الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مستقبلنا هو حاضرنا وماضينا:علم المستقبل وأهمية الدراسات الأستشرافيه

نزيهة أحمد التركى

2010 / 2 / 22
التربية والتعليم والبحث العلمي


مستقبلنا هو :حاضرنا وماضينا
علم المستقبل وأهمية الدراسات الاستشرافية

إن اصطلاح " علم المستقبل " مشتق من الكلمة اللاتينية Futurmes أي المستقبل ، والكلمة اليونانية Logos أو العلم ، وقد ظهر هذا الاصطلاح لأول مرة عام 1943 في أبحاث نشرها العالم الألماني الاجتماعي أو سيب فلتخايهم ، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة قبل وقت طويل من نشوب الحرب العالمية الثانية ، وقد أخذ بالتعليق على الأعمال المتزايدة حول التنبؤ الاجتماعي ، وكتب عن ظهور علم جديد ، زعم أنه آخذ بالتبلور ، وفي طريقه لأن يصبح علماً قائماً بذاته ، وكان ذلك علم المستقبل أو ( فيوثورلوجي Futurology ) " ". وعاد مصطلح " علم المستقبل " للظهور في أوائل الستينيات ، وانتشر انتشاراً كبيراً في الغرب ، واكتسب قوة واندفاعاً كبيرين ، نتيجة لتطور الوسائل الفعالة التي تساعد على التنبؤ في مجال العلوم الاجتماعية ، ولقيام المئات من مؤسسات الأبحاث الكبيرة والدوائر المتخصصة بالتنبؤ في تطور العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والدولية والقانون والسياسة الداخلية والخارجية
والعلاقات الدولية وأبحاث اكتشاف الأرض والفضاء … الخ ، لذلك نقول إن علم المستقبل Futurology هو من العلوم " الجديدة " نسبياً ، إذ لم يلق رواجاً لدى العلماء والمفكرين في الدول المتقدمة إلا في وقت متأخر ، أي في عقد الستينيات ، كما أنه أخذ يحظى باهتمام أكبر وأوسع ، عندما تحول منذ مطلع السبعينيات ، من مجرد " تمرينات " واجتهادات ذهنية وفكرية فردية ، من قبل طائفة من بعض العلماء والمفكرين ، إلى اجتهادات علمية منظمة ، أكبر حجماً ، وأكثر شمولاً وتنوعاً، تقف وراءها ، وتدعمها ، وتمولها ، وتنشر نتائجها ، مؤسسات وهيئات دولية وشبه دولية كبرى" " .
ونجد أن هناك من يرجع بروز هذه الدراسات المستقبلية وتعاظم الاهتمام بها إلى عاملين
رئيسيين هما : " " أزمة النظام الرأسمالي والتقدم العلمي والتقني . وقد أسفر العامل الأول عن ظهور كتابات ، حاولت أن ترسم صورة أفضل لمجتمع الغد ، تعتمد على مظاهر التقدم العلمي والتقني . أما العامل الثاني وهو تطور أدوات المعرفة والقياس ، وتطور أساليب تحليل النظم كتطور الأدوات المعرفية " " ، فقد أعطى دفعة قوية للدراسات المستقبلية .
وإلى جانب هذين العاملين هناك عامل آخر ، لا يقل أهمية ، وهو ظهور عدد من الدول الناشئة الجديدة التي تبحث عن وسيلة للتغلب على التخلف الاقتصادي والاجتماعي لديها ، والتي وجدت في دراسة المستقبل وسيلة للتنبيه على السلبيات المعتمدة حالياً ، وكيفية اختيار سياسات بديلة لدرء تلك السلبيات في المستقبل . فعن طريق الدراسات المستقبلية يتم وضع عدة بدائل معينة للمستقبل ، توضح عدة مسارات مستقبلية ، قد تتخذها النظم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع . وبالتالي فإن هذه الدول الناشئة يمكنها ، بما توفره لها الدراسات المستقبلية من صور عديدة للمستقبل، أن تعمل من خلال سياسات معينة على الاقتراب من البديل الأفضل الذي يحقق لها غاياتها في تحقيق التنمية والقضاء على عوامل التخلف لديها . هذا فضلاً عن تطور أدوات المعرفة ، وخاصــة أدوات التنبؤ وقياس الظواهر ( الكمية والكيفية ) ، التي ساعدت على ارتقاء العلوم الاجتماعية إلى مصاف العلوم الدقيقة " " . وقد أدى بروز هذه العوامل إلى طرح إشكاليات متعددة أمام المفكرين والعلماء والساسة في شتى المجالات تمثلت في الآتي" " :
1 – الآثار السلبية والإيجابية التي يمكن أن تترتب عن التطور العلمي والتقني .
2 - اتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة وبالتالي تحديد الاستراتيجية التي يمكن تطبيقها الآن وفي المستقبل لتضييق تلك الفجوة .
3 – كيفية الموازنة بين إمكانات الإنسان القائمة والمحتملة .
4 – الطريقة المثلى لمواجهة أخطار المستقبل .
5 – توفير المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات ذات أبعاد مستقبلية في مختلف المجالات .
لذلك برزت أهمية الاهتمام بدراسة المستقبل ، وطلب التنبؤ حوله . فاستشراف
المستقبل في الوقت الحالي يعتبر من الأمور الضرورية والمهمة للدول المتقدمة
والنامية على حد سواء ، لأن المستقبل ليس مجرد امتداد للحاضر فقط ، بل هو حالة نوعية مختلفة ، يمكن أن نخطط لها . ففي الاستشراف نقوم بدراسة وتحليل ثلاث مراحل مختلفة من الظاهرة قيد البحث ، ندرس الماضي ونستخلص منه بعض الدروس والعبر ، ونحلل الحاضر بكل أبعاده وتفاعلاته ، ونعمل على تخيل المستقبل ، ونحاول أن نرصد تطور العلاقات الملموسة في الحاضر ، من خلال رسم صور محتملة وممكنة للمستقبل ، تكون خلاصة لكل ما أجريناه من أبحاث وتحليلات " " .
وفي وقت لاحق ومع تطور الأوضاع الدولية في السبعينيات والثمانينيات ،
زاد الاهتمام بدراسات المستقبل ، التي اكتسبت أهمية كبيرة في كل المجـالات
وعلى كل المستويات . وتعــرف الجمعية الدولية للمستقبلات " World Future Society " الدراسات المستقبلية على أساس طبيعتها في أربعة عناصر رئيسية هي " " :
1 – أنها الدراسات التي تركز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية .
2 – أنها أوسع من حدود العلم ، فهي تتضمن الجهود الفلسفية والفنية ، جنباً إلى جنب مع الجهود العلمية .
3 – أنها تتعامل مع نطاق لبدائل النمو الممكنة ، وليس مع إسقاط مفردة محددة على المستقبل .
4 – أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آماد زمنية تتراوح بين خمس سنوات وخمسين عاماً .
بمعنى آخر أن الدراسة المستقبلية هي دراسة علمية ، تبحث في ظواهر غير منظورة حالياً ، من خلال طرق ومناهج متعددة ولفترة زمنية بعيدة نسبياً ، وذلك عن طريق صياغة متعددة للمستقبل ، يفترض فيها تطورات معينة للظاهرة محل الدراسة . فالتحليل المستقبلي أو الاستشرافي بهذا المعنى ، يوضح لنا صور المستقبل الممكنة والمحتملة ، مما يساعدنا في رسم الطريق الأفضل للوصول إلى الأهداف
المتوخاة " إن الإلمام بعلم المستقبل ، يعتبر إذن من ضمن الأدوات الرئيسية التي تدعم قدراتنا في مجال استشراف المستقبل لفترات زمنية ملحوظة ، قد تتراوح في العادة ما بين 10-30 سنة أو أكثر ، وإمكانيات النجاح في تبني وتطور سياسات طويلة الأمد في مجال التعامل مع القضايا المستقبلية ". " "
ويعرف الاستشراف بأنه" منهج لا يسعى إلى التنبؤ بالمستقبل أو التخطيط له ، بل يقوم بإجراء مجموعة من التنبؤات المشروطة " أو المشاهد " السيناريوهات " التي تفترض الواقع تارة ، والمأمول فيها تارة أخرى ، أيا كانت طبيعة الصور المأمول فيها ، دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور ، فهذا أمر يدخل في حيز التخطيط " " " ، بهذا المعنى فإن الاستشراف هو دراسة لحالات احتمالية ، لها شروط ومؤشرات معينة ، تصاغ في بدائل ، على شكل مشاهد مستقبلية مترابطة منطقياً . والدراسة الاستشرافية تستخدم المشاهد في توضيح عملية التطور في ظواهر معينة ، وهذه المشاهد تتضمن عدة افتراضات تحاول أن تحصر عملية التطور تلك .
والاستشراف هنا يختلف عن التنبؤ . ويكمن الاختلاف بينهما في درجة تحديد " حدوث " أي من بدائل المستقبل فكلاهما يتفق في دراسة حدوث بدائل معينة للحاضر الذي نحياه ، ولكنهما يختلفان في درجة تحديد حدوث أي من تلك البدائل . فالدراسة الاستشرافية لا تنتهي بتقرير حدوث أحد البدائل الواردة فيها . فهي تدرس بدائل متعددة " احتمالية " وتقارن بينها ، ولكنها لا تنتهي بتحديد أي منها يمكن أن يحدث أو سوف يقع . فهي في طبيعتها دراسة للاحتمال الممكن حدوثه . وهي في ذلك تسعى لمحاولة التأثير على شكل المستقبل القادم . أما التنبؤ فهو تقرير بحدوث أحد بدائل معينة للمستقبل ، بناء على تتبع مسار متغيرات معينة في الماضي والحاضر ، ورصد تأثيرها على ظاهرة ما في المستقبل ، بحيث ينتهي إلى أن تطور تلك المتغيرات سوف يؤدي إلى حدوث بديــل معين دون غيره " ". والجدير بالذكر هنا أن إحدى مسلمات التحليل الاستشرافي هي أن المستقبل يستطيع أحياناً أن يفاجئنا بأحداث وتطورات لم يدخلها الباحثون في الحسبان . فلا يستطيع أحد اليوم على سبيل التأكيد أن يحدد مثلاً الآثار السياسية والاجتماعية للتحولات التكنولوجية عميقة الأثر التي ستحدث خلال فترة الدراسة . وتزيد أهمية هذا الاعتبار عند البحث في مستقبل دول العالم الثالث ، أو في موضوع العلاقات الدولية ، حيث تتعدد المتغيرات وتتشابك وتتعقد . على أن إدراك ذلك لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى نبذ محاولة استشراف المستقبل ، بقدر مما ينبغي أن يدفعنا إلى فهم حدود معارفنا ، والتواضع فيما نقدمه من نتائج ،والحرص على استنفاد الاحتمالات والتداعيات المحتملة " " .
وفي هذا الإطار يجب أن نذكر أن دقة أو عدم دقة صور المستقبل المرسومة لأي ظاهرة تتوقف على حيثيات عديدة أولها : تتابع النتائج ، وهي التحديد الدقيق للاتجاه الذي سيتخذه تطور الظاهرة مستقبلاً . وهذا يترتب على التحديد الدقيق لواقع الظاهرة في الحاضر والذي يتوقف إتمامه على كيفية تحليل مكونات الظاهرة أو العناصر المشكلة لها ، من حيث طريقة عملها ، والعلاقة التبادلية بينها وبين البنى والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالظاهرة – أي البيئة المحيطة - . وهذه الأخيرة بدورها تتوقف على ما يتوفر لدينا من معلومات كافية حول ما نريد دراسته فذلك من شأنه أن يعطينا القدرة السليمة على التحليل . فكل ظاهرة في المجتمع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية هي محدودة الحركة والفاعلية بحدود التقائها مع الظواهر الأخرى الاقتصادية والاجتماعية ، وبالتالي فان هناك قيوداً معينة تقف أمام تطور الظاهرة في اتجاه معين ، وهذه القيود قد يتعذر تجاوزها في المستقبل المنظور ، وبالتالي لابد في دراسة المستقبل من أن نعي أن هناك حدوداً معينة ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند رسمنا لصور المستقبل " ".
ونستخلص مما سبق أن الدراسة الاستشرافية ليست بالأمر الهين ، فحدودها لا ترسم عند دراسة الماضي والحاضر ، بل تتسع لتشمل " إمكانية استكشاف نوعية وحجم التغيرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمع ما ، حتى يتشكل مستقبله على نحو معين منشود " " " . ولهذا فان للدراسة المستقبلية عدة مناهج وأدوات بحثيه ، وذلك حسب تعدد المستويات والقطاعات التي تدرسها ، فهناك دراسات تهتم بجوانب قطاعية معينة من الظواهر الكلية في إطارها العالمي ، كالدراسات الخاصة بالغذاء أو السكان مثلاً ، وأخرى تهتم بدراسة الظواهر الكلية في علاقاتها الشاملة على المستوى العالمي . فهنا نجد أن المنهج المتبع في هذه الدراسات يتأثر بالمناهج المتبعة عادة في الدراسات الكلية إذا تعلق الأمر بدراسة الظواهر الكلية … وهكذا . كما أن هناك دراسة مستقبلية ذات طابع اقتصادي أو تقني ، وأخرى تهتم بالجوانب الاجتماعية والسياسية . وتتأثر الأولى بالمناهج والأدوات المتبعة في دراسة العلوم البحثية ، بينما تتأثر الثانية بالمناهج المتبعة في دراسة العلوم الإنسانية. وبناءاً على هذا فان الدراسات المستقبلية تتعدد مناهجها وأدواتها . بل أن هذه المناهج والأدوات قد تتعدد حتى في الدراسة الواحدة ، وهذا يفرضه أحياناً الحاجة إلى زيادة درجة الثقة في نتائج التقديرات الخاصة بالمستقبل . ومع هذا يمكن أن نميز بين مجموعتين أساسيتين من الطرق والأدوات البحثية في الدراسات المستقبلية تتفرع عن كل منها أدواتها " ":
المجموعة الأولي : هي الطرق الاستدلالية ، التي ترتكز على الاستنتاج الاحتمالي وتتمثل في جميع عمليات التنبؤ ، وهذه تسمى طرق التنبؤ وأدواتها الأساسية النماذج .
المجموعة الثانية : هي الطرق الحدسية ، وهذه تركز على استخلاص النتائج من عمليات الآثار الذهنية brain storming التي تتمثل في عملية بناء المشاهد "السيناريوهات Scenarios " وتسمى الطرق الحدسية .
ولكل من هاتين الطريقتين مزايا وعيوب ، وكفاءتهما ترتبط إلى حد بعيد بمدى كفاءة أدواتهما ، وبمدى وفرة ودقة وتفصيل المعلومات المستخدمة فيهما . فطريقة التنبؤ ، وأدواتها
النماذج ،لا توفر لنا فهماً واضحاً ودقيقاً لكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية ، إذ أن ما نحتاج إليه من الدراسات المستقبلية ليس توصيف الحالة المتوقعة لتطور الحاضر وحسب ، بل نحتاج لمعرفة تفصيلية أكثر تساعدنا على التخطيط واتخاذ القرارات اللازمة لمواجهة المستقبل ، كمعرفة آثار هذه الحالة المتوقعة وردود أفعالها . وهذا ما تقدمه الطرق الحدسية مثلاً . لكن هذه تفتقر للدقة المطلوبة ، وتعاني من العمومية والشمول .
إن الدراسة الاستشرافية تستند على المشاهد في توضيح ما توصلت إليه مــن نتائج خلال الدراسة ، وترسم فيها صور المستقبل المحتمل وشروط حدوثه . بهذا المعنى فإن المشهد هو من المكونات الأساسية في الدراسة الاستشرافية . والمشهد أو السيناريو Scenario هو طريقة
للتفكير ، تجمع بين أسلوبين من التحليل : الأول هو التحليل التاريخي ، وذلك لمعرفة القوانين المؤثرة في تطور الظاهرة، وتأثيرها في اتجاهات ذلك التطور ، أما الثاني فهو أسلوب التحليل البنائي ، وهذا يساعد في عملية بناء المشهد ، وتوضيح تحول الظاهرة من حالة زمنية معينة إلى حالة أخرى ، كما يوضح طبيعة العلاقة بين متغيرات الظاهرة وتأثيراتها المختلفة ، والعلاقة بين تلك المتغيرات والبيئة المحيطة بها . وبهذا المعنى فإن المشهد هو دراسة لخصائص وأوضاع وحالات ظاهرة ما ، في فترات زمنية مختلفة ، وطبيعة الانتقال بين تلك الحالات والأوضاع " " .
وبهذا المعنى فإن المشهد عبارة عن " تصور ذهني وفكري لمجموعة من الحالات المتوقعة أو الممكنة لمسيرة ظاهرة ما ، وهو ليس تعبيراً عن أهواء مؤلفة ، وإنمــا وصف لمسار محتمل ، بغض النظر عن رغبتنا فيه" " " أي أنه افتراض نرسم فيه صورة معينة توضح لنا المسار الذي ستتخذه ظاهرة ما في المستقبل ، وهذه الافتراضات متباينة في اتجاهاتها .
وتعبر المشاهد عادة عن ثلاثة اتجاهات للمجتمع أو للظاهرة المدروسة ، وهذه الاتجاهات هي الاتجاه الإسقاطي ، وهذا ينطلق من افتراض استمرار الأوضاع الراهنة للظاهرة ، وننبه هنا إلى أن هذا لا يعني أن صورة المستقبل في هذا المشهد ستكون مطابقة تماماً للحاضر ، وإنما يعني أن هناك تغيرات طفيفة قد تحدث ، أو أن الأوضاع الحالية ستتردى أكثر مما هي عليه ، ولكن لن يكون هناك تغيرات جوهرية في شكل الظاهرة . والاتجاه الإصلاحي ينطلق من مفهوم ترشيد أو إصلاح الأوضاع
الراهنة ، فصورة المستقبل التي يرسمها المشهد ، بناءاً على هذا الاتجاه ، تبين أن هناك محاولات تعمل من أجل تغيير توجيه مسار التطور نحو الأفضل . أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه التحويلي ، وصورة المستقبل هنا مختلفة تماماً عن سابقاتها ، إذ تعبر في هذا المشهد عن شكل مختلف ومغاير للظاهرة ، تم بناءاً على تحولات جوهرية ، مست جوانب أساسية في تشكيلها ، كما تعبر عن أنماط جديدة من العلاقات والتفاعلات حدثت نتيجة لعملية التحويل تلك( ) . وفي المشهد توضع الصورة تحت شروط معينة ، وبمعنى آخر فإن المشهد ينطلق من فكرة " ماذا … لو " " " ، حيث يتم سرد الأحداث المفترضة في تعاقب يبين المسببات والآثار ، ويحاول الإجابة على تساؤل : كيف يمكن أن تحدث هذه الحالة الافتراضية ؟ وما هو المستقبل البديل عند كل خطوة ؟ وعند هذه النقطــــة يتم التحويل إلى مشهد آخر لبناء مشهد مستقبلي آخر " " .
أي أن المشهد لا يقوم فقط على الافتراضات التي يطبقها الباحث ، بل أنه يعالج ما يترتب عليها من آثار ، نتيجة التعامل مع المتغيرات المستقبلية الأخرى ، لا سيما المتغيرات الخارجية " " .
من هذا المنطلق ، فإن عدد صور المستقبل يمكن أن يكون لا نهائياً ، ما لم توضع قاعدة ، يتم بموجبها انتقاء عدد محدد ، له دلالة بالنسبة إلى الأوضاع الدولية والنظام الدولي المسيطر على قضايا العالم . ولابد ، عند تقويم البدائل الممكنة ، من فهم شروط كل بديل وآلياته ، ومدى الإرادة والقدرة لدى القوى الفاعلة دولياً ، فإن تحقق أحد هذه البدائل الممكنة سيكون أكثر احتمالاً من الآخر . وكل بديل من البدائل المستقبلية الممكنة ينطوي على ثمن أو تكلفة ، كما ينطوي على نتائج ومردودات . لذلك فإن تحليل هذه البدائل بشروطها وآلياتها وتكلفتها ونتائجها من شأنه توسيع الإطارات المرجعية والأفاق المستقبلية للوضع الدولي .
وهناك عدة خصائص مميزة للمشاهد أو السيناريوهــات المستقبلية تؤثــر في عملية تقويمها وكفاءتها نلخصها في الأتي " " :
1 – أن المشهد ينطلق من الحالة الراهنة للظاهرة ، أي الحالة الأولية ، ثم يتجه لتوضيح العوامل والمتغيرات التي تدخل على هذه الحالة ، وتؤدي إلى تغيرها في المستقبل ، مما يؤدي إلى ظهور شكل حالة جديدة مختلفة ، وهذا الافتراض ، أي استقرار الحالة الأولية ينفي قوانين الحركة ، وهي قوانين موضوعية وأساسية لا بالنسبة للطبيعة وحسب ، ولكن للإنسان والمجتمع أيضاً .
2 – يتم التركيز في بناء المشاهد على توضيح العوامل والمتغيرات المؤثرة في حالات الظاهرة ومسارات الانتقال ، من حالة إلى أخرى ، دون الاهتمام بآليات الانتقال ، أي كيفية حدوث التغيرات والتفاعلات التي أدت إليها ، فذلك من شأنه أن يؤثر في النتائج .
3 – أن معظم المشاهد تتسم بالشمول ، فعلى الرغم من أن محور اهتمامها يكاد يكون المتغيرات الاقتصادية البيئية كمتغير رئيسي ، فإنها استوعبت البيئة أيضاً كمتغير رئيسي ، واتسعت لتشمل الجوانب الاجتماعية و القيمية .
5 – أن عدم اتساق التفاعلات والتداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، الداخلية منها والخارجية ، في عملية تركيب المشهد تؤثر في سلامة بنائـــه ، وبالتالي في توضيح الصورة المستقبلية التي يقدمها .
وللدراسة المستقبلية عدة مزايا :
1 – الدراسة المستقبلية تعالج عدداً كبيراً من المتغيرات والعوامل التي تؤثر على الظاهرة موضوع البحث . مما يتيح لنا معرفة كافية بالظاهرة في كل مراحل تطورها وتأثيراتها ، كما يساعدنا على تحليل العوامل والمؤثرات المحيطة بالظاهرة وتأثيراتها المختلفة في كل مرحلة من مراحل تطورها .
2 – توجه انتباهنا إلى مواقع الضعف أو الخطر في الظاهرة المدروسة والتي تظهر من خلال الدراسة وإعداد المشاهد .
3 – تفيد في الاستعداد والإعداد لما يلزم لمواجهة أي مستجدات أو " متطلبات " المرحلة المستقبلية من الظاهرة .
4 – على الرغم من أن نتائج الدراسة المستقبلية تظل احتمالية ، إلا أن المقصود من هذه الدراسات ليس الكم أو التفصيل ، وإنما الاتجاه أو المسار الذي يمكن أن تتخذه الظاهرة في المستقبل ، والذي توضحه هذه الدراسات المستقبلية ، إذ أن هذه الدراسات تتولى الإجابة عن الاستفسار حول ما هي المسارات المختلفة للتغير التي تفضي إليها الأوضاع الحالية " ".
5 – توفر الدراسة المستقبلية المعلومات الضرورية التي تخدم واضعي البرامج والاستراتيجيات ومتخذي القرار في الدولة ، وهي بهذا المعنى أمر ضروري للمجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء " ".
وعلى الرغم من هذه المزايا للدراسات المستقبليــة إلا أن هناك صعوبات عديدة تكتنفها نجملها في الآتي :
1 – يستخدم الباحث في الدراسات المستقبلية عدة مشاهد افتراضية ، تساعده في الوصول إلى الحالة المستقبلية للظاهرة التي يدرسها . ويسعى الباحث من خلال هذه المشاهد للحصول على نتائج علمية دقيقة لتطور الظاهرة . وهذا يستلزم أحياناً استخدام الأساليب والنماذج الرياضية لقياس بعض الظواهر للوصول إلى أعلى درجة ممكنة من الضبط العلمي . وهنا يواجه الباحث إشكالية صعوبة قياس حركة بعض مكونات أو عناصر الظواهر الاجتماعية " " .
2 – الدراسة المستقبلية تعالج عدداً كبيراً من المتغيرات والعوامل التي يظن الباحث أنها تؤثر على الظاهرة موضوع البحث . وهنا يواجه الباحث صعوبة انتقاء العوامل الأكثر تأثيراً على الظاهرة في المستقبل ، كما يؤدي هذا إلى التركيز على بعض العوامل على اعتبار أنها مهمة ، وإهمال أخرى على اعتبار أنها غير مهمة ، مما قد يؤثر على مصداقية بعض النتائج ، إذا لم تتم معالجة تفاعل تلك العوامل بدقة وموضوعية " " .
3 – إن دراسة المستقبل لا تتم فقط بدراسة الحاضر بكل أوضاعه ومتغيراته وتداخلاته ، بل هي تتصل كذلك بدراسة الماضي بكل عبره ومتغيراته . فاستشراف آفاق المستقبل لا يعني نسيان حلقات الماضي والقفز على معطيات الحاضر . وعليه فمن الضروري العودة لدراسة الماضي . وهذا يتطلب قدراً كبيراً من المعلومات والجهــد . وأحياناً يتيه الباحث في هذا الكم الهائل من المعلومات . كما يصعب عليه تحديد أي هذه المعلومات هو الأكثر تأثيراً في الظاهرة من غيره ، وأي من تلك المتغيرات لا يزال تأثيره فعالاً على الظاهرة في الحاضر .
4 – أن سرعة تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية ، في ظل التقدم التكنولوجي الحالي ، يجعل من الصعب على الباحث " المستقبلي " أن يحقق درجة عالية من الدقة حول مستقبل الظاهرة المدروسة " " .
5 – أن استشراف أي وضع قائم في المجتمع " اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي ، يتطلب الإلمام بجملة المتغيرات والتشابكات والتفاعلات الخاصة بعملية الاستشراف ، بين ذلك الوضع القائم المقصود استشراف مستقبله ، وبين الأوضاع القائمة الأخرى . وهذا من بين الأمور الشاقة التي يواجهها الباحث عند قيامه بالدراسة الاستشرافية ، فكما أن أي استشراف للمستقبل ينطلق من تشخيص الواقع ، فإن نقطة البداية الطبيعية تتمثل في تحديد سمات المرحلة الراهنة " " .
وفى الوقت الحاضر مااحوجنا نحن العرب فى مؤسساتنا العلمية، وفى مراكز صنع القرار، ان نستخدم هذا المنهج فى دراساتنا وابحاثنا، حتى نستطيع ان نحدد مساراتنا واتجهاتنا، وحتى نتقى قدر ما نستطيع سلبيات مانتعرض اليه فى حاضرنا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس