الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من كتاب أوهام النخبة - علي حرب

ماجد محمد حسن

2004 / 9 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية


أوهام النـُخبة

علي حرب/ تقديم ماجد محمد حسن

لماذا لم يفلح المثقفون في ترجمة شعاراتهم ؟

لماذا يتحولون إلى مجرد " باعة للأوهام " ؟

لماذا لم يتمكنوا من تجديد عالم الفكر وتغيير الواقع ؟


إن النقد هو تحليل للعوائق التي تحول دون أن يكون المفكر مبدعاً في حقول الفكر مـُنتجاً في ميادين المعرفة .

هذه العوائق هي عبارة عن أسئلة عقيمة ، أو ثنائيات مزيفة أو مقولات كثيفة ، أو بداهات محتجبة وكلها أوهام خادعة تحجب الكائن وتطمس المشكلات بقدر ما تنفي الحقيقة وتـُـقصي الذوات .


والأوهام كثيرة أكتفي بخمسة منها :


* وهم النـُخبة



* وهم الحرية



* وهم الهوية



* وهم المطابقة

* وهم الحداثة




1- وهم النخبة :


أعني بهذا الوهم سعي المثقف إلى تنصيب نفسه وصياً على الحرية والثورة ، أو رسولاً للحقيقة والهداية ، أو قائداً للمجتمع والأمة .

ولا يحتاج المرء إلى بيانات لكي يقول بأن هذه المهمة الرسولية الطليعية قد تـُرجمت على الأرض فشلاً ذريعاً وإحباطاً مميتاً .

فالمثقفون حيث سعوا إلى تغيير الواقع من خلال مقولاتهم ، فوجئوا دوماً بما لا يتوقع : لقد طالبوا بالوحدة ، فإذا بالواقع ينتج مزيداً من الفرقة . وناضلوا من أجل الحرية ، فإذا بالحريات تتراجع . وآمنوا بالعلمنة فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل .


وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر . وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له ، ولا حملات الحركات الأصولية عليه ، كما يتوهم بعض المثقفين . بالعكس ، ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي ، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي . إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة ، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف .


وهذا هو ثمن النخبوية : عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية أو معارج التقدم . ولا عجب : فمن يغرق في أوهامه ، ينفي نفسه عن العالم . ومن يقع أسير أفكاره ، تحاصره الوقائع .

هذا دأب الذين قدسوا فكرة الحرية : لقد وقعوا ضحيتها بقدر ما جهلوا أمرها . ولذا فهم طالبوا بالحرية ، لكي يمارسوا الاستبداد . وهذا شأن الذين قدسوا العقل ونزهوه عن الخطأ : لقد فاجأهم اللامعقول من حيث لا يحتسبون ، إذ العقل ليس سوى علاقته بلامعقوله ، وحسن إدارته . إن مشكلة المثقف هي في أفكاره لا في مكان آخر ، وأن مأزق النـُخبة يكمن في نخبويتهم بالذات .

وإذا كان البعض يعطي امتيازاً لأهل الفكر على سواهم ، باعتبار أن الإنسان هو كائن ميزته أنه يفكر، فإن عمل الفكر سيف ذو حدين : قد يكون أداة كشف وتنوير ، وقد يكون أداة حجب وتضليل . ولا عجب فالمرء بقدر ما يوغل في التجريد أو يغرق في التفكير، ينسلخ عن الواقع المراد تغييره أو يتناسى الموجود في مورد العلم به . ولهذا فإن صاحب الفكر الحيوي والمتجدد يبقى على قلقه ويقيم في توتره المستمر بين الفكر والحدث ، أو بين النظرية والممارسة . إنه من يحسن صوغ المشكلات لأن مشكلته هي دوماً أفكاره .



2- وهم الحرية :


وأعني بهذا الوهم اعتقاد المثقف أن بإمكانه تحرير المجتمعات والشعوب من أشكال التبعية والهيمنة أو من شروط التخلف والفقر . وقد شكل هذا الوهم عائـقاً أعاق المثقف عن الإنتاج الفكري بقدر ما منعه عن المعرفة بالإنسان والمجتمع والسياسة .

ذلك أنه إذا كانت مهنة المثقف ، والمفكر تحديداً ، هي الاشتغال على الأفكار ، فالمطلوب منه أن ينجح في هذه المهمة ، بحيث يكون منتجاً في مجال عمله ، سواء بافتتاح منطقة للفكر ، أو باجتراح طريقة للتفكير، أو بصوغ إشكالية فكرية ، أو بابتكار أدوات مفهومية ، أو بابتداع ممارسات فكرية تتيح إدارة الأفكار على نحو يجعلها أكثر واقعية وفاعلية .


ولا نتاج فكرياً من دون التعامل مع الأفكار بصورة حرة ونقدية ، تتيح التفكير فيما يستعبده أهل الفكر ، أو تفكيك ما يستعصي على الفهم ، وذلك من أجل خلق رهانات فكرية تزحزح الأسئلة أو تقلب الأولويات، وعلى النحو الذي يؤدي إلى التعامل مع الحاضر بصورة ديناميكية ، عقلانية ، وعملية في آن .


على هذا النحو يتعامل صاحب الفكر النقدي مع مفهوم الحرية . إنه يطرح عليه أسئلة الواقع : لماذا يزداد انتهاك الحرية في عصر التحرر وعلى يد دعاة التحرير أنفسهم ؟

لماذا تتراجع الحريات الديمقراطية على أرضها بالذات ؟

ومن يسأل مثل هذه الأسئلة لا يؤخذ بتلك العبارات التي تقول لنا إن الإنسان هو حريته ، أو أن البشر يعشقون الحرية ويطلبون العدالة والمساواة ، وإنما يعيد النظر في مفهوم الحرية في ضوء رغبة الإنسان الأصلية في السيطرة والنفوذ ، أو سعيه الدائب إلى نيل الحظوة والامتياز . بذلك يـُعاد إنتاج مفهوم الحرية على نحو يغني معرفتنا بالمجتمع والسلطة والحرية ، بقدر ما يجعلنا أقدر على الحد من سيطرتنا بعضنا على بعض .


هذا ما يتيحه الفكر النقدي . بيد أن المفكر العربي قد تناسى في أغلب الأحيان ، مهمته الأصلية لصالح مهام أخرى طغت عليها ، وأعني بها المهام التي يضطلع بها الكاهن ، والنبي ، واللاهوتي ، والداعية والسياسي .. لقد تعامل أهل الفكر مع أنفسهم كدعاة ومبشرين أو كمناضلين وثوريين يهمهم بالدرجة الأولى قلب الأوضاع وتغيير المجتمعات أو تحرير الشعوب .


ولكن هذه الأدوار قد مورست على حساب النشاط المفهومي والإنتاج المعرفي ، بل هي مورست ضد إرادة المعرفة وعلى حساب الفهم .


ولا عجب في أن تكون النتيجة كذلك . فمن لا ينتج معرفة بالمجتمع لا يستطيع المساهمة في تغييره . ومن لا يبدع فكراً هو أعجز من أن يؤثر في مجرى الأحداث وتطور الأفكار.

هذا هو المأزق الذي يمسك بخناق المثقف العربي : فهو يفاجأ بما يقع لأنه لا يهتم بمعرفة الواقع ويفشل في مشاريعه حول التحديث لأنه لا يحسن قراءة ما يحدث ، ولا يبتدع أفكاراً جديدة خصبة لأنه يتعامل مع الأفكار كغاية في ذاتها .

مختصر القول : على المثقف أن يتخلى عن دور الشرطي العقائدي إذا أراد أن يحسن قراءة الأحداث .



3- وهم الهوية :


وأعني بهذا الوهم اعتقاد المرء أن بإمكانه أن يبقى هو هو ، بالتطابق مع أصوله أو الالتصاق بذاكرته أو المحافظة على تراثه . وهذا الوهم جعل المثقف يقيم في قوقعته ويتصرف كحارس لهويته وأفكاره ، الأمر الذي منعه من التجديد والإبداع ، وحال بينه وبين الانخراط في صناعة العالم انطلاقاً من مجال عمله وتأثيره ، أي من خلال صناعة الأفكار وابتكار المفاهيم.


وآية ذلك أنه إذا كانت مهمة المفكر ، هي إنتاج الأفكار ، فإن انتماءه ينبغي أن يكون ، في المقام الأول ، إلى مجال عمله الذي هو عالم الفكر ، قبل انتمائه إلى معتقده أو قومه أو تراثه ، بل لا يستحق المفكر الحقيقي صفته ، ما لم يفكر على هويته وانتماءاته ، أو يشتغل على معتقده وتراثه ، وإلا تحول إلى لاهوتي أو إلى مجرد داعية أو مبشر .


انطلاقاً من هذا التعامل مع الهوية الفكرية ، يتجاوز العامل في مجال الفلسفة والفكر تلك الأسئلة العقيمة والثنائيات المزيفة التي يطرحها أو يعمل بها المسشترقون والباحثون العرب على حد سواء ، كالسؤال عن هوية العقل ، أو كثنائيات الأصالة والحداثة ، أو التواصل والانقطاع ، أو التعريب والتغريب .


وللمثال وفيما يتعلق بي لا أسأل : هل بإمكان العقل أن يكون عربياً على ما يسأل بعض الغربيين . وإنما أحاول أن أحسن قيادة عقلي ، بالكشف عما يعتمل فيه من اللامعقول .

ولا أسأل أيضاً : هل بإمكان الإسلام أن ينسجم مع الحداثة ؟

هذا سؤال غير منتج بقدر ما يتعامل مع الإسلام كهوية ما ورائية جوهرانية ثابتة . ولهذا فأنا استبدله بسؤال آخر : كيف أتعاطى مع تراثي الإسلامي بطريقة حديثة ، بحيث أقرأه قراءة منتجة تتيح لي تحديث معرفتي بالعالم ، بقدر ما تتيح لي الانخراط في المشكلات الفكرية لعصري .

وهكذا لا أسأل : من هو العربي ؟ وإنما أسال : من أكون ؟ بل أسأل : كيف السبيل إلى أن أكون على غير ما أنا عليه ، لكي أغير علاقات القوة والمعرفة والثروة بيني وبين الغير ؟ هذا هو رهاني : أن أتغير لكي أغير علاقتي بذاتي وبالآخر ، بحاضري وبالعالم .


فالعامل في مجال الفكر يشعر بأن انتماءه الأول هو للنوع البشري ، وأن العالم هو المدى الأرحب لفكره . ولهذا فهو لا يفكر من أجل هويته أو تراثه أو معتقده . لا يفكر من أجل الشرق أو الغرب ، ولا من أجل العروبة أو الإسلام ، ولا من أجل الأفلاطونية أو الحنيفية أو الرشيدة أو الماركسية أو النيتشوية .. وإنما هو يفيد من التجارب وينفتح على الحقائق ، ويشتغل على التراثات والهويات من أجل تجديد عالم الأفكار والمفاهيم .





4- وهم المطابقة :


مفاد المطابقة أن الحقيقة جوهر ثابت ، سابق على التجربة متعال على الممارسة ، يمكن القبض عليه عبر التصورات ، والتعبير عنه بواسطة الكلمات ، ومن ثم ترجمته في الحياة العملية وعلى أرض الممارسات ، من خلال النظم والمؤسسات والتشريعات . إنه وهم المماهاة بين الموجود والمفهوم ، ثم بين المفهوم والمقول ، وأخيراً بين المقول والمعمول .


فالذين أمِـلوا بالسلام لم يحسنوا سوى صناعة الحرب ، والذين فكروا بزوال الدولة لم يؤسسوا مملكة للحرية بل أنتجوا دولة سحقت الفرد وابتلعت المجتمع المدني ومؤسساته . وأخيراً ، لا آخراً ، إن الذين يفكرون بنهاية التاريخ على طريقة هيجل أو ماركس ، كما يفعل فوكوياما ، تفاجئهم الأحداث يوماً بعد يوم ، وتتجاوز أطروحاتهم من حيث لا يفكرون ولا يحتسبون .

ذلك أن الليبرالية ليست هي الفردوس الموعود : فالمجتمع هو لغة للتواصل والتبادل بقدر ما هو علاقات قوى بين الأفراد والمجموعات ، وهو نظام للإنتاج والتداول لا يكف عن إنتاج ما به يتحرك التاريخ من التفاوت أو التفاضل أو الاستلاب . أما المنازع الفاشية والتصرفات البربرية فهي احتمالات قائمة في أحشاء كل اجتماع .


فالديمقراطية ليست مجرد فكرة تقتبس أو صيغة تطبق ، وإنما هي عمل شاق ومتواصل يقوم به المجتمع على نفسه ، على غير مستوى أو صعيد ، من أجل تحويل الاختلافات الفطرية أو العصبيات الجمعية أو التكتلات الفاشية ، إلى علاقات سياسية مدنية تتيح التعامل مع السلطة ، في جميع دوائرها ومستوياتها ، على نحو يقوم على المحاورة والمفاوضة .

بهذا المعنى الديمقراطية هي تجربة حقيقية وممارسة تاريخية يتحول معها الواقع بقدر ما يغتني الفكر السياسي . بهذا المعنى أيضاً كل مجتمع يخوض تجربته ويبتكر ديمقراطيته ، والذين يعتقدون بأن الديمقراطية قابلة لأن تنقل بحرفيتها ونموذجيتها ، لم يمارسوا سوى الاستبداد .



5- وهم الحداثة :


وهم الحداثة هو من أشد الأوهام حجباً وأكثرها إعاقة للمفكر عن خلق الأفكار ، إذ هو يحول بينه وبين الاستقلال الفكري أو ممارسة التفكير النقدي . وأعني بهذا الوهم تعلق الحداثي بحداثته كتعلق اللاهوتي بأقانيمه أو المتكلم بأصوله أو المقلد بنماذجه . وهكذا فنحن إزاء سلوك فكري يتجلى في تقديس الأصول أو عبادة النماذج أو التعلق الماورائي بالأسماء والتوقف الخرافي عند العصور .


وهذا شأن المثقف العربي على العموم . إنه أسير النماذج الأصلية والعصور الذهبية . يستوي في ذلك التراثيون والحداثيون ، إذ الكل يفكرون بطريقة نموذجية أصولية .

فالتراثيون ، على اختلافهم ، يفكرون باستعادة العهد النبوي أو عصر الراشدين أو العصر العباسي ، أو هم يحاولون احتذاء عقلانية ابن رشد أو واقعية ابن خلدون أو قصدانية الشاطبي . والحداثيون - على تباينهم - يفكرون باستعادة عصر النهضة أو العصر الكلاسيكي أو عصر الأنوار ، أو هم يحاولون احتذاء منهجية ديكارت أو ليبرالية فولتير أو عقلانية كانط أو مادية ماركس .


والأصولي أكان ماركسياً أم قومياً ، رشدياً أم ديكارتياً ، قلما ينتج فكراً أصيلاً . إذ الأصولية هي تقويض للفرادة والأصالة ، في حين أن الأصالة هي نقد للأصول ونبش للأسس وتفكيك للنماذج . أن الأصولي يعتقد أن الحقيقة هي أصل ثابت علينا استعادته ، أو جوهر مكنون ينبغي إدراكه ، أو سر دفين ينبغي اكتشافه . ولهذا فإن النماذج الأصولية تحلم بالطوبي ، حيث يستعيد الإنسان فردوسه الضائع . غير أن الطوبى تؤسس للعزلة أو للتعصب والإرهاب ، وقد تعمل للكارثة إذ هي تعيد إنتاج الواقع المراد تغييره على أسوأ ما يكون .


والطريقة الأصولية النموذجية في التعامل مع الحداثة ، وأعني بها عبادة الأصول وتأليه النماذج أو تقديس الأفكار ، من قبل الحداثيين ، هي التي تفسر ما لاقته مشاريع التحديث من التراجع أو التشوه أو الفشل . إن تعثر العقلانية وتراجع الإستنارة وفشل العلمانية ، كل ذلك إنما مرده أن أصحاب الشعارات تعاملوا مع علمانيتهم بصورة لاهوتية ، وتعلقوا بالعقل على نحو أسطوري ، وتعاطوا مع عصر التنوير بطريقة تقليدية ، أصولية وغير تنويرية .


كذلك لا تنوير من غير تجارب فذة أو ممارسات إبداعية تكشف ما لم ينكشف ، أو تتيح رؤية ما لم يره أهل الأنوار أنفسهم في أي عصر من عصورهم . بهذا المعنى لا تنوير من غير نقد يصيب كل التجارب والنماذج أكانت تراثية أم حداثية .


والذين يعترضون على نقد الحداثة هم الذين يريدون لنا أن نبقى على هامش الفكر والكتابة أو في مؤخرة الحداثة والعالمية ، وليس نقاد الحداثة على ما يتوهم أكثر دعاة الحداثة .

إن الفكر الحديث هو فاعلية نقدية يمارسها أهل الفكر سواء في تعاطيهم مع الأعمال الفكرية ، أو مع الوقائع والنصوص ، أو مع المؤسسات والممارسات . بهذا المعنى إننا نحيا حداثتنا الفكرية ، ليس باستعادة الأسس التي وضعها المحدثون والبناء عليها ، بل بقراءة أعمالهم قراءة نقدية تكشف عما تحجبه الأسس أو تستبعده الأصول . وحده ذلك يمكننا من أن نقيم مع حاضرنا علاقة راهنة ، حية ومتجددة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هو بنك الأهداف الإيرانية التي قد تستهدفها إسرائيل في ردها


.. السيول تجتاح مطار دبي الدولي




.. قائد القوات البرية الإيرانية: نحن في ذروة الاستعداد وقد فرضن


.. قبل قضية حبيبة الشماع.. تفاصيل تعرض إعلامية مصرية للاختطاف ع




.. -العربية- ترصد شهادات عائلات تحاول التأقلم في ظل النزوح القس