الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من اللاهوت إلى علم الأديان: محاولة للفهم

نذير الماجد

2010 / 2 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تضيع البدايات كلما أوغل مؤرخو الأفكار في السعي إلى اكتشافها، بغية ارساء محاولة جادة في فهم ما انتهت إليه. البداية أساس يتقوض من دونه أي انبناء منهجي للفهم، والأفكار تغدو متعالية إن هي افتقدت التاريخ أو البداية، وبما أن النشأة الدينية هي الأكثر استعصاء على الأرخنة فإنها ستبدو متعالية، التعالي هنا لا يترادف مع المقدس تماما رغم التداخل الوثيق وإنما يشي بانسداد الفهم الذي ينتج التعالي ومن ثم الايمان.

"لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إني أعتقد لكي أفهم".. شعار أطلقه في القرن الحادي عشر اللاهوتي أنسلم الذي هو أحد أبرز مؤسسي الفلسفة المدرسية "الاسكولاستيكية"، هذا المبدأ التأويلي "الهرمونطيقي" الذي يؤسس لرؤية منهجية تسعى إلى تثبيت المقولات الدينية وليس إلى فهمها اقتبسه أنسلم من لاهوت أغسطين الممثل الأمين للأفلاطوينية الحديثة الذي أكد أن الايمان يسبق الفهم: لا تحاول أن تفهم لكي تؤمن بل آمن لكي تفهم.

هذا المبدأ التأويلي الذي دشنه أغسطين وأنسلم وانبنت فيما بينهما على أساسه كل النقاشات السائدة في الفلسفة الوسيطة، يكشف قبل كل شيء عن أن هناك تأرجحا بين ذروتي الفهم والايمان، أيهما يسبق الآخر وأيهما يقود إليه. كان أنسلم رغم انحيازه إلى الايمان يقر بضرورة اللجوء إلى العقل والفلسفة لارساء الفهم بعد الايمان، أي لفهم ما يعتقد به، لذلك كان يقول: "إن من الاهمال وقد تثبتنا في ديننا ألا نعمل لفهم ما اعتقدنا" مما يعني أن هنالك معرفة تسبق المعرفة، معرفة ذات مرجعية متعالية تجعل النشاط التأويلي مثقلا بالمسبقات، العملية التأويلية لا تتم إلا بمسبقات معرفية، ولكن هذه المسبقات ايمانية وليست معرفية، والفهم أو المعرفة لا ايمان له.

وهنا تماما تكمن المعضلة الاشكالية التي وقعت فيها الفلسفة الوسيطة والتي فطن إليها كما رأينا أنسلم وأغسطين في اللاهوت المسيحي، وتابعهما في ذلك علم الكلام الاسلامي الذي هو الآخر شهد تأرجحا مماثلا بين ذروتي الفهم والايمان، بين ابن رشد الذي انحاز إلى الفهم وأبو حامد الغزالي الذي انحاز إلى الايمان وهاجم بالتالي الفلسفة الكلامية "المدرسية" التي تقوض في زعمه الأسس الايمانية وأصول الاعتقاد.

هذا الجدل الكلامي تسلل إلى الوسط اليهودي: بين ابن ميمون الذي يميز في نشاطه التفسيري بين التاريخ والميثولوجيا، أو ليفي بن جرسون الفيلسوف اللاهوتي في القرن الرابع عشر الذي تأثر به اسبينوزا، وبين كرسكاس "في القرن الرابع عشر" الذي اتقن دور الغزالي في اللاهوت اليهودي بهجومه على الفلاسفة وتشكيكه في قدرة العقل على فهم العقيدة ومحاولته لتقويض فلسفة بن ميميون وبن جرسون.

لا يمكن أن نعي جيدا موقف أنسلم والغزالي وكرسكاس وهم الثلاثة الذين يشكلون عينة من جبهة الذود عن عرين الايمان والاعتقاد دون أن نلم بكنه التعارض بين قطبي التأرجح الكلامي. إن العقل الديني يتخذ استراتيجية واعية تحول دون انكشافه، لذلك فهو يخشى الفهم ويتمترس باحتجاب البدايات والأصول، ويتخذ من التعالي حصنا منيعا ضد أي محاولة لتهديد ثبات المقولات والتصورات الدينية.

بفعل الايمان يختلط النشاط التفسيري بالأحكام المسبقة، فتتسع المسافة بين اللاهوت والفهم الذي لا يتسع ويتمدد إلا على حساب الآخر، وبعبارة أخرى فإن هنالك بون شاسع بين اللاهوت وبين عملية الفهم التي ستؤسس مع لحظة الحداثة وما بعد الحداثة علما قائما مستقلا بذاته هو علم الأديان.

وفي الطريق إلى التدشين كان على علم الأديان أن يتجاوز عدة مراحل أساسية تصل إلى العِلمانية –بالفتح، بعد الأسطورة واللاهوت. كان لابد من التداخل بين الذرى المتمايزة قبل حسم عملية الفصل الماثلة في العلمنة التي تعني أساسا الفصل بين ما هو متمايز مما يعني أن "اللائكية" آخذة في التوسع لكي تشمل بعد الذروة السياسية كلا من الحياة الاجتماعية والعلم والدين نفسه عبر اخضاعه للتفكير العلمي، ولكن حتى القرن التاسع عشر وهو القرن الذي شهد نشوء العلوم الانسانية كما لاحظ موريس أولندر كانت علوم الأديان والتاريخ والفللوجيا والأثنولوجيا لاتزال خاضعة لتأثيرات اللاهوت.

نأخذ مثلا ريشار سيمون من القرن السابع عشر والذي يعد أول من حاول قراءة النص المقدس وفقا للمنهج التاريخي النقدي، يصل في نقطة جوهرية وكاشفة إلى أن النص المقدس "وهو هنا التوراة" لا يمكن أن يكون "كلام الله وحده" طالما أن جانبا أساسيا منه هو من ابتكار الانسان، وقد وصل إلى هذه النتيجة من خلال قراءته لسمات ما يسمى باللغات السامية ومنها العبرية التي ترتكز بشكل أساسي على الصوائت "الفونيم" وهو ما يعني أن النص الديني هو نص متلو أو منشد، بحيث يدخل النبر والجرس كعنصر أساسي في تشييد المعنى، يقول موضحا: " لأن سر اللغة العبرية –ومعها باقي اللغات السامية- يكمن في ارتهان المعنى للاعجام". ولكن لريشار سيمون هذا الذي هز الوسط الديني بجرأته على النص الكتابي الديني حكم ايماني مسبق يجعل من الكنيسة المرجعية المعرفية التي تحسم التعارضات بين العقيدة أو المعنى وعملية النقد للنص الكتابي المقدس.

وفي سياق سرده لأفكار ومنهجيات عديدية حول نشأة اللغة والتباسها بالوعي القومي نستشف مع موريس مولندر في كتابه "لغات الفردوس الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية" الطريق المعقد لتحرير الانسانيات من سيطرة اللاهوت، والذي يصل بعلم الأديان إلى أن يؤسس محاولة جدية للفهم بعيدا عن الاعتقادات الايمانية، لأن الفهم هي المهمة الأساسية التي يضطلع بها علم الأديان، ولا يتأتى ذلك دون الولوج في قراءة تمييزية بين الإلهي والبشري. القس هردر يقرأ النص الكتابي – ودلالة الكتابي هنا التي تأتي في مقابل الشفهي لا تحتاج إلى توضيح- بصفته خطابا شعريا ناتجا عن تلاقح بدئي بين نور "إلهام" إلهي ومرآة بشرية تعكس الضوء الإلهي على شكل لغة شعرية، ففي مقابل البعد الإلهي بعد بشري يعيد ترتيب اللغة وفقا لمبادئ الادراك البشري، فاللغة الدينية حصيلة تلاقح الثابت الإلهي بالمتغير البشري، مما يقود إلى وضع مسافة بين شكل الايمان ومضمونه، بين صورته ومادته، وهو ما نبه إليه الفيلسوف الوجودي بول تيليش. مفهوم الايمان عند تيليش هو "هم أقصى" بوسعه أن يتشكل وفق قوالب عديدة ومتفاوتة، ماورائية أو طبيعية، لذلك فهو نسبي متحول ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك، فإذا كان التعالي وهو طرف في المعتقد الايماني مطلق ثابت فإن البشري والذي يشكل طرفه الآخر هو نسبي متغير بطبيعته. وما يرتكز عليه علم الأديان هو هذا المفهوم النسبي للايمان.

لا يهتم هذا العلم وفقا لميشال مسلان بالمقدس في ذاته وإنما بانعكاساته في الروح، فعندما يلج المتعالي والمقدس في الروح الانسانية فإنه يصبح خاضعا لاشتراطاته التاريخية، يغدو المتعالي خاضعا للتاريخ والانسان وليس العكس: " جعل السبت للإنسان، وليس الانسان للسبت" هذه المرونة تمثل عنصرا مركزيا في بنية الايمان من دونه لا يصبح الايمان ايمانا بل تصلبا دوغمائيا نلاحظه في خطابات الأصولية التي تحجم عن الفهم خشية ضياع تلك الخراف الضالة التي يجب اعادتها إلى حظيرة الاجترار، الأصولي يرفض كل محاولة للفهم وبذلك فإن اشتغاله الرئيسي هو تفريخ أدمغة وثوقية لا تفهم ما تعتقد به وإنما تؤمن حين لا تفهم، متناسية أن الايمان بلا فهم هو ايمان بلا مضون، فالقاعدة الأصولية تقول بكل بساطة: أؤمن حيث أجهل.

هنا تبرز الحاجة إلى علم الأديان حيث يوفر للمتدين فهم ما يعتقد به، ولكن ثمة استدراك محوري هو أن الظاهرة الدينية كلٌ معقد، تتضمن أبعادا سيكولوجية وانثربولوجية واجتماعية ووجدانية وتاريخية، فهي بصفتها ظاهرة مركبة تحتاج لتفكيك يدمج حقولا معرفية متعددة، ولهذا السبب بالذات فإن علم الأديان لا يدعي التصورات النهائية المغلقة، فإضافة إلى أنه لازال أساسا في طور التشكل، هو بوصفه سيرورة علمية ذو طبيعة احتمالية تشترط عدم الانزلاق في الجزم والوثوق. هذه السيرورة تستعيد الايمان ولكن ليس بوصفه شكلا للمعرفة كما كان في الفلسفة المدرسية طوال العصور الوسطى بل بوصفه موضوعا للمعرفة.

ولكن السؤال الذي تلح عليه المعرفة الدينية يتجاوز كل ذلك ليصل إلى مكاشفة الأصول والبدايات: لماذا غابت البدايات الحدسية كما خمن المؤسس البدئي لعلم الأديان ماكس مولر، وحلت محلها ميتافيزيقيا تحور الميثوس ورمزيته إلى حقائق أنطولوجية؟ هل المتدين المعاصر لا يفهم دينه ولغته الرمزية؟ أم هو ضحية تحوير مشوه للبدايات الصافية والنقية؟ هل ندعو إلى الحنين إلى الأصل حيث البداية لا تزال نقية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفهم قبل فهم الايمان
برزي ابراهيم سليمانية ( 2011 / 8 / 13 - 17:13 )
الاخ الكاتب هذا الموضوع حساس وانه جدل مادي كبير و منهج جديد في علم الاديان وليس بالضرورة ان تنحصر في المجال الديني فان هذه الاسبفية قد تعم على فهم الانسان للطبيعة او الظاهرة المحيطة بالفكر للاول وهلة ايهما يسبق الاخر الفهم او الايمان الفكرة او المادة انها معضلة لن تحسم كما لاتحسم قضية الدجاجة والبيضة ومستمرة مادام الخوض والبحث جاري فيه والكلام لن تنقطع اذا مانقطع حرص الانسان طموحا وعلوا في الوصول الى باطن الموضوع شكلا ومضمونا قد تلقى من التهم والتكفير كما لافى ابن رشد والمعتزلة اثر هذا الجدل الكبير هذا اذا كنت تقفز على ضاهرة التفسير وتجعله خلفك باماطة اللثام عن مبدا التاويل لما يكتنف الغموض النصوص المقدسة وما يقدم لنا من اسرار ومعاني يصعب التفسير والتوصيخ فقد لم يعطي الايمان تفسيرا وفهما لسيدنا ابراهيم قبل ان يفكر ويفهم العلة لان الفكر والفهم لاينفصلان اساسا في المسالة المعرفية ولان الايمان ترتبط بالمعرفة فبالضرورة تكون الفهم صفة للضاهرة الايمانية هذا على الجانب الفلسفي والمعرفي واما على الجانب الاجتماعي فان النسبية تحكم بعض القواعد اذ ان فكرة او موضوعا جاهزا كفلسفة دينية او اجت

اخر الافلام

.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب