الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول الفاشية

إرنست ماندل

2018 / 2 / 10
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تجارب خارج الحدود
الفصل الثامن من كتاب "ليون تروتسكي، دراسة في دينامية فكره" تأليف: أرنست ماندل.

الستالينية، ثمرة انتصار الثورة المضادة السياسية في روسيا، كانت أساسيا نتاج الهزيمة الجزئية للثورة العالمية في فترة 1918- 1923. وبدورها رمت بثقلها الكبير على نتائج الصراعات الطبقية الهامة جدا لسنوات 23- 1940. وجاءت حصيلة هذه الصراعات كارثية في أجزاء كبيرة من العالم. لقد استتبت الفاشية (أو دكتاتوريات عسكرية بأنماط متشابهة) في معظم نصف الكرة الشمالي، مع الاستثناءات الهامة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والمكسيك. وقد شكل مقتل تروتسكي على يد عميل للمخابرات السوفياتية في آب/ غشت 1940 في المكسيك تعبيرا رمزيا عن هذا الاتجاه الرجعي على الصعيد العالمي الذي بلغ ذروته في بربرية الحرب العالمية الثانية.

والفاشية، ثمرة انتصار الثورة المضادة السياسية في البلدان الرأسمالية، كان من الصعب تحديدها، كالستالينية، في إطار مفاهيمي من قبل الفكر الاجتماعي المعاصر، بما في ذلك الفكر الماركسي. ومرة أخرى وقف تروتسكي فوق معاصريه في شرحه لهذه الظاهرة المخيفة الجديدة. لم يفهم أي كاتب آخر بذلك الوضوح طبيعة الفاشية والتهديد الذي تمثله للطبقة العاملة والحضارة الإنسانية، ولم يقم أحد آخر غيره في ذلك الوقت بتحذير الحركة العمالية من أجل النهوض ضد ذلك التهديد، واضعا الإستراتيجية والتكتيك الصحيحين لمواجهته. ونستطيع أن نقول، من دون تضخيم، أنه، مع إمكانية استثناء مساهمات ماركس 18 برومير لويس بونبارت والصراعات الطبقية في فرنسا 48- 1850، لا يوجد أي تحليل ماركسي لمسائل اجتماعية وسياسية راهنة يقارن، بعمقه وحسية إدراكه بكتابات تروتسكي عن ألمانيا في فترة 29- 1933.
وفي تناول تروتسكي الظاهرة الفاشية، استعان من جديد وبشكل كبير بإدراكه العميق لقانون التطور المركب وغير المتساوي: ذلك التأليف syntesis للمادية الديالكتيكية مطبقا على المجتمع الطبقي. لقد فهم تروتسكي، مثله مثل بعض الكتاب الماركسيين الآخرين (كارنست بلوخ وكورت توشولسكي)، مسألة عدم تطابق الأشكال الاجتماعية- الاقتصادية مع الأشكال الأيديولوجية- أي بكلام آخر، واقع أن أفكارا وأطباعا وطموحات لا عقلانية ذات قوة كبيرة قد بقيت حية من الأزمنة ما قبل الرأسمالية في أجزاء كبيرة من المجتمع البورجوازي (وبالأخص بين الطبقات الوسطى المهددة بالإفقار الشديد، ولكن أيضا بين قطاعات من البورجوازية نفسها ومثقفين منحطين طبقيا، وحتى الشرائح المختلفة من الطبقة العاملة). وأفضل من أي شخص آخر، وضع تروتسكي الاستنتاج الاجتماعي والسياسي التالي: في شروط تنامي ضغط التناقضات الطبقية الاجتماعية- الاقتصادية المتزايدة بشكل لا يحتمل، يمكن أن تصبح قطاعات هامة من الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى المذكورة أعلاه- الغبار البشري، كما صنفها تروتسكي بنباهة- مدموجة في حركة جماهيرية جبارة، يبهرها زعيم ذو سلطة نفسية خارقة، وتتسلح بقطاعات من الطبقة الرأسمالية وجهاز دولتها، ويجري استعمالها كآلة من أجل تحطيم الحركة العمالية من خلال الإرهاب الدموي والتهويل.

ويفتتح ذلك طريقا إلى "حل رأسمالي" آني لأزمة المجتمع البورجوازي الهائلة، وهو حل مبني على الاستغلال الأقصى للبروليتاريا الذي كان قد أضحى مستحيلا بصعود الحركة العمالية المنظمة. إلا أنه لا يمكن على المدى البعيد إعادة خلق ظروف رأسمالية مستقرة من خلال الاستغلال الأقصى للطبقة العاملة في بلد واحد. إن على الفاشية بعد تحطيمها للطبقة العاملة وبنائها لمجتمع بورجوازي قمعي منظم بصرامة أن تحول ديناميتها المروعة نحو الخارج، في محاولة للاستيلاء على مستعمرات أو شبه مستعمرات جديدة، وأن تستعبد شعوبا بأكملها، وتخضع منافسيها الإمبرياليين، وتحطم الاتحاد السوفياتي، وتنشئ هيمنة عالمية.
إن هذا التحليل العميق للفاشية يوحد ويجمع عناصر تحليلية مختلفة، لكل منها استقلاليتها النسبية، تتوافق مع سمات خاصة في الواقع السياسي والاجتماعي للبلدان الإمبريالية في فترات أزمة اجتماعية- اقتصادية عميقة، ويؤول تضافرها- وهو يختلف عن عملية جمع ترتيبي- إلى اندماجها في أداة لفهم كلية الظاهرة التي تسمى صعود الفاشية.

تنشأ الأيديولوجيات والتجمعات السياسية الفاشية (أو الفاشية البدائية) باستقلال عن الحاجات الحالية للطبقة الرأسمالية، وهي تنبثق من سخط ويأس الطبقات الوسطى على حالة انسحاقها بين سلطة الاحتكارات الرأسمالية وسلطة النقابات. (أما الاستقلال النسبي لأيديولوجيتها فأمر آخر تماما. فالعنصري متجذرة بعمق في أيديولوجيات بورجوازية نموذجية في عصر الاستعمار الإمبريالي، رغم أنها تجمعها مع بقايا أيديولوجيات ما قبل بورجوازية). وفي مراحل انتقالية معينة، تظهر هذه التجمعات بكثرة، وتنشأ منافسة حامية الوطيس بين المرشحين المختلفين للزعامة. ويمكن فقط لظروف محددة- تعمق الأزمة الاقتصادية، وحاجة الشركات الكبيرة الملحة للتخلص من المزايا الأساسية للديمقراطية البورجوازية، وحاجة موضوعية لمزيد من المركزة السياسية إذا ما كان للمجتمع البورجوازي أن يحقق عددا من الأهداف الملحة، ومستوى معينا من الدعم الشعبي لأحد المرشحين الدكتاتوريين- أن تجعل الرأسمال الاحتكاري ينظر عمليا إلى مسألة إعطاء دعمه الأساسي للفاشيين.

من وجهة نظر المصالح البعيدة المدى للطبقة الرأسمالية بشكل عام، وللاستقرار النسبي للمجتمع البورجوازي، ككل، تكون الأنظمة البورجوازية البرلمانية مستحبة أكثر من أي شكل من الدكتاتورية، ولن نقول أشكالها الفاشية. إن حكم الطبقة البورجوازية يبني نفسه على خليط محدد من المؤسسات القمعية والمتكاملة. وكلما كان وزن المؤسسات المتكاملة أضعف، يصبح عدم الاستقرار على المدى الطويل أعمق. فليس للا شيء سميت الفاشية والأشكال المتطرفة الأخرى من الدكتاتورية البورجوازية بحالات الحصار المؤسسية، أو حتى بحروب أهلية دائمة (حروب أهلية بالتأكيد، لكن حيث يوجد معسكر أعزل من السلاح ومعرض لعنف المعسكر الآخر). إن أشكال الحكم هذه أكثر خطرا بالنسبة للبورجوازية، لأنها تميل إلى مراكمة تواترات اجتماعية قد تصل إلى نقطة الانفجار في أوقات الأزمة الحادة، دون أن تخلق آليات للمساومة الطبقية.

في الواقع، لقد حصل للآن أن حدثت كل الثورات الاجتماعية المنتصرة في البلدان التي وجدت فيها أنظمة قمعية من هذا النوع أو ذاك على فترات ممتدة. (القيصرية؛ ديكتاتورية تشن كاي تشك؛ دكتاتورية باتيستا؛ دكتاتورية باو- دا ديم وثيو في فيتنام الجنوبية، الخ).

وتكمن الصعوبة الموضوعية بالنسبة لمصالح الطبقة البورجوازية في واقع أنه بينما تكون الكلفة الاجتماعية والسياسية للدكتاتوريات القمعية مرتفعة وخطرة على المدى البعيد، يمكن أن تصبح الكلفة الاقتصادية للديمقراطية البورجوازية على المدى المتوسط والقريب غير محتملة على الإطلاق في ظروف محددة. فالديمقراطية البورجوازية في البلدان المصنعة تعني حركة عمالية متطورة (وبالمقام الأول حركة نقابية جماهيرية) تعني بدورها بيعا جماعيا لقوة العمل كبضاعة بدل بيعها إفراديا. وفي ظل هكذا ظروف، سيكون سعرا لبضاعة أعلى بكثير من سعرها في ظروف تشتت الطبقة العاملة. ومع هذا السعر الأعلى تأتي تكاليف إضافية للرأسمال كالضمان الاجتماعي ومصاريف اجتماعية أخرى- تقلل جميعها من حصة فائض القيمة لمنتوج ذي قيمة محددة. وحين تتجمد القيمة الكلية للمنتوج أو حتى تبدأ بالانحدار- ربما كنتيجة لانعطافة غير مواتية في المنافسة الإمبريالية الداخلية، أو لهزيمة في حرب، أو لأزمة اقتصادية هامة، أو لركود طويل الأجل للإنتاج، أو لمجموعة هذه العوامل- يمكن أن تختفي الإمكانية المادية لدفع تلك الكلفة ويمكن أن لا تملك عندها البورجوازية من خيار غير محاولة الاستغناء عن الديمقراطية البورجوازية. ويمكننا أن نضيف هنا بأن الطبقة الرأسمالية نفسها غالبا ما تنقسم على أمرها في هذا الخصوص، إن لم يكن دوما. ويمكن أن تطرح حالة حيث ستكون القطاعات المنتجة مباشرة للاستهلاك العام أكثر ممانعة في القيام بانعطافة علنية نحو تمويل ودعم الاستيلاء الفاشي على السلطة، بينما ستكون، ولأسباب واضحة، القطاعات الموجهة نحو الصناعة الثقيلة وصناعة وسائل الإنتاج والأسلحة ميالة أكثر لأخذ هكذا دعم بعين الاعتبار.

لقد قلنا الآن بأن البورجوازية يمكن أن تحاول الإطاحة بالديمقراطية البورجوازية. فمسألة إنشاء نظام فاشي لا تعتمد فقط على ما يجري في وسط البورجوازية الصغيرة، وما يجري في وسط الطبقة الرأسمالية، وعلى الطريقة التي ترتبط فيها هذه التغيرات بعضها بالبعض الآخر. بل تعتمد أيضا، وإلى حد كبير، على ما يجرب في وسط الطبقة العاملة، أي، على ردود فعل الحركة العمالية المنظمة.

خلافا "للغبار البشري" الذي قد يحاول المرشحون إلى دور الزعامة الفاشية تجميعه في حشود مثيرة للإعجاب، فإن الطبقة العاملة الحديثة في أي بلد متقدم صناعيا تحمل طاقة هائلة من السلطة اقتصادية واجتماعية وسياسية. إن جميع الوظائف الإنتاجية والخلاقة للمجتمع هي إما موجودة بشكل مباشر في تلك الطبقة أو أنها تقف على علاقة تتوثق باستمرار بها. وفي معظم هذه البلدان، ارتبطت المنظمات الجماهيرية السياسية والثقافية للطبقة العاملة بعضها بالبعض الآخر بشكل مؤثر لغاية أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، وضمت مئات الألوف إن لم يكن الملايين من الأشخاص القادرين على القتال بولاء وحماس للمصالح المشتركة للطبقة. وفي جميع تلك البلدان وجد بناء تحتي كبير وقوي للنقابات قادر بشكل كامن على تعطيل الاقتصاد الرأسمالي وشل الدولة البورجوازية نفسها.

ومن أجل مقاومة هكذا عدو، يجب ألا يكون الممثلون الأكثر إدراكا طبقيا في الشرائح البورجوازية العليا "الاحتكاريون والممولون" فقط في حالة هجوم اليائس وذلك للأسباب التي بيناها أعلاه. عليهم أيضا أن يكونوا مقتنعين بأنهم يملكون على الأقل فرصة لعدم خسارة الحياة والملكية والسلطة كنتيجة لاختبار القوى العنيف الذي بدونه سيظهر تحطيم الديمقراطية البورجوازية غير ممكن. أن أي سوء حساب في هذا الصدد ستترتب عليه نتائج كارثية من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية. ويمكن أن يكون مرادفا لشبه انتحار إن لم يكن انتحارا فعليا من وجهة نظر فردية واجتماعية أيضا. لقد قدمت بارشلونا ومدريد وفالنسيا ومالانا في أواسط تموز/ يوليوز 1936 موضوع درس موضوعي بالنسبة للمخاطر المترتبة.

وبالتالي ففي فترة صعود قوة الفاشية، لكن قبل استيلاء الفاشيين على السلطة، سيولي قياديو الطبقة الرأسمالية انتباههم الشديد لكل ما يحدث داخل الطبقة العاملة والحركة العمالية حيال خطر الفاشية. وفي الواقع، ستقترب تحاليلهم حول التغيرات الراهنة في علاقات القوى من تحاليل الماركسيين الثوريين لأسباب موازية لكن متعاكسة. إن كل إشارة لمقاومة موحدة داخل الطبقة العاملة، وكل إشارة لانعطافة جماهيرية نحو الدفاع الذاتي المسلح، وكل إشارة لنمو النضالية والعزم على معارضة الوحش الفاشي بأي ثمن، سيزيد من شكوك وتردد أصحاب الأعمال الكبار حيال عقلانية الالتجاء إلى الحل السياسي الأقصى.



وعلى العكس، فإن أي نمو للانقسامات أو السلبية أو الاستسلام بين العمل، وأي نجاح تكتيكي هام للفاشيين ضد المنظمات العمالية دون أن يرافقه أو يتبعه مقاومة قوية وهجمات مضادة، أي دلائل تشير إلى أن قياديي المنظمات الجماهيرية، رغم أقاويلهم، سيستسلمون في النهاية للفاشيين، وإلى أن الجماهير لا يمكنها أن تشن تهديدا مضادا عفويا قادرا على وقف الهجوم الفاشي،... إن أي إشارات كهذه ستقنع أصحاب الأعمال الكبار أن ثمن تغيير النظام هو أقل مما كانوا يتوقعون. وستسرع هكذا إشارات ضعف من عملية استيلاء الفاشيين على السلطة بإظهارها أن الرب الأهلية ستكون وحيدة الجانب، وبأن هزيمة الطبقة العاملة ستكون ساحقة ونهائية.



من هنا، تبرز الحاجة الحيوية لأن تتم معارضة صعود الفاشية منذ ابتدائها برد حاسم وموحد وحيوي، وبنضال للدفاع عن المنظمات الحرة للطبقة العاملة ("نواة الديمقراطية العمالية داخل الديمقراطية البورجوازية" كما أسماها تروتسكي بشكل صحيح)، وعن حق الإضراب وجميع الحريات الديمقراطية الأساسية الأخرى، التي بدونها ستضعف الطبقة العاملة بشكل حاسم (وستفقر اقتصاديا) لفترة تاريخية كاملة.



وسيثير هكذا رد فعل حاسم وموحد وحيوي سلسلة من التفاعلات تبدل الجو السياسي بالكامل داخل البلد. ستجعل البورجوازية الصغيرة أكثر تشككا حول الانتصار الفعلي للفاشية وستؤدي بالتالي إلى إضعاف الدعم الجماهيري الذي يحظى به الفاشيون، لا بل ستزيد من فرص تحييد قطاعات لا يستهان بأهميتها من الطبقات الوسطى أو حتى كسبها إلى قضية الحركة العمالية والاشتراكية. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يتطور برنامج صحيح حيال هذه القطاعات ويجب أن تشعر البورجوازية الصغيرة بجدية الطبقة العاملة وعزمها على إعطاء بديل متماسك للحل الفاشي حيال مشكلة السلطة السياسية.

وسيتعلم الرأسماليون أنفسهم أيضا من خلال تجربة محزنة بأن الرأسمال الذي وظف لأجل عصابات القتل الفاشية هو على الأقل ذو مردود غير مؤكد ومن الممكن أن يضيع كله هباء ويؤدي إلى خسائر أكثر جسامة في جميع الميادين. وبالتالي فإن إرادتهم لدعم الفاشيين ستصبح من جديد "تكتيكا احتياطيا" بدل أن تكون العنصر الرئيسي في توجههم.


أما بالنسبة للطبقة العاملة نفسها، فإن أي نجاح تكتيكي في النضال ضد الفاشيين سيدعم وحدة صفوفها، ويزيد من نضاليتها وعزمها، ويرفع من ثقتها بمصيرها الخاص وبالحلول البديلة للأزمة الاجتماعية التي تهز البلد. وبهذه الطريقة سيكون الأساس لهجوم مضاد اجتماعي وسياسي هام جدا، يمكن أن يضع بسرعة ثورة اشتراكية على جدول الأعمال.


إن جميع هذه الفرص والمناسبات تتوقف على الوحدة والاستقلالية الطبقية للبروليتاريا. فإذا ما بقيت الطبقة منقسمة سياسي، وإذا ما قاتل الاشتراكيون- الديمقراطيون والشيوعيون (الستالينيون) بعضهم بعضا بدل رص الصفوف ضد الفاشيين، وإذا ما اعتقد الشيوعيون (الستالينيون) بأن عليهم مقارعة الاشتراكيين- الديمقراطيين قبل أن يستطيعوا التغلب على الفاشيين، وإذا ما شعر الاشتراكيون- الديمقراطيون بأنه من المستحيل "تحييد" "العنف الفاشي" (من خلال تشريعات،و تدخل الدولة البورجوازية، الخ) ما دام "العنف الشيوعي" يأخذ مجراه، إذا كان ذلك، وتم إغفال المهام الطبقية الملحة لهذا النضال التاريخي باسم بعض نقاط الشرف المجردة والعصبوية، عندها سيكون هناك فرص أقل وأقل لرد فوري وحاسم وناجح على الإرهاب الفاشي المتنامي (الذي يساعده ويحرضه جهاز الدولة البورجوازي والذي يموله بشكل متزايد كبار أصحاب الأعمال). بدل ذلك، فإن سلسلة ردود فعل من التردد وسوء التوجه وسوء التعبئة ستطرح نفسها مؤدية إلى هزيمة نهائية. هذا ما حدث في ألمانيا، رغم تحذيرات تروتسكي المتعددة- التي وصل صداها إلى أبعد من التروتسكيين، إلى معارضين شيوعيين آخرين كـ"ك.ب.او" الذي كان يقوده براندلير وتالهيمر، وإلى انشقاق يساري عن الاشتراكيين الديمقراطيين الس. آي .ب.


إن الكارثة الألمانية لاستسلام أكبر منظمة جماهيرية للطبقة العاملة في العالم دون قتال وجهت ضربة ساحقة لثقة الطبقة العاملة بنفسها ولوعيها الطبقي. وقد امتدت نتائج تلك الهزيمة السلبية لما هو أبعد من نتائجها الاقتصادية والسياسية المباشرة: دفعت البشرية بالطبع ثمنا مذهلا للحماقة الإجرامية لكل من أوتو ويلز وستالين (كان تالمان فقط أداة سيئة الحظ بيد ستالين في هذه القضية). لقد رفضا إنشاء جبهة موحدة ومناضلة ومقاتلة ومسلحة من قمة الحركة العمالية الألمانية إلى قاعدتها ضد النازيين، عندما كان ذلك ممكنا وفعالا. ولم يسبق أبدا أن ظهر الدور الحاسم للقيادة وسوء القيادة في الصراع الطبقي، "للعامل الذاتي في التاريخ"، بذلك الوضوح بالنسبة للماركسيين كما هر في ألمانيا في فترة 29- 1933.


إن الاستقلال الطبقي شرط مهم، كالوحدة الطبقية، من أجل مقاومة ناجحة ضد الفاشية. فبينما تظهر النتائج الكارثية لانعدام الوحدة حادة في حالة ألمانيا، تبدو النتائج الكارثية لفقدان الاستقلالية الطبقية صارخة للغاية في حالة فرنسا وإسبانيا في فترة 34-1938. لقد أخضع تروتسكي أيضا هاتين التجربتين لبحث تحليلي ماركسي.

كان لهزيمة الطبقة العاملة الألمانية على يد النازيين، وللاستسلام الحقير دون قتال لقياديي الاشتراكيين- الديمقراطيين والستالينيين والنقابات، تأثيرهما المؤذي على الحركة العمالية العالمية. ولقد توقع تروتسكي هذا الأمر بشكل صحيح منذ ربيع 1933 وما بعده، وحاول جاهدا توجيه المجموعة الصغيرة من أتباعه ضمن الحالة المتطورة. وجاء الضغط الذي لا يقاوم من أجل جبهة موحدة لجميع منظمات الطبقة العاملة ضد خطر الفاشية أو أشكال أخرى من الدكتاتورية الرجعية الرد الفعل الأول على هذه الصدمة. فقد أطلق الهجوم اليميني في فرنسا في 6 شباط/ فبراير 1934 العنان لسيرورة فعلية لجبهة موحدة بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي قلبت بدورها بشكل كامل موازين القوى ودينامية المجتمع الفرنسي لمدة ثلاث سنوات على الأقل، ازدادت خلالها قوة الطبقة العاملة بشكل كبير. وأخيرا، قاد الإضراب العام في حزيران/ يونيو 1936 واحتلال المصانع فرنسا إلى حافة الثورة الاشتراكية.

وكذلك الأمر في إسبانيا، حيث أدى الهجوم الرجعي لعام 1934، الذي جاء بنظام يميني يرتكز أحد أجنحته على أشكال إدارية شبه فاشية، إلى ردة فعل عمالية طبقية موحدة عبرت عن نفسها أولا في العصيان المسلح الفاشل في تشرين الأول/ أكتوبر 1934، ومن ثم الصعود غير المتقطع لنضالات جماهيرية في النصف الأول من عام 1934، وأخيرا في استهلالة الثورة الاشتراكية التي اندلعت في جميع المدن الكبرى تقريبا وأجزاء مهمة من الريف كرد على الانقلاب العسكري الفاشي لتموز/ يوليوز 1936.

لكن، في كلا حالتي فرنسا وإسبانيا، تم حرف القوة الهائلة للاندفاعة الوحدوية للطبقة العاملة في قنوات منسجمة تماما مع بقاء الملكية الخاصة والدولة البورجوازية. وفي الواقع كانت تلك سياسة واعية للتوفيق الطبقي من جانب الاشتراكيين- الديمقراطيين والستالينيين وبيروقراطيي النقابات (وفي إسبانيا، القياديين الرئيسيين للحركة الفوضوية الجماهيرية). وبدءا من عام 1935، تبنت الأممية الشيوعية بقيادة ستالين بشكل كامل إستراتيجية "أهون الشرين" القديمة للاشتراكيين- الديمقراطيين/ المنشفيين، استراتيجية التكتل مع البورجوازية "الليبرالية" ضد "الرجعية". إن سياسة الجبهة الشعبية هذه التي تزامن مع أزمة بنيوية عميقة للاقتصاد الرأسمالي وللديمقراطية البورجوازية ككل، أزمة لم تلطف منها الإصلاحات المتعددة، لم تدل فقط على خسارة فرصة تاريخية أخرى للعمال من أجل الاستيلاء على السلطة، تمت هذه المرة نتيجة لخطأ الستالينيين، مثلما كانت في فترة 18-1923 نتيجة لخطأ الاشتراكيين- الديمقراطيين (وقد حصلت تجربة مماثلة للمرة الثالثة في فترة 44-1948 في فرنسا وإيطاليا واليونان، والأحزاب الشيوعية تتحضر حاليا لإعادة الكرة مرة أخرى في جنوب غربي أوروبا)، بل دلت السياسة على أن انهيار الحركة العمالية تحت هجمات الرجعية والفاشية قد تأجل فقط ولم يتم تجنبه بشكل حقيقي.

ففي إسبانيا، انتصر الفاشيون أخيرا في الحرب الأهلية بعد أن سحق الستالينيون والإصلاحيون الثورة الاشتراكية في معسكر الجمهورية. وفي فرنسا، تفتت البناء الهائل للقوة الطبقية العمالية من خلال استسلام حكومات الجبهة الشعبية المتتالية وما تبع ذلك من فقدان حماس الطبقة العاملة وإضعاف معنوياتها. فبعد سنتين من الإضراب العام الحافل في حزيران 1936، جاء الإضراب العام المهزوم في أيلول/ سبتمبر 1938، والتخفيض التدريجي في الحريات الطبقية العمالية، وخسارة شرعية الحزب الشيوعي، وشلل النقابات، والتضحية الحقيرة بالذات من جانب الجمهورية الثالثة عندما استلم النظام البونبارتي الهرم للمارشال بيتان السلطة في سنة 1940 من دون أي ردة فعل من العمال.


وليس بصدفة أن يلقى اليوم نقد تروتسكي اللاذع لسياسات الاشتراكيين- الديمقراطيين والستالينيين الألمان الانقسامية قبل استيلاء هتلر على السلطة استحسان أوسع الأوساط وإعجابها، بينما يلقى برهانه، الذي لا يقل إقناعا، على نتائج سياسة الجبهة السعبية الكارثية قسطا كبيرا من سوء الفهم وحتى الرفض من قبل مؤرخين ونقاد معادين وأصدقاء. فالفاشية تمثل تهديدا جسديا للبقاء ذاته، ليس فقط لمنظمات ثورية، بل وحتى لأكثر منظمات الاشتراكيين- الديمقراطيين اعتدالا. ولا ينظر إليها فقط طليعيو الطبقة العاملة كتهديد بربري، لكن كذلك جزء كبير من المثقفين البورجوازيين الصغار والبيروقراطية العمالية ككل- وهذا هو الأساس المادي لسياسة جبهة موحدة في القمة وفي القاعدة أيضا! من ناحية ثانية ليست سياسة الجبهة الشعبية إلا نسخة أخرى عن السياسات التقليدية للتوفيق الطبقي والتعاون الطبقي التي مارسها قياديون عماليون إصلاحيون والبيروقراطية العمالية منذ مطلع القرن، والتي استقبلها بترحاب بشكل عام أكثرية المثقفين. فأن يوافق هؤلاء على نقد تروتسكي لسياسة الجبهات الشعبية لن يعني بالنسبة لهم رفض ماضيهم وتقليدهم الخاص وحسب، بل سيعني وفي معظم الأحوال السير بشكل مباشر ضد الدفاع عن مصالحهم المادية الحالية.

ومع ذلك، إنه من المهم بالنسبة للماركسيين والعمال المتقدين اليوم أن يتم فهم الرابط المنطقي بين قتال تروتسكي من أجل الجبهة الموحدة في ألمانيا في فترة 29-1933 وقتاله ضد الجبهة الشعبية في فرنسا وإسبانيا في فترة 35-1938. إن صعود الفاشية كخطر حالي على الحركة العمالية المنظمة يتزامن مع أزمة بنيوية عميقة للديمقراطية البرلمانية البورجوازية التي ترتبط بدورها بأزمة بنيوية عميقة للاقتصاد الرأسمالي والمجتمع البورجوازي ككل. وفي زل هكذا ظروف، أن يتم ربط المقاومة ضد الخطر الفاشي بالدفاع بأي ثمن عن المؤسسات البرلمانية البورجوازية يعني أن يتم رهن كل الأمور بمسألة بقاء مؤسسات هي بذاتها في طور احتضارها. فبينما يكون من الصحيح الدفاع ضد الرجعية عن كل مكسب من مكاسب الطبقة العاملة في الحقل السياسي كما الاقتصادي، بما في ذلك الحقوق الدستورية العالمية، يكون أمرا انتحاريا أن توضع أبعاد هكذا دفاع في حدود الإطارات الضيقة والضعيفة لمؤسسات الدولة الديمقراطية البورجوازية.


وبحال بقيت القوة المكتسبة خلال الدفاع الناجح عن حريات ومنظمات الطبقة العاملة دون أن تستعمل كقوة دفع للحل الاشتراكي الثوري لأزمة الديمقراطية البورجوازية والمجتمع البورجوازي، عندها ستركد تلك القوة بسرعة وتتفتت. وبعد تراجع مؤقت، سيبادر الرجعيون الفاشيون أو شبه الفاشيين مرة أخرى إلى الهجوم ضد الطبقي العاملة المضعفة المعنويات من جراء عدم نيل النتائج الإيجابية لمجهودها النضالي الهائل. فليس هناك من مستقبل للديمقراطية البورجوازية في ظل ظروف أزمة حادة للرأسمالية، فهي أما ستستبدل بالديمقراطية العمالية أو ستنهار لصالح دكتاتورية يمينية. وقد أدى رفض ذلك الدرس في إسبانيا (وبعدها في الشيلي) إلى هزائم مكلفة جدا ولها ديمومة لا تقل مأساوية عن تلك التي سببتها الانقسامات في إيطاليا وإسبانيا.

الفصل الثامن من كتاب

"ليون تروتسكي،

دراسة في دينامية فكره"

تأليف: أرنست ماندل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري