الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ.

محمد كشكار

2010 / 3 / 26
التربية والتعليم والبحث العلمي


المواطن العالمي د.
تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ
تتجاذب التفكير العلمي الآن مقاربتان: المقاربة التحليلية(Approche analytique) و المقاربة الشاملة
(Approche systémique).
يقارن "جوآل دي روسناي" المقاربتين في كتابه "الرؤيا الشاملة" (Le Macroscope) صفحة 119 :
1. المقاربة التحليلية:
- تعزل: تركز على العناصر.
- تعتمد على الدقة في التفاصيل.
- تبدل متغير واحد في الوقت نفسه.
- مقاربة ناجعة عندما تكون التفاعلات خطية و ضعيفة.
- تؤدي إلى التعليم التقليدي يعني كل مادة على حده.
2. المقاربة الشاملة:
- تربط و تركز على التفاعلات بين العناصر.
- تعتمد على الإدراك الشامل للمسألة.
- تبدل مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت.
- مقاربة ناجعة عندما تكون التفاعلات غير خطية و قوية.
- تؤدي إلى التعليم الحديث عبر تعّلمات المواد المشتركة.
تكمن نجاعة المقاربة التحليلية السببية الخطية في بساطتها و سهولة استعمالها فهي مريحة و مطمئنة للإنسان لأنها ترسم علاقة خطية مباشرة بين السبب والنتيجة, مثلا: المرض نتيجة الجراثيم (قد يكون نتيجة دواء مثل مضادات الالتهاب) و السمنة نتيجة كثرة الأكل (قد تكون نتيجة قلة الحركة) والسلوكيات نتيجة الجينات (قد تكون نتيجة التفاعل بين الجينات و المحيط).
رغم بساطتها أسهمت هذه المقاربة في تطور العلوم التجريبية كعلم الجراثيم و علم الوراثة لكنها أصبحت الآن عاجزة بمفردها عن تفسير بعض الظواهر المعقدة بل أصبحت عائقا في وجه التعلم لأنها تختزل العلاقة في سبب و نتيجة و تنسى أو تتناسى العلاقة الجدلية بينهما : مثلا المخ يؤثّر في السّلوك و السلوك يؤثّر في المخ, و المعلم يعلم التلميذ و يتعلم منه, و الإنسان يلوث المحيط و المحيط الملوث يضر بصحة الإنسان, الخ.
يعتمد بعض مدرسي البيولوجيا في تدريسهم لعلم الوراثة على المقاربة التحليلية السببية الخطية فقط. و في هذه الحالة تؤدي المقاربة الخطية إلى الحتمية الوراثية التي تؤكد أن كل جينة تحدد مسبقا صفة ما. و نحن نعرف أن الكائنات الحية معقدة بطبيعتها و كل عناصرها الداخلية و الخارجية متفاعلة فيما بينها. فهل يمكن أن يكون تدريسها مبسطا ؟ اذا كان هذا التبسيط من أجل الضرورة البيداغوجية فالنتيجة عكسية لأن المعلومة غير العلمية ترسخ في ذهن التلميذ أكثر من المعلومة العلمية و يصعب تصحيحها في ما بعد كما ذكرت في مقالي السابق "التصورات الخاطئة لا تزول بسهولة" المنشور بجريدة الشعب التونسية بتاريخ 17/12/05صفحة 23.
عندما يعتمد المدرس المقاربة التحليلية الخطية يجد نفسه مجبرا على تبسيط الشبكات المعقدة : نأخذ مثلا علاقة الجينات بالصفات, صحيح أن لون العينين و فصيلة الدم صفتان محددتان مسبقا تماما بالوراثة وصحيح أيضا أن كثيرا من صفاتنا الشكلية كلون البشرة و السمنة و غيرها مكتوبة بصفة رمزية في الجينات لكن يجب علينا أن لا ننسى دور المحيط في تشكيل هذه الصفات فالأسمر تزيد سمرته أو تنقص حسب بيئتة و السمنة مرتبطة بالحمية و الحركة. لا يكمن المشكل في تحديد الصفات الجسمية الدنيا بل يتمثل في تعميم هذه الحتمية على القدرات الذهنية فتصبح أفعال المرء وسلوكياته الاجتماعية نتيجة عوامل وراثية لا سلطة للمرء عليها مثلما يحاول بعض العلماء إيهامنا بأنهم اكتشفوا جينة إدمان الكحول و جينة الشذوذ الجنسي و جينة العنف و جينة الذكاء وحتى جينة الأيمان بالله (مجلة الحياة و العلم [ Science & Vie ] عدد 1055 أوت 2005 ).
و قد أنتجت هذه المقاربة الخطية في علم الوراثة براديقم [ paradigme] "الكل الوراثي" (paradigme du tout génétique) الذي هيمن على التفكير عشرات السنين لكن المنظّر في البيولوجيا "هنري اتلان" تنبأ بانهياره في كتابه "نهاية الكل الوراثي ؟ نحو براديقمات جديدة في البيولوجيا" الصادر في باريس سنة 1998.
تكمن غير علمية هذا النسق في التفكير [ paradigme] "الكل وراثي" في تاليه الجينات و التسليم بنتائجها, فالذكاء و الصحة هبة منها و المرض و العنف قدر مسلط منها. قد ينتج عن هذا النسق عديد المواقف غير العلمية, فيصبح العنف والمرض و الذكاء وراثيا و ليس مكتسبا من التفاعل الاجتماعي. يبدو أن هذا البراديقم العلمي ليس حياديا لأنه يغلّب في تفسيره للصفات الإنسانية الجانب الو راثي على الجانب المكتسب. الاعتماد على هذا البراديقم لتفسير أسباب المشاكل الاجتماعية كالعنف و الفشل الدراسي و تعاطي المخدرات يؤدي إلى الاقتصار على العوامل الو راثية فقط و إهمال العوامل الاجتماعية المكتسبة.
خلاصة القول : تدريس البيولوجيا يتمثل في تفسير الظواهر الطبيعية المعقدة و التركيز على التفاعلات التي تقع بين عناصرها المتعددة لذلك يحتاج المدرس إلى الاستعانة بالمقاربتين, التحليلية و الشاملة, لأن كل واحدة منها تكمل الأخرى.
التفاعل و التعقيد(interaction et complexité) مفهومان مهمان في العلم يكملان مفهومي الخطية و التبسيط (linéarité et simplification) و يؤسسان لبراديقم علمي جديد. هذان المفهومان الجديدان قد لا يسهلان فك رموز مسألة علمية ما بل بالعكس يعقدانها لكن في نفس الوقت يضعانها على الطريق السليم للوصول للحل العلمي. خذ مثلا الذكاء, فهو" وراثي % 100 و مكتسب% 100 " حسب المقولة الشهيرة لعالم الوراثة "ألبار جاكار". نرث عن والدينا مخا بشريا يتكون تقريبا من 10 مليار خلية عصبية. داخل كل خلية تقع مليارات من التفاعلات الكيميائية. الخلية ليست بمعزل عن محيطها فهي تتبادل معه مليارات من العناصر الكيميائية المتغيرة باستمرار. كل خلية قادرة على ربط 10 آلاف وصلة عصبية مع مثيلاتها. نكتسب من خلال تفاعلنا مع المحيط و حسب تجربتنا الشخصية, مليون مليار وصلة عصبية تبنيها أو تعيد بناءها خلايانا المخية بعد الولادة. مع العلم أن عدد الجينات عند الإنسان حسب آخر إحصاء سنة 2001 لا يفوق 30 ألف جينة. نسبة % 98,9 منها مكررة أو صامتة أي لا دور معروف لها و نسبة 1,1 % فقط صالحة لصنع البروتينات. نصل إلى الاستنتاج التالي: النموذج التحليلي السائد « جينة واحدة تحدد بروتينة واحدة" لم يعد قادرا وحده على تفسير وجود عشرات الآلاف من البروتينات و مليارات الوصلات العصبية.
و أختم هدا المقال بطرح الإشكالية التالية: كيف ندرج المقاربة الشاملة في كل مستويات التعليم التونسي حتي لا تطغى المقاربة التحليلية وحدها على التفكير العلمي ؟
في النهاية, أنا لا أقصد إقناعكم بالأمثلة و البراهين بل أ دعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى. و على كل مقال سيئ نرد بمقال جيد لا بالعنف, لا اللفظي و لا المادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة