الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السعودية ومحاكمة الاصلاحيين العنية: من يحاكم من؟

مضاوي الرشيد

2004 / 9 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


منذ فترة يبدو ان النظام السعودي يحكم بذراعين: ذراع الظاهرة الاعلامية التي تميع الحقيقة وتضلل الرأي العام الداخلي والخارجي وذراع الآلة القمعية التي تسلط السيوف علي رقاب العباد دون محاسب أو رقيب او قانون. وما محاكمة الاصلاحيين الثلاثة عبد الله حامد ومتروك الفالح وعلي الدميني والتي قرر النظام ان تكون علنية وهي المرة الاولي لمثل هذا التصرف، الا من باب تكريس الدولة كظاهرة اعلامية تصبو لأن تظهر بمظهر الدولة النزيهة التي تفتح ابواب القضاء للجمهور والصحافة بعد ان نجحت الآلة القمعية في انتشال المصلحين من الحرم الجامعي وغيره من الاماكن التي يتواجدون فيها منذ اكثر من ستة اشهر. ولن نقول اننا بانتظار ان تفتح ابواب السجون لمنظمات حقوق الانسان العالمية والصحافة الحرة تنقل للعالم مآسي فاقت التصور والتوقع. بل نريد ان نسلط الاضواء علي بعض الامور التي تصدرت الساحة السياسية خاصة بعد الجلستين اللتين ظهر الاصلاحيون فيهما وكأنهم يحاكمون النظام نفسه وليس العكس.
تبين بعد هذه الجلسات المعلنة اننا هنا بصدد مرحلة جديدة من مراحل المواجهة بين النظام والنخب الاصلاحية. تعتقد الدولة انها توجه الاتهام لهؤلاء المصلحين من خلال قضاة قد يسقط حكمهم ويسقطون هم انفسهم في هذه المحاكمة، ولكننا في الواقع بصدد محاكمة نظام متهم ومدان. اثبت الاصلاحيون المتهمون اليوم ان لهم وجوداً فكرياً من خلال كتابات وطروحات كانت قد سبقتهم الي السجن اذ ان هذه الثقافات تعري الواقع المرير الذي يعيشه المجتمع في الجزيرة العربية والمتمثل بغياب العدالة الحقيقية والمشاركة السياسية والقضاء المستقل والاستهتار بحقوق الانسان وانعدام حرية الرأي والتجمع. اثبتت الاحداث ان التنظير لهذه الامور شيء والمطالبة به شيء اخر لان المطالبة تعني دوما ان المطلوب غير موجود.
يجب ان نقرأ قرار الدولة بأن تكون سلسلة المحاكمات هذه علنية من باب كون النظام اليوم ظاهرة اعلامية بحتة تحاول ذر الرماد في العيون. تكرست هذه الظاهرة من خلال حلقات الحوار الوطني وحلقات التحليل النفسي المتلفزة بالاضافة الي برامج التوبة المعلنة من بطولة هذا الشيخ او ذاك ومن خلال الحملات الدعائية في لندن كالليالي السعودية والتي استعرضتها السفارة من باب احياء التراث، ناهيك عن الحملة الدعائية المنطلقة من واشنطن حاليا والهادفة الي تلميع صورة النظام في الولايات المتحدة وتبييض وجهه عند الادارة الامريكية بل الشعب الامريكي كله وتبرئته من ما علق به من سمعة سيئة، اذ انه يبقي ـ اي النظام ـ متهما بتمويل الارهاب وترويج الفكر المتطرف وغيره مما التصق به خلال السنوات الثلاث الماضية. تحول هذا النظام الي ظاهرة اعلامية خاصة بعد ان تلاشت قاعدته التي علي اساسها يثبت اقدامه في السلطة وكرسي الحكم. عادة تكون هذه القاعدة او الركيزة ما يغني عن شركات العلاقات العامة ونصائح المؤسسات الدعائية التي تصرف عليها الاموال الطائلة والتي يكون هدفها الاول والاخير اظهار رموز الحكم بمظهر مقبول في الخارج، وكأن هذا النظام يصبو للنجاح في الانتخابات الامريكية القادمة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) وليته يعلم انه يخوض انتخابات محلية كل يوم وليس المقصود هنا الانتخابات البلدية المقرر اجراؤها عن قريب في الجزيرة العربية وهو ايضا يعلم ان لا المجتمع ولا الاسلام يحتاجان الي حملة دعائية ونصائح شركات العلاقات العامة، بل ان الاسلام والمجتمع بغني عن كسب ود أهل فلوريدا ودلاس وكاليفورنيا فمجتمع الجزيرة حمل راية الاسلام وانتصر في هذه المهمة دون نصائح الشركات الاعلامية.
اما الاسلام نفسه فانتشر برسالته وقيمه وتعاليمه وليس بجهود اعلامية تستغل من قبل اشخاص لهم مصالحهم الخاصة. ولم يرتبط الاسلام يوما ما بفئة واحدة وجهودها الخاصة بل اثبت انه حضارة عالمية تستوعب الابيض والاسود، الغني والفقير، القريب والبعيد.
اثبتت حملات النظام الاعلامية ان الذي بحاجة لمثل هذه الحملات انما هو النظام ذاته هذا النظام يقف اليوم وحيدا منسلخا عن بيئته بعيدا عن هموم شعبه ومعاناته فاقدا لقاعدته الشعبية هائما بين متاهات الاعلام وسراديب السجون لا يدري من يخلصه من ورطته وينتشله في مرحلة سقوطه: هل هو الصوت، الصورة ام الكلمة؟ بل ربما انه السوط وهو خيار من لا كلمة ولا فكر له. يلجأ النظام تارة الي الكنيسة الدينية علّها تعيد نشر الخنوع فتوعد بالجنة، وترهب بالنار كل من ابدي رأيا مختلفا وتخيل مستقبلا افضل وعمل من اجل دينه ودنياه. وتارة يلجأ النظام الي طاقم المعرفة المزيفة الذي ربط مصيره بمصير الزمرة الحاكمة يروج سياستها ويمهد لمشاريعها التي طالما اختزلت المجتمع في معادلات بسيطة مثل الراعي و الرعية ، الحاكم والمحكوم ناهيك عن معادلات الظالم و المظلوم و العبد والسيد والتي لا تجد طريقها الي مقولات الصحافة المقيدة ومنابر الحوار القائمة علي اعمدة واهية. وتارة يلجأ هذا النظام الي شيوخ القبائل الذين يحجون الي العاصمة في مواسم متعددة يأتون معلنين ولاءهم يطوفون حول ولي الامر وينتهي المطاف الي الاصطفاف امامه وعلي بعد امتار منه حاملين قصاصات ورق سطرت عليها قصائد المديح والتمجيد وكلها كلمات افرغت من معناها وتحولت الي بذاءة لا تقل في سقوطها عن سقوط المتكلم وكلها صور انمحت فيها ملامح الوجوه وتحولت الابدان الضخمة الي اشباح هزيلة اختلطت فيها الالوان والاشكال. وشتان بين هذه الصور والاشباح وبين صور الاصلاحيين في قفص الاتهام. الصور الاولي انعدمت فيها الحياة وخنقت فيها الارادة اما الصور الثانية بين جدران المحكمة ففاضت بالامل ونطقت بالحق ووقفت الاجساد شامخة عالية الرأس رغم ما اصابها من ضعف خلف القضبان. كانت كلمات الاصلاحيين في الجلسة القضائية المفتوحة كالسيل تجرف مؤسسات واهية كالقضاء نفسه الذي بني علي ارادات الاشخاص وتعجرفهم بل حتي جهلهم بما هم يحكمون.
يخطيء من يعتقد ان محاكمة الاصلاحيين هي محاكمة للاشخاص الثلاثة الذين هم وراء القضبان بل هي محاكمة لمن كان حرا طليقا ولكنه مسجون محاصر ومقيد رغم وجوده في الهواء الطلق. اولا هذه المحاكمة هي محاكمة للنظام نفسه الذي يبدو انه يحفر حفرته بيديه. هذا النظام الذي تعود علي السرية والكتمان وقع في فخ الشركات الدعائية التي تحاول ان تقنعه بجدوي الانفتاح والشفافية ولو المظهرية. وكل هذا سيف ذو حدين: فمن جهة يريد النظام عن طريق المحاكمة العلنية ان يظهر بمظهر النظام المتطور المتحضر الشفاف، ولكن هذه العلنية نفسها جردته وبسرعة غريبة من ستار كان يخفي وراءه العفن الذي يرتبط دوما بما اختفي وطال اختفاؤه وغاب وطال غيابه. يرتبط هذا العفن بكل ما بقي بعيدا عن الضوء وهو عماد الحياة وشريانها وضمان استمراريتها. المحاكم العلنية ما هي الا شاهد علي خروج العفن من العتمة الي النور. ولا بد هنا من كلمة تقدير للمساجين الثلاثة الذين بصبرهم وجرأتهم وموقفهم كشفوا هذا العفن وازاحوا الستار عن هذا النتن.
عندما تكلم الاصلاحيون في المحكمة، ونفوا التهم الموجهة ضدهم والتي احتاج سردها الي اكثر من خمس واربعين دقيقة بأسلوب هاديء بعيد عن الغوغائية والشعارات الخلابة يعكس تمرسهم في النقاش والحوار والدفاع عن المباديء والحقوق، اثبتوا انهم ليسوا بحاجة الي مبادرات تشجيع الحوار او النقاش. انهم في واد والنظام في واد. وقفة الاصلاحيين هؤلاء هي ايضا محاكمة لمن يسمي نفسه بالمحامي، ومنهم من اختلطت عليه الامور لا يدري هل هو يدافع عن موكله ام عن الدولة كما فعل احد المنسوبين لهذه المهنة عندما خرج يدافع عن الدولة وقرارها بسجن موكليه بدلا من ان يدافع عن حقوقهم الشرعية من خلال منبر احدي الفضائيات العربية.
محاكمة الاصلاحيين هي محاكمة لمحام آخر منشغل بوضع اللمسات الاخيرة علي عقود تجارية مع شركات خارجية من باب بيع الثروات والتعجيل في الانضمام الي المنظمات التجارية العالمية، فنراه يهرول بين العواصم العالمية حاملا ملفات وعقود تبرم من باب الانفتاح الاقتصادي والشفافية والرغبة في اثراء جيوب محلية قد فاضت بمحتوياتها، علّ هذه المحاكمات العلنية تحاكم بطريقة غير مباشرة من نسي او تناسي تعريف مهنة المحاماة.
المحاكمات العلنية هذه تحاكم الاكثرية الصامتة المسلمة امرها لله المتخاذلة المعطلة لقدرتها وتفكيرها، فئة القدرية هذه تبلورت ونمت فاقدة للارادة في ظل نظام عودها علي الكسل والخمول الفكري.
رغم ان محاكمة الاصلاحيين العلنية هي في الواقع محاكمة لفئات واشخاص خارج السجن، الا انها بالدرجة الاولي محاكمة للنظام وغطرسته من خلال التركيز علي الامور التالية:
1 ـ اليوم يحاكم النظام لانه اثبت عدم قدرته علي ان يفرق بين ارهابي واصلاحي، كبير وصغير، رجل وامرأة في تعامله مع قضايا مصيرية خاصة وانه يقف علي مفترق طرق دون حكمة او اشارات مرور توجهه في هذا الاتجاه او ذاك لذلك هو يتردد ويتخبط وقد يؤدي هذا الي الارتطام والانهيار. فسجونه تمتليء بالكثير ممن سلبت حريتهم زورا وبهتانا وما تطبيق العقاب الجماعي علي الآباء والزوجات والابناء الا مرآة لهذا التخبط حيث تمارس الدولة الضغط علي المطلوبين من خلال احتجاز محارمهم واطفالهم، وربما ان النظام بصدد افتتاح مراكز حضانة في السجون من اجل استيعاب هذه الشريحة غير العادية. ان يصل النظام الي هذه المرحلة انما هو دليل قاطع علي شعوره بعدم الاستقرار. ان اي نظام يلجأ الي العنف بهذا الشكل انما هو نظام مفلس مفتقد لقاعدة شرعية توطد حكمه وترسخه بطريقة لا يحتاج بعدها الي عرض عضلاته بطريقة فاشلة في كسب الصديق، ناهيك عن العدو.
2 ـ اليوم يحاكم النظام محاكمة علنية علي مرأي ومسمع العالم بأجمعه بسبب تحويله الجزيرة العربية الي دار ابتلاء يمتحن فيها الرجال والنساء كل يوم في دينهم وعقيدتهم وفكرهم وحتي نواياهم وخفايا قلوبهم. الانسان يظل متهما حتي تثبت براءته ويعلن علي الملأ ولاءه وانبطاحه او تعهده بالكتمان من خلال توقيعات يجمعها النظام كشهادة علي افلاسه وليس افلاس الموقع الذي يقهر ويجبر علي امره تحت الضغط المباشر وغير المباشر.
3 ـ اليوم يحاكم النظام علي ترسيخه للازدواجية والانفصام الشخصي حيث درب المجتمع علي ان يظهر ما لا يؤمن به ويفصح عما لا يعتقده ويتصرف عكس ما يمليه عليه ضميره. ولد هذا النظام حالة مرضية يختلف فيها الباطن عن الظاهر ويتناقض معه. وما الآفات الاجتماعية المنتشرة في المجتمع اليوم الا نتاج التناقضات وحالة المحنة والامتحان التي يكرسها النظام وترسخها آلته الاعلامية.
4 ـ يحاكم النظام اليوم لانه نظام لا يحترم الفكر الحر والثقافة المبدعة بل هو يقتل الروح المحلقة والمخيلة الجريئة التي تشطح الي افاق عالية ويحيي الفكر المقلد المبتذل الذي يروض المجتمع ويقص اجنحته حتي لا يحلق ابدا ولا يتصور مستقبلا افضل. يحاكم النظام لانه المسؤول عن تنمية شخصيات فارغة مفرغة من المضمون والمحتوي وتجميل وجوه مقنعة تخفي ارادات محطمة وعزيمة متواهية تمشي هائمة وكأنها آلة ميكانيكية تمت برمجتها من قبل طاقم كبير من ما سمي اهل المعرفة والبرمجة.
ان محاكمة الاصلاحيين الثلاثة هي بداية جريئة تفتت اساطير النظام وتعريه من ثوب مهتريء لن ينفعه الترقيع. وربما ينجح هذا النظام في الحملة الانتخابية الامريكية القادمة ولكنه لن ينجح في انتخاباته المحلية خاصة بعد المحاكمات العلنية هذه. وربما سيفرج عن المعتقلين الثلاثة اذا وجدت الدولة المخرج المناسب الذي يحفظ ماء الوجه بعد حلقات متتالية من هذه المهزلة المسماة محاكمة الاصلاحيين العلنية التي بعثرت الحد الفاصل بين المُتهم والمتهَم بل قلبت المحاكمة من محاكمة اشخاص الي محاكمة نظام مستبد ومجتمع تربي علي التخاذل والقدرية المطلقة. الاصلاحيون صفعة قوية في وجه الخاذل والمخذول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر