الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشقة الفلامنكو

بديع الآلوسي

2011 / 1 / 19
الادب والفن


(( .....ها هي أخيرا ًعرفت ماذا يتوجب عليها أن تفعل ، كثير من التخمينات دارت في رأسِها ، مشطت شعرها ، غير مبالية الى بالتساؤل الذي يعيق خطوتها : هل قراري فيه نوع من الجحود ؟ .
احست انها تتوهج وتتدبر امرها بصورة غير معهودة، بعد تيه عمدت على حسم هذه القضية الشاقة و التي أحالت تفاصيل حياتها على كومة من التناقضات ،، أمام المرآة لمست في عينيها بريقا ً زاهيا ً ، ذكرها بدروسها الأولى في الرقص، اذ اصطحبتها خالتها إليها قبل عشرين عاما ُ . في تلك الأثناء رقصت وكإنها مسكونة بالحركة منذ زمن بعيد ، وهيمن فيما بعد الفلامنكو على مزاجها وخيالها ، فأعلنت الى صاحباتها : من لا تجرب الرقص لم تكتشف ماذا يعني التحرر من الجسد .
قبل إسبوع من زواجها ، رأت اول فرقة للغجر، كانوا يعزفون ويرقصون الفلامنكو بحماس نادر ، حينها خفق فؤادها ، وحلمت لثلاث ليال ٍ إن الغجر يصفقون لرقصتها، لكنها لم تستطع تفسير حالة عينيها الدامعتين ووجهها المضيء.
رحلتها الزوجية توعّدها الندم منذ الشهور الأولى ،، رويدا ً رويدا ً ادلهمّت أحلامها وبردت انوثتها ، خمس سنوات يراودها السؤال المارد ذاته :هل التغيير بصالحي ؟ .
بينما كان زوجها مشغولا ً خارج البيت بما يثيره من دون الشعور بأنه زان ٍ أو مدنس ، معللا ًإن الأمر لا يتعدى سوى نشوة و عربدة ضرورية مع صديقات حميميات .
خفق قلب السكندرا، وهي تفتح الباب وتغلقه بشكل محكم ، وترمي المفاتيح في حوض الأسماك الملونة في الحديقة، موقفة ً عذابها الملثم بالخوف والخيانة والخنوع .فسرت ذلك بقرار القطيعة . حينها فقط إستسلمت للراحة الأليفة .
حال خروجها أستقبلها رذاذ ربيعي ، حثت خطاها متغمدة ً الليل ، لم تلتفت الى الوراء كما لم تبال ِ بما تحمله لها الأيام الآتية .
قالت : حان الوقت ان افعل ما أشاء .
ضحكت ، دندنت باغاني الغجر ،رقصت ورقصت كأنها في نزهة مقدسة .

* * * * ** ***** **** ***** ****** ****** *********
حياة إلسكندرا اليومية ظلّت على رتابتها لكنها هادئة وبلا مشقة ، بدأت تتعقد وتتلوث شيئا ً فشيئا ًبعد أن صارحها زوجها صارخا ً : إني أعيش لمرة واحدة وإن إمراة يتيمة لا تكفي غرائزي .
بإرتياب بادرت : هل ترضى ان اكون عشيقة.... ؟
لم يجد مايسد عجزه او ما يهتدي اليه سوى بصفعها ونعتها بالحمقاء المتهورة .
كل صباح ما أن يغرب زوجها عن البيت حتى تهتدي الى موسيقى الكيتار ، تتوسط الصالة ،ترفع ثوبها الطويل قليلا ً وتبدأ البروفة ، تضرب بأقدامها على الأرضية الخشبية ، تختار الإيقاع ، واحد ، اثنان ، يتصاعد ذراعاها ، تنسى الموسيقى ، تتنفس بعمق حيوية الفلامنكو ، وتتخيل إنها تطير عاليا ً ،عاليا ً .
تقول للبوذا : الفلامنكو يردّني إلى ورقة في يوم عاصف .
السكندرا لا تميل الى الشهرة ، ملابسها بألوان محايدة ، لا تنظر الى صرعات الأزياء الموسمية التي تفتن قريناتها، ولا تذكر متى دخل اللون الأسود في حياتها ، رغم ذلك ودت لو سمح لها زوجها بإرتداء اللون الأحمر في حفلات الرقص .
لكنه كان يصر على انه لون غير محتشم .
ادركت بفطرتها إن شخصيتها محملة بموهبة لا تعرف كيف تجاريها ،تساءلت بلهجة مغلوبة : ما فائدة الرقص في هذه الصحراء المعزولة مع زوج يتحول الى ذئب ما أن يشم رائحة الرقص .
لم تكن تظن إن ارادتها ستحملها يوما ًالى ذلك التصميم الجسور ،بدأت تتبدل قناعاتها شيئا ً فشيئا ً، متمسكة بصدى الأمل .
همها الجامح جعلها تهتدي الى تلك الأسئلة الحائرة التي صارت ترددها : كيف يمكن تحول العاطفة الى حركة وطاقة .
لا تدري اي وهم سعيد او بائس ينتظرها ،لكنها يوميا ًوحال ان تنهي على عجل مهام البيت الروتينية وبعد ان تكتفي من الرقص تتسلل الى الحديقة الخلفية ، تشغل عقلها بتحويل الطين الى تشكيلات نحتية بدائية لا تشبه سوى البوذا .
لم تود ان يكتشفها زوجها الذي يربكها ويقمعها بسؤاله البليد : ما فائدة هذه المخلوقات الممسوخة ؟ .
حياتها غامضة وسرية ، لا تبوح بغربتها لأحد لكن المتاهات والحسرات تحيلها أحيانا ًالى طفلة تبكي وتغضب ، كأنها اضاعت جدوى الطريق ،الغريب انها كلما داهما التوتر او الشعور بالفوضى تصر على مواجه ذاتها عبر الرقص .
يذهلها دائما ً رشاقة راقصات الفلامنكو بملابسهن المزكرشة ، و تبتسم كلما سألها زوجها: هل تعينَ جيدا ً ثمن الإنقياد الى هوس للرقص ؟.
يتلون وجهها بحمرة خجولة وترد بعفوية: قد ترى فيه عبثا ً لكنه كل مهجتي صارت ترتعد من ضغوط الأسئلة التي تحاصرها بشكل يومي ، الحاضر المحفوف بالقلق تزامن في مخيلتها مع الكآبة الرتيبة التي لا تنأى إلا عن بصيص ضوء بعيد .
شل حياتها ذلك التداعي الموحش ،المقرون بالندم والإذعان لزوج يسخر من كينونتها المندهشة ،وإنتظرت طويلا ً لمعالجة الحالة التي تكسر أجنحتها ،وبصبر متفائل واجهت الموقف ، وزادت من ساعات وتمارين الرقص .
بعد شهور ،حاولت ان تبتكر ولأول مرة رقصة اسمتها ( أحلام المنبوذين )، فتشت بين تجاربها المريرة عن الشكل الأنسب ، بعد اسبوع من البروفات المضنية ، إكتشفت انها عاجزة عن انجاز ما يلزم ، زاد توترها ودخلت لأسابيع في إضطراب عقيم ، صدفة ًرأت فيلما ً رديئا ً عن الغجر ، همس لها وطبع مزاجها بالإنطلاق الى فضاءات الفلامنكو المسكونة بالإثارة والترحال ،اقدامها الخافقة قادتها الى نداء عميق بإحتمالات الحل المستتر ، تساءلت مندهشة : يا إلهي، أيعقل ان يكون الحل إذن في الخفة المتناهية ، كيف غاب عني إن الجمال يكمن في البساطة ؟ .
إختفى الزوج اسابيع وما إن وطأت قدماه البيت حتى بذل جهدا ً لإعادة الأمور بالقوة الى مسارها المحكم ، بدأ يبحث عن الثغرات ليفهمها ، إنها على ظِلال . لم يجد من حجة سوى أن يذكرها بإنها اهملت الإعتناء بالبيت ، واجهها وعنفها بقسوة وهجرها شهرا ً كاملا ً ، مانعا ً عنها الإصغاء الى الموسيقى وصار يردد بمناسبة او دون مناسبة : تفاهات الفلامنكو التي تخدعك و ستحولك يوما ً الى جارية .
طبيعة السكندرا ليست عدائية وتخشى الإصطدام الفج ، تداري الموقف بنوع من الهدوء والطاعة المقنعة لامتصاص لحظة التوتر ،حين لا تعثر على لغة تساعدها على احتواء الكارثة ، كانت تردد هازة ً رأسها : نعم ، نعم ، أنك على صواب.
آخر الليل كانت تقول له بوداعة مرتابة : هل تحب الأطفال ؟ .
بجفائه المعهود قال : لا تفكري بهذا الأمر.

يحاول بشتى السبل أن يخفي عليها خيبة عقمه ، ويشعر بالغبطة معتقدا ً ان الأمر إنطلى عليها قد إستطاع ان يبذر في رأسِها : إن الله في كل ولادة يزيدنا تعاسة .
السكندرا ذات الثلاثين عاما ً تنتشي بالكبرياء حينما تلامس اقدامها بتوتر الأرض َ محولة ً الهدوء الساكن الى ايقاع حي ، حتى أنها تسأءلت : يا إلهي كيف يمكنني تحويل الرقص الى رائحة الإنسجام المفقود ، .
حياتها العائلية لفها إنطواء متوتر ، تختلط فيها الأصوات المترادفة للأنكماش ، لم تعد تعرف كيف تنفلت من خواء ضياعها ،بدأت تتوجس مرحلة الندم الغامض ، كل التفاصيل أمام عينيها غدت رمادية بلا ملامح ،صرخت وهي ترقص وتلوّح بذراعيها وتتمتم بكلمات كإنها في حمى الهذيان : من يخلصني في الوقت المناسب ؟ .
إزدحم في قلبها الوجع ولطمها الإمتعاض حين عرفت مصادفة ً إن زوجها سيقضي بقية السهرة في احضان إمرأة جديدة .
قالت بضيق : وأنا ..؟
قال ساخرا ً : سأتركك الليلة ترقصين الفلامنكوعلى هواك .
ـ لماذا تعاملني بهذه القسوة ؟ .
صرخ : كفى ، لا تزعجيني . توقف ثم دمدم : لتحل اللعنه عليك.
الغصة المقرونة بالضياع حركت في قلبها شرارة التمرد ، محولة ً الكراهية ،الغضب ، الإذلال ... الى عاصفة من الرقص ، لم تمهل نفسها حتى تهاوت مدمية ً شفتها السفلى ،اقشعر بدنها لأول مرة وكأنها تكتشف امرا ً مستترا ً ،طاف في ذهنها ذلك الخاطر الملح ودفعها الى ان تفجر حقدها .
داهما صداع الرأس ودفعها الى ان تصيح : سأقتله بأدب وبلا ندم .
ادركت وهي تتأمل شفتيها في المرآة إن رقصتها طبعت على عينيها نشوة لم تعهدها من قبل ، حدقت مليا ًفي ملامح وجهها ، تساءلت : لماذا أبدو اليوم اكثر نظارة ورقة ؟
طيلة حياتها وهي تحتفظ بتلك الدهشة الصافية ،التي أمدتها بطاقة غيرت حياتها المحتقنة بالإختناقات .
آخر اللحظات بللها هدوء حذر أخرجها من شرنقة اللاجدوى الى غبطة نادرة ، إنتشلتها من حالة التذبذب ، لم يحالفها الحظ لتلتقي بصديقة او احد لتسأله : ما جدوى القتل ؟.
لم تجد ما تستند اليه غير إحساسها المستيقظ والذي يشير لها بضرورة الفلامنكو ،ها هو السكون يهزها بدهاء ، لحظات وترآى لها قرار الإنفلات والإفصال عن كل ما مضى.
انصرفت تتأمل تمثال البوذا الصغير والذي تهشم جزء منه في الفرن ، قالت : نعم يا معلمي انني قررت .
خفق قلبها برشاقة وتأرجح ، إهتزت اقدامها ، ارادت ان ترقص للحكيم داهمها صوت كالأشارة او البشارة ،ادركت إن اللغز العصي ترسمه القرارات .
تذكرت كلام خالتها وهي تردد : من خلال الرقص تسافر روحك من قن الدجاج الى الأندلس .
ضحكاتها الفرحة اشاعت جوا ً من المرح ، إحساسها الوليد حملها الى تجاوز الإرتباك والإذلال . قالت : إذا أردت ِ الخلاص .. هيا اخرجي .
ألم بها الفزع من ان يحضر زوجها ويجهض بريق هذه اللحظة النادرة ، سيكتشف هدفها ويدميها بالصراخ محتج : الى اي جحيم ترومين الفرار يا مجنونة ؟.
أرادت ان توصل له :مهما فعلت ...... ، لا تظن إنك تحيدني عن .....
كانت متشبثة بوهج و طقوس الفلامنكو، همهمت بكلمات وهي تدون :الغجر بلا أرض او وطن لكنهم رهنوا مشروعهم الأرضي والسماوي ......... .
قالت : أتحدى ، أن يعرف كيف قهروا الموت ؟ .
تلك الورقة التي تركتها على المكتب حررتها من رتابتها العقيمة وعادت بها الى فضاء اخر غير مبالية بأوامر دماغها ، حاولت الأصغاء الى هاجسها المرهف والغريزي.
قالت : لماذا يحملني أوزارا ً وذنوبا ً ...لماذا يريد ان أتصرف على شاكلة الأخرين .
حملت تمثال البوذا معها لقناعتها إنه جزء منها ، تخيلت حال زوجها كيف سيجن جنونه وسينعتها بالمعتوهة الطائشة ، مرددا ً : أيعقل ، السكندرا البلهاء حد العماء تقدم على هذه الخطوة غير المتوقعة .
ما كان امامها سوى دقائق، لم تأسف على كل ما تركت وراءها ، وأصرت على قرارها بترك جحيم البيت والزوج ذي الشخصية المزدوجة .
إنطلقت مرحة وأحست لأول مرة انها لا تكرر نفسها ،رغم وحدتها لكنها تيقنت اكثر من اي زمن مضى إنها عثرت على ذاتها الضائعة .
قالت : ليس بالأمر الهين ان نعثر على ....... .
اسرعت خوفا ً من الوقوع في كمين مباغت يغلبها ويفقدها توازنها ، هاجس الخسارة الجارح دفعها للمرة الأخيرة أن تراقب إحساسها الأول ، شعرت إن ضوء ً يتوهج في اعماقها بيسر وبلا نزاع ، مبددا ً الإضطراب ، حينها أصرت بالتمسك بتفاؤل الفلامنكو .
حزنت على كل ما مضى وقالت : بالتأكيد ، احس بأنني بحال احسن .
وهمست للبوذا : ما اجمل ان نكون كما نريد .
إندفعت الى الشارع ، متغمدة ً الليل ، حثت خطاها وعزمت ان يبقى الامر سرا عن عيون الأقارب و المتطفلين ، لأنها قررت ان لا تعود أبدا ً، أبدا . بعد أن عرفت بالضبط ماذا يتوجب عليها أن تفعل .......)) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع