الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هي

محمد نبيل

2010 / 8 / 31
الادب والفن


هي تعشقني، لكنها لا تريد التخلي عن “فيليب”، رجل أشقر اللون، قامته طويلة، و صدره غزاه الشيب بشدة. يفتخر دوما بمشاركته في الحرب، وخروجه ناجيا من بين أشلائها. تزوجت به لأنها لم تجد غيره. “فيليب” يملأ الأقداح ويقدمها هدية لها كل عشية، قبل أن تنام معه في لحظة انتشاء مغرية. و في كل يوم، أحس أكثر بأنها تحب فقط أن تنظر كيف أمشي مائلا من شدة التعب.

غرفتي غير بعيدة عن بيتها الشاسع. أعشق مشاهدة الورد الذي يزين حديقة بيتها، فأشم رائحته . لا أنهار عندما أمسك وردة، أو أضع يدي على حائط بيتها القصير، أو حتى عندما أجمع بعض أوراق الشجر الذي ينتحر قافزا من أعلى الأغصان، ليسقط في مهب الريح.

هي مهووسة، و تعاني من وسواس قاتل . غالبا ما كانت تردد على مسامعي إعجابها بكل شيء يؤثث غرفتي:
- “عيناك توحي لي بأشياء ما، عند كتابة قصائدي الشعرية، عن أحلام زوجي، ونظرته إلى الآخرين، و كيف تورطت معه في حكاية غرام مجهولة. أجهل مصدر هذا الإلهام ؟”.

في تلك الصبيحة، لم تكن تئن أو تبكي، عندما سقط “فيليب” بين ذراعيها. أصيب بالتهاب رئوي حاد فدخل المستشفى. كان كلبه ينظر إليه بعينين مغرورقتين بالشفقة. ربما تكون قد تأثرت بركام الثلوج التي كانت تكسو غرفتها الموجودة في الطابق العلوي من البيت، أو ربما رأتني أبتسم خلف الغرفة التي ينام فيها زوجها فظنت أنني أترقب نهاية لزوجها الشقي. في الحقيقة، كنت متعبا، وأردت استغلال لحظات راحة عابرة، كي أتكلم مع نفسي. أنا على يقين، بأنها دخلت معي في لعبة مجهولة العواقب.
كانت عندي في شقتي، فسألتها ذات مرة:
- لماذا تداعبين شعري المشعت، و صدري المبلل بماء الورد؟
-شعرك و عينيك و أنفك الخشن، و بشرتك الداكنة، وحتى رائحة الورد، هي من صنع خيالي.

لم تكن على علم بأن خالتي التي أهدتني قارورة ماء الورد، ماتت وهي نائمة بين ذراعي. قارورة ماء الورد وضعتها قرب سريري، حتى لا أنفلت من قبضة الماضي. منذ أن عشقت الترحال، تذكرت أشياء كثيرة، وتزاحمت في ذهني ذكريات لا مفر منها في تاريخي. قلت لها دون أن أتردد:
-جسدي مقبرة .

مرت الأيام، وجاءت تلك الأمسية المغبونة. كنت مرهقا. الشمس انسحبت، وحل ظلام دامس أخفى عني بيتها. مرت هي أمامي كشبح يقفز فوق الأرض. نظرت إليها من النافذة. و كعادتي، كنت أحاول أن أرسم بقعا صغيرة لخريطة بيتنا القديم. وبعد دقائق معدودة، دقت على الباب ثم على التو دخلت. بدأت تحكي لي عن صراعها الأبدي مع “فيليب”. اقتربت مني، بعدما اكتشفت أنني أحاول اختلاس بعض اللحظات الخاطفة، لقراءة ما دونته أمس، من حكم صينية على ورقة بالية، تملأها الثقب من كل جانب. الحكم القديمة تغريني كثيرا، بالرغم من أنني لست كائنا تراثيا .
طاردتني المرة الأولى،ثم عاودت الكرة . سألتها :
- وهل في القلب يسكن حبان ؟
-في قلبي حب، و عشق جنوني ..
-وكيف يلتقي الحب و العشق في نفسك ؟
-لا مفر من العودة إلى أصل الأشياء.
-لقد ضاع الأصل منذ بداية التاريخ .
-لا تسأل عن دموعك التي راحت…

كانت تراوغ . لم تكن تتجرأ على البوح بنظرتها الغريبة لي. جسدي لا يحتمل أي شيء.”فيليب” في المستشفى . أنا اليوم في حديقته، أتنزه و أحاول أن أرحل مرة أخرى. كانت هي تمرر يدها بهدوء يلامس واسطة جبيني. استسلمت في لحظة ضعف قاهرة . الإنسان يضعف مهما قاوم، لأن طبيعته كذلك. هناك من ينهض من كبوته، و هناك من يصير عبدا لهزات الزمان.

أحسست أنها على استعداد للإنصات إلى حكاياتي . أزلت يدها التي وصلت حد شعيرات أهدابي، ثم قلت لها بصوت خافت:
-ليتك تعرفين ما يسكنني …ليتك تستنشقين رائحة تلك الأرض ..
- لم أصل إلا متأخرة …عيناك جدار …جسدك جدار …

لا أدري لماذا في تلك اللحظة، كانت أفكار كثيرة تستنطقني. تذكرت “المعلم بوشتى” وهو يردد عبارته الملعونة ” إنهن بنات القحاب “، و “فطومة” التي طردت الرجل من حياتها، و أزالت بكرتها بنفسها في غرفة نوم أبيها . و عائشة ، زوجة مسجون معروف في الحومة، يدعى” امبارك” ، كانت تصرخ كل صباح: “المرأة مثل الشيطان” . آه من كلام “المجدوب با احمد” القاسي، و أمثال العطار “حمدون” الطائشة.

رحلت دقائق، و لم أعد إلى مكاني، إلا بعدما سمعتها تمطرني بوابل من الأسئلة:
-أين كنت ؟ أين ذهبت؟ هل تفكر في “فيليب” ؟ هل تحس بتأنيب الضمير ؟هل استيقظ ضميرك ؟
-لا أدري …ربما “فيليب” يفكر فينا نحن الاثنين .
-هل تحب “فيليب” أم أن ضرورة علاقتنا هي التي تجمعك به؟
-أحبه لكني أحاول أن أنساه حتى ينساني..
-إنه يوحي لي بالشعر و القلم و أشياء أخرى، و أنت ؟
-يذكرني بقسوة لا مفر منها، و عطف ملتبس..
- هل تريد أن تعود إلى قريتك ؟
-لا أفكر في العودة حاليا .
- لماذا يا صديقي ..؟
-البعض رحل من هناك، و البعض مات من شدة الألم. انتزعوا منا الدكان الذي كنا نبيع فيه الطين، و حولوه إلى نفق يمر منه القطار السريع.
-لماذا لم تتزوج ؟
-الجميع يأكل و يشرب، و يمارس الجنس، لينجب أطفالا ثم يموت..
-هذا أمر طبيعي .
-وهل الطبيعة عجزت أن تكون مرنة؟.

اجتاحني إحساس مرعب يوحي لي، بأن الحجرة التي كانت تجمعني بها قد ضاقت. قررت الانسحاب، لكنني لم أتجرأ على طردها من البيت. هي في أمس الحاجة إلى حكاياتي . لم أكن أرى فيها غير سفر مؤقت، أقتل فيه ما تبقى من رائحة الورد التي كانت تفوح من كتبي، و أوراقي الموجودة على الرفوف.

عندما انتشر الحديث عن علاقتي بها في الحي كالنار في الهشيم، أضحت نظرات الجيران تغتال في نفسي كل شيء. كانت هي تجهل أفكاري، لكنها تستلهم من قصصي، الكثير من الأحاسيس التي أجدها في أشعارها الرومانسية. المسكينة ربما تكون ضحية لقلقي، وراحتي المفقودة. لقد اعتقدت أن عيني تظهر لها ما في جوفي من بقع كئيبة. هي تحاول أن تغامر بلسانها وفمها البلوري لجس نبض شهواتي. أرى في أحمر الشفاه بعضا من أطلال بيتنا. كنت هائما في زمن غير واقعي . حاولت أن ترقص معي، عندما كانت تستمتع بموسيقى شرقية، تنبعث من قرص، تركه لي صديق رحل إلى مدينة أخرى. هي وحيدة الآن، و زوجها يرقد في المستشفى. لم تفلح في كشف المستور تحت قدمي، فهوى جسدها على جسدي، وتحت وطأة الاستغراب، رقصت كطير مذبوح. كان عجزها باديا، وكأنها تقف مذهولة أمام صرخة آتية من أعالي الجبال. خنقت الحقيقة في رحم أنفاسي. لم تسل الدماء، بل انتفخت عروقي، ثم قلت لها:
-يا لك من عاشقة لحب مستحيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/