الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الإبداع وترويض اللوحة

بديع الآلوسي

2011 / 2 / 16
الادب والفن


جوهر الواقع يعبر عن نفسه في العلاقة المتبادلة والمتكافئة بين نقيضين أساسيين ، قوتين كونيتين وخلاقتين هما ماهو فعّال وماهو سلبي (موندريان)

وعرفت الموسوعة البريطانية الإبداع على أنه القدرة على إيجاد حلول لمشكلة أو أداة جديدة أو أثر فني أو أسلوب جديد.

هكذا فإن الحياة ( احاسيس ، أفكار ،نشاط ) لا تزدهر بغير الإبداع الدائم والمغامر على نحو مستمر نحو الجديد الذي يستهدف سبر أغوار التجربة الإنسانية بتجلياتها المختلفة .

علم الجمال (استطيقا ) يضعنا وجه لوجه أمام نمطين من ( الفلاسفة ، المفكرين ، الباحثين ) الذين رصدوا ضاهرة الإبداع.

النمط الأول : أكد على إن الإبداع ما هو إلا نوع من الإلهام او الجنون الشاذ تخص به الألهة الموهوبين وتغذيهم بنعمة الوحي الذي يملي عليهم إختيار الألوان اوخلق التكوينات النادرة او إنجاز اللوحات الفنية التي تسبق عصرها ، وقد وصفوا الفنان بالإرادة القلقة المحملة بالحس المرهف والمؤهل لفعل الإبتكار . وإعتمدوا على نظرية الفيض او تفجير الإحساسات عند المبدع دون تحضير مُسبق ويصاحب ذلك تدفق الرؤى أثناء تحقيق العمل الفني بشكل سحري وتلقائي .

النمط الثاني : تبنوا الجانب العلمي في دراسة هذه الظاهرة حيث اكدوا إن الإبداع نشاط سيكلوجي وعقلي وأنه ليس بثمرة سماوية بل هو نتاج مادة ارضية محض . وإعتمدوا في ذلك على منهج الملاحظة والإستقراء للواقع . وستدلت ملاحظاتهم الى إن الفنان ( الرسام ) ابن مجتمعه وإن تجربته تعبر على نحو مباشر عن رؤى المرحلة التي يعيش فيها ،لذلك اعدوا ظهور شخصيات فنية مثل دافنشي او ديلاكروا او بيكاسو ...الخ جزءا ً لا يتجزأ من الضرورة التأريخية لصيرورة وتطور النشاط الإنساني . وحاولوا الإجابة على التساؤل المتعلق بالعمل الفني ،وخلصوا الى إنه عمل منظم ومتزن ويحتاج الى ذهن هاديء وغير مضطرب له القدرة على إختيار النموذج الأمثل جماليا ً والمتضمن والمنحاز الى الأصالة النوعية .

مع إن كتب السيرة وتأريخ الفن تشير الى إن هنالك شخصيات تركت اثرا ً مهما ً رغم إنها تعاني من قلق وعذابات نفسية حادة ، لكن في نفس الوقت يجب ان لا نتجاهل إن هؤلاء المبدعين يمتلكون تجربة فنية وحس متقد ووعي ذهني ونضوج في المُخيلة ،فلو حاولنا ان نقيم شخصية فان كوخ مثلا ً والتي اعتبرت او صورت لنا على إنها من اكثر الشخصيات المتأزمة في عالم التشكيل خلال نهاية القرن التاسع عشر ، نجد إن أزمة هذا الفنان الهولندي تبلورت في انه لم يجد اعترافا ً بما أنتج لا من قبل الوسط الفني المعاصر له ولا من قبل الوسط الإجتماعي رغم كل ما بذله من طاقة ونشاط إبداعي .

اود ان اشير هنا الى إن فان كوخ لم تكن أزمته النفسية نتيجة الإبداع فقد كان غزير الإنتاج بشكل ملحوظ وساهم الرسم في تجاوزه لكثير من أزماته وهذا ما تؤكده رسائله الى اخيه ثيو وكذلك ملاحضات دكتوره الخاص.

ثم إننا يمكن أن نلاحظ إن ظاهرة الصراع النفسي قد رافقت اكثر الفنانين الطليعين الذين سبقوا عصرهم بكشوفاتهم الجمالية المبدعة ، عنئذ يمكننا أن ندرج كل ذلك ضمن مبدأ الصراع بين الجديد والقديم ، على ضوء ذلك نرى الفنان الأصيل مغترب ومعارض وغريب بعض الشيء عن عصره .

يتفق علماء الجمال ( قديما ً ـ وحديثا ً ) على إن هنالك سمات عامة وخاصة لكل عصر وعبر هذه السمات تتجاذب وتتنوع الرؤى لتلد ثقافة لها علاقة مباشرة مع طبيعة الفهم والحاجة الإجتماعية التي تتحمل مسؤلية التغيير بشكل خلاق ونابغ ومتحفز.

هكذا نرى إن المنجز الفني الحديث ( الأسلوب التكعيبي مثلا ً ) هو الصورة الصادقة والمناسبة او الحل الجمالي للقرن العشرين ولا يمكننا ان نتخيل هذا النشاط الفني اثرا ً او دراسة لعصر النهضة او اي عصر آخر .

إذن تنوع الأساليب الإبداعية وتلونها عبر العصور يشير الى حقيقة الزمان والمكان الذي إنتجها .وكذلك وبطريقة معكوسة يمكننا ومن خلال الأثر الفني أن نفهم او نكشف أساليب العيش او نمط التفكير الإجتماعي لعصر بعينه او سلوك التشكيلات الطبقية في بلد ما .

فلوحات اوجين ديلاكروا تساعدنا على بلورة رؤية عن الوقائع التي طالت فرنسا في القرن السابع عشر ، لكن عظمة ديلاكروا الذي قال عنه بودلير (بدون ديلاكروا تظل سلسلة التطور الإنساني مفصومة الى الأبد ) تكمن في انه حرر فن الرسم من قيود الدولة والمذاهب الأكادمية التي تعيق تطوره وتمرد عليها .

على كل حال ، فإن إنفعالات وأفكار الفنان الموهوب تعيش حالة التناقض فبينما الرسام يتوق الى الحرية لخلق رؤى جديدة فيها شحنة وجدانية خاصة نجد المجتمع يقف عائقا ً بقانونه السكوني او المنطق التقليدي ، وهذا التعارض يحفز الفنان ( الرسام ) ويشحن روحه بالإصرار والمثابرة لخلق حالة إنسجام جديدة .

يظن البعض إن الأثر الفني ( اللوحة ) نشاط مقرون بلذة الخلق وإن امور الرسام تسير بيسر ، اما حقيقة الأمر فمغايرة نوعما ، حيث يحتاج الرسام طاقة وتركيز عاليتين في لحظات تحقيق العمل وتحويلة الى واقع ملموس ،وتصاحب عملية الخلق توتر وإثارة وقلق هذا بالإضافة الى العزلة التي تساعده على إعادة حساباته عشرات المرات احيانا ً ، محاولا ً في كل مرة العثور على التبرير المقنع والأنسب جماليا ً .

يتفق أكثر الرساميين على إن مشاعرهم تنمو وتبتكر مع التقدم الحثيث للأثر الفني ، ولوحة الجورنيكا المشهورة للمبدع بيكاسو تصب في هذا المنحى كما اكد ت ذلك الدراسة التحليلية ل( ارنهيم ) ، فرغم التحضيرات ( عمل التخطيطات ) لكننا نجد بيكاسو ظل يحور باشكاله الى آخر محطات العمل .

لذلك يمكننا ان نعد عملية التحقق ( التنفيذ ) ما هي إلا مجموعة من الطبقات الحسية التي لا تستطيع الكامرة القيام بها ،ومن هنا تولد إضاءات جديدة ومشاعر ملموسة تغني المبدع للعثور على ذاته على نحو مبتكر مؤكدا ً ماهية أفكاره الأكثر وضوحا ً .

ومن وجهة النظر هذه يمكننا أن نقرأ المعية سيزان او براك او بلوك.... الذين تمردوا على الشكل والمضمون التقليديين وطرحوا بإصرار اضافاتهم الجمالية على انها حقائق عصرية تجيب على التساؤلات التي أثيرت في زمنهم .

ان ولادة او تألق رسام ظاهرة موضوعية لأنها مقرونة بالزمان والمكان المناسبين كما إنها حالة ذاتية ترجع الى قدرات الرسام ومخيلته وقوة تركيزه .

إهتم كثير من الباحثين بمشكلة الإبداع وأصالتها ومنهم من اعتقد إن الأثر الفني في جوهره ينطوي على الفرادة وهو يحمل بين طياته وجه جديدة ومغايرة لكل ما سبقه ، بينما القسم الآخر اعتقدوا إن العمل الإبداعي مادة حية ولا تقترن بالعزلة ، نعم هذا الوليد الجديد له مقومات وعناصر نوعية لكنه يستمد جزءا ً مهما ً من طاقته وشروط خلقه من نظم جمالية سابقة .

ويتفق الطرفان على إن الأساليب الإبداعية تأتي وتؤدي وظائفها ثم تذهب ، ويحل محلها اسلوب آخر يتناسب مع الحالة الحياتية الجديدة .

إن ولادة اسلوب ما هي إلا نتيجة التأثيرات الكمية التي اثرت وصدمت المبدع ( الرسام ) وجعلت ذهنه متحفزا ً لخلق شبكة من العلاقات لم تجرب من قبل ، هذا الإبتكار الجديد هو الذي يباغتنا ويصدمنا ويستفز مشاعرنا ، وهذا ما حدث مع تكعيبية بيكاسو التي استفزت نقاد الفن لسنوات عدة والتي هي غير مستساغة الى حد الأن من قبل الجمهورغير المثقف فنيا ً.

اذن الرسام المحترف يكرس ويفني حياته في البحث عن الخائص الإسلوبية الجديدة والتي لم تأت دفعة واحدة بل من خلال التركيز مطولا ً وبعمق على التجربة المحددة التي تبلور طريقه الفردي الخاص والأصيل .

نعم الفوارق في الرؤى تخلق الإختلاف وهذا مايميز اسلوبية (ماتيس عن بونار) ً،بينما الأول انتهج الأسلوب الوحشي نرى ( بونار ) تمسك بإسلوبه الإنطباعي الخاص ، بالرغم من إن النقاد يتفقون على إن الأثنين هما من كبار الملونيين في القرن العشرين .

من الجدير بالإشارة أن العمل الفني ( اللوحة ) بما تمتلك من طاقة ساحرة على صعيد الإكتشاف تثقف الفنان وتصقل إحساساته ونظرته الى الجمال على نحو يومي ، في نفس الوقت إن المنجز الإبداعي الأصيل يثير المتلقي ( الجمهور ) وينجح في إثارة عواطفه ووعيه ويرتقي به الى فضاء اكثر إرتقاء ًً ، وبذلك يشيع جوا ً ديناميكيا ً في جسد المجتمع الذي يعاني الترهل والرتابة .

تأرجحت رؤى نقاد الفن التشكيلي حول تقويم او وضع الأسس الجمالية للمنجز الإبداعي ( تشكيليا ً )، فبينما اصر بعضهم على إن اللوحة الفنية عمل قائم بذاته وتمتلك كل المقومات الخاصة بها من حيث انها وحدة بنائية لها طرازها المنفتح كعنصر للإتصال ، نجد في الجانب الاخر نقادا ً اخرين يتبنون اسسا ً اخرى تعتمد على مفاهيم ترجح البنية الإسلوبية التي فيها عنصر الشمولية والنضج على صعيد التجربة لدى كل فنان ، ويتساءلون : كيف لنا ان نتعلق بإولى اللوحات المائية لكاندسكي لو إن ذلك الفنان توقف تماما ً عن الرسم بعد ذلك المنجز او الأثر الفني ؟.

يبدو لي ان النظرة الأسلوبية اكثر عمقا ً ، وأعتقد إن اغلب النقاد لن يولون اي إهتمام لا لتخطيطات كاندسكي التجريدية المبكرة ولا حتى الى لوحة ( آنسات افينون ) لبيكاسو ولم تنال تلك التجارب البريئة اي صدى في تأريخ الفن ، لأنها لم تدعم بالتجربة الأسلوبية الرصينة ، لكننا نرى مع تكامل الرؤية التكعيبية او التجريدية إغتنت رؤيتنا الى اغلب اللوحات المبكرة التي صرنا نتعامل معها على إنها كشف حداثوي تناسل بشكل تطوري ليتنتج عالماً متكاملا ً اومدرسة فنية تطل على المستقبل مع إنها تجربة اسلوبية قائمة بذاتها .

من المعروف إن إبداع لوحة او تشكيلة نحتية لا يتطلب ذكاءا ً خارقا ً بقدرحاجته بالدرجة الاولى الى عقل سليم له قدرات تخيلية يعرف من خلالها كيف ينضج عبر التأمل افكاره ومشاعره معتمدا ً على ذاكرته وخبرته الواعية .

هذا بالإضافة الى مجتمع غير سلبي او قمعي يربك عاطفة الرسام ( المبدع ) الى الحد الذي يجعله مشوش الأفكار وتكون إستعداته النفسية متعذرة او مستحيلة للتركيز على إنضاج عملة .

الرسام حالة كحال اغلب المبدعين حين يتصدى الى خلق قيمه الجمالية تتفاعل في ذهنه عمليات متوشجة ( الذاتي , والموضوعي ) وهذه الآلية تحمل في طياتها قوى ثنائية : التناغم بين الشعور وللا شعور ، القدرات الواضحة والغامضة ، العناصر المتخيلة والواقعية ،ويتصادم الضروري بالعشوائي ،آلية تبحث عن تحقيق الملموس المحمل بالرغبات والأحلام والذاكرة ، وكأننا امام صراع تأريخي بين شيطان الفنان الفردي مع مارد هائل ( المجتمع ) الذي يثقل أجنحته ويمنعه من الطيران ليرى ما لم نر .

عبر هذه الشبكة المعقدة يحاول الرسام ( المبدع ) ترويض لوحته باحثا ً عن إنسجامة النوعي المفقود وفي نفس الوقت تصب محاولاته وتهدف الى تطهرنا وتعمدنا بما هو روحي .

وبذلك التفاعل الوجداني بين روح الفنان وروح الجمهور تتم العملية الإبداعية غايتها المعرفية والجمالية وتزدهر الحياة ة وتتحول الأحلام الى واقع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي