الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمتان، لاغير !!

مصدق الحبيب

2010 / 10 / 19
الادب والفن


جلست ازاء شاهدة قبر انيقة لتضع باقة من الزهور اليانعة في ذكرى رحيل والد تها. انها امرأة شابة فاتنة في السابع والعشرين من عمرها. ضربت شمس المساء خصلات شعرها المائل الى الحمرة فجعلتها تبدو وكأنها اشرطة من النحاس المتوهج. تأملت شاهدة القبر وحدقت في حروفها بعينين مضيئتين كالكهرب الاصفر وقد اغرورقتا بالحزن والاحباط. ومن خلال رؤيتها المضببة بالدموع سرحت مخيلتها تستعرض كشريط سينمائي قصة كفاح امها الحنون التي غمرتها بالرعاية والاهتمام وكرست حياتها القصيرة لتربيتها وتنشأتها وارسالها لكلية القانون لتصبح محامية ناجحة. تلك الام التي لم تتزوج ثانية ولم ترتبط باي رجل بعد ان هجرها زوجها الاول والاخير دون سابق انذار، وعلى حين غرة، وطفلتهما ماتزال في المهد. عملت الام ليل نهار تنوء منفردة بعبء العائلة فارتحلت عبر المدن الكبيرة والصغيرة وطرقت ابواب المتاجر والمستشفيات والمصانع الملوثة البيئة التي تسببت اخيرا في تلف رئاتها بالسرطان الذي انهى مشوارها مبكرا. استعادت البنت في ذاكرتها جمال ورشاقة وسحر امها كما رأتها تطفح بالشباب وتتفجر بالحيوية في البوم صور الحب والغرام مع ابيها الذي لم تره ولم تعرف عنه اي شئ قط سوى ذلك الشاب الوسيم الذي تأبط ذراع امها في تلك اللقطات السعيدة. قررت حينذاك ان تبدأ رحلة البحث عن الاب الهارب المطلوب لعدالة ضميرها النقي وكبريائها الجريح، ليس لشئ سوى ان تقول له كلمتين، اذا كان مايزال حي يرزق!!
****
اصطحبها الموظف المكلف بالبحث الى مدينة نائية مغبرة حيث كان قد نسق اللقاء بوالدها في احدى البنايات الرسمية، وأشار لها ان تدخل احدى الغرف التي كان ينتظر فيها الوالد. سحبت شهيقا عميقا وامسكت مقبض الباب الموصود بارتجاف واضح وتسمرت تسأل نفسها: لماذا كل هذا العناء؟ لقد امضيت سنتين من البحث الشاق. سافرت الى مدن وقرى بعيدة، ركبت السيارات والقطارات والطائرات. انفذت اجازاتي وانفقت مدخراتي وافرغت جيوبي وضيعت وقتي وازعجت احبابي واصدقائي وكلفت زملائي!! فمالذي ساجنيه من هذا الشقاء؟ وكيف دب وسواس هاتين الكلمتين في رأسي؟ ومالفائدة من قولهما ...ترددت وهمت بالرجوع الى ادراجها ، لكنها وبلمحة بصر ادارت مقبض الباب.
****
جلست في زاوية من الغرفة وجلس الرجل الكهل وهو في اواسط الخمسين في الزاوية الاخرى رثا أشعثا مكتئبا يبعث على الرثاء. بعد صمت مريب لبضع دقائق وهي تتهيأ لاطلاق كلمتيها، أطرق الرجل واجهش ببكاء مبحوح. فلم يكن منها الا ان تغص بعواطفها هي الاخرى وتجيبه بنحيب يقطع اوتار القلب. ثم رفعت رأسها وقد سال الكحل سيولا على خديها المتلألئين اللذين بدا وكأنهما قد غسلا بماء الفضة. نظرت اليه وهو يمسح عينيه وانفه بمنديل متسخ. قالت:
لماذا تركتنا؟
صمت الرجل لدقائق وهي مازالت تنتظر الجواب بوجه ابتل بالدمع الاسود.. قال بصوت كسرته العبرة وأرجفه الذنب:
كنت شابا طائشا متهورا.. رأيت المسؤولية تجثو على صدري وتضيق على خناقي ولم اكن اهلا لتحملها... فهمت على وجهي في هذه البلاد المترامية الاطراف وتمنيت ان يخفيني زحام المدن ويبتلعني ضجيجها. وعندما كبرت لم اجد في نفسي الرجولة الكافية لمواجهة اخطائي وتصحيحها. أوهمت نفسي بان الاخطاء تمحو نفسها، والخطايا تطهر ذواتها، والذنوب تكفر عن بعضها، والزمن كفيل بجبر الخواطر!! ثم اطرق ينتحب ثانية.
نهضت البنت وهي لاتزال تكفكف دمعها وتركت الغرفة بصمت. تبعها الوالد الى خارج البناية. تواجه الاثنان ثانية عند باب البناية الخارجي وساد بينهما صمت محرج آخر. مدت يدها مرتجفة لتصافحه توديعا. تقدم نحوها محاولا ان يضمها اليه، لكنها انسحبت الى الوراء ثم استدارت.. ومضى كل في سبيله يجرجر اذيال الهزيمة محاولا ان يخفيها بدموع الحد الادنى المهين من الرضا والقناعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الغفران
طلال سعيد دنو ( 2010 / 10 / 20 - 02:58 )
يا صديقي القديم يا جزء من ذاكرتي قصتك الجميلة العميقة في تفاصيلها
تبعث الى الحزن ولكن اسئلك الا نستطيع ان نرمي الماضي ورائنا ونسامح
واحدنا محتاج للاخر مجرد تساؤلسلامي لك وللجميع من الاخوان القدماء




طلال سعيد

اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد