الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نكون أو لا نكون

عمر أبو رصاع

2010 / 7 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


يستنزفنا الجهل، ثم ما ينتج عن الجهل من تخلف عام، ومن نظم سياسية اجتماعية اقتصادية متأخرة لا تحفل بالفكر والثقافة إلا من باب استعمالها للزينة ولتبرير تلك النظم لنفسها، أما إنتاج الفكر الموضوعي الجاد، الذي ينطلق من النقد إلى البناء والتصحيح فهو يشكل خطراً تلفظه منظومتنا خارجها، وتلبسه تاج من الشوك بعد أن صلبه ليرجمه المجتمع معاً، فيهز النظام المهيمن رأس الحبور والرضا مستهزئاً، ولسان حاله يقول: ألم أقل لك؟!
إن أزمة البديل في العالم العربي جزء من أزمة شاملة، أزمة منظومة عربية متهرئة تماماً، منظومة عربية لم يجد فيها المفكر العربي الراحل د. نصر حامد أبو زيد جامعة واحدة من المحيط إلى الخليج تقبل به مدرساً فيهاً!!!!
ذلك أنه أفاد في حوار أجري معه قبيل وفاته، بأنه لو تمت دعوته للتدريس في أيّ جامعة عربية لما تأخر لحظة واحدة عن حزم حقائبه والقفول راجعاً من هولندا إلينا!
فلنتخيل إذن هذا الجسم الأكاديمي العربي العملاق الممتد من الخليج إلى المحيط والذي لا يجد فيه واحد من أعلام الفكر -بغض النظر عن رأي هذا أو ذاك بطرحه- مكاناً يدرِّس فيه أو مكاناً يعترف على الأقل بإنسانيته وحقه في الوجود نفسه، ما الذي نتوقعه إذن من هذه البيئة؟ وعلى ماذا يمكن أن نراهن في محاولتنا لاستشراف مستقبل هذه الأمة؟
النظم العربية بما هي عليه، نظم سياسية قفزت إلى السلطة في الغالب الأعم على صهوة دبابات المؤسسة العسكرية وطائراتها، وبنت عليها مقومات استمرارها، لتكون بدورها نماذج كاريكاتورية استنسخت بيد نزقة حمقاء عن هتلر وموسليني بل وعن الأكثر إغراء للقادة العرب كيم إيل سونج، نماذج مصابة بداء العظمة والغرور الذي يستفحل كحالة مرضية فيصور لصاحبه الشعب كما لو كان مجرد قطيع من الحشرات زاحفة تحت قدميه، فيكون والحال كذلك المفكر الأول والرياضي الأول والمقاتل الأول....الأول في كل شيء، فارس بني حمدان أو ديك القبيلة على حد تعبير شاعرنا نزار قباني.
هذه النظم التي أنتجت بدورها تحالفاً عضوياً مع طبقة من العفن الاقتصادي والسياسي والثقافي، طبقة جعلت تلتف حول الزعيم الملهم والمعلم، تماماً كما تلتف الطفيليات حول الوحش المفترس وهو ينهش جسم الضحية، تحاول أن تلتقط الفتات الذي لم ينتبه له أسد القبيلة وديكها، مائدة يكون المثقفون العضويون – حسب مفهوم جرامشي- فيها كالأيتام على مائدة اللئام، تلك الطبقة الطفيلية التي تكون ممارساتها الاقتصادية عبارة عن أدوار طفيلية لا تتجاوز حدود الحلول وكيلاً عن جهات الاستنزاف الاقتصادي، فتأت نشاطاتها إما على شكل تورق مالي أو على شكل وكالات وتجارة سلاح، وربما تجارة الشطارة التي لا هم لها إلا استنزاف ميزان المدفوعات الوطني من خلال تعزيز الاستيراد وثقافة الاستهلاك، طبقة من الأثرياء بلا ثروة إنتاجية، أثرياء تسمع بأرصدتهم المليارية دون أن ترى لها أثراً منتجاً وخالقاً لفرص العمل أو داعماً للناتج المحلي الإجمالي، تعضدها وتندمج معها أيضاً مجموعات التكنوقراط العالي، ذلك النسيج الذي تربى في حضن النظام العربي السياسي ليكون موظف ينفذ التعليمات على درجة رئيس حزب أو حتى رئيس حكومة أو وزير بل وحتى رئيس تحرير، طبقة من الخدم السياسي الذي لا يتوانى وبكل الوقاحة الممكنة عن اعتلاء المنابر لتبرير جرائم النظم السياسية العربية في حق مواطنيها، بمليار مبرر سخيفة يدعم عرى التخلف والتأخر ويكرس سلطة النظام الأبوي القمعي وبطانته العفنة، لقد طور النظام العربي واستثمر عبر العقود جيوشاً من الآليات الثقافية القمعية التي أنتجت رقيباً قميء متخفي في نفس كل كاتب أو صاحب رأي يلجمه ويحكم وثاقه حتى وإن أفلت من قبضة الرقابة الخارجية، طورت آلياتها لتصنع المخبر الذاتي في نفس الإنسان، والذي يمارس أقصى درجات القمع الفكري، حتى يصير الكاتب في عالمنا المصاب بالقحط الإبداعي المزمن، أداة رخيصة وجزء من المنظومة يعلم مسبقاً أنه لن يلمع ولن تفتح له الأبواب فيها إلا من خلال التحول إلى أداة في يدها.
في حضن هذا النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي أيضاً، لا يمكن أن نتصور معارضة موضوعية قادرة على التطور وعلى طرح وبلورة البدائل، لا يمكن أن تتسق معه وتستمر إلا المعارضة الجذرية، التي تشبه هذا النظام في مضمونها النهائي، معارضة تصل بها راديكاليتها إلى الطرح الطوباوي المفارق تماماً للواقع ومكوناته، معارضة لا تقل عنه إصابة بالغرور والنرجسية الفاقعة والاعتقاد باحتكار الحق وامتلاك الحقيقة المطلقة، لأن النظام القائم احترف إجهاض أي بديل موضوعي له، واعدم التفاعل والصراع الخلاق، وخلق حالة مذهلة من الخواء وانعدام الحراك، لم تبقي مجالاً إلا لمعارض جيفاري يركب حصان طروادة الديني فيقتحم به حصن النظام القائم وينفجر داخله ليزيد الأزمة تعقيداً والمشكل الاجتماعي الاقتصادي ومشهده قتامة وكآبة.
لتشتد عرى أزمتنا كلها وعلى نحو خانق كذلك بوثاق الموروث الثقافي ووطأته، التي يعززها هذا الشكل من المعارضة، فينذر في حالة انهيار النظام ببدائل أسوء؛ بالفوضى العارمة والعنف الذي لا حدود له وبتفكك الدولة والمجتمع نفسه، فنحن لسنا جزء من الثقافة الإنسانية الأوربية المعاصرة كما كان الحال بالنسبة لدول الكتلة الشرقية، حيث انحازت المجتمعات فور تحلل الكتلة إلى منتجات منظومتها الثقافية التي تنتمي إليها، فثقافتها أنتجت لها بدائل تنتقل إليها، فيما يمثل البديل الذي أنتجته ثقافتنا كارثة حضارية لو استلهم واستحضره، ليس لأنه منتجنا ولكن لأنه بات متأخراً ومتخلفاً بالقياس إلى لحظتنا التاريخية الراهنة، مما يجعلنا أيضاً وعلى مستوى الثقافة الموروثة نواجه تحدياً هائل الضخامة، لعل أول مهامه إقناع الإنسان العربي بأن موروثه السياسي الاجتماعي الاقتصادي بات متجاوزاً ومتخلفاً بالقياس إلى ما وصلت إليه الإنسانية، وأن استحضاره في ظل عالم اليوم معناه أن يرتمي مجتمعنا في غياهب الجب العميق لتلتهمه عتمة التخلف والتأخر.
لهذا كله فإن الحديث عن التحول من المعارضة الراديكالية والإيديولوجية إلى المعارضة الموضوعية التي تنطلق من الواقع وإليه، تبدو لي حلماً بعيد المنال، حلماً يحتاج إلى حالة من التوافق الوطني عليه، توافق يشارك به النظام السياسي العربي نفسه، وهو أمر يبدو لي مستحيلاً في ظل هذه المعطيات، فكلما تقدمت هذه المعارضة خطوة أعادها النظام بما هو عليه إلى الوراء خطوات، تلك المعارضة الموضوعية التي لا بد أن تتبلور بداية من المدرسة إلى الجامعة إلى النقابة والحي والمدينة والحزب والصحيفة، ستصادرها المنظومة القائمة أولاً بأول وتعيدها باستمرار للمربع الأول، لأنها لا تنسجم مع بنيتها ولا تستجيب لها، كما أنها لا تنسجم مع شكل لمعارضة الراديكالي الطوباوي من ناحية أخرى فينظر لها باعتبارها دور من المراهقة السياسية التي تعجز عن مفارقة الخانات الضيقة الصغيرة لتلعب في القضايا العالمية الكبرى!
وبعد
من أين نبدأ إذن والحال كذلك؟
وعلى ماذا نعول إن كنا صادقين في محاولة بناء تلك المعارضة الموضوعية القادرة على التطوير وعلى طرح البدائل، وعلى تكريس الديمقراطية الليبرالية بصفتها نهجاً وعقداً اجتماعياً حقيقياً؟
إذا كانت تلك هي أقطاب اللعبة في عالمنا العربي، من السلطة والطبقة الطفيلية المتكاتفة معها، ومن معارضتها الطوباوية الراديكالية، باعتقادي الرهان المعقول ليس متاحاً إلا على القليل، بل والقليل جداً، من الشرائح العليا في الطبقة المتوسطة وبعض حالات البرجوازية الوطنية المنتجة على قلتها ومخاوفها الكبيرة وصعوبة دفعها للتحرك، فلا بد من خلق تحالف وطني يعي نفسه بهذا الاتجاه، ويعي أن مهمته تتمحور على صناعة البدائل وصياغة المخارج والحلول، هي مهمة شاقة وفي منتهى التعقيد إلا أنها أبداً ليست مستحيلة، وهي بالنسبة لنا في عالمنا العربي ضرورة من أجل البقاء، أن نكون أو لا نكون، تلك هي القضية.
مودتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة