الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تزال فلسطين همّاً فكرياً عربياً؟

ماهر الشريف

2010 / 6 / 5
القضية الفلسطينية


يلاحظ الكاتب، في هذه المقالة، أن الكتاب الفكري الذي يتناول قضية فلسطين وقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي ما عاد يحتل مكانة متميزة في المكتبة العربية، كما كانت الحال عليه في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، وأن كثيراً من الموضوعات الفكرية الجديدة، أو المتجددة، راحت تزاحم الكتاب الفلسطيني على عقول القراء العرب بعدما ظهرت أفكار حديثة شديدة الحيوية مثل الديمقراطية والمواطَنة والإصلاح والعلمانية والمجتمع المدني والحداثة، إلخ.

وهذه المقالة تحاول اكتشاف الأسباب العميقة لانحسار الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية منذ نحو ربع قرن؛ هذا الانحسار الذي يجد تعبيره الأمثل فيما يسمى سقوط الرهان على المقاومة في إحداث التغيير والتقدم، وفي أن نكبة فلسطين ما عادت الوحيدة التي حلت على العرب، وإنما تبعتها نكبات أُخرى، الأمر الذي جعل الكلام على أولوية الوحدة العربية كطريق إلى تحرير فلسطين، أو أولوية التحرير كطريق إلى الوحدة، ينزوي لمصلحة الكلام على الحداثة والتنوير وغير ذلك.

المعروف أن الإنتاج الفكري العربي عن قضية فلسطين وعن الصراع الدائر بشأنها تأثر، إلى حد كبير، بالتطورات التي شهدتها هذه القضية منذ نكبة 1948، لترابطها الوثيق بالأوضاع العربية. ففي خمسينيات القرن العشرين حتى أواسط ستينياته، ازدهر هذا الإنتاج بالارتباط مع المد القومي والوحدوي العربي. ومنذ هزيمة حزيران/يونيو 1967، وطوال السبعينيات، راح هذا الإنتاج يتطور بالتوازي مع تصاعد نضال حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة، ودخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى مسرح الأحداث بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ومع حلول الثمانينيات، وبعد الهزيمة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في سنة 1982، وما تمخض عنها من نتائج، بتنا نشهد، كما أفترض، تراجعاً في اهتمام منتجي الفكر العربي بالقضية الفلسطينية، وهو تراجع راح يتعمق في التسعينيات نتيجة جملة من العوامل الفلسطينية والعربية التي جعلت الانشغال بالهمّ الفلسطيني يندرج من جديد في إطار همّ عربي أوسع، إذ صار المفكرون النقديون يعتبرون أن تأخر العرب على الصعيد المجتمعي هو في أصل نكبات العرب المتعاقبة، منذ سنة 1948، وأن تجاوزهم لهذه النكبات لن يكون إلاّ من خلال امتلاكهم أسس الحداثة المجتمعية.

ومن يرصد حركة النشر العربي في الأعوام الأخيرة يلاحظ أن الكتاب الفكري عن القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي ما عاد يحتل مكانة متميزة في المكتبة العربية التي راحت تزخر بكتبٍ تعالج قضايا متعددة مثل: الموقف من الغرب، أو "المرض بالغرب" بحسب جورج طرابيشي في كتابه "التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي" (2005)؛ التنوير والنهضة؛ الديمقراطية؛ المواطَنة؛ المجتمع المدني؛ العلمانية؛ الإصلاح والحداثة. وفي مواجهة ما سمّي الصحوة الإسلامية، راح كثير من دور النشر التي اهتمت في الماضي بنشر الكتابات الفكرية عن القضية الفلسطينية، يولي الأهمية الكبرى لقضايا تتعلق بالإسلام، وبالعنف والمصادرة، وبالتسامح والفكر الحر، ويهتم بإعادة نشر التراث العقلاني الذي عرفه الإسلام في أزمان غابرة. فدار الطليعة في بيروت، على سبيل المثال، التي نشرت في نهاية الستينيات وخلال السبعينيات، العديد من الكتب بشأن القضية الفلسطينية، صارت تركز على ذاك النوع من الكتب، وتصدر سلاسل متخصصة عنه كسلسلة "الإسلام واحداً متعدداً" التي يشرف عليها المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، وتساهم، إلى جانب دور نشر أُخرى، في نشر إصدارات "رابطة العقلانيين العرب"، التي رأت النور في سنة 2007.
وسأسعى في هذه المقالة، ومن خلال العودة إلى تاريخ الانشغال الفكري العربي بالقضية الفلسطينية، لتزكية هذا الافتراض، مستنداً في ذلك إلى بعض الكتابات العربية التي يمكن إدراجها في نطاق الكتابات الفكرية، مع الإشارة إلى أنني لن أتوقف، إلاّ بشكل عابر، في مساهمتي هذه، عند إصدارات المؤسسات البحثية المتخصصة بالقضية الفلسطينية، كمؤسسة الدراسات الفلسطينية، علماً بأن النتاجات الفلسطينية، في حقل الدراسات الفكرية الخالصة، باتت، هي أيضاً، محدودة في الآونة الأخيرة، ربما باستثناء النتاجات التي تندرج في حقل الفكر السياسي الإسلامي، والتي ارتبطت بتنامي حضور الحركات الإسلامية على مسرح النضال الفلسطيني.(1)

الوحدة العربية هي الطريق إلى تحرير فلسطين
كانت نكبة 1948 وما هيأ لها من أحداث، من العوامل الرئيسية التي ساعدت في تبلور، ومن ثم تطور الفكر القومي العربي الذي قدّر المعبّرون عنه أن فلسطين باتت هي قضية العرب الأساسية التي سيتوقف على حلها مستقبلهم.

فمنذ سنة 1947، أشار نديم البيطار في كتابه: "قضية العرب الفلسطينية"، إلى أن فلسطين هي "قضية كل عربي مؤمن بعروبته، مجاهد في سبيل إنسانيته وحريته، مدافع عن ذاته وحقه الطبيعي في كيانه القومي بهذا الوجود، هي الجرح الدامي العميق الذي طعنت به القضية العربية العامة في صدرها، فسال دماً زكياً وجاش بالآلام والأوجاع المبرحة"، معتبراً أن دفاع كل فرد عربي عن هذه القضية التي غدت "أولى قضايا القضية العربية وأهمها تماماً على الإطلاق"، يعني أنه "يدافع عن نفسه وذاته وحياته." وختم البيطار كتابه هذا بالإشارة إلى أن فلسطين هي "جزء من (الجوهر العربي)، فكل البلاد العربية تشد أزرها وتسندها لأنها لا تستطيع التنازل عن أي جزء من جوهرها، والجوهر واحد لا يتجزأ، وإن جُزّئ ذهبت وحدته، وهي عربية مهددة بعروبتها تصرخ في وجه الأمة العربية: يا أيها العرب أفيقوا واتحدوا، ثوروا ولا تسكتوا... أسرعوا، أسرعوا، وليكن شعاركم إمّا الفناء وإمّا فلسطين."(2)

أمّا قسطنطين زريق، الذي اختلف عن البيطار في تصوره لعروبة علمانية حضارية منفتحة على العالم وفي نزوعه المستقبلي، فكان أول من لجأ إلى مصطلح النكبة لوصف هزيمة 1948، التي رأى فيها "محنة من أشد ما ابتلي به العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من محن ومآس"، كما كان أول من دعا إلى إنشاء علم للنكبة، إذ أكد، منذ سنة 1953، أن القضية العربية ما عادت قضية استقلال ووحدة فحسب، بل باتت أيضاً، بعد قيام إسرائيل، "قضية بقاء أو زوال للأمة العربية كأمة ذات وجود ومستقبل وآمال في الحياة الحرة الكريمة"، داعياً إلى ضرورة تقوية الإحساس بالخطر الصهيوني، باعتباره "الخطر الأعظم" على الكيان العربي، وإلى تعميق الإحساس به من خلال إنشاء علم للنكبة.(3)

وقد رأى المعبرون عن الفكر القومي العربي في كتاباتهم التي راحت تصدر منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين، أن هذا الخطر الصهيوني لا يمكن أن يُرَدَّ إلاّ بقيام كيان عربي قومي متحد، معتبرين أن كل خطوة نحو الوحدة هي خطوة في سبيل النصر، وكل خطوة بعيدة عن الوحدة هي سير أكيد نحو الهزيمة. ويمكنني أن أذكر، في هذا السياق، عدداً من العناوين التي انطوت على هذا الموقف، والتي نُشر معظمها في بيروت، مثل: قدري حافظ طوقان، "بعد النكبة" (بيروت: دار العلم للملايين، 1950)؛ نبيه أمين فارس، "غيوم عربية" (بيروت: دار العلم للملايين، 1950)؛ علي ناصر الدين، "قضية العرب" (بيروت: دار الحكمة، 1955)؛ إميل الغوري، "المؤامرة الكبرى: اغتيال فلسطين ومحق العرب" (القاهرة: دار النيل، 1955)؛ شفيق ارشيدات، "فلسطين تاريخاً، وعبرة، ومصيراً" (بيروت: دار النشر المتحدة، 1961)؛ محمد فاضل الجمالي، "كارثة فلسطين وأثرها في الواقع العربي" (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1965)؛ مازن إبراهيم منصور، "نكبة أيقظت أمة" (دمشق: مطبعة بركات، 1966)؛ أنيس صايغ، "فلسطين والقومية العربية" (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1966)؛ محمد فيصل عبد المنعم، "فلسطين قلب العروبة" (القاهرة: دار المعارف، 1967).

وكما قدّر محمد عابد الجابري، في كتابه: "الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية"، فإن هزيمة العرب في سنة 1948، وبالتالي قيام إسرائيل، كانا "بداية تحوّل عميق في الوعي العربي. فبعد أن كان هذا الوعي قطرياً (وطنياً) في معظم البلاد العربية، أخذ يتحول وبسرعة مدهشة منذ (الكارثة) وبسببها إلى وعي قومي، إلى وعي بوحدة الأمة العربية ووحدة مصيرها." وهكذا أصبحت النكبة - كما يرى الجابري - "المحرك، بل المبلور، للعنصر الثالث المؤسس للشعور القومي العربي الحديث، عنصر (الألم) و(الأمل)، عنصر (التهديد الخارجي) - ومن ثم وحدة المصير - الذي يشكل، مع وحدة اللغة ووحدة التاريخ، العناصر الأساسية المؤسسة للقومية العربية."(4)

علاوة على ذلك، أصبحت النكبة، من جهة أُخرى، حافزاً على تغيير الأوضاع السياسية في عدد من الدول العربية، إذ كان الدرس الذي استخلصه جمال عبد الناصر، بعد مشاركته في حرب 1948، وتجرعه مرارة الهزيمة فيها، هو أن مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين يجب أن ينطلقا من تغيير الأوضاع السياسية في مصر، وانتهاج نهج جديد يعزز الاستقلال الوطني ويحقق الوحدة العربية.

تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية
بيد أن هذا المشروع القومي العربي وصل إلى نهايته مع هزيمة حزيران/يونيو 1967، بعد أن أصيب بضربة قاسية في إثر إخفاق تجربة الوحدة المصرية - السورية في أيلول/سبتمبر 1961. فهزيمة الجيوش العربية في حزيران/يونيو 1967، أوجدت الشروط التي سمحت بانطلاق حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة التي جسدت إرادة الشعب الفلسطيني في إمساك زمام قضيته بنفسه، وفي التحرر من الوصاية العربية، وهي حركة سرعان ما تحولت إلى مركز استقطاب لقوى التغيير العربي، التي رأت فيها عامل تثوير للأوضاع العربية. وفي حين كان النضال في مرحلة المد القومي العربي يجري تحت شعار "الوحدة العربية هي الطريق إلى تحرير فلسطين"، فإن التفاف قوى التغيير العربي حول المقاومة الفلسطينية، أدى إلى ترسيخ القناعة بأن "تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية."
وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا التوجه الجديد على الكتابات الفكرية العربية بشأن القضية الفلسطينية التي راحت تركز، منذ نهاية الستينيات وخلال السبعينيات، على دراسة نضال حركة المقاومة الفلسطينية وطبيعته، والفكر الذي يحركه، والعدو الذي يواجهه، وعلى مستقبل هذا النضال والعقبات التي تعترضه، وعوامل القوة العربية التي يجب أن تزج في المعركة من أجل ضمان انتصاره. ومن هذه الكتب: هشام شرابي، "الفدائيون الفلسطينيون: صدقهم وفاعليتهم" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1970)؛ الياس مرقص، "عفوية النظرية في العمل الفدائي" (بيروت: دار الحقيقة، 1970)؛ الياس مرقص، "المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن" (بيروت: دار الحقيقة، 1971)؛ منيف الرزاز، "أحاديث في العمل الفدائي" (بيروت: دار الطليعة، 1970)؛ عزيز العظمة، "اليسار الصهيوني من بدايته حتى إعلان دولة إسرائيل" (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1969)؛ عبد الوهاب الكيالي، "المقاومة الفلسطينية والنضال العربي 1969 - 1973" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973)؛ رياض نجيب الريس ودنيا حبيب نحاس، "المسار الصعب: المقاومة الفلسطينية" (بيروت: دار النهار، 1976)؛ جورج قرم، "النفط العربي والقضية الفلسطينية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1979)؛ مهدي عامل، "القضية الفلسطينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية" (بيروت: مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، 1980).

ونجد في المؤلفات الستة التي أصدرها صادق جلال العظم وحده، خلال العقد الذي أعقب هزيمة حزيران/يونيو، تعبيراً عن ذلك المناخ الذي ساد الساحة الفكرية العربية آنذاك، والذي سيطر عليه الانشغال بالهمّ الفلسطيني. فما بين سنتي 1969 و1978، أصدر العظم، صاحب "ذهنية التحريم"، وقبل أن ينغمس في قضايا التنوير والعلمانية والعقلانية والمقاربة النقدية للتراث، المؤلفات التالية: "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (بيروت: دار الطليعة، 1969)؛ "دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية" (بيروت: دار الطليعة، 1970)؛ "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية" (بيروت: دار العودة، 1973)؛ "الصهيونية والصراع الطبقي" (بيروت: دار العودة، 1975)؛ "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية" (بيروت: دار الطليعة، 1977)؛ "زيارة السادات وبؤس السلام العادل" (بيروت: دار الطليعة، 1978).

سقوط الرهان على حركة المقاومة الفلسطينية
غير أن الرهان على قدرة حركة المقاومة الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، على أن تكون عامل تثوير وتغيير للأوضاع العربية راح يتبدد، شيئاً فشيئاً، مع أوائل الثمانينيات، وخصوصاً بعد الهزيمة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية في صيف سنة 1982 في لبنان، والانقسام الذي وقع في صفوفها، وبدء توجه قيادتها نحو التكيف مع خيار التسوية السياسية. وقد عكس هذا الواقع الجديد نفسه على الكتابات الفكرية العربية بشأن القضية الفلسطينية، والتي راح عددها يتضاءل في المكتبة العربية، في حين أخذت تتزايد حدة النقد الذي تنطوي عليه.

وكان محمد عابد الجابري توقّع، في كتابه المذكور سابقاً، أن يتجه الوعي العربي، بعد حصار الثورة الفلسطينية "في بضعة حصون ومواقع على الأرض اللبنانية الممزقة"، وبعد أن تضاءل الأمل سواء بـ "تعميم" الثورة الفلسطينية على الوطن العربي كله، أو بدخول دول "المواجهة" - أو ما تبقى منها - في "حرب طويلة الأمد" مع إسرائيل، نحو تبنّي موقف جديد هو "الدعوة إلى إنهاء المشكل الفلسطيني - موقتاً - وبأية طريقة (سلمية) لكي يفسح المجال لعوامل التغيير لتفعل فعلها داخل كل قطر عربي ولصالح التحرر العربي... ومن ثم لصالح التحرير الحقيقي والنهائي لفلسطين."(5)
أمّا صادق جلال العظم، الذي كان أشار في كتابه: "زيارة السادات وبؤس السلام العادل"، إلى أن "التيار الأميركي - اليميني الصاعد عربياً" لم يجرف معه "المواقع التقليدية الأساسية لحركة التحرر الوطني العربية فحسب، بل دمر في اندفاعه المواقع المشابهة لدى حركة التحرر الوطنية الفلسطينية أيضاً"، والتي انحدرت طموحاتها "من مستوى الطموحات الوطنية التاريخية إلى مطلب إقامة الميني - دولة فلسطينية... عبر مفاوضات مؤتمر جنيف وتملق الولايات المتحدة"،(6) فقد أخذ، في مقال نشره سنة 1984، على قيادة المقاومة الفلسطينية، بعد خروجها من لبنان، عدم اعترافها بفداحة الهزيمة التي لحقت بها، وإصرارها على صنع "مجد قيادي ومنظماتي لاحق قوامه الديماغوجية الانتصارية الكاذبة في محتواها، واللاعقلانية المتطرفة في شكلها"، وتهربها من تحليل أسباب هذه الهزيمة تحليلاً نقدياً جاداً، ملاحظاً أن أحد "قوانين الزمن الثقافي - السياسي - الفكري الذي نعيشه"، يمكن صوغه على النحو التالي: "يتناسب الفيض الفكري والثقافي والإعلامي الهائل، في حقبة البترودولار، تناسباً عكسياً مع نمو المحاكمة الفكرية الموضوعية المستقلة، ومع تقدم الثقافة المستنيرة الملتزمة ومع انتشار النقاش المسؤول ومع ازدهار النقد المبدئي الشجاع."(7)

ولم يغيّر تجدد الاهتمام الظرفي بالقضية الفلسطينية، بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في نهاية سنة 1987، من استمرار ميل الاتجاه العام للانشغال الفكري المباشر بالقضية الفلسطينية نحو التراجع، ولا سيما بعد أن دخلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في مسار التسوية السياسية من خلال اتفاق أوسلو، وأقامت سلطتها الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون إليها بصفتها غدت جزءاً من النظام الرسمي العربي.

فهشام شرابي، الذي أصدر في سنة 1970 كتاباً بعنوان: "الفدائيون الفلسطينيون: صدقهم وفاعليتهم"، استناداً إلى دراسة ميدانية قام بها في جبال الأردن سنة 1969، والذي توقّع فيه أن يحرّك ظهور الفدائيين "قوى تنذر الآن بتحولات اجتماعية في العالم العربي"، وأن تتعدى الأهمية التاريخية لظهور حركة المقاومة الفلسطينية الإطار الإقليمي لتشمل نطاق العالم الثالث، بحيث يقترن "اسم فلسطين بالعقد الثامن من هذا القرن كما فرض اسم فييتنام نفسه على العقد السابع"،(8) تحوّل، في مقال نشره في حزيران/يونيو 1994، إلى القول إن منظمة التحرير الفلسطينية التي تمتعت، بين كل حركات التحرير في العالم، "بدعم من الرأي العام العالمي وحصلت على دعم مالي من العالم العربي لم تحصل عليه أي حركة تحرر أُخرى"، قد فقدت، بعد اتفاق أوسلو، "كل المعالم الثورية وأصبحت نظاماً عربياً آخر"، وذلك على الرغم من استمرارها في التكلم "بشعارات الثورة والتحرير والكفاح المسلح."(9) وفي سنة 1998، اعتبر شرابي أن فشل الفلسطينيين بعد نصف قرن من النضال في تحرير وطنهم، على الرغم من التضحيات العظيمة التي قدموها، يعود، في المقام الأول، إلى "القيادة الأبوية المستحدثة" التي وقفت على رأس منظمة التحرير الفلسطينية، وجعلتها "تشبه معظم الأنظمة العربية الأبوية إلى حد ما في عدم قدرتها على مواجهة عقلانية إسرائيل الحديثة."(10)

نكبة فلسطين ليست الوحيدة أمام توالي النكبات العربية
أمّا العامل الثاني الذي أفضى إلى تراجع الانشغال الفكري العربي المباشر بالقضية الفلسطينية، فتمثل في أن النكبة الفلسطينية ما عادت هي الوحيدة التي يعاني العرب جرّاء نتائجها، بعد أن راحت النكبات تتوالى عليهم الواحدة تلو الأُخرى.

ويتطرق قسطنطين زريق، في مقال نشره في كانون الثاني/يناير 1991، تعليقاً على حرب الخليج التي أعقبت قيام النظام العراقي بغزو الكويت، إلى هذا العامل، فيكتب: "في الأيام الأولى بعد حرب 1948 وقيام إسرائيل وتهجير العرب الفلسطينيين والعجز الذي بدا من الدول العربية وجيوشها، نفثتُ عمّا كان يجول في نفسي من خواطر مقلقة بكتيب دعوته: معنى النكبة... ثم وقعت نكبة 1967 التالية - لا (النكسة) كما أراد تصويرها بعض حكام العرب ومفكريهم - فوجدت نفسي مدفوعاً إلى إعداد كتيب آخر دعوته: معنى النكبة مجدداً، جريت فيه على مثال الكتيب الأول في محاولة تحليل الأسباب وتقويم النتائج واستخلاص العبر. وقد جاءت الآن هذه الحرب المشتعلة لتثير في نفسي التساؤل عمّا إذا كان يجب متابعة الجهدين السابقين بتحليل مشابه لهما يدعى: معنى النكبة مثلثاً."
ويتابع زريق قائلاً: "والواقع أن المرء إذا رصد مسيرتنا في العقود الأخيرة وجد مناسبات عدة لتسجيل نكبات أُخرى وتحليلها. إذ إن هذه النوائب ليست محصورة في الحروب وهزائمها وخسائرها بل تمتد إلى غيرها من نواحي الحياة. فثمة نكبات في شؤون الحكم، وفي العلاقات الخارجية (وأبرزها في السنوات الأخيرة خروج مصر السادات عن الإجماع العربي ومصالحتها لإسرائيل من دون ضمان حقوق الفلسطينيين)، وفي السياسات الاقتصادية الخاطئة المهدرة للموارد والمعيقة للنهضة، وفي (الخطط) الاجتماعية والتعليمية التي تثقل أعباءنا بدلاً من أن تخففها، وفي استشراء الفساد في كثير من وجوه حياتنا الخاصة والعامة."(11)
والواقع أن هذه النكبات العديدة التي يشير إليها زريق، والتي أضيف إليها، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، نكبات أُخرى، جعلت اهتمام الشعوب العربية ينزاح عن القضية الفلسطينية لينصبّ على مواجهة مشكلاتها وأزماتها الداخلية. فقد بات من الصعب على الشعب العراقي، على سبيل المثال، أن ينصرف عن قضايا الاحتلال الأجنبي والانقسام الطائفي وإخفاق مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة ليهتم بالقضية الفلسطينية. كما أصبح من المتعذر على شعوب عربية أُخرى تشهد حروباً أهلية وتواجه مخاطر تفكك كياناتها الوطنية أن تتجاهل أزماتها الداخلية لتنشغل بالهمّ الفلسطيني.

الحداثة المجتمعية هي الطريق إلى تحرر العرب والفلسطينيين
لقد أوجد العجز والشلل العربيان إزاء هذه النكبات حالة من اليأس والشك في قدرة العرب على تجاوز أوضاعهم البائسة والسير على طريق التقدم والتوحد، كما حفزا بعض المفكرين العرب على العودة إلى سؤال النهضة الأول: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟" والانكباب من جديد على التنوير بأسس الحداثة المجتمعية وسبل بلوغها، بصفته الجواب الذي قدمه رواد النهضة العربية عن هذا السؤال.

فقسطنطين زريق نفسه، الذي ظل على مدى ستين عاماً، يؤكد أهمية النقد الذاتي الشديد والصريح "للأسباب الذاتية لضعفنا وتهافتنا"، ويستنكر "حصر أسباب اللاتوازن بقوة المعتدين وغطرستهم فحسب"، معتبراً أن هناك سبيلين مترابطين لتجاوز النكبة الفلسطينية، والنكبات العربية التي أعقبتها، هما: الأول، هو التجدد الحضاري الذي يعني "أن نصبح بالفعل والروح، لا بالاسم والجسم فقط، قسماً من العالم الذي نعيش فيه"، من خلال السعي لإقامة مجتمعات علمية وعقلانية، والثاني، هو الإنشاء القومي الذي يتلخص في "قيام كيان عربي قومي متحد تقدمي"، يُبنى على قاعدة "التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري"، قدّر، قبل عامين من رحيله، في كتاب كان بمثابة وصيته إلى الأجيال العربية الطالعة، أن علينا، في الأوضاع العربية الراهنة، وقبل أن نطرح سؤال: "ما العمل؟" أن نجيب عن سؤال: "هل ثمة من أمل؟" معتبراً أن "الكثرة من أبناء بلادنا العربية، ومن شبيبتها خاصة، لا تزال قابعة في المرحلة الأولى متسائلة عمّا إذا بقي ثمة أمل لها ولمجتمعاتها، وخارجة من هذا التساؤل إلى الشك والارتياب بأية محاولة للكشف عن سبل العمل." ويتابع زريق في كتابه هذا قائلاً: "وعليّ - شخصياً - أن أعترف أني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن (الأمة العربية)، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش وأؤثر عليها (المجتمع) العربي أو (المجتمعات) العربية مع اعتقادي المكين أن هذه المجتمعات تملك من العناصر المشتركة، الماضية والحاضرة والمستقبلية، ما يؤهلها لأن تتحول إلى أمة موحدة ذات قومية شاملة... بل إني غدوت أشك في صحة التكلم عن (المجتمعات) العربية القطرية أو عن (المجتمع) العربي العام نظراً إلى قصور أهل كل منها وأهلها جميعاً عن تكوين ما يصح أن يدعى (مجتمعاً) أو (شعباً) أو (وطناً)."(12)

أمّا ظاهرة العودة إلى سؤال النهضة الأول والانشغال بقضايا التنوير، فقد عكستها المؤلفات الفكرية العربية التي راحت تتكاثر في العقدين الماضيين، والتي صدر العشرات منها، في التسعينيات، عن دور نشر بيروتية، وأذكر منها: فوزي منصور، "خروج العرب من التاريخ" (بيروت: دار الفارابي، 1991)؛ جابر عصفور، "هوامش على دفتر التنوير" (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994)؛ خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)؛ عزيز العظمة، "العلمانية من منظور مختلف" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)؛ هشام شرابي، "النظام العربي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)؛ برهان غليون، "المحنة العربية، الدولة ضد الأمة" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994)؛ محمد عابد الجابري، "المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996)؛ فهمي جدعان، "الطريق إلى المستقبل: أفكار - قوى للأزمنة العربية المنظورة" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996)؛ جورج طرابيشي، "في ثقافة الديمقراطية" (بيروت: دار الطليعة، 1998).

وقد فسّر صادق جلال العظم، في حواره مع صقر أبو فخر، هذه الظاهرة بقوله: "كنا في الستينات، كتيار يساري، لا ننتقد أفكار التنوير ذاتها وإنما أوجه القصور في عصر النهضة، وذلك من مواقع بدت لنا يومها أكثر راديكالية وتقدماً وتقدمية... تبيّن أننا كنا ضحية تفاؤل كاذب.. الآن، يبدو لي أن هناك تراجعاً إلى خط الدفاع الثاني أمام الهجوم الآتي من اليمين، وخصوصاً اليمين الديني... أنا أجد نفسي الآن، مع آخرين كثيرين، في موقع الدفاع عن عصر النهضة وإنجازات عصر النهضة وأفكار التنوير. كما أعتقد أن قيم التنوير جديرة بأن يُدافع عنها، ويدافع عنها بقوة، ولا سيما أن هناك خطأ ارتكبه اليسار يتمثل في إهماله القيم المرتبطة كلاسيكياً بالتنوير. أعني استخفاف الخطاب اليساري والممارسات اليسارية بأمور مثل المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن والحريات العامة والعلمانية... إلخ. وكلها أصبحت موجودة الآن على جدول أعمالنا بقوة. لم يدرك المشروع اليساري (وأصحابه) بأنه كان عليه أن يستوعب هذه الأفكار والقيم والممارسات بحيث تصبح جزءاً من حياتنا الفكرية والعملية إذا كان جاداً حقاً في تجاوزها إلى ما هو أرقى."(13)

وهكذا، وبعد سقوط الرهان على الوحدة العربية طريقاً لتحرير فلسطين، وسقوط الرهان على تحرير فلسطين سبيلاً إلى الوحدة والتغيير العربيين، راح يتولد شعور لدى المفكرين النقديين العرب بأن قضية فلسطين لن تجد حلاً لها إلاّ بعد نجاح العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، في تملّك أسباب الحداثة المجتمعية، وخروجهم من "أزمة الآفاق المسدودة"، على حد تعبير فهمي جدعان، التي صاروا يواجهونها، وهي الأزمة التي فاقمتها، في العقدين الأخيرين، ظاهرة نمو الحركات الأصولية الإسلامية وامتدادها، والتي أرجعها قسطنطين زريق إلى "طول المعاناة التي خبرتها المجتمعات العربية من هجمات الخارج وعلل الداخل وعجز الحركات القومية واليسارية إزاءها"، بحيث تحوّلت المرجعية الدينية "إلى ملجأ للعقول المضطربة والنفوس الزائغة، يمدّها بعقائد مطلقة ثابتة ويحررها من عقد البلبلة واليأس"، ملاحظاً أن انتشار هذه الأصولية الدينية لم يقتصر على الأوساط الشعبية المحرومة، بل سرى أيضاً "إلى النخب المتعلمة المتطورة التي ضاعت بضياع العقائد البشرية التي كانت تؤمن بها."(14)

وقد عبّر هشام شرابي، في كتاباته الأخيرة، تعبيراً صادقاً عن هذا الشعور الذي تولد لدى المفكرين النقديين العرب، بالحاجة إلى تملك أسباب الحداثة المجتمعية. ففي مقال كتبه في سنة 1997، وبعد أن لاحظ أن النجاح الوحيد الذي حققته الأنظمة "الأبوية" العربية، "بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية"، بعد مرور خمسين عاماً من الصراع مع إسرائيل، هو "إحكام قبضتها على السلطة والثروة وتثبيت سيادتها القطرية في أنحاء الوطن العربي كافة"، استخلص أن "تحرر المجتمع العربي، بما فيه المجتمع الفلسطيني، هو مشروع قومي موحد وعلى تحقيقه يتوقف مستقبل العرب في القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن له أن ينجح إلاّ بتغيير النظام الأبوي القائم واستبداله بنظام ديمقراطي حديث"، وهو أمر لن يتم، كما قدّر، "إلاّ بواسطة صراع شعبي طويل داخل المجتمع ذاته، ومن خلال مجابهة مؤسساته القمعية وممارسات ديمقراطية صحيحة"، وهو صراع تخوضه "حركات اجتماعية من نوع مختلف: حركات تتبنّى مبادئ الحرية والمساواة (وفي مقدمتها حرية المرأة ومساواتها)، وتستوعب التباين والاختلاف في العمل السياسي والاجتماعي وتتعاون مع بعضها البعض في تحقيق أهدافها المشتركة."(15)

والواقع أن هذا التوجه الرامي إلى الربط بين النكبات العربية والتأخر المجتمعي العربي، لم يكن جديداً، وإنما برز، في أعقاب هزيمة حزيران/يونيو 1967، في عدد من الكتابات الفكرية القليلة التي استندت إلى منهج النقد الذاتي، ورأت في تلك الهزيمة، وفي النكبة التي سبقتها، نتيجة منطقية و"عقلانية" لمواجهة طويلة بين مجتمعات عربية تقليدية ومجتمع يهودي حديث حظي بدعم الاستعمار الغربي.

ففي سبعينيات القرن الماضي، شدد ياسين الحافظ في كتابه: "الهزيمة والأيديولوجية المهزومة"، ولدى تفسيره أسباب هزيمة الجيوش العربية في حزيران/يونيو 1967، على أن "جمود وشلل البنى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية في المجتمعات التقليدية لا بد أن ينعكس وينسحب على الصعيد العسكري نفسه، لأن الحرب الحديثة، باعتبارها اختباراً كلياً للقوى المادية والمعنوية لكل بلد، هي حرب مجتمع ضد مجتمع"، رافضاً، في هذا السياق، المبالغة في دور العوامل الخارجية في وقوع الهزيمة، ومعتبراً أن "الخارجي يفعل بقدر فوات وتآكل الداخلي"، وأن مواجهته الناجعة تكون من خلال "تثوير وتحديث الداخلي وإقامة بنى جديدة"، بما يضمن "تعديل نسب القوى"، ويسمح بامتلاك "وسيلة الفعل بالخارجي."(16)
لقد استخلص الحافظ أنه بات على المثقف النقدي العربي "بعد كل هذه الهزائم والإخفاقات" إطلاق "عملية نقد ذاتي صارمة تخترق المجتمع العربي (لا السطح السياسي فقط) طولاً وعرضاً وعمقاً، بلا خوف، بلا مراعاة، وبالطبع بلا تشفٍّ"، والسعي من أجل "استيعاب وعي كوني يمكنه النهوض بدور مناسب في تجاوز الهزيمة العربية ودفع عجلة النهضة العربية."(17)

(*) باحث فلسطيني مقيم بدمشق.
(**) محاضرة أُلقيت في مؤتمر "الكتاب والقضية الفلسطينية" (بيروت، 8/1/2010) الذي نظمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية في إطار فاعليات "بيروت عاصمة عالمية للكتاب".

المصادر
(1) كنت قد بيّنت في دراسة سابقة لي أن الباحثين الفلسطينيين الذين ركزوا، في الماضي، على "القضية" تركيزاً أدى إلى تغييب الشعب صاحب هذه القضية، صاروا يعيرون، في العقدين الأخيرين، اهتماماً خاصاً لكتابة رواية تهجير الفلسطينيين وتدمير قراهم في سنة 1948، وما قبع خلفها من أفكار ومشاريع صهيونية، كما فعل وليد الخالدي في الدراسة التي حررها عن "قرى فلسطين التي دمّرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها" بعنوان "كي لا ننسى" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999)، ونور الدين مصالحة في كتبه الثلاثة عن طرد الفلسطينيين وسياسة "الترانسفير" في الفكر والتخطيط الصهيونيين (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992 و1997 و2001). كما أخذ يبرز، بين صفوفهم، اتجاه واضح للانتقال من الماكرو - تاريخ، إلى الميكرو - تاريخ، من خلال السعي لاكتشاف المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون وتدوين أحداثها بصورة تفصيلية، مثلما فعل وليد الخالدي نفسه في دراسته عن "دير ياسين" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999)، وبيان نويهض الحوت في دراستها عن مذبحة "صبرا وشاتيلا" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003)، أو من خلال الكتابة عن تجارب تجمعات فلسطينية محددة، كما فعلت روز ماري صايغ في توثيقها، استناداً إلى الشهادات الشخصية، لتجربة مخيم شاتيلا في بيروت منذ تأسيسه حتى تدميره، في كتابها "التجربة الفلسطينية في لبنان" (1994)، ومثلما فعل حمد موعد في توثيقه لمخيم اليرموك، أكبر المخيمات الفلسطينية في سورية (2002)، أو من خلال الكتابة عن تاريخ مدينة أو منطقة بعينها، كما ظهر في السلسلة التي تصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية عن تاريخ المدن والمناطق الفلسطينية، والتي غطت إلى الآن تاريخ كل من: اللد؛ حيفا؛ صفد؛ يافا؛ القدس؛ لواء عكا؛ جبل نابلس؛ الجليل.

بالإضافة إلى ذلك، تزايد اهتمام الباحثين الفلسطينيين في الأعوام الأخيرة بإصدار المذكرات والسير واليوميات، كمذكرات كل من: واصف جوهرية؛ خليل السكاكيني؛ نجاتي صدقي؛ رشيد الحاج إبراهيم؛ محمد أمين الحسيني؛ عجاج نويهض؛ عبد الحميد السائح؛ بهجت أبو غربية؛ برهان الدجاني؛ ويوميات أكرم زعيتر. كما تزايد الاهتمام بالكتاب الذي يتحدث عن تجارب فردية تروي عودة الفلسطيني إلى فلسطين بعد طول منفى، وهو ما عالجه هشام شرابي وإدوارد سعيد وفواز تركي وفؤاد مغربي وغيرهم، أو تحكي تجربة الفلسطيني في المنفى، وهو ما فعلته غادة الكرمي (انظر: ماهر الشريف، "القضية الفلسطينية في الكتابة التاريخية العربية: هل هناك حاجة إلى تأريخ جديد؟" "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 55، صيف 2003، ص 29 - 41).

أمّا الدراسات التي تندرج في حقل الفكر السياسي الإسلامي، والتي صارت تصدر بوجه خاص في القاهرة وعمّان، فأذكر منها: صالح عبد العال، "معركة الإسلام في فلسطين: دراسة فكرية لمسائل حساسة في القضية الفلسطينية" (القاهرة: مكتبة الزهراء، 1998)؛ عبد الله ناصح علوان، "الإسلام والقضية الفلسطينية" (القاهرة: دار السلام، 2001)؛ محمد العمور، "مستقبل المقاومة الإسلامية في فلسطين: حركة حماس نموذجاً" (القاهرة: مركز الإعلام العربي، 2009)؛ إسحق أحمد الفرحان، "البعد الإسلامي للقدس والقضية الفلسطينية" (عمّان: دار الفرقان، 2003)؛ صلاح عبد الفتاح الخالدي، "حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية" (عمّان: دار العلوم، 2003).

(2) نديم البيطار، "قضية العرب الفلسطينية" (بيروت: منشورات صادر ريحاني، 1947)، ص 340 - 347.
(3) قسطنطين زريق، "القضية العربية"، في: "الأعمال الفكرية العامة"، المجلد الرابع (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، آب 1996)، الطبعة الثانية، ص 1650 - 1666.
(4) محمد عابد الجابري، "الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية" (بيروت: دار الطليعة، 1982)، ص 116 - 117.
(5) المصدر نفسه، ص 130 - 131.
(6) صادق جلال العظم، "زيارة السادات وبؤس السلام العادل" (بيروت: دار الطليعة، 1978)، ص 48 - 49.
(7) ______، "بيروت 82 والأسئلة الفلسطينية الصعبة"، جريدة "السفير" (بيروت، 20 حزيران/يونيو 1984)، نقلاً عن: العظم، "ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب" (نيقوسيا: دفاتر النهج، 1994)، الطبعة الثانية، ص 131 - 132.
(8) هشام شرابي، "الفدائيون الفلسطينيون: صدقهم وفاعليتهم" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1970)، نقلاً عن: شرابي، "نصوص ومقالات في القضية الفلسطينية 1970 - 2000" (السويد: دار نلسن، 2001)، ص 21 - 22.
(9) ______، "هشام شرابي العائد من غزة وأريحا يروي الحكاية"، جريدة "النهار" (بيروت، 8 حزيران/يونيو 1994)، نقلاً عن: شرابي، "نصوص ومقالات في القضية الفلسطينية..."، مصدر سبق ذكره، ص 458.
(10) ______، "الفلسطينيون بعد خمسين عاماً"، جريدة "القدس العربي" (لندن، 15 أيار/مايو 1998)، نقلاً عن: شرابي، "نصوص ومقالات في القضية الفلسطينية..."، مصدر سبق ذكره، ص 479 - 480.
(11) قسطنطين زريق، "وقفة تأمل ومراجعة"، جريدة "الحياة" (لندن، 25 كانون الثاني/يناير 1991)، نقلاً عن: زريق، "الأعمال الفكرية العامة"، المجلد الرابع، ص 1990 - 1995.
(12)______، "ما العمل؟ حديث إلى الأجيال العربية الطالعة" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص 14 - 15، 32.
(13) صقر أبو فخر، "حوار بلا ضفاف مع صادق جلال العظم" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998)، ص 55 - 56.
(14) زريق، "ما العمل؟..."، مصدر سبق ذكره، ص 50 - 52.
(15) هشام شرابي، "الأمن القومي العربي وقيام الدولة الفلسطينية"، جريدة "الحياة" (لندن، 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1997)، نقلاً عن: شرابي، "نصوص ومقالات في القضية الفلسطينية..."، مصدر سبق ذكره، ص 487 - 494.
(16) ياسين الحافظ، "الهزيمة والأيديولوجية المهزومة" (بيروت: دار الطليعة، 1979)، ص 141، 285.
(17) المصدر نفسه، ص 292 - 293.

2/6/2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما هو السبيل
جورج حزبون ( 2010 / 6 / 5 - 11:43 )
دائما تكتب كمفكر ملتزم بقضية شعبه ، وما جاء في مقالتك صحيح ، لكن الازمة هي في البديل الثوري ، فمثلا على الارض بالداخل تجد ان اليسار بحد ذاته ازمة ، فهو متعدد، ولا يتجدد بل اذا شئت يجتر ذاته ، وحزب السلطة يحكم بنفوذها ونحن ( حسب ما ارى ) نتجه نحو حالة عربية تقليدية وربما مؤشرات لفاشية ، الحركات الاسلامية توعد الناس بالجنة ونحن نوعدهم بالتضحية ولا افق للمستقبل ، الهجرة الشبابية في ازدياد مضطرد ، واليسار يتحالف مع الحركات الاسلامية ، لقد اصبحت اتسائل ما هو اليسار في فلسطين ، بالتاكيد ليس حالة وراثة ، بل اعتقد ان اليسار حالة ازمة

تحياتي لك وارجو ان نلتقي حين نزور الوطن


2 - تعقيب
رعد ( 2010 / 6 / 5 - 20:21 )
كنت اتمنى من الباحث الفلسطيني المحترم ماهر الشريف أن يتطرق في معرض حديثه عن تراجع الاهتمام بالقضية لفلسطينية الاشارة إلى ما تتحمله النخب الفلسطينية من اخطاء وكوارث في معرض طرح هذا الموضوع الهام. فمواقف القوى السياسية الفلسطينية على الساحة العربية كانت أحد أسباب عزلة هذه القضية الانسنية عن هموم العرب . فالموقف المنحاز لعدوان صدام على الكويت قوبل بالترحاب من غالبية الحركات السياسية الفلسطينية أن لم تكن كلها. كما أن الموقف الغريب لغالبية من هذه الحركات لم تتخذ الموقف الانساني من الشعب العراقي وهو يتحمل النكبات والقتل الجماعي على يد الارهابيين، بل أن خالد مشعل في محل اقامته في دمشق يستقبل الارهابيين في العراق-ميليشيات النقشبندية- الغارقة في دماء العراقيين. ولا نريد أن نشير إلى دور -الوصاية- للحركات الفلسطينية على الشعوب العربية في لبنان والأردن وغيرها من الشعوب الى حد المشاركة في الحروب الداخلية. وأخيرا لم يجد من يريد تحرير بلده من حليف إلا احمدي نجاد الغارق في دماء الحركة الديمقراطية الايرانية أو القاعدة التي تسبب الهلاك والقتل والدمار لشعوبنا. فالى متى السكوت على هذا السلوك؟

اخر الافلام

.. سقوط قتلى وجرحى في غارة إسرائيلية على سيارتين في منطقة الشها


.. نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الوضع بغزة صعب للغاية




.. وصول وفد أردني إلى غزة


.. قراءة عسكرية.. رشقات صاروخية من غزة باتجاه مستوطنات الغلاف




.. لصحتك.. أعط ظهرك وامش للخلف!