الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا نعتقد ؟ .. الإيديولوجيا من منظور عصبي

وليد مهدي

2010 / 4 / 30
ملف بمناسبة 1 أيار 2010 - المعوقات والتحديات التي تواجهها الحركة العمالية والنقابية في العالم العربي


فــي ذكرى الأول من آيار .. يوم الكادحين الأحرار ، .. سنجيب السؤآل بعد عرض ِ طويل :

لماذا نعتقد .. ؟

لأن مخنا ينمو ، ويبحث عن " مسارات " تساعده في بقاءه و تحفيز نموه في الوقت نفسه !
لأننا بشر ٌ نمتلك في جوهرنا " روح " التناقض الهيجلي .. بين العاطفة المسيرة والعقلانية المخيرة ، بين العاطفة الرقراقة ِ الشاعرية وبين " العقلانية " الجافية العلمية .. !

نحن نعتقد .. كي نبقى بشراً محتفظين بأهم معالم ِ " الرحمة ِ " في إنسانيتنا ..

المجد .. والخلود لراية الإنسانية الحمراء ، ومبارك ٌ للكادحين عيدهم في هذا العام ..
وكل ُ عام ٍ وأنتم بألفِ ألف ِ خير ..

مدخل و توطئة ..

تمتلئُ صفحات ِ آلاف ٍ مؤلفة ٍ من الكتب ، كثير ٌ منها في هذه الشبكة العنكبوتية ، بكل شيء ، بالأسماء ، العناوين ، الصور و الأفلام ، المخططات والمدونات ، البحوث والمقالات ، الكتب والصحف ... ووو .. الكثير ...... وكلها تحكي قصة ً واحدة :

أنشطة الدماغ البشري .. في فضاء " المعرفة المكتوبة " الافتراضي .. !

كل ُ كلمة ٍ مكتوبة في هذه الكتب ، تحكي ضمن سياق تسلسلات تموضعها في الفضاء الافتراضي المعرفي - الرقمي قصة َ مسيرة التطور والتقدم العقلي الإنساني ..

هذا التقدم في حقيقته يرزح فوق بحر ٍ عميق من تفاعلات " الأيديولوجيا " التي تتزاحم كلماتها بتعريفات تكاد أن تكون لا نهائية لمفاهيم العقيدة والمعتقد على صعيد الدين والثقافة و السياسة بمختلف تناقضاتها ..

تزاحمات ٌ تثير في شكلها النهائي التكاملي صورة كلية للفكر الجمعي في هذا الفضاء الافتراضي ، ما يجعلها بمثابة غابة كثيرة التعقيد والتشابك بشكل يتزايد مع مرور الوقت ..

فما هي الأيديولوجيا من زاوية عصبية ؟

كيف يمكن لأدمغتنا أن تعتقد ؟

ولماذا تتخذ هذا المسار دون ذاك ؟

لماذا لا يمكننا أن نصف أنفسنا إلا " دينيين " أو " لا دينيين " ؟

لماذا يكون هناك بيننا يساريون يؤمنون بقدر الاشتراكية وليبراليون يعتنقون خيار الحرية المظللة بالرأسمالية ؟

الدماغ والعقيدة

اعتماداً على الرؤية المعاصرة في علم الأعصاب بوجود نوعين من العقل :

العقل الانفعالي العاطفي Emotional Mind ومراكزه ساق المخ Brain Stem و باقي الجهاز الحوفي Limbic system في الدماغ .. ويعتبر نصف كرة المخ الأيمن مفتاح السيطرة عليه ..

العقل المنطقي الموضوعي Logical Mind .. وتمثل قشرة المخ الخارجية Neocortex الأكثر جدة ً في ظهورها بسلم التطور هي مراكز عملياته .. والنصف الأيسر من كرة المخ هو المسيطر عليه ..

وانطلاقاً من تسمية " العاطفة " بأنها " عقل " أو نوع آخر من العقلانية المخالفة للعقلانية الموضوعية الفكرية كما يتجه في ذلك العديد من علماء الأعصاب المعاصرين ومنهم " دانييل جولمان " كما وصفها في كتابه " العقل الإنفعالي "، كونها تؤمن بالحتمية لا بالاحتمالية ، فإننا سوف نصف الأيديولوجيا كذلك ..

أيديولوجيا عاطفية دوغمائية التبني من قبل معتنقيها ..
أيديولوجيا موضوعية انتقائية التبني من قبل المؤمنين بها ..

فالعقيدة , أو الأيديولوجيا ، تنطلق من هذين العقلين ، ولا يعني أن العقيدة بحد ذاتها ذات مبنى ً فكري نابع من " الدوغما " أو " العقلانية " وإنما طريقة تبنيها و انعكاساتها العملياتية الذهنية في عقول الأفراد تظهر ميلاً نحو جانب من جوانب " العقل " المذكورة ِ آنفا ً ..

وبالفعل ، وإذا ما تفحصنا العقائد التي يعتنقها اغلب البشر حول العالم ، فسنجدها مستندة إما على :

الانفعال العاطفي

والذي عادة ً ما يتدرج بدرجات بين الاعتدال " الوسطي " والمتطرف الراديكالي فيكون ثورياً تقدمياً في ذروة فوران " انفعالاته " مثل " اليسار الثوري " و " الإسلام الراديكالي " .. و الذي عرفناه في مقالاتنا السابقة بأنه " عقل الحتمية Determinism Mind " .. والذي عادة ما يعتنق إيديولوجيا تحمل في صبغتها فكرة " الخلاص Salvation " والتي تتمثل بفكرة المدينة الفاضلة ، أو المجتمع الإسلامي المثالي ، أو المجتمع الشيوعي ..

هذه الصبغة العامة عادة ما ترتكز حول محورية " الفرد المطلق " وهو ما يتمظهر غالباً بمفهوم " المنقذ المختار Chooser " مثل المسيح المخلــص ، داود المنقذ ، المهدي المنتظر ... أو حتى مـــاركس و جيفارا في تحولات رمزية لا تختلف كثيراً عن فكرة الفرد المطلق .. !

أو نجد مباني العقيدة في عقول الأفراد مستندة على :

الخيار العقلاني

فعادة ً ما نجدها في المعسكر الآخر من الكوكب ، والنصف الآخر من الدماغ ، مستندة على " التعددية " و " الحرية " و " الديمقراطية السياسية " .. والذي أسميناه بأنه " عقل الاحتمالية Probability Mind " ، وعادة ما تكون الإيديولوجيا فيه منضوية تحت مظلة مفهوم " الليبرالية Liberation " الشامل ..

هذين القطبين المتأصلين في " المخ " البشري للفرد ينتجان الوعي Conscious كحالة توحيد ، كذلك هما يشكلان قطبي " الوعي الجمعي " لعموم المجتمع الإنساني ، ولهذا السبب نجد حركات يسارية " معتدلة " تؤمن بالوصول للسلطة عبر صناديق الاقتراع ، أي تجمع بين الاحتمالية والحتمية ، كحالة " وعي موحد " بين قطبين التناقض في العقل المتطابق مع الفكرة الهيجلية حول أصالة التناقض في كل منظومات الطبيعة ، مثالها الأحزاب اليسارية في أوربا اليوم ..

وكذلك وجود حركات إسلاموية معتدلة ، إذ ظهر وعلى حين ِ غـَّـرة ٍ من غفلة ِ الزمان ما بات َ يسمى بــ " الإسلام الليبرالي .. ! " ..

فيما نجد النقيض في المعسكر الليبرالي الغربي ، ففكر المحافظين الجدد وعلى الرغم من استناده الظاهري على الليبرالية ، لكنه مشحون بالإيديولوجيا الانفعالية التي عادة ما يتم ترميزها بــ " المتطرفة " .. وهي أيضاً حالة واعية من " التوحيد " بين مركبات الوعي ..

فالوعي ، محصلة بين هذين المكونين للعقل ، وفكر المحافظين الجدد يميل نحو الانفعالية في السياسات " الخارجية " فقط ، ولا غرابة أن يلجا هؤلاء المحافظون إلى الاحتيال على السياسة الداخلية الليبرالية الصرفة بصناعة " الإرهاب " لتحريك المشاعر و تأجيجها و تجييشها على المعسكر الشرقي في حقبة الحرب الباردة سابقاً و على العالم الإسلامي في الوقت الذي تلا هجمات سبتمبر وحتى يومنا هذا في عهد اوبامــا ( مع إنه ديمقراطي ) ..

توضيح بمنظور عصبي

عندما يسمع أي ُ إنسان ، في شرقنا العتيق أو في الغرب المتحضر ِ، كلمة " دين " أو " عقيدة " تحل على مشاعره فجأة ً و بإنسلال ٍ خفي يداعب الوجدان أرديــة ًَ ملونة ً من الإجلال والخشوع.. !

لماذا يحتل " الاعتقاد " هذه المكانة ِ في عقولنا وضمائرنا ..؟
ومـــا هو المعتقد بمعيار علمي موضوعي ..؟

المعتقد، والدين كمفهوم أكثر شمولاً من الاعتقاد ، و في ظاهر تعريفه الاجتماعي الشعبي ، هو المنهج " الحق " الذي " يجب " على البشر إتـّباع قواعده وتعاليمه وطقوسه لتكون هذه الحياة َ أفضل ، لنكون َ بشراً سعداء َ أكثــر ..
الدين ، وبتعريفه اللاهوتي الفلسفي الأعمق في سفــر الوعي الجمعي الإنساني ، هو عقيدة ٌ إلهيــة المصدر .. تهدف ُ إلى تنظيم شؤون بني البشـــر ..!

لكنه ، وفي خفــي أسرار ِ كنهه ِ المعرفيــة ِ العلميـــة ِ ، وكما قدمنا لهــا في مقالنا السابق " العقل آلة بناء الحضارة " ، هو طريق ٌ يتعالى بــه البشــر ُ عن ميولهم و أهوائهم خدمة ً للصالح العام ، عن طريق وسيلة مفاهيمية بالغة القدم : الترغيب والترهيب ..

الابتعاد عن الرغبـــة و الاقتراب من فعل ما نكرهه خوفاً من عقاب ٍ وطمعاً في ثواب .. !
فالدين ، كعقيدة تحملها العقول ُ والنفوس ، يحتمل التناقض كونه ِ في غايته الأساس وجد لخدمة الصالح العام ، شأنه شأن الدولة ، لكنه يعتمد أسلوب الترغيب والترهيب الذي تنتهجه دولة القانون ِ والنظام ُِ أيضاً .. ولكن .. عبــر إطار " الفضاء – زمن " ، هذا المتصل رباعي الأبعاد الذي كشفته لنــا النظريــة النسبيــة ِ العامـــة ..!

فالدين لم يسبق ظهور الدولة فيما يبدو ، فالدولة تنفذ الأحكام ، والعقاب على وجه الخصوص آنياً ، ضمن إطار اللحظة التي تستشعرها الحواس ، و نادراً ما تثيب الدولة ُ مواطنيها ، مــع ذلك ، الدين يعد البشــر بعقاب ٍ خارج الفضاء – زمن ، وبثواب ٍ خارج منظومة الأبعاد الرباعية تلك ، المنظومة التي تتجاوز اللحظة الحسية في الدماغ ..!؟

الدين ُ إذن ، ينطلق ُ من قاعدة " الغرائز " المتجذرة في قاعدة الدماغ Brain Stem، لكنه ينتهي في الأجزاء الحركية التوقيتية المدركة للأبعاد الأربعة ..؟!

فهو كانفعال يبدأ من مثيرات الإنفعال الحسية مروراً بالنتوء اللوزي Amygdale ، الذي يمثل الخبرة الانفعالية العاطفية في الحيوانات ، لكنه في الإنسان تطور ليشمل أيضا ً الفصوص الأمامية مشكلاً دائرة جديدة معقدة تربط مقدمة الجبهة الدماغية مع لوزتي المخ و الأجزاء الحركية لتشكل بكليتها " صورة ذهنية Imaging " لفضاء افتراضي خيالي لدى البشر في الأجزاء القفوية البصرية من الدماغ ، وربما هو ما يميزهم عن الحيوانات من اللبائن الأخرى .. ولهذا السبب ، تلعب " الرؤيا " و " الأحلام " الدور الأساس الأبرز في الدين كونها تتشكل في النهاية في الأجزاء البصرية دون أن يكون مصدرها حاسة البصر كما يحصل عادة ً في نشاط هذه الأجزاء .. !

جميع ُ هذه العمليات الدماغية ، التي تجعل من نفوس المتدينين الطامعة ُ بالثواب والخائفة ُ من عقاب تجري عملياتها في عموم الدماغ ، لكن مراكز التحكم بها تقع في جـُـلها بنصف ِ كرة المخ اليمنى ، الجانب العاطفي – الغريزي من منظومة العقل .. مع وجود تنظيم ٍ لهذه العمليات يقع في خارج الدماغ فيما يعرف بالمخيخ Cerebellum .. وبالتالي فعمليات الدماغ " كلانية Holism " تجري بشكل " تشبيك " معقد من العمليات ذات المعالجات المتوازية Parallel Processing كما تعرف في علم الأعصاب والذكاء الصنعي ..

إنها عمليات طبيعية في الفقريات ومنها الرئيسيات Primates و اللبائن Mammalians التي ننتمي إليها في سلم الكائنات حسب التصنيف البيولوجي ، فالحيوانات تخشى النار .. وتنجذب للطعام والروائح والشريك الجنسي ..

توضيح بمنظور إدراكي – سيكولوجي

الدين ، والمعتقد بصورة عامة ، تمتلك نفس الجذور في الفكر ، وقد تكون الجذور الفكرية للدين " عقلانية لا انفعالية " ، وقد تكون النزعة اللادينية هي تأصيل ٍ عاطفي لدى فرد ٍ من الأفراد ..!!

فالمأخوذ على الدين بأنه ُ ، وكما يقوم بتشريحــه ِ العَـلـْـمانيون ، ينطلق ُ من هذه الغرائز ، لكن ما يخفى على الكثير من عـَلمانيينا " اللاعلميين " هو أن الدين لا ينتهي بذلك .. بل يتجاوز بقفزة ٍ نوعيــة نحو " الإدراك رباعي الأبعاد Four Dimensions Cognition" ، ولهذا تترافق التنبؤآت و الباراسايكولوجي بصورة عامة دائما مع العقائد ذات المد الإنفعالي القوي ، مثل ديانات الشرق القديمة ، وكذلك .. الماركسية .. !

فالاتحاد السوفييتي ، رغم الإطار الإلحادي الذي تبناه ، لكنه درس الباراسايكولوجي كعلم تقني وقد سمي هناك بالسايكوترونك Psychotronic .. أي التقانة النفسيـــة .. فيما أثبتت وقائع التأريخ في ظل الحرب الباردة أن الغرب ( المسيحي ) لم يولي دراسة هذه الظواهر العناية اللازمة مثل السوفييت !

و السؤآل هـو :

ما علاقة الإيديولوجيا بالعلم في مثال " الإلحاد " الذي سار بمسار " الحتمية " في الإتحاد السوفييتي السابق ..؟؟

ما يجري في هذا المثال بالضبط هو " الحقل الموحد للوعي " بين الحتمية والاحتمالية في تداخل فرضته نمطية العقيدة وخلفيتها الثقافية في الواقع الجيو – سياسي الذي كان يهيمن على فكر اليسار " الأحمر " ، واللون الأحمر اقرب الألوان للانفعال النفسي في عملية الإدراك والتذكر ، ما قد يجعله ، في حقل توحده هذا فوق مستوى عقيدة حداثوية ذات جذور عمليات عاطفية – غريزية في المخ .. تتمظهر في سلوك معتنقها الظاهري بان دوافعها عقلانية ، بمفهوم العقلانية الفضفاض الغامض في ثقافتنا ..

الفرق الإدراكي بين دماغنا واقرب الثدييات

بفضل التداخل بين عمل لوزتي المخ Amygdala وباقي الأجزاء المسيطرة على العمليات الانفعالية العاطفية الهورمونية مثل قرين آمون Hippocampus والفصوص الجبهية من الدماغ ، تنشأ المنظومة " الخلاّقــة " للصور ، الخيال .. إدراك الزمان والمكان ، والتي من المرجح أن تكون متمركزة في الفص الأيمن ، والتي تتداخل في عملها مع الجانب الموضوعي الأيسر " اللغوي – التفسيري " منتجة " الفكر Thought " ، شدة هذا التداخل ، والتناغم ، والتنسيق ، هي التي ميزت مخ بني البشر عن باقي اللبائن .. بما نسميه " الوعي بالذات " ، فعلماء الأعصاب يرجحون بان هناك كائنات كثيرة تمتلك وعياً دماغياً ولو بالمستوى البسيط ، ولها قابليات إدراكية متنوعة كما أثبتت ذلك التجارب ، لكنها لا تعيي " نفسها " ..

فالجنس البشري يتميز بمنظومة إدراكية – فكرية أكثر ُ تعقيداً وتداخلاً .. تجعله يدرك الأشياء حوله .. مثلما تفعل اللبائن الأخرى ، لكنه أيضاً .. يدرك بأنه " هو " المدرك كما يذكر هذا " جي . أف . دونسونيل " في كتابه " علم النفس الفلسفي " ..

فالنار التي يخشاها البشــر حسب الموروث الديني ليست هي النار التي تخشاها الحيوانات ، فالحيوانات تخشى النار وفق إشارة مستلماتها الحسية البصرية والجلدية الحرارية .. كذلك البشر ، لديهم خشية " حسية " من النار ..

إلا إنهم ، والمتدينين خصوصاً ، يخشون ترميزاً " تصورياً " لها باعتبار أنهم سيواجهونها فيما بعد حياتهم ، بسبب تكون الفضاء الافتراضي في الوعي بفعل الدائرة المعقدة تلك ( مولدة الخيال ) خارج إطار الزمان والمكــان المتداخلـــة مع منظومة الترميز Encoding في الفص الأيسر ، كذلك هو الثواب ُ الذي تطمع به ميولهم وغرائزهم ، هو واقع ٌ افتراضي .. سيكون ُ فيما بعد أن ينتهي التأريخ .. !

لاحظ أن هذا " المسار الاُخروي " موجود ٌ في اغلب العقائد الدينية والسياسية :

اليوم الآخر ( يوم ُ الحساب ) في العقائد الدينية القديمة ..
نهاية التطور الاجتماعي بظهور المجتمع الشيوعي على أنقاض الرأسمالية
نهايـــة " التاريخ " ... والإنسان " الأخير " في فكر المحافظين الجدد في أميركا !

إن من يدرس " نمذجة " العمليات العصبية في الدماغ البشري ، يدرك بأن المنحى الذي تتخذه فكرة " الحدث الأخير" ما هي إلا " إقفال " للمسار الإدراكي التصوري – الما بعدي في العقل البشري ، أي الهيكل رباعي الأبعاد ، الزمكاني Space- time في العقل الإنساني .. !

فالنمو المعرفي الإدراكي المتساوق مع تطور المخ البشري جعل " الوعي " يعيش في هاجس معرفة البداية والنهاية ..!

أهم ما يميز الوعي الإدراكي رباعي الأبعاد هو " التوق " إلى معرفة البداية والنهاية ، فلا يمكن لخيال بشري جامح أن يعيش دون أن " يتصور " نهاية ، لكن أي نهاية .. ؟

أو يرى في امتداده التاريخي بداية .. ولكن أي بداية ؟

البداية والنهاية لابد أن تكون " متوافقة " مع محتواه الثقافي ، لهذا السبب ، بدء خلق الإنسان في الشرق من " طين " بما يتناسب وفجر الحضارة " الفخاري " ...

كذلك النهاية ، الجنة .. والجحيم .. والملك " الرب " و الملكوت ، ما هي إلا نماذج متوافقة مع المكون الثقافي لطبيعة أنظمة الحكم السياسي للأمم التي " اعتقدت " بهذه "الأطراف" في خيط المسار الزمني لعمر الحضارة البشرية في الهيكل الإدراكي رباعي الأبعاد للمخ ..!!

العقيدة ُُ إذن ، بغض النظر فيما إذا كان خيالها الافتراضي الذهني حقيقي وله وجود فعلي أم مجرد أوهام جمعية ، فبالإضافة إلى أنها تلعب ُ دوراً خفياً في تطوير القابليات الإدراكية رباعية الأبعاد في الدماغ البشري ، إنما تمثل " إشباعاً " لرغبة داخلية تحاول إقفال مسار الزمن بدايته ونهايته في الهيكل الافتراضي رباعي الأبعاد للعقل لدى الفرد الواحد .. !

فبدون العقيدة .. تبقى مسارات التصور رباعية الأبعاد مفتوحة ، وفي النيوروبيولوجيا يعني " الفراغ " في النشاط النفسي بمقابل " امتلاء " في النشاط العصبي حالة اختلال وارباك في بنية العقل الإنساني ..!

بل إن ظهور قابليات إدراك الزمان والمكان " الافتراضية " وتوقيت التسارع بين الأجسام المتحركة في المحيط كان من الطبيعي أن ينتهي تطورها في المنظومة العصبية ِ بظهور العقيدة كواقع ٍ افتراضي " ذهني " يتشارك به مجموعة ٌ من البشر في أمــة ٍ من الأمم في غاية ٍ قبل أن تهدف إلى إعادة بلورة وتنظيم الواقع الحقيقي الفعلي ثلاثي الأبعاد كما تفعل الدولة .. فهي أساساً " تلبية " لرغبة يسوقها النشاط المابعدي ( الزمكاني ) للمخ البشري .

ألا تشكل شبكة ُ الإنترنت واقعاً افتراضياً يساعد ُ كثيراً في تنمية العقل ِ والمخ وملئ الفراغ " العقائدي " الطامح لمعرفة حقيقة البداية والنهاية و المستقبل لحياة الفرد وتصنيف الماضي بالنسبة له بنظر المجتمع ، المقيـِّـم الحقيقي الذي يعتد به أي فرد .. ؟

أو ليست العقيدة ُ صاحبة الفضل الأكبـر في تنمية " الخيال " لدى الفرد البشري ..؟؟

هل سيكون هناك اليوم َ فــن ٌ في عالمنا ما لم تكن في حياتنا يوماً الأساطير .. ؟؟

هل كانت الحضارة ستتلطف ُ بالأدب لو لم تكن هناك " شاعرية " إنسيابية ٌ تسوقها الحتمية المتجذرة في نمذجة عمليات الدماغ الإنفعالي العاطفي ؟

هل يمكننا قيادة سيارة ٍ أو طائرة ٍ ما لم تكن لدينا " ملكة " خيال تقديري لأبعاد الزمان والمكان مجتمعة كما تصفها النسبية ..؟؟

قد لا يبدو هناك أي ارتباط بين العقيدة والرؤية رباعية الأبعاد ، لكن مراجعة تاريخ العقائد و الدين ونشؤه يحتم علينا هذا الترابط ، فالدين بدأ كسلطة كونية للعقاب والثواب الدنيوي قبل أن يمتد إلى البعد الأخروي ما وراء الزمني .. على الأقل هذا ما عرفناه لدى السومريين ، الذي كانوا يؤمنون بالدين طمعاً بالثواب الدنيوي وخوفاً من العقاب الدنيوي ..

الدين السومري بين النهرين ، كان دين العقاب بعد يوم ٍ أو يومين أو سنة ٍ من ارتكاب الخطيئة ..

لم تكن الشريعة واعدة بحياة ٍ بعد الموت يستوي فيها الميزان ، الثواب والعقاب قد يكون اليوم أو غدا من قبل الآلهــة .. !

لم تتحقق القفزة الكبرى في تاريخ الدين إلا لدى قدامى المصريين .. الذين رأوا في " الآخرة " خلاص الإنسانية ، قبل الخلاص " الافلاطوني " في " الجمهورية " أو الخلاص الماركسي في المجتمع الشيوعي أو الخلاص النيو - ليبرالي في مجتمع الحريات المطلقة التي تنظم نفسها بنفسها ..!
مشكلة العَـلمانيين هي تفسيرهم للإيديولوجيا من منطلقات " التتابع " الزمني التاريخي لمسار تطور الفكر الإنساني دون الإلتفات إلى حقيقة " نمذجة " العمليات الدماغية المتذبذبة بين الانفعال والرؤية الحتمية و الفكر المتأني ذو الرؤية الإحتمالية التاملية الانتقائية .

فهذا التذبذب يعني إن تطور الفكر لا يسير بطريقة " تصاعدية " وإنما دائرية متقدمة مثل عجلة سيارة فوق طريق ٍ معبدة .. !

هناك ميول متجذرة في " نمط " الاستخدام للمخ إما بميول شديدة نحو العاطفية أو نحو العقلانية ، والفكر الصحيح " الطبيعي " هو المتناغم المتسق بين الإثنين ..

إن متابعة مسار تطور الدين من الأقوام البدائية جداً قبل الحضارة فالسومريين فالمصريين .. وصولاً إلى ديانات التوحيد التي نفهمها بوضوح اليوم مجتمعة على هدف " الآخرة " وأخيراً العقيدة " الماركسية " في مفهوم " الخلاص " الذي نادت به في قيام المجتمع الشيوعي المثالي ، نجد بان العقيدة ، أية عقيدة ، مجرد " إفراز excretion " موضوعي لتطور البنية العصبية الدماغية الإدراكية للمفهوم الكلي الجامع الذي نسميه العقل Mind .. ولكن .. العقل في مستواه الإدراكي الإنفعالي الذي وصفه جولمان في كتابه " العقل الإنفعالي ".. وليس العقل الجوهري الذاكروي الأساسي تحت كمي الذي رجح وجوده روجر بنروز كما درسنا سابقاً ..

و الأبحاث المعاصرة التي تحاول الكشف عن " موقع " للعقيدة في البنية العصبية الدماغية التي تجري في الغرب اليوم دليلٌ بيـّن ٌ على أن " المعتقد belief " يعطي إشارات ٍ ودلائل لعلماء الأعصاب بأنه يكاد أن يكون متجذراً في البنية العصبية الدماغية ، وعبر العرض الذي قدمناه في البحوث السابقة ، يتبين لنا موقعه في هيكل " العقل " العام ..

فالأسباب التي تمنعهم من كشف مكانه في تكوين المادة السنجابية للدماغ هو إنه يتواجد بشكل " منظومي " كلاني ، كيان ديناميكي رباعي الأبعاد ، وليس جهازاً مادياً ثلاثي الأبعاد ، و الأبحاث في هذا الطريق من العلوم العصبية عرف بالنظرية الهولوغرامية للدماغ ، و " كارل بريبرام " من أهم روادها ..

العقيدة تحتل موقع " العقل الحتمي Determinism Mind " ، العقل الذي لا يؤمن بالخيارات المتاحة كثيراً ، العقل الذي لديه تصور كامل عن البداية والنهاية في هيكل إدراكي افتراضي ما بعدي ، وبالتالي فإنها هي " فكر الحتمية Determinism Thought " الذي تصادم مع فكر الاحتمالية الغربي المعاصر الذي ناقشناه في :

( العقل والحرية ) .. والذي يكون مفتوح " خيارات " البداية والنهاية .. وربما هو أساس النظرة الإلحادية اللادينية لدى بعض البشر التي تتوافق مع " الأفق " المفتوح للسلوك الفردي و التاريخ ( كسلوك جمعي ) ..!

ونضيف على ذلك :

المادية التاريخية لماركس هي أُم الحتميات من حيث مبانيها الفلسفية – المعرفية على مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي عبر الزمن ، وقد تمكنت الماركسية من احتلال موقع الدين الذي حاربته ، الدين المنادي بالحتمية ، لتستبدل حتميته الأخروية اللاهوتية بالحتمية البشرية ودولة الرفاه الكبرى .. حيث ساعد " التناغم " بين الحتمية والكمية الكوانتية في الفكر السوفييتي بإرجاع " المعتقد " الإنساني إلى مستوى ً مقابل ٍ لمستوى الاعتقاد السومري والبابلي و الافلاطوني في تحقيق النهاية بدولة الرفاه دون المبنى " المابعدي " الأخروي الذي جلبه الدين المصري لنا لاحقاً ، دولة آخر الزمن ، وليس ملكوت ما بعد البعث والحساب ..!

وبصورة عامة ، للدين مزايا كما له مساوئ ، فإن كان قد اقفل العقل في آخر مراحل التقدم ، كونه يغلق المسار الهيكلي المابعدي ولا يبقيه مفتوحاً فتكاد أن نعدم فرص الإبداع ، حيث اللاإبداعية سمة المجتمعات الدينية ، فهو قد ساعد " العقل " على القفز إلى ما وراء إمكانيات الطبيعة المتاحة ..!

تماماً مثل " عقل الحرية " ، فبعد أن حقق اكبر انتقالة حضارية في تاريخ العقل والوجود الإنساني برمته ، يجرنا اليوم للهاوية لكثرة التشعبات والخيارات المفتوحة التي لم تعد لها القدرة على رسم ملمح واضح للفكر البشري كما تجلى هذا في البنيوية وما بعدها .. ولا نجاة إلا بالعودة إلى منظومة العقل الحركية رباعية الأبعاد لتوحد الوعي المعرفي من جديد ، سيعود الدين لواجهة الحضارة "حتماً" ..

ولكن انطلاقا ً من نهاية العلم وتعريفه للحتمية ..

فراغ الثقافة الكونية من إيديولوجيا الانفعال

الإيديولوجيا في القرن العشرين ، اتخذت منحى جديداً في رسم الخريطة الثقافية للوعي الجمعي البشري ..

إن حالة التقابل والتوازي في الوعي الكوني والفردي بين الانفعالية الحتمية والاحتمالية التعددية الهادئة التي قلنا عنها بأنها أعطت مجالاً للاتساع في ظل الفكر الاشتراكي الذي جعل من " المجتمع " هدفاً دنيوياً يقابل الآخرة في الدين ، جعلت من السوفييت رعاة الجانب الإنفعالي الثوري من الدماغ ، و منذ أن بدأ المعسكر الاشتراكي بالتراجع ، حتى بدأت " الصحوة الإسلامية " ، محفزة بكل تأكيد بتأسيس دولة إسرائيل ، فعادت هذه الإنبعاثة من جدث التأريخ لإقفال " المسار " المتعلق بالبداية والنهاية بالظهور في العالم الإسلامي ، خلق السماوات و الأرض والإنسان واليوم الآخر ، والتي تختصر رمزياً في الوعي الجمعي الإسلامي بهوس المسلمين بالقرآن ، وعودة الصينيين للكونفوشيوسية ..!

وبصورة عامة ، الخريطة الإنثروبولوجية للتكوين الثقافي العالمي لا تتضح فيها مثل هذه الصور ، لأن ثقافتنا العلمية " نمطية " مبنية على " الانتقائية " الكمية المفتوحة المتجذرة في الغرب التي لا تراعي الخصائص الثقافية والمعرفية للمجتمعات اللاغربية ومنها العالم الإسلامي ..

لذلك ، فردة الدين المعاصرة التي تتمثل بالصحوة في العالم الإسلامي ، واليمين المتطرف في العالم المسيحي ، وعودة الشيوعيين الصينيين للكونفوشيوسية إنما تحمل دلالات عودة الوعي الجمعي الكلي إلى رأب صدع الفراغ الإنفعالي الإيديولوجي بغطاء " الحتمية " بعد فوضى الحرية العارمة التي شهدتها ساحات الفكر والثقافة و الإيديولوجيا السياسية في القرن العشرين ، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وزوال جدار برلين ..!

فالفكر اليساري أقرب منه للحتمية في العديد من نواحيه ، ويكفي رمزه " الأحمر" دليلاً سيكولوجياً على ذلك ، لقد تمكن الفكر اليساري ، ذو القواعد المعرفية الموضوعية العلمية الانفعالية في آن ٍمعا ً ببعض جوانبه من احتلال الموقع العقائدي العاطفي للدين ، فدخل في صدامه مع الحضارة الغربية مشكلاً ما عرف في حقبة الحرب الباردة بالمعسكر الشرقي ، ومن الطبيعي أن يكون هناك ارتداد في الوعي الجمعي نحو " مركبات " تاريخية سابقة تحاكي النزعة الانفعالية في الإيديولوجيا .

فالإيديولوجيا مصدرها العقل ، وتنقسم مثل مقاييس العقل أيضا ً :

حتمية دينية انفعالية .. يساريــة
احتمالية عقلانية .. ليبرالية

فالشرقيون ميالون للديناميكا الكلية كثيراً ، و يتعلمون من الوقائع الديناميكية أكثر من الإستاتيكية الثابتة كما يذكر ريتشارد أي نيسبت في كتابه جغرافيا الفكر ، حيث الديناميكا في المنظومات هي التي تشكل " الكلانية Holism " المنعكسة في الإدراك الرباعي الأبعاد ، أو " خريطة الأحداث الكلية معروفة البداية والنهاية " لدى الشرقيين ، الذين تبنوا الماركسية أكثر من الغربيين الذين نشأت و ترعرعت أفكارها في بيئتهم ..!

الحتمية عائدة ، وما العودة إلى الدين في الوقت الراهن إلا مرحلة عابرة لسد " الفراغ الإيديولوجي الانفعالي " .. الحاصل في فضاء الفكر الجمعي البشري ..

لابد أن تخرج " أيديولوجيا انفعالية حمراء جديدة " تعيد التوازن إلى قطبي الوعي الجمعي الموحد بين الغرب والشرق .. فتظهر الفكر المتزن في مسرح التاريخ يوما ..

الحتمية حاولت العودة للفكر والوعي الجمعي الإنساني بالماركسية ..

ستعود هذه الحتمية بالسايكوترونك ، العلم السوفييتي الذي أجهض قبل ولادته ، الجامع للتطلع الإدراكي العاطفي للخيال الطامح لمعرفة البداية والنهاية في نفس الوقت الذي يبتنى فيه من " منهجية انتقائية " متعددة الخيارات ، ليجمع في خصاله سمة الإيديولوجيا – العلمية التي حاول ماركس ترسخيها بالنظرية العلمية الديالكتيكية فلم ينجح ، ماركس سيعود " حتماً " من جديد بعقيدة ٍوعلم ٍ في الوقت نفسه قد تحمل مسمى الباراسايكولوجي أو السايكوفيزيا أو حتى " دين ُ المعرفة " .. لا تهم التسمية ..

المهم .. يا عشاق الحرية ولاعني الدين ..

شئنا أم أبينا ، الحتمية عائدة عبر رحبات الفيزياء و السيكولوجيا ..

وإنه ُ لحق ٌ مثلما أنكم تنطقون ..

وختاما ً .. سنجيب السؤآل بعد هذا العرض ِ كله :

لماذا نعتقد .. ؟

لأن مخنا ينمو ، ويبحث عن " مسارات " تساعده في بقاءه و تحفيز نموه في الوقت نفسه !
لأننا بشر ٌ نمتلك في جوهرنا " روح " التناقض الهيجلي .. بين العاطفة المسيرة والعقلانية المخيرة ، بين العاطفة الرقراقة ِ الشاعرية وبين " العقلانية " الجافية العلمية .. !

نحن نعتقد .. كي نبقى بشراً محتفظين بأهم معالم ِ " الرحمة ِ " في إنسانيتنا ..

المجد .. والخلود لراية الإنسانية الحمراء ، ومبارك ٌ للكادحين عيدهم في هذا العام ..
وكل ُ عام ٍ وأنتم بألفِ ألف ِ خير ..

كتبت في حاضرة الشرق المنسية
بابـــــل
ليلة الأول من آيار 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران