، موجة من الصقيع تجتاح الأردن ، مذابح جديدة في جنوب السودان ، اجتماع طارئ لأمانة جامعة الدول العربية ....!

عاد ونظر إلى ساعته ، أشارت العقارب إلى الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق ، فاستأذن من صديقه لدخول الحمام.

نبهه صديقه إلى الدقائق الخمس ، إنها ليلة رأس السنة ، لكنه طَمْأَنَهُ بأنه سيخرج في الوقت المحدد!

دخل الحمام ، مرت الدقائق الخمس ، بدأت الاحتفالات في الخارج تتوالى ، وأصوات المفرقعات تعلو ، وإضاءات الألعاب النارية تنتشر على امتداد السماء ، لكنه لم يخرج .

دخل العام الجديد إلى حيز الوجود ، لكنه لم يخرج ، بدأ القلق يتسرب إلى صدر صديقه ، مرت خمس دقائق أخرى ، وإذ به يخرج بعدها من الحمام سليماً معافى.

عاتبه صديقه على تأخيره ، أطال العتاب ، وأخذ يعيد عليه شريط ما لم يره منذ قليل ، حتـى انتهى الأمر بعتاب الأحباء ، وضمه إلى صدره بحرارة ، وقبله قبلةً عنيفة لهذه المناسبة السعيدة.

بعدها ، عاد الاثنان إلى مكانهما ، بدأ الصديق بطرح أسئلة متتالية عليه : ما هي توقعات للعام الجديد؟ هل سيتحسن الوضع السياسي في العالم ؟ هل تراها تتحقق تنبؤات العرافين والعرافات هل ..؟ وهل .. ؟ وهل .. ؟ فيما هو صامتٌ كأبي الهول.

واستمر في طرح الأسئلة ، طرح الأسئلة والإجابة على بعضها في آنٍ واحد ، إلا أنه لم يغب عنه في نهاية هذه السلسلة أن يسأله بتهكم قائلاً : بالحق ، لماذا تأخرت كل هذا الوقت في الحمام ؟ لقد قلقت عليك ، خمس دقائق قبل رأس السنة ، خمس دقائق بعد رأس السنة ، لماذا كل هذا الوقت ؟

عندئذ خرج عن صمته ، وأجابه قائلاً بعد أن أخذ نفساً عميقاً من سيجارته المارلبورو: صدق أو لا تصدق إن شئت ، أنا لم أكن في حالة تستدعي قضاء حاجة ، ولكني دخلت إلى الحمام لأبول على العام الماضي بكل ما فيه ، وأطلق صرخة احتجاجٍ من إنسانٍ مقهور على طريقتي الخاصة ، فأدركني الوقت ، ودخلت في العام الجديد ، فوجدتها فرصة مناسبة لأبول عليه هو الآخر ، فهو - يا سيدي الفاضل - لن يكون بأية حال من الأحوال أفضل من العام الذي سبقه ، وكما يقول المثل الشعبي : "الجواب باين من عنوانه" !

فدهش صديقه لهذا الجواب ، وقد أطلق ضحكة عفوية لما سمعه ، ثم قال له والبسمة تلف تقاسيم وجهه : ما هذا ؟ أرى أنك فيلسوف ! ... فبادله الابتسام وقال : أجل . فيلسوف في المنفى!

وانتهى بهما الأمر إلى الضحك معاً ، ضحكاً متواصلاً ، بينما الألعاب النارية في الخارج تزداد رقعتها اتساعاً في الفضاء البعيد ، ومآسي العالم العربي تزداد اتساعاً هي الأخرى ، ولكن في الفضاء القريب.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة