الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصر الثورة الماركسية في الألفية الجديدة

توني كليف

2011 / 3 / 9
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


عصر الثورة الماركسية في الألفية الجديدة

توني كليف

ترجمة: أشرف عمر


مركز الدراسات الاشتراكية


تعريف بالمؤلف

وُلد توني كليف في فلسطين في عام 1917، ذلك العام الذي اندلعت فيه الثورة الروسية. في الثلاثنيات تبنى كليف الاشتراكية الثورية وأصبح من أتباع ليون تروتسكي، وبعد العمل لبناء مجموعة ثورية صغيرة في فلسطين، سافر توني كليف إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. انتقد توني كليف التروتسكية الأرثوذكسية بعد دراساته العميقة للاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، حيث توصل لاستنتاج هام مفاده أن الأنظمة الحاكمة في تلك الدول ليست أنظمة عمالية بيروقراطية كما كان يعتقد التروتسكيين الأرثوذكس، بل أنظمة رأسمالية الدولة.

وفي بريطانيا، أسس كليف مجموعة لتحرير مجلة الاشتراكي، التي أصبحت في الستينات "مجموعة الاشتراكيين الأمميين"، وتحولت إلى حزب العمال الاشتراكي في السبعينات. لتوني كليف العديد من المؤلفات الهامة، منها كتاب من ثلاث مجلدات عن السيرة الذاتية للثوري الروسي فلاديمير لينين، وآخر من أربع مجلدات عن سيرة ليون تروتسكي. فضلاً عن كتب أخرى مثل "التروتسكية بعد تروتسكي"، و"رأسمالية الدولة في روسيا" الذي تم ترجمته إلى اللغة العربية وقام مركز الدراسات الاشتراكية بإصداره.

وقد توفى كليف في أبريل 2000، بعد أن كتب سيرته الذاتية والتي نُشرت بعد وفاته بفترة قصيرة بعنوان "مازال هناك عالم لنكسبه: حياة ثوري".

يضم هذا الكتاب عدداً من المقالات التي كتبها توني كليف في العام الأخير من حياته للمنظمات الاشتراكية الثورية في ألمانيا وتركيا.


















مقدمة
عصر الثورة الجماهيرية

في مصر، كما في أنحاء متفرقة من العالم، نعيش اليوم عصراً جديداً من الثورات الجماهيرية الضخمة التي زلزلت عروشاً لم يكن يتخيل أحد أنها يمكن حتى أن تهتز. نعم فعلتها الجماهير في تونس ومصر، ويأتي الدور على بقية الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية وغيرها. فعلتها الجماهير العريضة بنفسها دون الحاجة إلى انقلابات جيوش أو قصور أو تحرر على يد أقلية متمردة على الطغيان.

لكن الثورة ليست نزهة يمكن أن تنتهي في ليلة وضحاها أو حتى في عدة أسابيع؛ فالطبقة الحاكمة بكل ما تملكه من سلطة ونفوذ لا يمكن أن تختفي بالكامل أو تخور قواها أثناء زلازل الانتقاضات بسهولة أو في وقت قصير، بل يمكنها أن تصمد وسط العاصفة حتى مع الكثير من الخسائر. وفي الوقت الذي تستمر فيه الثورة وتتقدم كل يوم خطوة على الأرض، تحاول الطبقة الحاكمة باستماتة أن تنظم صفوفها جيداً من أجل شن الثورة المضادة، وهذا بالضبط ما نشهده اليوم.

هذا الوضع المليء بالتعقيدات والتشابكات ما بين الثورة والثورة المضادة يمكن فهمه، وبالتالي التعامل معه، من أكثر من منظور. فمن أراد إزاحة الديكتاتور سيتجاهل الثورة المضادة أو سيقف عملياً في صفوفها، فما أراده قد تم تنفيذه بالفعل ولا حاجة للمزيد. ومن يريد تغيير النظام "السياسي" وتطهيره من الرموز الفاسدة القديمة سيسير في طريقه، ربما إلى النهاية، لكنه سيتجاهل صخب المطالب الاجتماعية للملايين التي تنادي بتغييرات أكثر جذرية. أما من يسعى لتغيير المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة سيسعى في القلب من الملايين لاستكمال الثورة ونسف النظام من قواعده.

وما يحدث اليوم ليس جديداً أو مختلفاً عن ثورات التاريخ؛ ففي كل الثورات تنفجر حالة من الاستقطاب العنيف بين الأطراف المختلفة.. الطبقة الحاكمة تسعى للإجهاز على الثورة واستيعابها حتى وإن كان بتقديم المزيد من التنازلات أو بتقديم أكباش فداء.. والإصلاحيون الذين كانوا يسخرون من قدرة الجماهير على الثورة، يتحولون إلى محافظين يعترفون بالثورة وقيمها وإنجازاتها لكن يسعون للتهدئة والحفاظ على الأوضاع ما بعد الانتفاضة ويحاولون دوماً تحويل الثورة إلى مجرد أيقونة مفرغة من المضمون.. أما الجماهير الثورية فتحاول استكمال مسيرة الانتفاضة والبناء على ما حققته من مكاسب سياسية إلى الثورة الاجتماعية.

وعلى مدار القرن السابق، تناولت النظرية الماركسية تاريخ الثورات بالفهم والتحليل والاستنتاج، وقد كان لثورات القرن التأثير الأكبر في تطوير النظرية الماركسية الثورية. إلا أن ما يسعى إليه الماركسيون الثوريون ليس ثورات تستبدل أولئك الذين يقبعون على قمة المنظومة السياسية والاقتصادية بآخرين، بل ثورات تغير المنظومة كاملةً بشكل جذري.

وصحيح أن فصول هذا الكتاب قد كُتبت في بداية الألفية الجديدة، أي منذ أكثر من عشرة أعوام، إلا أن الأفكار التي تقدمها يطرحها قد فتحت الثورة الجماهيري أبواباً رحبة لطرحها. وبعد أن مرت عقود من الركود والموات في الحركة الجماهيرية في مصر والعالم.. عقود استطاعت خلالها الطبقات الحاكمة في العالم أن تثبّت أوضاعها وتوطد أوصال تحالفاتها ضد الشعوب وتلغي مفردات الثورة الجماهيرية من قاموسها. لكن الجماهير عادت لتفرض هذه المفردات أمراً واقعاً على الجميع. أما النظرية الماركسية الثورية فلم تمت حتى طوال عقود الموات تلك، بل ظلت حية يصونها المؤمنون بها والواثقون في قدرة الجماهير على صنع تحررهم الثوري بأيديهم.

يقدم كتاب "الماركسية وعصر الثورة" مزيجاً من الأفكار النظرية والتحليلات وخبرة الثورات في التاريخ، حيث يمكننا القول بأنه يبني نسقاً فكرياً متجانساً ومبسطاً لأفكار لا تنفصل عن بعضها، بل لا يمكن فهم أو تناول إحداها إلا في سياق نظرية متطورة وحية بحياة الجماهير والثورة.. النظرية الماركسية الثورية.



























الفصل الأول
هل مازالت الماركسية حية؟!

في المدرسة نتعلم التاريخ كمجموعة من القصص القديمة حول الرجال العظماء: الملوك، الأباطرة، قادة الجيوش، إلخ. أتذكر جيداً حينما كانوا يخبروننا في المنهج الدراسي أن كليوباترا كانت تستحم باللبن، لكنهم لم يخبروننا أبداً من الذي أنتج ذلك اللبن أو كم من الأطفال المصريين عانوا سوء التغذية بسبب ندرة اللبن. كانوا يخبروننا عن نابليون حينما ذهب لغزو روسيا في 1812، لكن لم يخبرنا أحد كم من الفلاحين والجنود، الروس والفرنسيين الفقراء، قُتلوا في المعارك.

البيان الشيوعي يوضح –على العكس من تاريخ الطبقات الحاكمة ورجالها- أن العامل الأساسي في صنع التاريخ هو حركة الملايين من الجماهير: "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ الصراعات الطبقية: حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع. وبكلمة أخرى، ظالمون ومظلومون في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين".

كما أن الستالينية والاشتراكية الديمقراطية هم أيضاً يتناولون الأمور من أعلى. الأمر واضح بالنسبة للستالينيين، فكلما كان ستالين يعطس، كان كل عضو بالحزب الشيوعي يشهر منديله ليعطيه إياه (!!)

أما الاشتراكية الديمقراطية، فهي تبدو لوهلة وكأنها ديمقراطية حقاً. ولكنها في الحقيقة غارقة في النخبوية، فهي تقوم على فكرة أساسها أن الرجال والنساء العاديين عليهم فقط أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية مرة كل 4 أو 5 سنوات، وأن يتركوا بعد ذلك كل الأمور لمن انتخبوهم. تعالوا نتأمل الأمر: إذا قام المواطن بالتصويت عشر مرات في حياته، فإنه يقضي مثلاً 30 دقيقة من حياته في المشاركة في عملية الديمقراطية. يوضح آب لينكولن الأمر قائلاً: "لا يمكن للمجتمع أن يكون نصف حر نصف عبد". وهكذا فإن القادة الاشتراكيين الديمقراطيين يفترضوا أن على الجماهير أن تعيش العبودية طيلة حياتها، في مقابل 30 دقيقة فقط يمارسون فيها الديمقراطية.

تناقضات الرأسمالية

في ظل الرأسمالية، أولئك الذين لا يعملون، يملكون أدوات الإنتاج، وأولئك الذين يعملون لا يملكون شيئاً على الإطلاق، على الرغم من أن العمل في ظل الرأسمالية يتم بشكل اجتماعي؛ حيث تعمل أعداد ضخمة من العمال في أماكنهم (مصانع، مستشفيات، محطات، إلخ). يتم الإنتاج بالمشاركة الاجتماعية، لكن الملكية ليست كذلك؛ حيث تتركز في أيدي أفراد أوشركات رأسمالية كبيرة أو دول.

نلاحظ جيداً التنظيم والتخطيط والتنسيق الدقيق في كل وحدة إنتاجية. لكن في نفس الوقت ليس هناك أي درجة من التخطيط أو التنسيق بين الوحدات المختلفة من رأس المال ككل. في فولكس فاجن على سبيل المثال، ينتجون موتور واحد لكل سيارة، وهيكل واحد، وأربعة عجلات (وواحدة أخرى "استبن"). هناك تخطيط جيد بين أقسام الإنتاج المختلفة للسيارة، لكن ليس هناك أي درجة من التنسيق بين فولكس فاجن وجنرال موتورز. وهكذا فإن التخطيط والفوضى هم وجهان لعملة واحدة هي الرأسمالية.

من الأفضل هنا أن نضع الرأسمالية في السياق التاريخي، وأن نقارنها بالإقطاع الذي سبقها وبالاشتراكية التي سوف تليها.

في ظل الإقطاع، كان هناك إنتاج فردي وملكية فردية. أما في ظل الاشتراكية سوف يكون هناك إنتاج إجتماعي وملكية إجتماعية.

في ظل الإقطاع، كان الحديث عن تخطيط الاقتصاد غير معقول سواء على مستوى الوحدة الاقتصادية أوعلى مستوى الاقتصاد ككل. أما في الاشتراكية فإن سيكون على مستوى الوحدات الإنتاجية الصغيرة وعلى مستوى الاقتصاد ككل.

ولأن الرأسمالية يجتمع فيها كل من الانتاجية الضخمة بجانب الفوضى في عموم الاقتصاد، دائماً ما نواجه ظاهرة خطيرة وملازمة للرأسمالية حيث الفقر والحرمان في ظل الوفرة. على مدار آلاف السنين، قبل الرأسمالية، كان البشر يعيشون فقر مدقع ويموتون جوعاً لأنه لم يكن يوجد طعام يكفي الجميع. أما الرأسمالية فهي النظام الاقتصادي والاجتماعي الوحيد الذي يموت فيه الناس جوعاً لا بسبب ندرة الطعام لكن بسبب وفرته.

في الولايات المتحدة الأمريكية يتم صنع سفن خاصة لشحن الحبوب، بحيث تستطيع أن تفتح قاعها لإلقاء الحبوب وإغراقها في المحيط، وذلك للحفاظ على أسعارها من الانخفاض.

الفقر بجانب الثروة يظهرون في أشكالهم القصوى في ظل الرأسمالية كما لم يسبق في التاريخ كله. يُذكر أن أن هناك 58 ملياردير فقط يملكون وحدهم ثروات تعادل دخول نصف البشر على كوكب الأرض، وهؤلاء البشر ليسوا فقط من الفقراء بل أيضاً من أولئك القادرين على العيش.

التنافس واستغلال العمال

في ظل الإقطاع، يقوم السيد الإقطاعي باستغلال واضطهاد عبيده وخدمه وفلاحيه في سبيل أن يعيش حياة مرفهة. هكذا يشرح ماركس الأمر: "إن حدود إستغلال الإقطاعي لخدمه وعبيده تنحصر بين جدران معدته". لكن ما يدفع فورد لاستغلال العمال ليس الاستهلاك الشخصي، فلو كان الأمر كذلك لكان عبء الرأسماليين أقل. فهناك 250 ألف عامل على مستوى العالم يعملون لدى فورد، وإذا كان كل منهم يؤخذ منه دولار واحد كفائض قيمة سيكون ذلك كافياً لكي يعيش ملاك شركة فورد. لكن ديناميات الاقتصاد أكبر وأعقد بكثير من ديناميات استهلاك أي شخص أومجموعة من الأشخاص؛ إذ أن الدافع الحقيقي للاستغلال ليس الاستهلاك الشخصي للرأسمالي وليس "جدران معدته".

للنجاة أثناء المنافسة مع جنرال موتورز وفورد، يجب تجديد وتحديث الميكنة في المصانع، كما يجب استثمار المزيد من رأس المال. والوجه الآخر من فوضى التنافس بين الرأسماليين هو الظروف القاسية والطغيان الذي يعيشه العمال في كل وحدة رأسمالية.

طبيعة الدولة الرأسمالية

في كل مكان يخبروننا أن الدولة فوق المجتمع وأن الدولة تمثل الأمة. لكن البيان الشيوعي –مرة أخرى على عكس كل ذلك- يرى أن الدولة هي مجرد سلاح في يد الطبقة الحاكمة: "الدولة ليست إلا جهاز لإدارة شئون ومصالح الطبقة البرجوازية ككل".

وفي موضع آخر كتب ماركس أيضاً أن الدولة ليست إلا "رجال مسلحين دائمين مزودين بكل ما يلزمهم لآداء مهمتهم" –الجيش، الشرطة، المحاكم والسجون، إلخ. لقد أطلق ماركس على مهام الجيش "صناعة المذابح"، ليس هذا فحسب، بل أن تلك الصناعة تعتمد على الصناعة الحقيقية. بكلمات أخرى، إن ما يحدد قوى التدمير هي قوى الإنتاج نفسها.

هكذا يسير الأمر على مر تاريخ المجتمعات الطبقية. في العصور الوسطى مثلاً، عندما كان الفلاح يمتلك حصان ومحراث خشبي، كان الفارس يمتلك حصان أقوى وسيف حديدي. وفي الحرب العالمية الأولى، عندما كان يتم إرسال ملايين من الناس إلى الجيش من أجل القتال، كان يتم إرسال ملايين آخرين للمصانع الحربية لإنتاج البنادق وطلقات الرصاص، إلخ. واليوم، عندما يضغط إصبع على الزر لإرسال ملايين الدولارات عبر حسابات البنوك، تستطيع ضغطة زر أيضاً إبادة 60 ألف إنسان كما حدث في هيروشيما. إن صناعة المذابح والصناعة الإنتاجية تتوائمان كما يتوائم القفاز في اليد، حتى الهيكل الاجتماعي للجيش (صانع المذابح) تتوافق تماماً مع هيكل المجتمع ذاته؛ فإذا كان الجيش لديه الجنرالات والضباط الكبار نزولاً إلى الجنود، فالأمر مماثل في المصنع؛ حيث يوجد المدير ورئيس العمال ومن ثم العمال أنفسهم. إنه نظام معين في التراتب لابد أن يتوازى مع مثيله.

الثورة البروليتارية

من أجل تحطيم الرأسمالية، يجب على الطبقة العاملة أن تستولي على السلطة السياسية. لكن، كما جادل ماركس من قبل، لا يمكن للعمال أن يستولوا على آلة الدولة ويديرونها كما هي؛ ذلك لأن الدولة الحالية لا تعكس سوى الهيكل الطبقي للمجتمع الرأسمالي. لذلك فإن على العمال أن يحطموا هيكل الدولة وأن يستبدلونه بدولة أخرى حيث لا يوجد جيش نظامي ولا بيروقراطية تتحكم في مقدرات الأمور، وحيث يتم انتخاب كافة المسئولين ويصبح بالإمكان عزلهم بسهولة، وحيث لا يمكن لأي نائب أو ممثل للعمال أن يتقاضى أجراً أكثر من متوسط أجر العامل العادي. توصل ماركس لهذه الاستنتاجات بعد ما شهده في كوميونة باريس 1871 التي أنجز فيها العمال كل ذلك. وحتى من قبل الكوميونة، كتب ماركس في البيان الشيوعي: "حتى الآن، كانت كل الحركات في التاريخ إما حركات الأقلية أو حركات لمصلحة الأقليات. أما الحركة البروليتارية فهي الحركة المستقلة والواعية والقائمة بذاتها للأغلبية الساحقة في سبيل الأغلبية الساحقة".

لقد أوضح ماركس لماذا نحتاج ثورة: الطبقة الحاكمة لن تتخلى عن السلطة والثروة إلا إذا أُجبِرَت على ذلك بالقوة، والطبقة العاملة لن تتخلص من "وحل القرون السابقة" بدون ثورة حقيقية.

لكن الرأسمالية لها تأثيران متناقضان على العمال، فهي من ناحية، توحد مصالح العمال، ومن ناحية أخرى تخلق الانقسامات بينهم. التنافس على الوظائف، على السكن المناسب أوعلى الترقيات، إلخ، كل ذلك يبعثر صفوف العمال. بينما النضال ضد رؤساء وملاك العمل هو ما يوحدهم، وتصل هذه الوحدة إلى أقصاها في الإضرابات العامة للجماهير العمالية. لكن الثورة لا يمكن أن تحدث بسهولة بين ليلة وضحاها؛ فالثورة عملية طويلة من الإضرابات والمظاهرات والنضالات المختلفة التي تتوج في النهاية باستيلاء العمال على السلطة.

إن السمة الأكثر أهمية للثورة تتجلى في التغيرات الفكرية والنفسية في صفوف الطبقة العاملة. الجماهير في روسيا تقدم لنا مثالاً هاماً للتدليل على ذلك، حيث كان اليهود، في ظل سيطرة القيصرية على روسيا، مضطهدين بكل قسوة وعنف. كان القيصر يدبر لهم حملات تطهير منظمة، ولم يكن لهم الحق في العيش في أي من العاصمتين (موسكو وبتروجراد) بدون تصريحات يصعب الحصول عليها، كما كان يتم التمييز ضدهم في السكن والتعليم، إلخ. وبشكل عام كان اليهود مكروهين من باقي سكان روسيا القيصرية.

تعالوا نتأمل ماذا حدث عندما قامت الثورة الروسية في 1917. لقد تحولت أفكار الروس بشكل جذري تجاه اليهود وذابت الانقسامات بين اليهود وبين بقية الروس، حتى أنه تم انتخاب ليون تروسكي في منصب رئيس سوفييت بتروجراد، وبعد ذلك كقائد للجيش الأحمر. وكامينيف كرئيس لسوفييت موسكو، كما تم انتخاب سفيردلوف رئيساً للجمهورية السوفيتية. وكل هؤلاء الثوريين منحدرين من أصول يهودية.

سنضرب مثالاً آخر، من الثورة الروسية، على التحولات الفكرية لدى الجماهير. خلال شهر أكتوبر الذي انتصرت فيه الثورة، كان الثوري الروسي لوناتشارسكي يعقد لقاءات جماهيرية يحضرها 30 أو 40 ألف شخص لمدة ساعتين أو ثلاثة ساعات، للحديث حول مواضيع مثل الأدب عند وليام شكسبير، أو الدراما الإغريقية، إلخ.

لقد لخص لينين الشروط الواجب توافرها من أجل قيام وانتصار ثورة عمالية يمكنها أن تصنع مثل هذه التحولات في البشر:

1) الأزمة العميقة التي تشمل المجتمع بأسره.
2) حالة السخط لدى الطبقة العاملة التي لا ترضى بالعيش بهذه الطريقة.
3) حالة من فقدان الثقة لدى الطبقة الحاكمة في قدرتها على الاستمرار في السيطرة على المجتمع، ومن ثم الانقسام والصراع في صفوفها حول طريق الخروج من الأزمة.
4) وأخيراً وجود حزب ثوري يستطيع قيادة الطبقة العاملة إلى النصر.

الاشتراكية أو الفاشية

لقد أشرنا من قبل إلى مقولة ماركس في البيان الشيوعي حيث كان يشرح أن النضال الطبقي قد ينتهي "إما بتحول ثوري للمجتمع وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين". لقد توصل ماركس لهذا الاستنتاج على أساس خبرة سقوط المجتمع الروماني العبودي. لقد هُزم سبارتاكوس، ولم يستطع العبيد تنظيم أنفسهم للإطاحة بطبقة مالكي العبيد. إلا أن المجتمع العبودي قد سقط أيضاً. اختفى العبيد وحل محلهم الأقنان، وكذلك مالكي العبيد الذين حل السادة الإقطاعيين محلهم.

استطاع إنجلز أن يضع صياغة أخرى لنفس الفكرة حين تحدث عن احتمالات مستقبل البشرية "إما الاشتراكية أو البربرية". واستطاعت روزا لكسمبرج تطوير الفكرة إلى أبعد من ذلك، في حين أنها لم ترى بربرية وهمجية في العالم بالقدر الذي نراه اليوم. إنجلز توفى في 1895، أما روزا فقد أغتيلت في يناير 1919، ولم يشهد أي منهما القتل في غرف الغاز، ولا الإبادة التي تمت في هيروشيما وناجازاكي، ولم يسمعوا عن مجاعات أفريقيا. لم يشهدوا أي من تلك المظاهر البشعة للبربرية.

عندما كان النازيون على أعتاب السلطة في ألمانيا، كان قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يظنون أن الوضع الراهن أفضل بكثير من النازيين وأن عليهم أن يحافظوا على هذا الوضع لكي يواجهوا الصعود النازي. وهكذا قاموا بالتصويت في صالح السياسي المحافظ فيدل مارشال هايدنبرج ليصبح رئيساً للبلاد، لمجرد أنه ليس نازياً. لكن هايدنبرج استدعى هتلر، في 30 يناير 1933، ليصبح رئيساً للوزراء.

الفاشية ببساطة هي حركة تعبر عن اليأس من تغيير المجتمع، بينما الاشتراكية تعبر عن الأمل في ذلك. ولذلك فإن النضال ضد الفاشية لا يستلزم النضال ضد الفاشيين وحسب، بل أيضاً النضال ضد كافة الظروف التي تقود المجتمع إلى اليأس من التغيير. من البديهي أن تطهر منزلك من الفئران، لكن يجب أيضاً أن تطهر البالوعات التي تتكاثر فيها تلك الفئران. يجب علينا النضال ضد الفاشيين، لكن يجب أيضاً النضال ضد الرأسمالية نفسها؛ فهي التي تصنع كل تلك الظروف التي تغذي الفاشية، حيث البطالة والفقر والحرمان من الخدمات والأمان الاجتماعي، إلخ.

أكثر حيوية بما لا يُقاس

تعاني الرأسمالية اليوم تناقضات أعمق بكثير من تلك التي عاشتها حين مات ماركس في 1883. تلك التناقضات تتجلى في الأزمات الدورية العميقة، وفي الحروب التي تجتاح العالم، إلخ. وعلى الجانب الآخر أصبحت الطبقة العاملة أقوى بكثير مما كانت عليه في 1883. ومن الطريف أن نذكر أن حجم الطبقة العاملة في كوريا الجنوبية وحدها أكبر من حجمها في العالم كله حينما مات ماركس، مع العلم بأن اقتصاد كوريا الجنوبية يحتل المرتبة رقم 11 بين دول العالم. أضف إلى ذلك العمال في أمريكا وروسيا واليابان وألمانيا وبريطانيا، إلخ. وهذا لا يعني سوى أن الإمكانية والفرصة أمام تحقق الاشتراكية أعلى بكثير مما سبق.



































الفصل الثاني
لماذا نحتاج الحزب الثوري؟!

الطبقة العاملة هي طبقة ذات نزوع ثوري وكما يراها ماركس هي الوحيدة التي تمتلك القدرة على القيام بالثورة غير أن العمال لا يؤمنون بهذه القدرة لديهم بل ولا يحسنون الظن بطبقتهم ككل بوصفها طبقة ثورية.
لو كان العمال مدركين لهذه القوة الكامنة داخلهم لكان الأمر في غاية السهولة فيما يتعلق بدور الاشتراكيين تجاههم، غير أن الحقيقة القائلة بان الأفكار السائدة في أي مجتمع هي الأفكار التي تبثها الطبقة الحاكمة تؤدى بان يسجن العمال كل ما يختلف من أفكار داخل رؤوسهم.
البعض (هم عادة أقلية صغيرة نسبيا) يقدس كل القيم الرأسمالية فتراهم يدافعون بشدة عن تقسيم البشر بين أناس ولدوا ليحكموا بينما آخرون ولدوا ليشغلوا منصب المحكومين، وهكذا فهم مؤمنون بكل أمراض المجتمع الرأسمالي من تصنيف الناس على أساس الجنس أو العرق أو القومية.
والبعض الآخر وهم أقلية لا تزيد كثيرا عن سابقتها يرفضون الرؤية السائدة للعالم تلك التي تكرسها وسائل الإعلام ونظام التعليم وكل المؤسسات الأخرى في المجتمع الرأسمالي، وهم بدلا من ذلك يحاولون تطوير تصور مختلف يقاوم هذه الأفكار ويقدم منظورا بديلا يتبدى من خلال العالم بشكل مغاير.
أما الأغلبية العظمى من العمال فهم معظم الأحيان لا يتبعون أيا من هذه الرؤى فتراهم في الوقت الذي يرفضون فيه بعضا من أفكار الطبقة الحاكمة فإنهم يسلمون بالبعض الآخر، انهم ينحازون لشكل المجتمع كما هو ولكنهم في الوقت نفسه يرغبون التخفيف من بشاعته.
هذا الخليط من الأفكار يعطى انطباعاً بأنه بالرغم من أن الطبقة العاملة هي طبقة ذات توجهات ثورية محتملة فإن هناك فجوة كبيرة بين ما هو محتمل وما هو قائم بالفعل.
موقع العمال في المجتمع الرأسمالي (كطبقة مستغلة لا تملك إلا القليل من أمر معيشتها وتشعر بالاغتراب عن ما تنتجه) يقودهم إلى الإيمان بأنه لا يمكنهم تغيير ظروفهم إلا في أضيق الحدود، وفى الوقت الذي يؤهلهم فيه موقعهم لأن يكونوا منظمين بصورة جماعية من خلال النقابات العمالية والأحزاب السياسية للطبقة العاملة فإن قوة التنظيم الجماعي والعمل الجماعي ليست واضحة بالنسبة لهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو كيف يمكن للاشتراكيين التغلب على ذلك؟ كيف يمكن للعمال التحول من السلبية والمشاركة بفعالية في تحرير أنفسهم؟ كيف يمكن للعمال أن يدركوا حقيقة انهم قادرين على التغيير كطبقة؟
إن التاريخ قد بين في أكثر من مناسبة أن العمال عند ولادة الثورة يتحركون بشكل عفوي ويتشكل الوعي لديهم كطبقة، وأشارت دروس التاريخ أيضا إلى أن العمال في حاجة دائمة إلى نظرية ثورية وإلى منظمة تتولى مهمة تخطيط الطريق لهم منذ البدايات الأولى للثورة حتى تصبح لديهم القدرة على تأسيس دولتهم العمالية الخالية من الاستغلال والقائمة على الإنتاج من اجل إشباع الحاجات، ومن هنا فمهمة الحزب الثوري تتمثل في إمداد العمال بكل من النظرية والتنظيم.
أنواع الأحزاب المختلفة

الحزب الثوري يختلف تماما عن غيره من الأحزاب العمالية الأخرى في نواحي كثيرة، أهمها بالطبع هو أن الحزب العمالي الثوري يهدف إلى إسقاط الرأسمالية بالإضافة إلى انه مدرك للاختلاف في مستوى الوعي الطبقي لدى العمال هو ما يعتبر جوهر العملية التنظيمية له.
ويعد من الأمور الحاسمة أن حزب العمال الثوري مبنى بالأساس على الأقلية النشطة داخل الطبقة العاملة والتي ترغب في النضال ضد النظام، حتمية هذه الفكرة تكمن في أن أقلية فقط من العمال ينغمسون بشكل مباشر في الصراع، هذه الأقلية يتراوح عددها بين مئات الآلاف أو الملايين في إضراب عام أو أعداد ضئيلة في إضراب بمصنع ولكن بدون مجموعة ثورية تنظم حركة هؤلاء العمال المتعطشون للكفاح كل جهودهم ستضيع هباء بلا طائل.
كثير من الناس "خاصة هؤلاء المنتمين للأحزاب التي تسمى نفسها عمالية مثل حزب العمال البريطاني" يجدون أن الحزب الثوري هو ظاهرة غير مفهومة ومن ثم فانهم يتناقشون حول لماذا لا يكون الحزب الثوري جزءا من الحزب الكبير الذي يضم كل العمال؟!!.
إن نظرة متأنية لحزب العمال البريطاني على سبيل المثال تكشف خطأ مثل هذا الطرح، فهذا الحزب يعد ممثلا لكل العمال على اختلاف أفكارهم ونظرا لوجود التفاوت في الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية فان تمثيل الطبقة بشكل عام يعنى تمثيل هؤلاء المقتنعين بأفكار الطبقة الحاكمة تماما كهؤلاء الرافضين لأفكارها.
هذا ما يجعل حزب العمال دائما (كمعبد فسيح) يضم بين أروقته العنصريين، وأيضاً يضم هؤلاء الذين يرفعون شعارات ضد العنصرية. ورغم أن ذلك قد يجعل منه منظمة ضخمة إلا أنها تكون زيادة كمية غير قادرة على النضال من أجل مصالح أعضاء الحزب، نظراً لأنها لا غير موحدة على فكرة واحدة، بل أفكار متناقضة في أحيان كثيرة.
بشكل عملي يعنى ذلك أيضا أن حزب من هذا النوع لا يمثل في الواقع الطبقة العاملة ككل على الإطلاق بل هو يتواطأ لصالح الصفوف الخلفية للعمال ولا يعمل من اجل كل أو حتى معظم صراعات الطبقة العاملة فهذه الصراعات عادة ما تبدأ خارج حزب العمال وهى في أحيان قليلة ما يتم تأييدها بشكل فردى من قبل أعضاء الحزب الذين لا يلقون سوى التأييد السلبي من الحزب نفسه.
على النقيض من ذلك فان الحزب الثوري الحقيقي دائما ما يطالب أعضائه بالعمل على تشجيع وتوسيع مستوى الصراع الطبقي بشكل إيجابي الأمر الذي يتطلب وجود نظرية تستخلص الخبرات النضالية السابقة للطبقة لكي تكون بمثابة المرشد للعمل المستقبلي.
مثل هذا الحزب يجب أن تمتد جذوره داخل الطبقة العاملة بوصفه حزب طليعي بمعنى انه يدفع بأفضل الكوادر وأفضل الخبرات معا داخل الطبقة.
على الثوريين أن يناضلوا من اجل أفكارهم من خلال نشاطهم، لذا فعليهم أن يقاوموا النظام القائم عن طريق الإضرابات والاحتجاجات والمساجلات من يوم لآخر، ذلك لأن الحزب الثوري هو منظمة مقاتلين قادرين على العمل معا بهدف الوصول لأقصى تأثير سواء في أماكن عملهم أو في أي مكان آخر. بالإضافة إلى ذلك فالحزب الثوري عليه أن يكون بمثابة "ذاكرة الطبقة العاملة" أي المكان الذي يناقش فيه تاريخ الحركة العمالية وتُعلم فيه الدروس النضالية.
ما هي الخبرة النضالية ؟

نهض العمال في كل عقد من عقود هذا القرن لتحدى النظام ككل. في الأعوام ما بين 1917 و1923 حاول ملايين العمال في روسيا والمجر وإيطاليا امتلاك زمام معيشتهم عن طريق التحكم في وسائل الإنتاج في المجتمع، لقد نظموا المجالس العمالية وسيطروا على مصانعهم واسقطوا النظام القديم، وفى أواخر العشرينات ثار العمال الصينيين ضد حكامهم، واشتعلت الحرب الأهلية في أسبانيا 1936- 1939 عندما قام العمال وفقراء الريف بالتصدي لمحاولة الانقلاب اليميني وقرروا السيطرة على المجتمع وتسييره لصالحهم.
بعد الحرب العالمية الثانية حوّل العمال في إيطاليا واليونان القتال ضد الاحتلال النازي إلى قتال من اجل العدل والمساواة، والعقود التي تلت تلك الفترة مرت بها العديد من اللحظات الثورية، فلقد شهدنا نضالات من أول حركات التحرر الوطني ضد المستعمر السابق كما حدث في فيتنام حتى الكفاح ضد الستالينية في المجر، وأيضاً نضالات باريس في مايو 1968، والثورة البرتغالية 75- 1976، ومنذ وقت ليس ببعيد شهدنا خبرة سلطة العمال في القرى على اختلافها كما حدث في بولندا وإيران، طوال هذه الفترة مرة واحدة فقط نجحت ثورة العمال في تولى السلطة في ثورة أكتوبر 1917 في روسيا.
هذا التباين الحاد في النتائج لم يعتمد على ظروف تاريخية أو قومية خاصة، على العكس من ذلك فقد نبع من قدرة الحزب الروسي الثوري (حزب لينين البلشفي) على قيادة الطبقة العاملة على طريق تولى السلطة. في بداية 1917 كان الحزب البلشفي حزب أقلية ضئيلة داخل الطبقة العاملة أما بين السكان ككل (الذي كان أغلبهم من الفلاحين) فقد كان أقلية أصغر، وعندما نهض عمال بتروجراد في ثورة فبراير فاجئوا البلاشفة تماما، الثورة في البداية لم يكن هدفها حصول العمال على السلطة بل كانت موجهة لمطالب اكثر محدودية مثل القضاء على الأوتوقراطية القيصرية وإقامة ديمقراطية حقيقية ونهاية الحرب الدامية في أوروبا.
بعد سقوط القيصرية كانت الحكومة الجديدة ضعيفة ومذبذبة والمجتمع كله يعانى من أزمة عميقة وسرعان ما ظهرت أشكال الحكم الجديدة كالسوفييتات أو مجالس العمال. في البداية كان البلاشفة معزولين داخل السوفييتات ولكنهم استطاعوا في وقت قصير كسب مساندة كبيرة لأفكارهم ولنشاطهم وبدأت الأغلبية العظمى من العمال تنجذب لشعاراتهم، فقد فهم العمال أن الطريقة الوحيدة للتقدم هي تحطيم آلة الدولة القديمة (التي دعمت الجيش ودافعت عن نظام الملكية الخاصة) وتأسيس دولة جديدة يكون أساسها سلطة العمال.
فهم البلاشفة الواضح للموقف وجذورهم الممتدة داخل الطبقة العاملة كان نتيجة لشكل حزبهم وطريقة بنائه. لقد كان حزبا مبنيا على عنصرين هامين هما الفاعلية والأفكار، نجاحهم كان ثمرة قدرتهم على اختبار الموقف والنقاش حوله والوصول إلى نتيجة موحدة كانت هي التي يتم وضعها موضع التنفيذ. من هنا نبعت قدرتهم على النقاش بين اكثر العمال المسيسين من اجل إسقاط آلة الدولة القديمة وإنشاء أول دولة عمالية. جانب آخر من نجاح الحزب البلشفي كان أساسه بنائه التنظيمي، ذلك البناء الذي ناسب وجود السوفييتات والحاجة إلى تحطيم الدولة القديمة.
هذه النقطة الجوهرية - تحطيم آلة الدولة القديمة- هي ما ميز الحزب البلشفي، فالأحزاب الاشتراكية التي سبقته كان هدفها مجرد التغلب على المؤسسات القائمة دون تغيير علاقات السلطة الجوهرية في الرأسمالية.
وبصرف النظر عن روسيا 1917 ففي كل الأحداث الثورية التي حدثت في العالم يبدأ الثوريين كأقلية ضئيلة ولكن مع استمرارها ومع تعمق أزمة المجتمع فان أفكارهم تحدث الصدى المطلوب لدى اكبر عدد ممكن من الناس، وتظهر بشكل حاد تساؤلات حول إصلاح النظام القائم أو إسقاطه. الكثير من العمال متعطشون للثورة ولكن غياب البديل يدفعهم لاعتبار قادتهم القدامى وسيلة لتحقيق مطالبهم، في مثل هذا الموقف فان وجود حزب ثوري متماسك قبل حلول الطوفان هو أمر في غاية الأهمية، مثل هذا الحزب يجب أن يشتمل على منظومة من الأفكار ويضم الآلاف (إن لم يكن اكثر) من الأعضاء والمؤيدين الذين قضوا أعواما في النقاش والمساجلات حول الاستراتيجية والتكتيكات في الوقت نفسه الذي يقومون فيه بالاشتباك في النشاطات اليومية من خلال آلاف القضايا المختلفة.
لا يعنى ذلك بأي حال أن هذا الحزب معصوم من الأخطاء خلال مشوار الثورة بل يعنى انه سيكون على استعداد تام للتعامل مع تغيرات وتحولات المواقف بصورة افضل من أن يتم ذلك فجأة في أثناء الصراع.
هذا ما يجعل تأسيس حزب ثوري ذو مبادئ أمرا هاما اليوم، وعلى الثوريين أن يستلهموا معظم نظرية حزبهم من خبرة لينين والبلاشفة، فالأعوام التي أنفقت لبناء الحزب البلشفي حتى في أحلك الظروف لم تضيع هباء، والسبب الرئيسي لذلك كان اختلاف مبادئ حزب لينين عن كل المبادئ التنظيمية السائدة في عصره، لقد طالب أعضائه بمستوى من الالتزام والفاعلية وكان ما سمح لقراراته أن تكون بهذه الفاعلية هو اعتماد الحزب الأساسي على فكرة المركزية الديموقراطية.
ما هي المركزية الديمقراطية ؟

رغم أن مصطلح "المركزية الديموقراطية" يبدو للوهلة الأولى متناقضاً إلا أنه ليس كذلك في الواقع. فالمركزية هي النتاج المنطقي للحوار الديموقراطي الحقيقي؛ فالقضايا تدار حولها المناقشات بل والمعارك أحياناً. وحين يُحسم الأمر فإن كل فرد -بصرف النظر عن موقفه في عملية الحوار- عليه أن يلتزم بالقرار ويعمل بموجبه.
هذا ما يعد متناقضاً مع الديموقراطية المزعومة في المجتمع الرأسمالي، فنحن نملك حق التصويت في الانتخابات المحلية والقومية ولكن علاقة ما نريد من مطالب بذلك الشخص الذي منحناه أصواتنا علاقة لا تمت بصلة لما يحدث على أرض الواقع فمعظم القرارات يتم وضعها بواسطة أناس لا نملك عليهم أي نوع من السيطرة، وبالتالي فنحن لا يد لنا في تلك القرارات التي تسير حياتنا، نحن لا نمتلك حق التصويت حول ما إذا كان يتوجب إغلاق مصنع أو بناء محطة للطاقة النووية أو ما إذا كان يجب وقف خط أتوبيس مثلاً، ذلك لان الأقلية (أصحاب المال والجاه والنفوذ) وليس الأغلبية هي التي تقرر ما الذي يجب عمله في معظم الأشياء الهامة، ولان الديموقراطية تصبح غير ذات قيمة بدون اتخاذ قرارات ديموقراطية لذا فانه في ظل الرأسمالية لا وجود للديموقراطية الحقيقية.
الأحزاب أمثال حزب العمال البريطاني ربما تدار لديهم بعض الحوارات الفردية والسجالات ولكن نادراً ما يلتزم أعضاء الحزب بنتائجها إذ ليس هناك صلة بين ما يتم قوله أو فعله وبين هؤلاء الذين يمضون في طريقهم من خلال مواقعهم لصنع القرارات هذا ناتج من حقيقية أن قادة الحزب والأغلبية من أعضاء البرلمان يجهلون تماما قرارات مؤتمر حزب العمال من دون أن يوجه لهم أي لوم.
إن التكوين الحزبي لمنظمة ما ينبع من حقيقة الدور الذي تلعبه في المجتمع، أحزاب مثل حزب العمال البريطاني ترى أن دورها "على أحسن تقدير" هي تسيير أمور المجتمع القائم من خلال البرلمان والمجالس المحلية وما إلى ذلك، لهذا فان تكوينهم الحزبي يتناسب تماما مع ما يقومون به من مهام على الأقل كما يرونها هم.
أما الحزب الثوري فله دور مختلف تهيئه له المركزية الديموقراطية فهو مبني على مهمتين أساسيتين، أولهما هو أن الطبقة العاملة لا يمكنها تولى السلطة وتسييرها لأجل صالحها بسهولة، والثانية هي حقيقة أن الأفكار السائدة في أي مجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة، يعنى هذا أن الحزب يجب أن يُنظم للقتال من أجل سلطة العمال من أسفل وذلك في سبيل بناء المجالس العمالية وإسقاط الدولة لذا فإن على الأقلية المنظمة في الطبقة العاملة عبء النضال ضد أفكار الطبقة الحاكمة ولأن وجود حزب ثوري مرتبط بفكرة التغلب على التفاوت داخل الطبقة العاملة فإن عليه تعميم خبرة هؤلاء الذين يفهمون طبيعة المجتمع الرأسمالي ووسائل القضاء عليه بشكل أفضل إذ لا يمكن للحزب الثوري أن يكون مجرد انعكاس لمستوى الفهم السائد وسط العمال في وقت بعينه بل عليه أن يكافح بشكل واعي ضد هذه الأفكار نظريا وعمليا.
ومن أجل التغلب على التفاوت في وعى الطبقة العاملة على الحزب أن يتبع طريقين اثنين، أولهما أن يكون "ذاكرة الطبقة" فكل تاريخ نضال العمال في الغالب غير ظاهر لنا حتى في الصحف ومراكز الأبحاث والمدارس والجامعات نحن لا نتعلم الكثير عن الإضرابات وانتصارات العمال، حتى عندما نعلم عن هذه الإضرابات فإن القصص تصل إلينا بشكل مشوش وبالتبعية فإننا نجهل كل شيء تقريبا عن كفاح العمال في البلدان الأخرى، لذا فإن من أهم المهام الملحة للحزب أن يتأكد من أن تاريخ الطبقة العاملة قد تغلغل في وعى العمال و أن دروسه قد تم استيعابها على نحو تام.
الطريق الثاني الذي يجب على الحزب الثوري أن يسلكه هو أن يتعلم من الطبقة العاملة. هذه المعادلة الصعبة تحدث نوعا من الحيرة إذ إنه لو كان الحزب هو حزب الطبقة العاملة وذاكرة الطبقة أليس على العمال أن يتعلموا منه وليس العكس؟! المشكلة تحدث عندما يتم اعتبار الطبقة العاملة مجموعة من المتلقين السلبيين لتعاليم الحزب حيث أن هذا يرسخ مبدأ النخبوية ويترك الفرصة لتساؤل مفاده من الذي يعلم المعلمون إذن؟
إن حقيقة العلاقة بين الحزب والطبقة هي علاقة مرنة تعتمد على تعلم الحزب من الخبرات الحية للطبقة، وهذا يستلزم أن يبذل الحزب كل جهد لخلق صلات مع العمال والحفاظ عليها، وهذا لا يعد صحيحا فقط في الأوقات التي يشارك فيها العمال في الصراع عن طريق الإضرابات والاستيلاء على المصانع وخلافه بل هو بنفس الدرجة من الأهمية عندما يكون مستوى كفاح الطبقة منخفضا (حالات الجزر).
الحزب الثوري الحقيقي هو الذي يحافظ دائما على صلاته بالعمال لهذا فإن قدرا كبيرا من الأهمية يلقى على إنتاج المجلات والنشرات والتقارير والكتيبات عن القضايا المختلفة داخل المصانع و توزيعها، وإصدار كتيبات للعمال عن قضايا أخرى كالحركة النقابية أو أزمة السكن. بهذه الطريقة فقط يمكن للحزب أن يصبح ذاكرة للطبقة العاملة و في الوقت نفسه يتعلم من نضال العمال.
القيادة

أحد الملامح الرئيسية لنظرية لينين حول الحزب هو مفهوم القيادة هذا المفهوم الذي يحدث أيضا نوعا من الحيرة لدى هؤلاء المعترضون على اللينينية إذ يقولون أن القيادة هي نوع من الكهنوتية والنخبوية. مثل هذه الأفكار خاطئة تماما، فالقيادة ضرورية في الحزب الثوري تحديدا بسبب التفاوت في الطبقة العاملة ولان الأفكار السائدة في مجتمعنا هي تلك الأفكار الخاصة بالطبقة الحاكمة. إن كل عضو من أعضاء الحزب يجب أن يعتبر نفسه أو نفسها كقائد سواء في موقع العمل أو في مكان السكن، القيادة يجب أن توجد بكل المستويات محليا وقوميا وأن تنبع بشكل طبيعي من المركزية الديموقراطية، يعنى هذا أن الذين يبنون الحزب هم أنفسهم الذين يقاتلون من أجل أفكارهم وتكتيكاتهم في الحزب ومع الطبقة العاملة، لهذا فان الحزب الثوري لا يضم قيادة محددة هي بالضرورة التي تعرف اكثر من الجميع.
المفهوم اللينيني للقيادة مختلف تماماً عن الرؤى النخبوية المعتادة للقيادة في ظل الرأسمالية، فالقيادة تعنى معرفة كيف نواجه أفكار الطبقة الحاكمة التي يقبلها معظم العمال في أغلب الأحيان، وتعنى أيضاً معرفة كيف يمكننا العمل لتحدى سلطة الطبقة الحاكمة سواء عن طريق إضراب أو تمرد. أعضاء الحزب الثوري يجب أن يكونوا متأهبين تماماً أكثر من غيرهم للقيادة بهذه الطريقة، لا يعنى ذلك أنهم دائماً ما يفعلون هذا أو أنهم دائماً على صواب، فأحياناً في أوقات ارتفاع درجة النضال الطبقي "المد" يمكن لهؤلاء الثوريين الذين قضوا الأعوام الطوال في النقاش حول السياسات الاشتراكية يمكن أن يكونوا أبطأ من أن يدكوا حالة أو درجة الكفاح داخل الطبقة العاملة.
كان هذا صحيحا حتى بالنسبة لحزب البلاشفة عام 1917. يصف تروتسكي في كتابه (دروس ثورة أكتوبر) كم أن أكثر القادة البلاشفة خبرة كانوا في حالة من البطيء والحذر عند قيام الثورة ويشرح السبب في ذلك، قائلاً: "كل حزب بما في ذلك اكثر الأحزاب ثورية يجب أن ينتج وسائل محافظة تنظيمية وإلا فإنه سوف يفقد استقراره الضروري ولكن لهذه المسألة درجتها، ففي الحزب الثوري الضرورة الحيوية للمحافظة يجب أن ترتبط بتحرر تام من الروتين بمبادرة في التوجه وجرأة في الفعل". ويمضى تروتسكي قائلاً: "كلاً من المحافظة والمبادرة الثورية تكون موجودة بشكل أكثر كثافة لدى الكوادر القيادية في الحزب".
ولكن بصفة عامة فإن الثوريين من المأمول تواجدهم في صدارة كل صراع، يقاتلون من اجل الوصول بالصراع إلى نهاية ناجحة، تلك هي الطريقة الوحيدة التي بها يمكن للأفكار الثورية أن تختبر بشكل عملي، فالقيادة داخل الطبقة تسير يدا بيد مع القيادة في الحزب، ويطرح البعض أحيانا أنه ليس هناك وقاية ضد القيادة السيئة في الحزب اللينيني الأمر الذي بإمكانه أن يقود البعض لتخليد القيادة المخطئة سياسيا بحجة كونها (القيادة)، ويدعمون رأيهم بما حدث في روسيا الستالينية، غير أن الحزب الشيوعي الذي حكم بقيادة ستالين كان النقيض التام لكل ما كان البلاشفة ولينين يناضلون من أجله فقد ألغى ستالين الحوار الديموقراطي ومجالس العمال الحقيقية والحرية لم يكن هذا نتاج حتمي لفكرة القيادة بل هو نتاج لذلك الاتجاه الذي أتبعه ستالين في حكمه لروسيا.
القيادة الحقيقية في المنظمة الثورية تعنى أن القرارات المتخذة يمكنها أن تكون أحيانا خاطئة، في خطبة لينين الأخيرة للأممية قبل وفاته قال "لقد ارتكبنا كومة من الحماقات".
القادة الحقيقيون ليسوا منزهون عن الخطأ ولكنهم قادرون على إدراك الخطأ وقبوله والتعلم منه، وهذا لا يمكنه أن يحدث إلا بالتعلم الدائم من الطبقة العاملة وباختبار نظرياتها وأفعالها بصورة عملية، القدرة على ذلك تمنح الثوريين الحق في القيادة داخل الحزب والطبقة، لهذا فإنه ليس هناك أي نوع من الكهنوتية في الحزب الثوري.
هناك أناس من خلال المعرفة والخبرة والقدرة على التوجيه يرون في أنفسهم القدرة على القيادة إلا أنهم لا يعرفون كل شئ، على العكس من ذلك أنهم يقترفون العديد من الأخطاء لأنهم يواجهون بشكل دائما موقف ومشاكل جديدة.
كلما امتدت جذور الحزب داخل الطبقة العاملة كلما ارتبط أكثر بالصراع الحقيقي وكلما زادت نسبة حدوث الأخطاء، ولكن نسبة التعلم من الأخطاء ومعرفة احتمالات تكرار الخطأ في المستقبل تزيد هي الأخرى، أنه من السهل جدا أن تبقى ذو مبادئ ثابتة عندما لا تفعل شئ، الأصعب أن تثبت على هذه المبادئ حين تنغرس يوما بعد يوم في الصراعات الطبقية.
لهذا فالاختبار الدائم وإعادة التقييم والحوار حول التكتيكات يعد أمرا جوهرياً لتطوير أي حزب ثوري، وهذا ما تؤكده خبرة النشاط والاشتباك مع مختلف قضايا الطبقة العاملة، فهذه الخبرة أثبتت أن عملية الحوار الديموقراطي المركزي هي أمر جوهري للانغراس في الصراع الطبقي.

























الفصل الثالث
أهمية النظرية الماركسية

لقد أكد لينين مراراً وتكراراً أن "لا منظمة ثورية بدون نظرية ثورية". والماركسية، بحسب تعريف ماركس وإنجلز، هي الاشتراكية العلمية، ومثلها مثل أي علم آخر، كالفيزياء أو الكيمياء، لا يمكن فهمها عن طريق حفظ مجموعة من القواعد أو الشعارات الثابتة، إنما يجب دراستها بجدية وعمق.

أشار ماركس وإنجلز إلى أن على الثوريين أن يسعوا لتعميم الخبرة التاريخية لحركة الطبقة العاملة العالمية. إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا على أساس نظرية ثورية ودراسة متعمقة للنضالات المختلفة؛ فلا يمكن أن يعلم المرء شيئاً عن كوميونة باريس من خلال خبرة الحياة اليومية التي يعيشها، ولهذا السبب عليه أن يقرأ ويدرس التاريخ والنظرية الثورية. استطاع ليون تروتسكي أن يصيغ الفكرة بشكل مختلف حين أشار أن الحزب الثوري يمثل ذاكرة الطبقة العاملة، كما عليه أن يكون مدرسة ينشأ فيها كوادر تلك الطبقة.

على المرء أن يدرس الماضي من أجل الاستعداد للمستقبل، هذا أمر بديهي. وصف الزعيم البلشفي كارل راديك، في مذكراته، كيف أن لينين، في وسط كل الأحداث العاصفة عام 1917، أوصاه بقراءة أحد الكتب عن الثورة الفرنسية الكبرى حيث سيساعده ذلك في فهم وتحديد المهام الثورية في الفترة القادمة. وخلال نفس الفترة العصيبة يُذكر أن لينين قد كتب واحد من أهم أعماله النظرية: الدولة والثورة. وفي خضم الثورة الفرنسية الكبرى، بلوّر سان جوست رؤيته عما يحث بشكل واضح حينما قال أن "من يحفرون نصف ثورة، يحفرون قبورهم بأيديهم".

الثورة لا تبدأ وتنجز كل مهامها في غمضة عين، ولا تطيح بكل شيء بين ليلة وضحاها، بل إنها تبدأ دائماً كأنصاف ثورات، حيث يتواجد ما هو جديد جنباً إلى جنب مع ما هو قديم. هكذا استطاعت ثورة فبراير 1917 الإطاحة بالقيصر والشرطة، كما استطاعت تأسيس سوفيتات (المجالس العمالية المنتخبة)، وكل ذلك كان جديداً. وعلى الرغم من ذلك كان هناك الكثير من الأمور القديمة التي ظلت في مكانها كما هي، حيث استمر الجنرالات الكبار في أماكنهم في الجيش، وحافظ الرأسماليون على ملكيتهم للمصانع، والإقطاعيون على ملكيتهم للأراضي، كما استمرت الحرب الإمبريالية على قدم وساق.

في أبريل 1917، عندما عاد لينين إلى روسيا، كان هناك 10 آلاف عامل وجندي في استقباله في محطة فنلندا في العاصمة بتروجراد. في وسط الحضور، استقبله رئيس سوفييت بتروجراد وقتها، الزعيم المنشفي تشيخيدزه، بباقة من الورود، وقد صاح قائلاً: "نحن نرحب بك باسم الثورة الروسية المنتصرة". أما لينين فقد أزاح الورود جانباً والتف إلى آلاف العمال والجنود الذين حضروا لاستقباله، وقال: "أي ثورة منتصرة تتحدثون عنها؟ لقد أطحنا بالقيصر! والثورة الفرنسية أطاحت بالملك في 1792. الرأسماليون لايزالوا يمتلكون المصانع، والإقطاعيين لايزالوا يمتلكون الأراضي، والحرب لاتزال مستمرة.. فلتسقط الحكومة المؤقتة.. فلتسقط الحرب.. الأرض والخبر والسلام.. كل السلطة للسوفيتات"، هكذا يصف المؤرخ الشهير سوخانوف المشهد.

من السهل أن نظن أن آلاف العمال والجنود رحبوا بكلام لينين وهتفوا مؤيدين له، لكن هذا ما لم يحدث، حيث وقف العمال مذهولين ومستنكرين لما قاله لينين. كانت الجماهير منبهرة بإسقاط القيصر وجهازه البوليسي، ولم يفهم أحد لماذا يوجه لينين النقد في هذه اللحظة. أما الصوت الوحيد الذي ظهر في ظل صمت جماهير العمال والجنود، كان صوت جولدنبرج، العضو السابق في اللجنة المركزية للحزب البلشفى، حيث صاح متهماً لينين بالجنون. لقد فهم لينين ما أشار إليه سان جوست في الثورة الفرنسية جيداً، وهكذا شق، هو وحزبه، الطريق لقيادة الثورة من أجل انتصارها النهائي.

ومنذ 1917 حتى الآن، لا شك أن الكثير من الثورات قد اندلعت في أغلب بلدان العالم، إلا أن كل هذه الثورات توقفت في منتصف الطريق، وبالتالي انتهت بثورة مضادة قضت على المكتسبات التي حققتها.

لنأخذ بعض الأمثلة على ذلك. في نوفمبر 1918، استطاعت الثورة في ألمانيا الإطاحة بالقيصر وبناء مجالس عمالية مثل السوفيتات في روسيا، إلا أن الجنرالات وملاك المصانع قد حافظوا على مواقعهم في المجتمع. وفي 1919 اغتال ضباط الجيش كل من روزا لكسمبرج وكارل ليبكنخت وعدد آخر من القادة الشيوعيين، وبعد عدد من السنوات اعتلى النازيون السلطة في ألمانيا. هكذا تحولت ثورة الجماهير إلى ثورة مضادة عليهم.

في 1979، تطورت سلسلة من الإضرابات العمالية في إيران إلى إضراب عام في البلاد بقيادة مجالس العمال (شورى) واستطاعت الإطاحة بالشاه. كان كل من الحزب الشيوعي الإيراني (تودة) وحركة الفدائيين، يمثلون القيادة الحقيقية للعمال، لكنهما كانا تابعين لسياسات موسكو. وللأسف قام الشيوعيون بالتحالف مع آية الله الخوميني، وهو نفسه الذي ذبحهم بعد ذلك.

مثال آخر من أندونيسيا. عندما نال الشعب الأندونيسي الاستقلال عن هولندا في 1949، تولى البرجوازي الوطني أحمد سوكارنو قيادة البلد. كانت أيديولوجيته ترتكز على مبادئ الـ"بانكاسيلا"، وأسسها الرئيسية هي الإيمان بالله وبالوحدة الوطنية. للأسف الشديد لم يقم الحزب الشيوعي بتحدي سوكارنو، بل على العكس اتفق معه تماما على الحاجة إلى الوحدة الوطنية. وكانت النتيجة أن كلمات سان جوست تحققت. كان لدى الحزب الشيوعي الإندونيسي من الأعضاء ما يفوق بكثير عدد أعضاء الحزب البلشفي وقت الثورة: ثلاثة ملايين عضو في مقابل ربع مليون عضو. الطبقة العاملة الإندونيسية كانت أكبر من الطبقة العاملة الروسية عشية الثورة. الفلاحون كانوا أكثر عددا في إندونيسيا منهم في روسيا. ولكن في 1965 نظم جنرال عيّنه سوكارنو، اسمه سوهارتو، انقلابا بدعم الولايات المتحدة وحكومتي حزب العمال في بريطانيا واستراليا. والنتيجة أن ما بين نصف مليون ومليون شخص تم ذبحهم.
يجب علينا أن نتعلم من تجارب الماضي من أجل الاستعداد للمستقبل. يجب، على سبيل المثال، أن ندرس الاقتصاد الماركسي لنفهم تناقضات النظام الرأسمالي التي تدفعه للسقوط في هوة أزمات وانفجارات عنيفة.

والقيادة في النضال تتطلب وضع استراتيجيات واضحة للمستقبل، ولذلك يجب على القيادة الثورية أن يكون لديها فهم نظري عميق للمجتمع والاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة، إلخ.

ليس من الجيد أن يكون الفهم النظري الذي نتحدث عنه محصوراً في إطار مجموعة صغيرة من أعضاء الحزب، وهكذا جادل لينين حول ضرورة معرفة كل عضو من أعضاء الحزب الثوري بالماركسية. بيد أن الحزب الثوري لا يمكن أن يكون نسخة موازية للمصنع أو الجيش في ظل النظام الرأسمالي. حيث أنه في المصنع يقرر الرأسماليون والمديرون كل شيء وعلى العمال أن ينفذوا القرارات فقط، وفي الجيش يصدر الضباط الأوامر وما على الجنود إلا الطاعة العمياء. أما في الحزب الثوري، يجب أن يكون لكل عضو الحق والمساحة والقدرة على التفكير والمشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه أيضاً.

يمكن بالتأكيد أن يكون هناك تفاوت في مستوى الوعي والمعرفة النظرية بين أعضاء منظمة أو حزب ثوري واحد. لكن هذه الدرجة من التفاوت يجب، بشكل إرادي، أن يتم تجاوزها عن طريق رفع مستوى وعي ومعرفة كافة الأعضاء. حيث أن أخطر شيء يمكن أن يلحق بالحزب الثوري من الداخل هو أن يسيطر على قرارات الحزب مجموعة من المثقفين المعزولين عن الواقع، وأن يدعوا أنهم يمثلون السياسة الثورية للبروليتاريا. يمكن اعتبار ذلك بمثابة إهانة حقيقية للعمال داخل الحزب، حيث أن ذلك ينفي قدرة العمال على الإمساك بالنظرية واستيعابها وبالتالي المشاركة في صياغة توجهات الحزب.

قضى ماركس 26 عاماً من حياته في كتابة "رأس المال". لماذا إذن كل تلك الفترة الطويلة؟! مع العلم بأنه لم ينه الكتاب حتى وفاته. تم نشر الجزء الأول فقط أثناء حياته، أما الأجزاء الثاني والثالث فقد حررهما إنجلز بعد وفاة ماركس. لماذا أيضاً كان الماركسيون الروس ينظمون ندوات ومحاضرات ليلية طوال تسعينات القرن التاسع عشر لتعليم العمال الماركسية الثورية؟ تكمن الإجابة على هذه الأسئلة في إدراك أهمية النظرية الثورية بالنسبة للحركة الثورية.

أحد أهم الأعمال التي تدافع عن دور النظرية في بناء وعمل الحزب الثوري هو كتاب لينين "ما العمل؟"، الذي أنجزه عام 1902، حيث جادل لينين في هذا الكتاب ضد خصومه (الاقتصادويين) الذين كانوا يزعمون أن وعي العمال لا يمكن أن يتجاوز الوعي الاقتصادي، وبالتالي فإن نضالهم لا يمكن هو الآخر أن يتجاوز النضال النقابي من أجل رفع الأجور أو تقليص عدد ساعات العمل. كما أكد الماركسي الإيطالي، أنطونيو جرامشي، في كثير من كتاباته، على ضرورة أن يتسلح العمال بالنظرية الثورية.

وعلى الرغم من أهمية أن يتسلح الثوريين ويتماسكوا على النظرية الثورية، والدور الهام الذي يلعبه المثقفون الثوريون في صفوف أحزابهم، إلا أن هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي توضح كيف أن الكثير منهم كان في موضع هجوم شرس، فقط لأنهم مثقفون. هكذا كان الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يهاجم روزا لكسمبرج بكل حدة. ربما كانوا يكرهون حقيقة أنها امرأة، أو أنها ليست ألمانية (كانت روزا من أصل بولندي). وهكذا أيضاً كان الوضع مشابه لما حدث مع ليون تروتسكي منذ 1923 حينما كان لينين على فراش الموت، حيث هاجمه ستالين باعتباره "من المثقفين"، ولاحقاً قام بإبعاده تماماً باعتباره "من الغرباء" في إشارة سافرة إلى أصله اليهودي.

لكن بشكل عام، فإن سوء تقدير أو تسفيه أهمية دور النظرية الثورية والتماسك عليها والتسلح بها، يعد إهانة واحتقار للعمال، حيث أن ذلك يفترض خطئاً أن العمال غير قادرين على استيعاب الأفكار الثورية أو على الأقل غير مهتمين بها.

إلا أن قراءة الأدبيات أو الاستماع إلى بعض المحاضرات حول الماركسية الثورية ليسا كافيين لتماسك عضوية حزب أو منظمة ثورية على الأفكار الماركسية، فالتماسك على الأفكار يجب أن يأخذ منحى أكثر عملية في الواقع. وحينما أكد لينين على أن كل عضو في الحزب الثوري هو قائد للنضال، كان يعني أن كل عامل في الحزب ينبغي أن تكون لديه القدرة على قيادة نضال زملائه غير الأعضاء في الحزب. وبهذا المعنى ينبغي على كل عضو في الحزب الثوري أن يقدم إجابات حية لتساؤلات زملائه في العمل أو جيرانه، إلخ، حول ما يجري حولنا من أحداث.

لنعطي مثالاً على ذلك: الكثير من الناس يتساءلون "لماذا نسعى لثورة.. ألم تؤدي الثورة الروسية إلى الطغيان والاستبداد؟!". في هذه الحالة، على عضو الحزب الثوري أن يكون لديه القاعدة النظرية والمعرفة التي تؤهله لكي يوضح ويشرح ما حدث لروسيا بعد الثورة، مثل هزيمة الثورة في ألمانيا مما أدى لعزلة روسيا، لانحطاط السلطة فيها، لصعود ستالين الذي قضى على الثورة وبنى رأسمالية الدولة في روسيا التي اعتمدت القهر والاستبداد السياسي والاقتصادي. وهكذا فإن الحوارات الدائمة بين الأعضاء الحزبيين والناس العاديين توضح للأعضاء ما يعرفونه وما يريدون إقناع الناس به، والأهم من ذلك، ما لا يعرفونه وما يجب أن يطلعوا عليه ويتعلموه.

إن جوهر الماركسية يكمن في فلسفة الجدل (الديالكتيك). لذا فإن الحوار والجدال الدائم حول الأفكار بين أعضاء الحزب وبقية الناس، أمر حيوي للغاية. لكن كيف يمكن أن ينخرط عضو الحزب في نقاشات مثل هذه مع بقية الناس غير الأعضاء في الحزب؟ قد يكون أحد الوسائل إلى ذلك هو بيع الجريدة الثورية، ليس فقط في المظاهرات وفي الشوارع، لكن الأهم من ذلك على زملائهم في أماكن العمل أو الجامعات وعلى جيرانهم، وفي الأوساط التي يتواجدون فيها بشكل طبيعي.

تلك هي إحدى الأفكار الأساسية للينين، حيث اعتبر الجريدة الثورية بمثابة الناظم الجماعي لأعضاء الحزب الثوري.






الفصل الرابع
العولمة بين الأساطير والحقائق

في السنين الأخيرة، فرض مصطلح "العولمة" نفسه على مفردات الاقتصاد والسياسة في العالم كله. والمصطلح في الحقيقة يلقى قبولاً من قبل قادة كافة الأحزاب السياسية، المحافظة أوالإصلاحية على حد سواء، وكأنه قدر على البشرية أو قدرة إلهية هبطت من السماء. كما أنه يتم ترويجه بحماسة بالغة سواء من خلال الصحف أو التلفزيون، أو الشركات الرأسمالية وحتى قادة النقابات العمالية. لكن هؤلاء الذين يروجون للعولمة كمصطلح وكسياسة اقتصادية عالمية، يفترضون دائماً أن الشركات متعددة الجنسيات أقوى من العمال، وأقوى من الدول نفسها.

ومن الغريب أن نقرأ مقالة للكاتب إدوارد مورتيمر في الفاينانشيال تايمز، تلك الجريدة اليمينة المحافظة، يستعين فيها بالبيان الشيوعي نفسه ليدعم نظرية العولمة. هكذا اقتبس السطور الآتية من البيان:

"إن حاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها، متسع باستمرار، تدفعها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها أن تُعشعش في كل مكان، وأن تنغرز في كل مكان، وأن تقيم علاقات في كل مكان.

والبرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الانتاج والاستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط سخط شديد من الرجعيين. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت و تدمَّـر يومياً لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضاً في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان والأقاليم. و محل الإكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والانعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، و تقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم".

كان إدوارد مورتيمر، بادعائه بأن ماركس هو أبو نظرية العولمة، يحاول أن يمتدح ماركس، لكنه في الحقيقة يهينه. سوف أسرد بصدد ذلك بعض الملاحظات والتعليقات للمقارنة بين الاقتصاد الماركسي والاقتصاد البرجوازي.

لقد أوضح ماركس عدة مرات أن يدين بشكل كبير للاقتصادي القديم آدم سميث، وبشكل أكبر لديفيد ريكاردو. لكنه أوضح أيضاً أن نظريته ليست استكمالاً عادياً للنظريات الاقتصادية الكلاسيكية، بل نقداً وتحدياً لها. هكذا كان، على سبيل المثال، العنوان الثانوي لكتاب "رأس المال" لماركس: "نقد الاقتصاد السياسي".

في كتاب ثروة الأمم، الذي نُشر في العام 1772، كان آدم سميث يشرح أهمية تقسيم العمل، حيث كان يصف كيف أنه في مصنع لإنتاج الدبابيس يقوم كل عامل بمهمة معينة ويقوم بتكرارها باستمرار. تقسيم العمل هذا يزيد بالتأكيد من الإنتاجية، ولقد تقبل ماركس هذه الفكرة لكنه أضاف أن تقسيم العمل يحوّل العامل إلى نصف آدمي، وفي ذلك يكمن مفهوم ماركس للاغتراب. كما أكد أيضاً أن العمال لا يشكلهم النظام هكذا كما يتشكل الصلصال في اليد، إذ يستطيعون التمرد على النظام ومحاربته أيضاً.

كان سميث وريكاردو يعتقدان أن السعي للربح هو نشاط طبيعي للإنسان، لكن وعلى العكس منهم، أكد ماركس أن ذلك يتغير وفق التطورات التاريخية. في السوق، حيث التنافس بين الرأسماليين أو الشركات الرأسمالية العملاقة أو الدول الرأسمالية، يندفع كل طرف لمراكمة رأس المال تحت تأثير المنافسة نفسها. وحينما يتنافس الرأسماليون فيما بينهم في السوق، فإنهم يلقون تكلفة تلك المنافسة على أكتاف العمال في صورة الاستغلال الاقتصادي، لكن العمال يناضلون ضد ذلك أيضاً. وهذا مايجعلنا نقول أن العمال ليسوا مجرد مفعول بهم في التاريخ، لكنهم أيضاً فاعلين أساسيين فيه. أما نظرية العولمة فهي ترسخ بقوة لفكرة أن السلطة والثروة يجب أن تكون في حيازة الطبقات العليا في المجتمع أما الطبقات السفلى فهي محرومة تماماً من أدنى قدر من السيطرة على السلطة. وبالنسبة لمنظري العولمة وأيديولوجيي السوق الحر، فإن هذا هو قمة العدل.

قوة العمال في الشركات متعددة الجنسيات

في ظاهر الأمر، يبدو أن العمال في مصنع واحد مثلاً من مصانع إحدى الشركات المتعددة الجنسية العملاقة، وكأن لا حول لهم ولا قوة. فإذا كانت شركة فورد يعمل لديها ربع مليون عامل، فما إذن قوة بضعة آلاف من عمالها في بريطانيا ليقفوا ويواجهوا إدارة فورد العملاقة؟!

لكن الحقيقة مختلفة تماماً عما يبدو في الظاهر. فعندما أضرب نحو 3 آلاف عامل في جنرال موتورز في دايتون وأوهايو في 1996، أغلقت عمليات جنرال موتورز عبر الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وتوقف حينئذ 125 ألف عامل في جنرال موتورز عبر العالم خلال أيام قليلة. لقد كلف الإضراب الشركة حوالي 45 مليون دولار في اليوم الواحد، وحينها كانت حكومة كلينتون مضطربة للغاية وتدعو العمال لفض الإضراب والعودة للعمل.

وعندما تم تنظيم إضراب عام في الدنمارك، اضطرت شركة ساب لإيقاف الانتاجفي السويد، إذ أنه لم يعد لديها مواد الانتاج التي كانت تصلها من الدنمارك، كما توقف العمل في فنلندا وأعلنت شركة فولفو أنخطوط الانتاج في السويد وهولندا قد تأثرت بشدة.

عندما أضرب عمال شركة فورد في بريطانيا عام 1988، توقفت الشركة كلها عبر أوروبا خلال ثلاثة أو أربعة أيام. وهكذا، بسبب الشركات متعددة الجنسيات، أصبح العمال أكثر قوة بكثير من ذي قبل. يحتاج المرء كي يلاحظ ذلك فقط أن يقارن الأمثلة السابقة بأول إضراب عام في التاريخ، ذلك الذي وقع في بريطانيا في 1832، حيث اضطر العمال لتنظيم لجان تطوف المصانع لتحريض زملائهم على المشاركة في الإضراب.

يوجد خلف نظرية العولمة منطق كامل يحكمها ويضع محدداتها. وهذا المنطق يشبه كثيراً منطق البنتاجون عندما أعلن الحرب على فيتنام، حيث كان القادة العسكريين الأمريكيين مقتنعين تماماً أن القوة العسكرية للولايات المتحدة لا تُقهر. أما فيتنام فهي أضعف كثيراً ولا تستطيع الصمود في وجه البنتاجون. نتذكر أنه في القرن التاسع عشر استطاعت بريطانيا هزيمة الهند، أما القوة العسكرية الأمريكية في ستينات القرن العشرين بالتأكيد هي أكبر من القوة العسكرية لبريطانيا القرن التاسع عشر بما لا يُقاس. في نفس الوقت، فإن بلد مثل فيتنام هي أصغر كثيراً في المساحة وأقل كثيراً من حيث الكثافة السكانية من الهند. وإذا استطاعت بريطانيا الانتصار في القرن التاسع عشر على الهند، فإنه بالتالي تستطيع الولايات المتحدة الانتصار على فيتنام بسهولة بالغة.

ذلك هو المنطق الميكانيكي بكل فجاجته وسطحيته. فإذا نظرنا إلى الأمر بشكل جدلي سنجد الصورة على النقيض تماماً من ذلك. في انتفاضة الهند في 1857، قُتل جندي بريطاني، لكن ما الضرر الضخم الذي لحق ببريطانيا عند مقتل ذاك الجندي؟! كم تبلغ قيمة جندي أو عامل واحد بالنسبة لبريطانيا؟! لنقل 100 جنيه استرليني. القوة العسكرية للولايات المتحدة هي بلا شك كما قلنا أكبر أضعافاً مضاعفة، وقد تبلغ قيمة الطائرة الأمريكية، لنقل مليون دولار. إلا أن الولايات المتحدة قد فقدت آلاف الجنود والطائرات والدبابات في حربها ضد فيتنام، وهُزمت في النهاية بعد حرب ضروس خاضتها المقاومة الفيتنامية ضدها.

العولمة والدولة

فكرة أخرى يستند إليها مؤيدو العولمة والمدافعون عنها، هو أن الدولة لا تستطيع أن تفعل شيئاً لزيادة معدلات التوظيف والقضاء على البطالة، وأن زمن الكينزية قد انتهى ولابد أن تحل العولمة محلها باعتبارها الخيار الوحيد المتبقي.

منذ بداية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1973، شهد العالم أطول فترة رخاء اقتصادي في تاريخ الرأسمالية، حيث استطاعت الكينزية إنقاذ الرأسمالية من الأزمات الاقتصادية طيلة تلك الفترة. كانت الكينزية تسعى إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي وتنظيم الطلب الاقتصادي وتقليص معدلات الربح. ربما يكون التعبير الأكثر تحمساً لتأييد السياسات الكينزية كان في كتاب أنطوني كروسلاند "مستقبل الاشتراكية" الذي نُشر في العام 1956. وطبقاً لكروسلاند فإن فوضى الرأسمالية تولي بعيداً ومعها كل مظاهر الصراع الطبقي، والنظام الآن في وجهة نظره يصبح أكثر ديمقراطية وعقلانية. تذوب الرأسمالية بنفسها، وكل الكلام حول أن الانتاج يستهدف الربح ولا يستهدف الاحتياجات البشرية، كل هذا الكلام طبقاً لكروسلاند، أصبح غير مقبول. وكما يذكر فإنه قد حدثت هناك ثورة سلمية جعلت الصراع الطبقي مفهوم غير موجود حتى كي يفكر المرء فيه: "لا يستطيع أحد الآن التفكير أنه يمكن أن تتحالف الدولة مع أصحاب الأعمال ضد نقابات العمال". لقد كتب أن "بريطانيا اليوم تعيش في حالة وفرة واسعة"، أما الاشتراكيين فعليهم أن يصرفوا النظر عن الأمور الاقتصادية. إلى ماذا يلتفتون إذن؟!

كتب السيد كروسلاند أننا "يجب أ نوجه اهتماماتنا إلى أشياء أخرى مفيدة وأكثر أهمية على المدى الطويل، مثل السعادة والحرية والمتعة الشخصية.. إيجاد مقاهي مفتوحة وممتعة، شوارع مضيئة ليلاً، فنادق ومطاعم أفضل وأكثر راحة.. صور ومناظر جميلة في الشوارع والأماكن العامة، تصميمات أفضل للأثاث ولملابس النساء، تماثيل راقية بين البنايات السكنية، إضاءة أفضل ومصابيح أكثر أناقة في الشوارع، إلخ".

إن وصف الرأسمالية في عهدها القديم بأنها كانت إنسانية وعقلانية أمر لا يمكن تصديقه بالمرة. في الحقيقة كانت الرأسمالية منذ نعومة أظفارها، بحسب كلمات ماركس، مغطاة بالطين والدم، ولم تتغير بشكل نوعي إلى يومنا هذا ولن تتغير في المستقبل. إن بربرية الرأسمالية هي اليوم أسوأ كثيراً مما كانت عليه قبل قرن ونصف مضى. ولكي ندرك ذلك علينا فقط أن نتذكر الموت في غرف الغاز أو ما حدث في هيروشيما وناجازاكي أو الـ 20 مليون طفل الذين يموتون في العالم الثالث سنوياً لأن البنوك الدولية الكبرى تعتصر ثروات بلدانهم.

إن البطالة في ألمانيا، التي وصلت إلى 8 مليون عاطل في عام 1932، اختفت تماماً بعد ذلك بسنتين فقط. لكن ذلك لم يكن بسبب أن أدولف هتلر قد قرأ النظريات الاقتصادية لجون ماينارد كينز، لكن في الحقيقة بسبب برنامج التسليح عكف هتلر على تفنيذه في ألمانيا. إن تفسير الرخاء الطويل الذي شهدته الرأسمالية يكمن في فهم نظرية اقتصاد الحرب الدائم. في مارس 1957، وفي مقالتي المنشورة بعنوان "اقتصاد الحرب الدائم"،حاولت أن أشرح أثر اقتصاد الحرب الدائم على استقرار الرأسمالية، وكيف أن تناقضات هذه العملية تقضي على الرخاء في النهاية. وقد شرحت أن البلدان التي تنفق كثيراً على انتاج السلاح، تفتح أسواقها وتقلل من انخفاض معدل الربح، لكن تلك البلدان التي تنفق أقل، تستفيد بشكل أكبر من الرخاء الاقتصادي أكثر من البلدان ذات الإنفاق الأعلى على انتاج السلاح، وسيكون لديهم موارد أكبر للإنفاق على تحديث الصناعة بدلاً من الإنفاق على إنتاج الطائرات الحربية والدبابات، وتلك البلدان هي التي تفوز في المنافسة في نهاية الأمر. وهذا بالضبط ما حدث؛ فبينما أنفقت روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا بشكل جبار على الانتاج العسكري، كانت بلدان مثل اليابان وألمانيا الغربية تنفق أقل كثيراً بما لا يُقاس. لذا، فإن المارك الألماني والين الياباني أصبحا أقوى كثيراً مقارنةً بالدولار الأمريكي والجنيه الاسترليني. وفي عام 1973، بعد حرب فيتنام، انهار الدولار وارتفعت أسعار النفط بشدة، وانهارت معهما الكينزية.

في مؤتمر حزب العمال الحاكم في 1976، أعلن رئيس الوزراء البريطاني جيمس كالاجان الآتي: "لفترة طويلة كنا نظن أننا يمكننا الإفلات من الكساد وزيادة التوظيف عن طريق تقليص الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية. لكني اليوم أخبركم بكل صراحة أن هذا الخيار لم يعد موجوداً".

لقد مهدت السياسات الكينزية للسياسات النقدية التي أتت بعدها والتي فرضت نفسها على مستوى عالمي. كما أن سياسات ثاتشر (رئيسة الوزراء البريطانية التي عبّدت الطريق للسياسات النقدية والليبرالية الجديدة في بريطانيا) قد أخذت شكلها وتبلورت بشكل كامل حتى قبل انتخاب ثاتشر لمنصب رئيس الوزراء. وبحسب كلمات بيتر ريدل، المحرر السياسي لجريدة الفاينانشيال تايمز: "لو كان هناك ما يُسمى بتجربة ثاتشر، فإن تلك التجربة قد أطلقها دينيس هيلي (مستشار حزب العمال لبيت المال البريطاني)".

في وسط الأزمات الاقتصادية الطاحنة، تبدو الإصلاحية وكأنها مثل المظلة المصنوعة من الورق في ليلة ممطرة. قد تبدو تلك المظلة مفيدة لوقت طويل طالما أن السماء لا تمطر. لكن لتحدي هجمات الرأسمالية وللدفاع عن الإصلاحات الاجتماعية، ينبغي تجاوز الإصلاحية ذاتها. فقط الثوريون هم الذين يستطيعون القتال "إلى النهاية" للدفاع عن المكتسبات والحقوق الاجتماعية ضد هجمات الرأسمالية.

إذا قرر أحد الرأسماليين مثلاً إغلاق المصنع، سيضطر العمال في هذه الحالة تحدي حق ملكيته للمصنع. لحل أزمة البطالة يجب أن تتقلص عدد ساعات العمل الأسبوعية بشكل كبير وأن يتم استقبال عمال جدد ليعملوا في ساعات العمل التي تم إزاحتها من على كاهل العمال الموجودين في الأصل، وفي هذه الحالة سيقول الرأسمالي أنه ليس عليه أن يدفع أكثر لعمالة جديدة من أجل أن يظل المصنع مفتوحاً وأن يستمر العمل فيه، وهنا يسضطر العمال أيضاً لتحدي حق ملكيته للمصنع.

هناك بين الرأسمالية والاشتراكية هوة ساحقة لأسفل، ونحن لا نصدق –مثلما يعتقد الإصلاحيون- أنه يمكن التحول من نظام إلى آخر بشكل تدريجي. لا يمكن عبور تلك الهوة من خلال عدد من الخطوات القصيرة. وإذا كان أحد يشك في ذلك، عليه فقط أن يصعد فوق قمة أحد المباني الشاهقة في المدينة، وأن ينظر إلى المسافة التي تفصل بينه وبين قمة المبنى المجاور، إذا جح في العبور إلى القمة المجاورة عن طريق بعض الخطوات المستقيمة القصيرة، فقد تنجح الإصلاحية في الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.



















الفصل الخامس
رأسمالية الدولة في روسيا

تمهيد

مضت الآن تسع سنوات على انهيار سور برلين وسقوط الاتحاد السوفيتي وما سُمي بانظمة الكتلة الشرقية. كنت قد توصلت في عام 1947 إلى استنتاج هام مفاده أن تلك الأنظمة الستالينية لم تمثل سوى أنظمة رأسمالية الدولة، وقد كتبت كتابين لبلورة هذه النظرية الجديدة. وبالطبع لا يمكن للمرء أن يتحقق من أفكاره إلا تحت اختبار الأحداث التي يمكن أن تثبت تلك الأفكار أو تنفيها. ولقد أثبتت أحداث انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية صحة النظرية بشكل عملي.

وفي، الحقيقة إذا كانت روسيا دولة اشتراكية أو أن أنظمة الحكم الستاليني دولاً عمالية، أو حتى دولاً عمالية منحطة أو مشوّهة بالبيروقراطية الحاكمة، فإن سقوط الستالينية إذن كان سيعني أن ثمة ثورة مضادة حدثت. بالتأكيد سوف يدافع العمال عن دولتهم العمالية بنفس الشراسة التي يدافعون بها عن نقاباتهم، مهما بدت بيروقراطية أو يمينية التوجه، ضد أولئك الذين يحاولون تحطيمها. فالعمال يدركون جيداً، من خلال خبرتهم اليومية المعتادة، أن نقابتهم، مهما بدت ضعيفة، تمثل خط دفاع أول لهم في مواجهة الاستغلال. العمال الذين يعملون في مصانع تحت مظلة نقابية بالتأكيد يتقاضون أجوراً أعلى وفي ظروف عمل أفضل، من زملائهم الذين ليس لديهم نقابة.

لكن هل دافع العمال في أوروبا الشرقية وروسيا عن أنظمة الحكم عندما كانت تتهاوى في 89- 1991؟! إنهم لم يحاولوا حتى فعل ذلك. كان حجم العنف في كل المواجهات التي قامت أثناء انهيار تلك الانظمة أقل من حجم العنف الذي كان في إضراب واحد في بريطانيا، هو إضراب عمال المناجم في 84- 1985. البلد الوحيد الذي تم فيه استخدام العنف على نطاق أوسع كانت رومانيا، لكن العمال لم يدافعوا عن الدولة ويحمونها من الانهيار، بل كان البوليس السري لشاوشيسكو، الديكتاتور الروماني، هو من دافع عن الدولة.

ثانياً، إذا كانت هناك ثورة مضادة هي التي أسقطت تلك الأنظمة، لكان أولئك الأشخاص الذين قبعوا على قمة المجتمع قد أُزاحوا من أماكنهم. لكن ما حدث أن نفس أولئك الناس الذين كانوا يديرون المجتمع والاقتصاد ويحددون السياسات في ظل النظم الستالينية، ظلوا كما هم على القمة حتى بعد انهيار تلك الأنظمة. إذن فلم تكن أحداث الأعوام 89- 1991 تمثل بالنسبة للحكام لا خطوة للأمام ولا خطوة للخلف، بل ببساطة خطوة تنقلهم إلى طريق موازي.

وهكذا من الواضح أنه ليس هناك فارق جوهري بين نظم الحكم الستالينية وبين نظم الحكم الحالية في روسيا وأوروبا الشرقية. كل ما حدث أن الدولة قد تم استبدالها برجال الأعمال في إدارة عملية الاستغلال الاقتصادي، لكن في الحالتين النظام ببساطة: رأسمالي.

ميلاد رأسمالية الدولة في روسيا

استطاعت الطبقة العاملة في روسيا انتزاع السلطة خلال ثورة أكتوبر 1917، وقد كان تأثير هذه الثورة هائلاً على مستوى العالم كله، حيث قامت ثورات عمالية في ألمانيا والنمسا والمجر، كما صعدت الكثير من الأحزاب الشيوعية ونمت بقوة في فرنسا وإيطاليا كما في بلدان أخرى. كان لينين وتروتسكي مقتنعين تماماً أن مصير الثورة في روسيا يتوقف على انتصار الثورة في ألمانيا، ومن دونها، سوف يكون مصير الثورة الروسية هو الهلاك.

ولقد هُزمت الثورة في ألمانيا (1918- 1923) بشكل مأساوي نتيجة لغياب حزب ثوري ذي كوادر منغمسة في النضال الجماهيري، يستطيع أن يقود الثورة لانتصار الطبقة العاملة. ومرة بعد مرة كنا نشهد ثورات عمالية حقيقية لكنها لا تنتهي بانتصار الطبقة العاملة نتيجة لغياب أحزاب ثورية حقيقية: اسبانيا وفرنسا 1936، إيطاليا وفرنسا 44- 1945، المجر 1956، فرنسا 1968، البرتغال 1974، إيران 1979، وبولندا 80- 1981.

أدت هزيمة الثورة في ألمانيا عام 1923 إلى انتشار التشاؤم وإلى انتعاش التيار اليميني في روسيا. وفي نفس الوقت قاد ستالين حملة شعواء بشكل علني ضد تروتسكي، وقد ساعده في ذلك غياب لينين شبه التام عن الحياة السياسية، حيث كان راقداً على فراش الموت. بينما كان تحليل تروتسكي صحيحاً تماماً، فقد استنتج أن صعود الستالينية في روسيا كان نتيجة عزلة الثورة الروسية بعد هزيمة موجة الثورات في أوروبا من ناحية، وضغوط الرأسمالية العالمية من ناحية أخرى. وهكذا فإن تحليله بأن الدولة الستالينية في ذلك الوقت تمثل دولة عمالية منحطة، كان تحليلاً ملائماً. لكن الضغط الرهيب من الرأسمالية العالمية على تلك الدولة الحديثة قد غيّر طبيعتها تماماً.

إذا هاجمني مثلاً كلب مسعور بعنف، سوف أضطر لأن استخدم العنف أيضاً للدفاع عن نفسي. بالتأكيد لا أملك أسنان حادة كالتي لديه، لكن يمكن أن استخدم عصا متينة لردعه. أما إذا قتلت الكلب بالعصا، سيكون عليّ أن ألقي العصا جانباً، أو إذا قتلني الكلب، فسيكف هو عن استخدام أسنانه ضدي. لكن ماذا لو لم أكن قوياً بما فيه الكفاية لقتل الكلب ولا الكلب بالقوة اللازمة لقتلي، وقد تم حجزنا في غرفة صغيرة لشهور طويلة؟! لن يفرّق حينها أحد بيني وبين الكلب.

هوجمت السلطة السوفيتية بجيوش جرارة من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان ورومانيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا، وتركيا أيضاً. تلك الجيوش التي تعاونت مع الجيش الأبيض الروسي الذي قاد الثورة المضادة، لم تستطع هزيمة الجيش الأحمر الثوري في روسيا. وفي نفس الوقت لم تستطع الحكومة الثورية في روسيا إعداد الأحزاب الثورية للقضاء على الحكومات الرأسمالية. لذا دفع الضغط المتواصل للرأسمالية العالمية الحكم الستاليني كي يكون أكثر شبهاً للرأسمالية نفسها. كانت القوانين التي حكمت الاقتصاد والجيش الروسي مماثلة لتلك الموجودة في العالم الرأسمالي.

في 1928 عندما أعلن ستالين أنه في خلال 15 أو 20 عاماً ستلحق روسيا بالدول الصناعية المتقدمة، كان ذلك يعني أنه كان على روسيا أن تنجز في عُمر جيل واحد ما أنجزته بريطانيا في مائة عام من الثورة الصناعية. في بريطانيا تطلب الأمر ثلاثة قرون لتقليص الاعتماد على الانتاج الزراعي ولتطور الرأسمالية، أما في روسيا فقد استغرق الأمر ثلاثة أعوام فقط من خلال ما سُمي بـ"التجميع القسري للفلاحين".

عشرات الملايين من الفلاحين تم جمعهم بشكل قسري وإرسالهم للعمل في المزارع الجماعية لإنتاج أضخم كميات من الحبوب، لتبيعها الدولة في السوق العالمية وتشتري بثمنهم ماكينات حديثة لبناء الصناعة، وأيضاً من أجل إطعام ملايين العمال الصناعيين الجدد بأسعار رخيصة على الدولة. الملايين تم إرسالهم للعمل في معسكرات العبودية في سيبريا. إن فظائع التجميع القسري لستالين يذكرنا بتشبيه ماركس الشهير في المجلد الأول من كتاب رأس المال: "إن الرأسمالية، منذ ميلادها وحتى موتها، مغطاة بالطين والدم".

إن استعباد العمال في روسيا يذكرنا أيضاً بدور العبودية في الولايات المتحدة التي سهلت انطلاق الرأسمالية الأمريكية، وأيضاً بدور تجارة العبيد في تطوير الرأسمالية في بريطانيا: "إن حوائط بريستول هي الأخرى مغطاة بدم العبيد".

حينما بنى ستالين امبراطوريته الصناعية والعسكرية العملاقة، كان عليه أن يبدأ من أرضية أضعف كثيراً من تلك التي يقف عليها أنداده في الغرب الرأسمالي. لم تكن القوة العسكرية الجبارة التي بناها ستالين تعكس بأي قدر تطور قوى الانتاج في روسيا، وأولاً وأخيراً لم يكن لدى الفلاحين في روسيا عام 1928 أي جرارات زراعية مثلاً، في حين أنهم كانوا يستخدمون محاريث خشبية عُرفت باسم "السوخا".

كما أن التصنيع في روسيا كان موجهاً لبناء صناعة ثقيلة لتكون قاعدة لانتاج السلاح. وهذا ما لاحظته بعناية عندما قارنت الأهداف الاقتصادية للخطط الخمسية الخمسة الأولى في روسيا (وللعلم بالشيء، لم يكن يجرؤ أحد أن يفعل ذلك في روسيا في ظل حكم ستالين).

بالنسبة للصناعة الثقيلة مثلاً، كان المستهدف في الخطة الخمسية الأولى انتاج 10.4 مليون طن من الصلب، وفي الخطة الخمسية الثانية 17 مليون طن، وفي الثالثة 28 مليون طن، وفي الرابعة 25.4 مليون فقط نتيجة للحرب، أما في الخطة الخمسية الخامسة فكان مستهدف أن يتم انتاج 44.2 مليون طن من الصلب. من الواضح هنا أم مؤشر انتاج الصلب يعلو بشكل سريع، ونفس الشيء كان بالنسبة للحديد المصبوب والكهرباء والفحم، إلخ.

أما بالنسبة للسلع الاستهلاكية فإن الصورة مختلفى تماماً. منتجات الأقطان كان مستهدف أن يتم انتاج 4.7 مليون متر منها في الخطة الخمسية الأولى، وفي الخطة الخمسية الثانية 5.1 مليون متر، وفي الثالثة 4.9، وفي الرابعة 4.7 مليون متر. وهكذا فإنه خلال 20 عاماً لم يرتفع المستهدف من انتاج الأقطان إطلاقاً. وبالنسبة لمنتجات الصوف فإن الصورة تغدو أكثر كآبة: كانت الخطة الخمسية الأولى تهدف لزيادة الانتاج إلى 270 مليون متر من الصوف، أما الخطة الخمسية الثانية فاستهدفت 227 مليون متر، والثالثة 177 مليون متر، قلت في الرابعة كثيراً إلى 159 فقط. يبدو لنا واضحاً إذن أن المستهدف انتاجه قد هبط بنسبة 40%.

صحيح أن روسيا كانت بارعة بحق في صناعة الصواريخ الفضائية، لكنها لم تكن كذلك في صناعة الأحذية أو الملابس، إلخ.

الرأسمالية محكومة بهدف واحد ألا وهو تراكم رأس المال. على شركة فورد أن تستثمر باستمرار وإلا سوف تهزمها جنرال موتورز بسهولة في السوق؛ فالمنافسة على الأرباح الرأسمالية تدفع كل منهما على الاستثمار المستمر وعلى المراكمة المستمرة في رأس المال. وبالتالي فإن نفس المنافسة على الأرباح الرأسمالية في السوق تدفع كل منهما لزيادة استغلال العمال لديهما. لذا فإن استغلال العمال هو الوجه الآخر من العملة للمنافسة بين الرأسماليين في السوق.

نفس الشيء ينطبق على استغلال الدولة الستالينية للعمال والفلاحين في روسيا. وذلك الاستغلال القاسي كان بكل تأكيد نتيجة المنافسة الرأسمالية في روسيا والقوى الرأسمالية الأخرى، وعلى رأسهم ألمانيا النازية.

منذ عام 1947 أقلعت تماماً عن إطلاق كلمة الاتحاد السوفيتي على روسيا الستالينية، فلقد كانت تلك كذبة كبيرة فلم تكن هناك أي سوفيتات في روسيا وقتها. في كل انتخابات كان هناك مرشح واحد عن كل دائرة انتخابية، وكان الحال بالمثل في ألمانيا النازية، ولم يكن ذلك المرشح يحصل على أقل من 99% ولا أكثر من 100% من الأصوات، فيما عدا مرة واحدة، حينما حصل ستالين في انتخابات عام 1947 على 140% من الأصوات (!!). وفي اليوم التالي أن "سكان الدوائر المجاورة قد أتوا وأعطوا أصواتهم بكل حماسة لستالين". من الطبيعي أن يتم إعلان نتائج الانتخابات بعد انتهاء التصويت، إلا أن ما حدث عام 1940 كان مختلفاً (!!). في الاقتراع العام الذي عقد حول انضمام لاتفيا وليتوانيا وأستوينا للاتحاد السوفيتي، أعلنت وكالة أنباء موسكو النتائج قبل انتهاء التصويت بيوم كامل، وبالتالي أعلنت جريدة لندن تايمز النتائج نقلاً عن وكالة أنباء موسكو. وكانت النتيجة المزورة طبعاً بالموافقة على الانضمام للسوفييت.

لا يجوز على الإطلاق أن نسمي امبراطورية ستالين بـ "اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية" كما كان يُطلق عليها عادةً. فالاتحاد يتم بشكل اختياري ولا يمكن أن يكون إجبارياً. ولم يكن هناك مثلاً أي اتحاد بين جورجيا وروسيا بنفس الدرجة التي لم يكن فيها اتحاد بين الهند وبريطانيا. كما أنها لم تكن جمهوريات بل أجهزة دول تمارس القمع والاضطهاد على الجماهير. كما أنه من الناحية العملية لم تكن هناك سوفيتات. ولم تكن بأي حال اشتراكية بل رأسمالية دولة ستالينية.

الانتقادات الموجهة لنظرية رأسمالية الدولة

هناك ثلاثة انتقادات أساسية موجهة ضد نظرية رأسمالية الدولة. أولاً، أن الرأسمالية معروفة بالملكية الفردية الخاصة، أما في روسيا فكانت أدوات الإنتاج مملوكة من قبل الدولة وليس من قبل أشخاص. وثانياً أن الرأسمالية لا تعرف التخطيط الاقتصادي، أما الاقتصاد الروسي فكان مخططاً بدقة. أما ثالثاً، فإن ما كان يجب فعله في روسيا الستالينية هو ثورة سياسية لتغيير هيكل السلطة، فقط ثورة سياسية كافية لإصلاح الأمور. أما في ظل الرأسمالية فنحن نحتاج لثورة اجتماعية وليست سياسية فقط.

سوف نتعامل في السطور القادمة مع كل من هذه الانتقادات على حدا.

في 1847، كتب برودون، الفوضوي الفرنسي الشهير، في كتابه "فلسفة البؤس"، أن الرأسمالية "تعني الملكية الخاصة". وقد وجه ماركس نقد حاد لهذه الفكرة في كتابه السجالي مع برودون، "بؤس الفلسفة"، وقد وصف الملكية الخاصة بأنها معنى مجرد يحتاج إلى تحديد عندما نتحدث عنه في إطار الرأسمالية. فإذا كانت الملكية الخاصة تساوي الرأسمالية، إذن فإن الرأسمالية قد وجدت في المجتمع العبودي، لأنه كان هناك ملكية خاصة للعبيد، أو أنها قد وجدت في المجتمع الإقطاعي لأنه كان هناك ملكية خاصة للأرض. إذن فقد كانت فكرة برودون هشة وضعيفة، إذ أن الملكية الخاصة لا تستطيع وحدها تحديد نمط الانتاج، لكن شكل الملكية الخاصة يمكن أن يحدد أي نمط انتاجي يعيشه المجتمع، وبالتالي شكل المجتمع ذاته.

إذا كانت الملكية الخاصة يمكن أن تنطبق على مجتمع العبيد ومجتمع الأقنان ومجتمع عمال الصناعة، إذن فالعبيد يمكن أن يكونوا ملكية خاصة أو ملكية دولة. العبيد قد بنوا الأهرامات في مصر القديمة، وأولئك العبيد لم يكونوا تابعين لمالك خاص، لكنهم كانوا ملكاً للفرعون –أي الدولة. وفي العصور الوسطى، كانت علاقات الانتاج السائدة بين الخدم والأقنان وبين السيد الإقطاعي الذي كان يمتلك الحقول، لكن أيضاً كان هناك خدم يعملون في ملكية الكنيسة، والكنائس لم تكن مملوكة لأشخاص. وكون أن الكنائس ليست ملكية خاصة لأحد، لم يخفف أعباء العمل على الخدم الذين كانوا يعملون لديها.

هذا بخصوص الانتقاد الأول الذي يوجهه البعض لنظرية رأسمالية الدولة، فالمجتمع الطبقي لا يرادف الملكية الخاصة فقط، بل أنه قد يرادف ملكية للدولة أيضاً كما رأينا في العصور السابقة.

أما بخصوص الانتقاد الثاني الذي يقول أن في روسيا الستالينية كان هناك اقتصاد مخطط، أما الرأسمالية فلا تعرف التخطيط الاقتصادي، فهذا الانتقاد غير صائب هو الآخر.

إن السمة العامة للرأسمالية هي التخطيط الدقيق على مستوى كل وحدة انتاجية على حدا، في حين لا يوجد مثل هذا التخطيط بين الوحدات الانتاجية وبعضها. في أي مصنع من مصانع شركة فورد لا ينتجون مثلاً موتورين أو ثلاث عجلات لكل سيارة، لكن هناك تخطيط مركزي لإنتاج الموتورات والعجلات، إلخ. هناك إذن تخطيط في شركة فورد بكل مصانعها. لكن هناك فوضى هائلة فيما بين فورد وجنرال موتورز. صحيح أن الاقتصاد في روسيا الستالينية كان مخططاً بدقة، لكن لم يكن هناك أي درجة من التخطيط بين الاقتصاد الروسي والاقتصاد الألماني، على سبيل المثال.

الانتقاد الثالث الذي يميز بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية، قائلاً بأن روسيا الستالينية كانت بحاجة "فقط لثورة سياسية" لإصلاح الحكم، ذلك الانتقاد يغدو تافهاً عندما تكون الدولة نفسها هي صاحبة الثروة كما كان الحال في روسيا الستالينية.

في فرنسا 1830، كانت هناك ثورة سياسية أطاحت بالحكم الملكي وأسست الجمهورية. لكن ذلك لم يعن أي تغيير في البنية الاجتماعية للمجتمع، إذ أن ملاك الثروة كانوا الرأسماليين وليس الدولة. لكن حينما تحوذ الدولة الثروة الاجتماعية، فإن الاستيلاء على السلطة السياسية من الحكام يعني الاستيلاء على سلطتهم الاقتصادية، لذا ليس هناك فاصلاً في هذه الحالة بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية.

الستالينية أجهضت حركة الطبقة العاملة العالمية

بمجرد أن استولى ستالين على السلطة في الحكومة الروسية، بدأت محاولاته بشكل جدي لتسخير الأحزاب الشيوعية في كل مكان في العالم في خدمة سياسة روسيا الخارجية. وسنضرب في السطور القادمة القليل من الأمثلة على ذلك.

عندما كان هتلر يتقدم نحو السلطة في ألمانيا، دعا تروتسكي بناء جبهة متحدة لكافة التنظيمات العمالية، وبالأساس الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألمانيين، لمواجهة الزحف النازي. أما ستالين، فقد اعتبر أن الاشتراكيين الديمقراطيين هم "اشتراكيين فاشيين"، وفرض عدم العمل المشترك معهم. كما وصف تروتسكي نفسه بالفاشية.

وبعد عامين من انتصار هتلر، أتى رئيس الوزراء اليميني لفرنسا إلى موسكو ووقع اتفاقية تحالف بين فرنسا وروسيا. وفي هذه الأثناء كانت هناك نبرة جديدة من موسكو موجهة للشيوعيين الفرنسيين: يجب أن نؤيد فرنسا الديمقراطية وحكومتها الحرة. وهكذا صوّت هؤلاء الشيوعيون على الميزانية العسكرية التي عرضتها الحكومة في البرلمان.

وفي أغسطس 1939 بعد التحالف بين ستالين وهتلر، فيما عُرف باتفاقية فرساي، أخذت الأحزاب الشيوعية انعطافة جديدة في سياساتها. وعندما احتلت ألمانيا القسم الغربي لبولندا واحتلت روسيا القسم الشرقي لها، صرح مولوتوف، وزير الخارجية الروسي ما يلي "طلقة واحدة من الشرق وطلقة أخرى من الغرب وستنتهي اتفاقية فرساي البغيضة إلى لا شيء". لكنه لم يضف أن هذا يعني الحرب في بولندا، وأن تلك الحرب كانت تعني أن ثلاثة ملايين يهودي وملايين البولنديين "انتهوا أيضاً إلى لا شيء".

لن أنسى أبداً افتتاحية جريدة البرافدا الروسية في الأول من مايو لعام 1940، التي كانت تتحدث عن الأمم محبي السلام، السوفيتية والألمانية. وكانت الجريدة تعني ألمانيا تحت حكم هتلر. وعندما قام هتلر بغزو ألمانيا في يونيو 1941، تغيرت سياسة الأحزاب الستالينية بشكل جذري، ورفعت جريدة البرافدا شعارها الشهير الذي كررته كثيراً وقت الحرب: "الألماني الجيد هو الألماني الميت". في 1943 قرأت قصة قصيرة في جريدة البرافدا كتبها إليا إيرنبرج، حيث كان يصف جندي ألماني يستسلم رافعاً يديه لأعلى في مواجهة جندي سوفيتي، حينها قال الألماني "أنا ابن حدّاد"، ماذا كان رد فعل الجندي الروسي إذن؟ يروي إيرنبرج أن الجندي الروسي قد رد قائلاً "انت لازلت ألماني دموي" وطعنه حتى الموت.

سأتذكر هنا موقف شخصي آخر. بعد شهرين فقط من بداية الحرب العالمية الثانية، تم القبض عليّ، وكان الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني هو زميلي في نفس الزنزانة. كان في البداية يظن أن تلك الحرب هي حرب ضد الفاشية، لذلك قرر أن يتطوع في الجيش البريطاني. وبعد ذلك جاء الرد عليه متأخراً بقبول تطوعه في الجيش، حينها كان الرجل قد أدرك أن الحرب ليست ضد الفاشية كما كان يظن سابقاً، لذلك رفض مغادرة السجن للتطوع في جيش بريطانيا. لقد كان الحزب الشيوعي الفلسطيني يعاني تخبط سياسي حاد، ويمكننا أن نلاحظ ذلك بسهولة عندما نرى أن في شارع واحد في مدينة حيفا مكتوب على إحدى الحوائط "عاشت الحرب ضد الفاشية"، وعلى الحائط المقابل "تسقط الحرب الإمبريالية"، والشعاران موقعان باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني. وعندما غزى النازيين روسيا في 1941، تبنى الحزب الشيوعي الفلسطيني شعاره الشهير "يسقط هتلر وحليفه السري تشرشل"، وبعد ذلك بفترة قصيرة جداً ظهر شعار آخر مختلف تماماً "عاش الجيش الأحمر وحليفه الجيش البريطاني". الغريب أن كل تلك الشعارات المتناقضة يرفعها نفس الحزب تعليقاً على نفس الحرب.

مع اقتراب نهاية الحرب، وعندما كانت الموجة الثورية في أوروبا هائلة، عملت الأحزاب الشيوعية في أوروبا على تنفيذ سياسات موسكو وإخماد نيران الثورات. في أغسطس 1940، عندما تمكنت المقاومة العمالية المسلحة، بقيادة الحزب الشيوعي الفرنسي، من طرد الغزاة النازيين من باريس، عاد موريس توريز، السكرتير العام للحزب الشيوعي، من موسكو، وأعلن في باريس أنه يجب الحفاظ على "جيش واحد، بوليس واحد، ودولة واحدة". وهكذا تم نزع سلاح المقاومة العمالية.

في إيطاليا، كانت حركة المقاومة بقيادة الحزب الشيوعي أيضاً، وكان هدفها كسر قبضة موسوليني في الحكم. ومن ثم عاد توجلياتي، السكرتير العام للحزب الشيوعي الإيطالي من موسكو، ليعلن تأييد الحزب لحكومة حلفاء الملك الذي كان قد تعاون مع موسوليني نفسه، وتأييد جنرالات الجيش، الذين كانوا أصدقاء لموسوليني نفسه أيضاً.

يمكننا أن نضرب في نفس السياق أمثلة كثيرة جداً عن خيانة الأحزاب الستالينية للثورة في بلدانهم. كان الفرصة الثورية التي تولدت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أضخم بكثير من تلك التي كانت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بينما لعبت الأحزاب الستالينية دوراً حاسماً في إجهاض تلك الفرصة مرة بعد أخرى، ومنعت الإمكانية من أن تبدو حقيقة.

أهمية نظرية رأسمالية الدولة

لأكثر من 60 سنة كانت تلك الأحزاب الستالينية تحظى بتأييد جبار في حركة الطبقة العاملة العالمية، ولقد دفعت الاشتراكية الثورية التروتسكية إلى هامش الصراع الطبقي. لكن الآن، ومع سقوط الحكم الستاليني في روسيا، تغيرت الكثير من الأمور.

في فبراير 1990، سُئل إريك هوبسبام، معلم الحزب الشيوعي البريطاني، عن رأيه فيما يُقال حول أن "العمال قد أسقطوا دولة العمال في الاتحاد السوفيتي". جاء رد هوبسبام كالتالي: "من الواضح أنها لم تكن دولة عمال. لم يصدق أحد في الاتحاد السوفيتي أنها دولة عمالية. والعمال أنفسهم لم يعتقدوا يوماً أنها دولتهم". تخيلوا إذا كان هوبسبام قد أخبرنا بذلك قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بـ50 أو حتى 20 عاماً (!!)

إن التحول الحاد في رأي الحزب الشيوعي البريطاني يمكن أن نلاحظه بوضوح في اجتماعات اللجنة التنفيذية للحزب وقت انهيار الاتحاد السوفيتي. قالت نينا تمبل، السكرتير العام للحزب، في إحدى تلك الاجتماعات "أظن أن تحليل حزب العمال الاشتراكي حول طبيعة الدولة في روسيا، كان صائباً، لقد كان التروتسكيون محقين في أنه لا توجد اشتراكية في أوروبا الشرقية. وأظن أننا كان لابد أن نقول ذلك منذ زمن طويل".

إن التصريح السابق لنينا تمبل يشبه كثيراً إذا صرح البابا في يوم من الأيام أن الرب ليس له وجود، كيف سيستمر عمل الكنيسة الكاثوليكية في مثل هذه الحالة؟!

كانت الفوضى التي سادت في الأحزاب الستالينية في ذلك الوقت عارمة. أما أولئك الذين استنتجوا، منذ زمن طويل قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، أن النظام الاقتصادي في روسيا لا يمثل الاشتراكية بل رأسمالية الدولة، لقد بنى هؤلاء جسراً يعبر بهم إلى المستقبل حاملين معهم التراث الأصيل للماركسية، تراث الاشتراكية من أسفل الذي حافظوا عليه من الانحرافات الأيديولوجية طيلة سنين عديدة.

كانت الأحزاب الستالينية تحظى بتأييد هائلن وقد استطاعت لفترات طويلة التأثير في قطاعات واسعة من الجماهير، كما أنها أثرت حتى على أولئك الاشتراكيين الذين لم يعتبروا أنفسهم ستالينيين أو الذين اعتبروا أنفسهم معادين للستالينية. لقد اعتبرت تلك الأحزاب ستالين كوريث شرعي للثورة الروسية وليس حافر قبرها.














الفصل السادس
الحركات الوطنية في العالم الثالث

ثلاثة آراء حول للثورة

بلور ليون تروتسكي نظرية الثورة الدائمة على خلفية الثورة الروسية عام 1905. كان جميع الماركسيين في هذا الوقت، من كاوتسكي إلى بليخانوف إلى لينين، يؤمنون بأن الدول الصناعية المتقدمة هي الوحيدة المؤهلة للثورة الاشتراكية، حيث جادلوا بأن قوة وتماسك السلطة العمالية عند قيام ثورة اشتراكية في بلد ما، تتوقف بالأساس على مدى التقدم الصناعي والرأسمالي في هذا البلد. وبالتالي فإن البلدان المتأخرة سوف ترى مستقبلها في مرآة البلدان المتقدمة. وفقط عبر عملية تاريخية طويلة من التقدم الصناعي والحكم البرجوازي البرلماني سوف تنضج الطبقة العاملة بما فيه الكفاية لتخطو خطوها في اتجاه الثورة الاشتراكية.

جميع الاشتراكيين الديمقراطيين الروس –سواء المناشفة أو البلاشفة- افترضوا أن روسيا مقبلة على ثورة برجوازية ديمقراطية، ناتجة من الصراع القائم بين قوى الإنتاج الرأسمالية من جانب، وبين الحكم الأوتوقراطي والإقطاعية من جانب آخر. ومن هذا المنطلق، استنتج المناشفة أن البرجوازية لابد بالضرورة أن تقود الثورة وأن تأخذ السلطة السياسية بين يديها. وبالتالي فإن الاشتراكيين الديمقراطيين سيكون عليهم أن يؤيدوا البرجوازية الليبرالية في الثورة، وفي نفس الوقت أن يدافعوا عن المصالح الخاصة بالعمال في ظل الرأسمالية، مثل تحديد يوم العمل بـ8 ساعات في اليوم وزيادة الأجور وغيرها من الإصلاحات الاجتماعية.

اتفق لينين والبلاشفة على أن الثورة القادمة ستكون ذات طابع برجوازي، حيث أنها ستقضي على الأوتوقراطية والإقطاع لكنها لن تتجاوز حدود الرأسمالية. حيث أن "الثورة الديمقراطية لن تتخطى إطار العلاقات الاقتصادية والاجتماعية للبرجوازية"، هكذا أوضح لينين الفكرة في عام 1905. "هذه الثورة الديمقراطية في روسيا لن تضعف بل ستقوي سيطرة البرجوازية".

لقد تمسك لينين بتلك الرؤية لفترة طويلة، ولم يتخل عنها إلا عند قيام ثورة فبراير 1917. في سبتمبر 1914، على سبيل المثال، كان لازال يصر على أن الثورة في روسيا سيكون عليها أن تحصر نفسها في إطار ثلاث مهام رئيسية: "تأسيس جمهورية ديمقراطية (حيث المساواة في الحقوق وإطلاق حق تقرير المصير لكل الأمم المضطهدة تحت سيطرة الامبراطورية الروسية)، تأميم أراضي كبار الملاك، وتطبيق يوم العمل محدداً بـ8 ساعات في اليوم".

ما كان يميز لينين بالأساس عن المناشفة هو إصراره على ضرورة النضال من أجل استقلالية حركة الطبقة العاملة عن البرجوازية الليبرالية، من أجل أن تنضج الثورة البرجوازية إلى ثورة اشتراكية ضد البرجوازية نفسها.

أما تروتسكي، فقد كان مقتنعاً مثل لينين بأن البرجوازية الليبرالية أضعف كثيراً من أن تتولى مهام الثورة. وأن الإصلاح الزراعي الجذري، حيث مصادرة الأراضي من كبار الملاك وتوزيعها على الفلاحين الفقراء، لا يمكن أن يتم إلا بتحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين. لكن تروتسكي لم يتفق مع لينين في إمكانية قيام حزب سياسي مستقل للفلاحين، وجادل بأن الفلاحين مقسمين بشدة فيما بينهم إلى أغنياء وفقراء، وأن هذا الانقسام لا يجعلهم قادرين على تأسيس حزب سياسي موحد ومستقل يمثل مصالحهم.

كتب تروتسكي أن "كل الخبرة التاريخية توضح لنا أن الفلاحين غير قادرين تماماً على لعب دور سياسي مستقل". جادل تروتسكي أن في كل الثورات على مدار التاريخ، أيد الفلاحون هذا القسم أو ذاك من البرجوازية. أما في روسيا، فإن قوة الطبقة العاملة ورجعية البرجوازية ستدفعان الفلاحين لتأييد البروليتاريا الثورية. لن تنحصر الثورة في المهام البرجوازية الديمقراطية، لكنها ستمتد سريعاً إلى الإجراءات الاشتراكية التي ستقودها البروليتاريا.

اعتمدت أفكار تروتسكي على أن استيلاء البروليتاريا على السلطة لا يعتمد على تقدم قوى الإنتاج وتقدم الرأسمالية بقدر ما يعتمد على مستوى الصراع الطبقي وعلى الأوضاع الدولية، وأخيراً يعتمد على بعض العوامل: تراث النضال ومبادرة البروليتاريا فيه واستعدادها له.

ولذلك فإن البروليتاريا في البلدان المتأخرة اقتصادياً، قد تأتي إلى السلطة قبل أن يحدث ذلك في البلدان المتقدمة. في 1871، استطاعت البروليتاريا في باريس أخذ زمام السلطة في باريس البرجوازية الصغيرة، صحيح أن ذلك استمر لشهرين فقط، لكن ذلك لم يحدث حتى لساعة واحدة في أي من المراكز الرأسمالية المتقدمة مثل إنجلترا أو الولايات المتحدة. أما وجهة النظر التي تفترض أن وصول البروليتاريا للسلطة يعتمد بشكل أوتوماتيكي على درجة التقدم الاقتصادي في البلد، فإن وجهة النظر هذه مجحفة للغاية ومستمدة من النظرة المادية الاقتصادية الضحلة لمسار التاريخ. وتلك النظرة لا علاقة لها بالماركسية.

لقد خلقت الثورة الروسية الظروف المناسبة من أجل استيلاء البروليتاريا على السلطة حتى قبل أن تستطيع البرجوازية الليبرالية بناء وترسيخ دولتها الخاصة.

هناك نقطة جوهرية أخرى في نظرية ليون تروتسكي، ألا وهي الطبيعة الأممية للثورة الروسية المقبلة. فقد رأى تروتسكي أنه صحيح تماماً أن الثورة الروسية سوف تبدأ داخل المحيط القومي، لكنها لا يمكن أن تصل إلى نصرها النهائي إلا إذا انتصرت الثورة في بلاد أخرى أكثر تقدماً.

لكن كيف تتجاوز البروليتاريا الروسية بسياساتها الاشتراكية الوضع الاقتصادي المتأخر لروسيا؟ هناك شيء واحد يمكننا ان نقوله بكل تأكيد، وهو أن البروليتاريا لا يمكن أن ترسخ سلطتها في ظل الظروف الاقتصادية المتردية لروسيا، دون دعم مباشر من الطبقة العاملة في بلدان أوروبية أكثر تقدماً.

يمكننا أن نلخص العناصر الأساسية لنظرية الثورة الدائمة لليون تروتسكي كالتالي:

1) لا يمكن أن تقدم البرجوازية في البلدان المتأخرة أي حلول ثورية وديمقراطية للمشاكل التي تواجه بلدانها من سيطرة الإقطاع والاضطهاد الإمبريالي، ولا يمكنها القضاء على الإقطاع ولا الأتوقراطية الحاكمة وإرساء نظام ديمقراطي. وبينما كانت البرجوازية طبقة ثورية في البلدان الرأسمالية المتقدمة منذ قرن أو اثنين سبقوا، كفت الآن عن أن تكون كذلك سواء في البلدان المتقدمة او المتأخرة اقتصادياً، وتحولت إلى قوى محافظة ترتمي في أحضان الرجعية بمجرد أن تبدأ الموجة الثورية.
2) أما الدور الثوري الحاسم فلا يمكن أن تقوم به سوى البروليتاريا، حتى وإن كانت حديثة النشأ وصغيرة الحجم في البلدان المتأخرة.
3) وبالنسبة للفلاحين، فهم غير قادرين على تحقيق استقلالهم السياسي ولذلك سيتبعون القيادة الثورية للبروليتاريا الصناعية في المدن.
4) والحل الحاسم لكل من المسألة الزراعية، والمسألة القومية، والتحرر من القيود الإمبريالية التي تعوق التقدم الاقتصادي، فسوف يتطلب ذلك تخطي حدود الملكية البرجوازية الخاصة ومصادرتها. الثورة الديمقراطية إذن ستنضج سريعاً لتغدو ثورة اشتراكية، ومن هذا المنظور تصبح الثورة دائمة.
5) استكمال الثورة الاشتراكية "في إطار الحدود الوطنية، أمر غير معقول. وهكذا تصبح الثورة الاشتراكية ثورة دائمة بمنظور جديد وأوسع للكلمة، بحيث يمكن للثورة الاشتراكية أن تنجز مهاما كاملة فقط مع انتصار المجتمع الجديد على كوكبنا". وإنه لمن ضيق الأفق والرجعية محاولة إنجاز "الاشتراكية في بلد واحد".
6) وكنتيجة لكل ذلك، فسوف تقود الثورة في البلدان المتأخرة لاضطرابات واسعة في البلدان المتقدمة.

صعود ماو للسلطة

لم تلعب الطبقة العاملة أي دور في انتصار ماو تسي تونج ووصوله إلى السلطة في الصين، كما أن التركيب الاجتماعي للحزب الشيوعي الصيني لم يكن هو الآخر عمالياً على الإطلاق. وفي الحقيقة كان صعود ماو داخل الحزب الشيوعي متزامن مع تحول التركيب الاجتماعي للحزب عن العمال. مع نهاية 1926 كان على الأقل 66% من أعضاء الحزب عمال، 22% مثقفين، وفقط 5% فلاحين. وبحلول نوفمبر 1928، فقد الحزب حوالي أربعة أخماس أعضائه من العمال، ويُذكر أن أحد التقارير الرسمية من الحزب الشيوعي الصيني في ذلك الوقت قد اعترف بأن "الحزب لم يعد يملك نواة حزبية قوية واحدة بين العمال الصناعيين". كما اعترف الحزب لاحقاً أن العمال قد شكلوا 10% من عضويته في 1928، 3% في 1929، هبوطاً إلى 2.5% في مارس 1930، إلى 1.6% فقط من العضوية في سبتمبر من نفس العام، وعملياً لم يعد لدى الحزب عامل صناعي واحد مع نهاية العام. ومنذ ذلك العام حتى انتصار ماو واستيلائه على السلطة السياسية في الصين، لم يملك الحزب أي عمال ليتحدث باسمهم.

لم يهتم الحزب الشيوعي الصيني بالعمال كثيراً، ولم يكن العمال على خريطة الاستراتيجية السياسية للحزب خلال فترة صعود ماو للسلطة، إلى درجة أن الحزب لم يجد من الضروري أن يجتمع بالنقابات العمالية في أي مؤتمر عام خلال 19 سنة، منذ مؤتمر النقابات الذي عُقد في 1929. في ديسمبر 1937 عندما أقرت حكومة حزب الكومنتانج عقوبة الإعدام للعمال الذين يضربون عن العمل أو يحرضوا على الإضراب أثناء فترة الحرب، صرح المتحدث الرسمي باسم الحزب لأحد الصحفيين أن الحزب "راضي تماماً" عن الإجراءات التي تعتزم الحكومة اتخاذها أثناء الحرب. وحتى بعد اندلاع الحرب الأهلية بين الحزب الشيوعي وحزب الكومنتانج، لم يكن هناك منظمات تابعة للحزب الشيوعي في المناطق التي سيطر عليها الكومنتانج، التي احتوت المراكز الصناعية في الصين.

إن غزو ماو تسي تونج للمدن الصينية من خارجها في 1949 يوضح بجلاء مدى الفراق بين الحزب الشيوعي والطبقة العاملة في المدن. القادة الشيوعيون وقتها بذلوا أقصى جهدهم لمنع أي انتفاضات عمالية في المدن التي كانوا يغزونها. قبل سقوط تاينتسن وبكين، على سبيل المثال، أصدر الجنرال لين بياو، قائد الجبهة، تصريحاً بأن "من أجل الحفاظ على النظام، فإن كل مسئولي الكومنتانج أو رجال البوليس أو أي شخص يعمل في مؤسسة حكومية أو مقاطعة أو مدينة أو قرية، سيبقون في مناصبهم".

وعند عبور نهر يانجتسي، قبل الوصول إلى المدن الكبرى في جنوب ووسط الصين (شانجهاي، هانكو، كانتون) كان ماو ورفيقه تشو تيه أصدروا هم أيضاً نداءاً آخر.. "نأمل أن يظل كافة العمال والموظفين في أماكنهم وأن يستمروا في أعمالهم كما هم، فسوف يمضي عملنا بشكل عادي. كل المسئولين التابعين لحزب الكومنتانج في الحكومة المركزية أو في البلديات أو في القرى -مهما كانت مستوياتهم- ونواب الجمعية الوطنية وأعضاء المجلس التشريعي والمجلس السياسي، ورجال الشرطة، وزعماء منظمات باو تشيا، نأمل أن يبقى كل هؤلاء في مناصبهم، وأن يحترموا أوامر جيش التحرير الشعبي والحكومة الشعبية".

بالنسبة للطبقة العاملة، فلقد التزمت وظلت ساكنة كما هي. ويوضح لنا التقرير التالي من مدينة نانكنج في 22 أبريل 1949، بعد استيلاء جيش التحرير الشعبي على المدينة، الوضع بشكل دقيق: "لا توجد أي علامة تدل على إثارة الفوضى من قبل سكان نانكنج. شوهدت تجمعات من الأهالي عند حائط النهر لمشاهدة تبادل إطلاق النار عند الضفة المواجهة من النهر. لكن كل شيء يسير كما هو معتاد دائماً. أُغلقت بعض المحال التجارية، لكن ذلك كان نتيجة ضعف حركة البيع".

وبعد شهر، كتب مراسل النيويورك تايمز من شانجهاي التقرير التالي: "المدرعات الحمراء تسير في الشوارع، والجنود يعلقون أوراقاً على الحوائط في الشوارع تخبر الناس بأن عليهم الهدوء وأن ليس هناك ما يخافون منه". وفي كانتون: "عندما دخل الشيوعيون المدينة، تواصلوا مع الضباط في قسم الشرطة وأخبروهم بأن عليهم البقاء في مناصبهم لكي يحافظوا على النظام".

ثورة كاسترو

لم تلعب لا الطبقة العاملة ولا الفلاحين أي دور جاد في صعود كاسترو للسلطة في كوبا، لكن وحدها الطبقة الوسطى هي التي استطاعت ملئ الفراغ في ساحة النضال. ويوضح حديث تم بين "ليستريانكي" وقادة الثورة – وهو حديث موثوق بصحته ورد في كتاب لـ "رايت ميلز" – كل ما لم تكن عليه الثورة:

"لم تكن الثورة صارعًا بين العمال الأجراء والرأسماليين، فثورتنا هي ثورة لم تقم بها النقابات العمالية أو العمال الأجراء أو الأحزاب العمالة أو أيًا من هذا القبيل.. فلم يكن العمال الأجراء في المدينة واعين بأي من الطرق الثورية، فنقاباتهم ليست فحسب إلا هي كم النقابات الأمريكية الشعبية تسعي لمزيد من المال والشروط الأفضل، وهذا كل ما كان يحركهم، وفي بعض الأحيان تكون فاسدة تماماً مقارنة بنقابتكم".

ويكتب بول باران – أحد داعمي كاسترو – بعد مناقشات سادة كوبا، حول الدور الضئيل للبروليتاريا في الثورة: "يبدو أن قسم الأجراء من الطبقة الصناعية في سلبيًا في مجمله طوال الفترة الثورية، مشكلاً الجزء (الارستقراطي) في البروليتاريا الكوبية، فهؤلاء العمال شارك في أرباح العمليات الاحتكارية – الأجنبية والوطنية – بأجور جيدة وفقًا للمقياس الأمريكي اللاتيني وتمشوا بمستوى حياة مرتفع إلى حد بعيد مقارنة بمستوى جماهير الشعب الكوبي. وحركة الإتحاد النقابي "القوية إلى حد بعيد كان مسيطرًا عليها من قبل موظفي النقابات على نموذج الولايات المتحدة، ومخترقة بتمكن من المبتزين والمحتالين".

وتفسر لامبالاة البروليتاريا الصناعية فشل دعوة كاسترو إلى إضراب عام في 9 ابريل 1958، بعد حوالي ستة عشر شهرًا من بدء الثورة وقبل ثماني شهور من سقوط الديكتاتور الكوبي باتيستا. فالعمال كانوا غير مهتمين، والشيوعيون قد دُمروا – كان هناك وقت قبل أن يوافقوا على الانحياز إلى جانب كاسترو وقد علق مؤكدًا على ذلك تقرير ل "رايت ميلز" أثناء العصبان المسلح على دول الفلاحين في وصل كاسترو وللسلطة:

"لعب الفلاحون الدور الكبير مع صغار المثقفين، وأصبحوا هم الجيش الثوري الذي فاز بالعصيان المسلح. فالطرف الحاسم كان هو المثقفين والفلاحين، فتشكل الجنود الثوريين من الفلاحين يقودهم صغار المثقفين". من هؤلاء الفلاحون؟.... "إنهم نوع من العمال الأجراء الزراعيين، الذين لا يجدون عملاً معظم السنة" على هذا النحو كان أيضًا تقرير بأن:

"كان الأجر الزراعي لهؤلاء مصدر دخلهم ولكنهم ليسوا صغار ملاك. فالريف الكوبي لم يكن أبدًا بالنسبة لطبقة البرجوازيين الصغار من أصحاب الملكيات الضئيلة بيئة منتجة للأيديولوجية البرجوازية".

بالرغم من ذلك فهذا الوصف يكذَّب عبر حقيقتين: "بالكاد كان الفلاحون منضمون لجيش كاسترو، ففي أواخر ابريل 1958 كان فقط العدد الإجمالي حوالي 180 من الرجال مسلحون داخل مجموعته، وأرتفع فقط إلى 8.3 عند سقوط باتيستا". فكوادر عصبة كاسترو الأساسية كانت من المثقفين، ومن شارك من الفلاحين لم يكونوا أجراء زراعيين، أو ذوي اتجاهات اشتراكية كما وصفهم "باران"، و"ميلز". ويشهد على ذلك "تشي جيفارا" وهو من أنضم إلى كاسترو في "سيريا مايسترا":

"الجنود الذين شكلوا جيش حرب عصابات، هم أشخاص وطنيون جاءوا من جزء من طبقة اجتماعية ترى تضامنها مع وضع أكثر المناطق كفاحية، ويعبر عنهم في أكثر قائمة من الشجاعة من البرجوازية الصغيرة".

يتضح من ذلك أن حركة "كاسترو" هي حركة طبقة متوسطة، فالاثنين وثمانون رجلاً الذين اجتاحوا كوبا من المكسيك في ديسمبر 1956، والإثنى عشرة رجلاً الذين قاتلوا في "سيريا مايسترا" قد جاءوا كلهم من هذه الطبقة:

"قدمت أضخم الخسائر من حركة مقاومة الطبقة المتوسطة المدينة، حيث أظهروا سياسة وسيكولوجية جادة هزمت القوة القتالية لباتيستا".

يبالغ على نحو متميز حقاً "تشي جيفارا" من ضعف وعجز الطبقة العاملة الصناعية كعنصر مركزي في كل الثورات الاشتراكية القادمة:

"يصنع الفلاحون بجيشهم النوع الخاص مهم من القتال لأجل أهدافهم الذاتية. ففي المقام الأول يكون توزيع الأرض هو الذي يجعلهم يأتوا من القرية لانتزاع المدن. ويحلق هذا الجيش في الريف – حيث الشروط الموضوعية ناضجة لاستخدام القوة – الإمكانيات لتحرير المدن من سيطرة الخارج".

"إنه لمن الصعوبة الكبيرة أن تجهز جماعات حرب العصابات في دول تحوي كثافة مالية من السكان في مدنها الكبيرة وتملك كثير من الفلسفة المتطورة والوسائل الصناعية، فالتأثير الأيديولوجي المدينة يعوق نضال حرب العصابات. بحيث أنه في هذه الدول التي تزداد فيها هيمنة المدينة. يمكن أن تتطور النواة السياسية المركزية للصراع في الريف".

مع الدور الهامشي للبروليتاريا الصناعية – يقول جيفارا – لابد أن تسلم حرب العصابات الفلاحية بالأساس الإيديولوجي للطبقة العاملة – الماركسية متغاضيًا عن أن أساس الماركسية هو حقيقة أن الثورة الاشتراكية هي من صنع الطبقة العاملة نفسها، وعلى ذلك فالبروليتاريا هي فاعلة التاريخ وليست المفعول به.

بالنسبة لبرنامج كاسترو لم يتعد من بدايته أفق الإصلاحات الليبرالية الواسعة والمقبولة من الطبقات المتوسطة. وفي مقاله لجريدة "Oront of febreary". أعلن كاسترو بأنه لم يضع خططًا المصادرة أو تأميم الاستثمارات الأجنبية: "أنا شخصيًا أعتقد أن التأميم، في أحسن الأحوال، هو أداة بطيئة، فلا يتضح أنه يجعل الدولة أقوى، بل يضعف المشروع الخاص. والأكثر أهمية أن أي محاولة للتأميم الشامل ستعوق كثيرًا الهدف الأساسي في خطتنا الاقتصادية".

في مارس 1958 أكد لكاتب سيرته "دوبويس":

"لم تتحدث أبدًا حركة 26 يوليو عن التحول الاشتراكي للصناعات أو تأميمها. فهذا تخوف أحمق وبسيط من ثورتنا. وقد أعلنا منذ اليوم الأول بأننا نقاتل في سبيل التقوية التامة لدستور 1940، الذي من مبادنه تدعيم الضمانات والحقوق والالتزامات لكل العناصر التي تعد جزءًا من الإنتاج. وتشمل هذه المسألة حرية المشروع ومنح المواطنة والحقوق السياسية للرأسمالية كما بالنسبة لبقية عناصر الاقتصاد الأخرى".

أعلن كذلك كاسترو "للمجلس الاقتصادي لتنظيم الولايات المتحدة في "بونيس آيرس": "لا نعارض الاستثمار الخاص، بل نرى فيه فائدة وخبرة وحماسة، وستمنح الشركات ذات الاستثمارات العالية نفس ضمانات وحقوق المشروعات الوطنية".

يفسر ضعف كفاحية الطبقات الاجتماعية، العمال، الرأسماليون، الفلاحون وملاك الأراضي، وعجز الطبقة المتوسطة – التاريخي، وقوة ونخبة كاسترو الجديدة، والتي لم تلتزم بأي أساس نظري أو هموم تنظيمية، السهولة التي وضع بها جانبًا البرنامج المعتدل لعام 1953 – 1958 والقائم على المشروع الخاص وإحلاله ببرنامج راديكالي لملكية وتخطيط الدولة.

حتى في 16 أبريل 1961 لم يكن كاسترو قد أعلن بأن الثورة كانت "اشتراكية". وفي حوار مع رئيس الجمهورية د. "أوسفالد ودورتيكوس تورادو" قد قال أنه: "وفي يوم سعيد أكتشف الشعب أو صدق على أن ما كان عليه يعلن موافقته عنه هو ثورة اشتراكية".

هل هناك خلل في النظرية؟!

لا توجد صعوبة في فهم أسباب أن طبيعة التطور المتأخر للبرجوازية، كقاعدة أساسية، هي طبيعة محافظة ومتخاذلة (النقطة الأساسية الأولى عند تروتسكي)، وكذلك في حتمية السمة الثورية للطبقة العاملة الناشئة (النقطة الأساسية الثانية عند تروتسكي). إلا أن الأيديولوجية المهيمنة في المجتمع بحيث الطبقة العاملة طرفًا كطبقة مسيطرة يتداخل فيها عدد من الأسباب.

في الكثير من الحالات تؤدي حقيقة وعود أغلبية عائمة وغير متبلورة من العمال الجدد في الريف إلى صعوبات بالنسبة لتنظيمات البروليتاريا المستقلة، فتقص الخبرة والأمية تضاف إلى ضعفهم، وهذا يؤدي علاوة على ذلك إلى ضعف آخر: الاعتماد على غير العمال للقيادة: ففي الدول المتخلفة تدار غالبًا النقابات العمالية من "دخلاء"، ويوضح ذلك تقرير من الهند:

"تدار النقابات الهندية عمليًا من أشخاص لا يمتلكون أية خلفية صناعية "دخلاء" والكثير من هؤلاء الدخلاء يجمعون في أيديهم أكثر من نقابة واحدة. ويميز القائد الوطني ذي المكانة العالية بأنه رئيس الثلاثين نقابة تقريبًا. ولكن يضاف إلى ذلك أنه بوضوح لا يوجد ما يقدمه في العمل لأي من هذه النقابات".

الضعف والاعتماد على "دخلاء" تؤدي إلى عبادة الفرد:

"لا تزال تتسم الكثير من النقابات بالالتفات حول أشخاص. فيهيمن الشخص القوي على النقابة، ويحدد كل سياساتها وأعمالها، وتعرف النقابة باعتبارها نقابته، ويتطلع العمال إليه لحل مشاكلهم ولتأمين متطلباتهم، ويكونوا على استعداد في أن يتبعوه إلى حيث يقودهم".

عامل هام لعبادة البطل في هذه الحالة، هو وجود عدد من مثل هؤلاء الأبطال داخل الحركة، لمساعدة العمال في تلبية بعض احتياجاتهم، ولكن ليست المساعدة في تطوير تنظيمات ديمقراطية متعمدة على نفسها.

(لن تنمو مثل تلك التنظيمات دون أن يتعلم العمال أن يقفوا على أجلهم، وألا يعتمدوا بشكل مثير المشفقة على أشخاص بارزين لحل مشاكلهم).

الاعتماد على الدولة، هو ضعف آخر للحركة العمالية في الكثير من الدول المتخلفة، ويوضحه أيضًا تقرير من الهند:

"فعليًا تأخذ الدولة الكثير من الوظائف والتي تعد في مجتمع حرمن اختصاص النقابات العمالية، وتقدم باعتبارهم هبة من الدولة، ولكنها – أي الدولة – لا تعقد مساومات بين العمال وأصحاب العمل، بل تقوم هي بالجزء الكبير في تحديد الأجور وباقي شروط العمل. وهذا مما لا شك فيه يرجع بدرجة كبيرة إلى الشروط الاقتصادية وكذلك ضعف العمال ونقاباتهم العمالية".

ومن "غرب أفريقيا الفرنسية":

"محاولات النقابات المباشرة في مواجهة أصحاب العمل نادرًا ما تثمر عن زيادة أجور حقيقية للعمال الأفارقة. ولكن في الآونة الأخيرة، كان للتشريع الاجتماعي وتأثير الحركة السياسية مسئولية في معظم الزيادة في الأجور".

ومن أمريكا اللاتينية:

"تسعى التمثيلات النقابية إلى تحقيق أرباحها من خلال التدخل والقرار الحكومي".

جزاء الاعتماد على الدولة هو الخضوع للسياسات الحكومية، وتجنب سياسات معادية للسيدات الحاكمة، كذلك تحديد نشاط النقابات العمالية في متطلبات "اقتصادية" ضيقة، أو باستخدام التعبير اللينيني، سياسات "نقابوية".
هذا يؤدي تباعًا على ابتعاد النقابات العمالية عن نضالات الكادحين الزراعيين، فالاختلاف ما بين مستوى معيشة القرية والمدينة عامة هو اختلاف كبير في الدول المتخلفة مقارنة بالدول المتقدمة. في ظل هذه الظروف ومع وجود حالة البطالة وانعدام العمل للريفيين، يكون تحقيق مستوى أجور وشروط عمل في الصناعة، معتمدًا إلى حد بعيد على المؤسسات التي لا تستخدم إلا عمالاً نقابيين، ويتم تشغيل العمال في الصناعة من خلال النقابات العمالية والحكومة – في إهمال الكادحين الريفيين. وقد كان هذا هو الوضع في أرجنتين "بيرون" وبرازيل "فارجوس". وكوبا "باتيستا".

ونتج عنه حركة عمالية محافظة وضيقة ومثالية.

العامل الأخير ولكنه لا يعني العامل الأقل في تحديده لثورية الطبقة العاملة في الدول المتخلفة من عدمها. هو العامل الذاتي، أي فعالية الأحزاب وخاصة الأحزاب الشيوعية. ومن الضروري هنا إعادة التذكير بالدور الستاليني في الثورة المضادة بالدول المتخلفة.

الخلاصة، إن الخبرات حتى الآن أعطت لنا صورة لكل من الدوافع الثورية بين العمال الصناعيين في الدول النامية، وضعفها الشديد، وبأنه لا يوجد ارتباط آلي بين الاقتصاد المتخلف وبين النضالية السياسية الثورية.
أصبحت الطبيعة الثورية الأكيدة للطبقة العاملة – الدعامة الأساسية لنظرية تروتسكي – مشكوكًا فيها. ونقطته الأساسية الثالثة غير متحققة، فلا يستطيع الفلاحون أن يتبعوا طبقة عاملة غير ثورية، ولكن لا يعني هذا أنه لا شيء من ذلك يمكن أن يحدث. فسلسلة من الظروف الوطنية والعالمية جعلت قوى الإنتاج ضرورية لهدم العوائق الإقطاعية والامبريالية. فالعصيانات الفلاحية لم تكن كافية بحد ذاتها لكسر عبودية ملاك الأراضي والامبريالية، بل هناك ثلاثة عوامل أخرى مساعدة:

1. ضعف العالم الامبريالي نتيجة لزيادة التنافسات فيما بين قوى الإنتاج والركود. جعل من الضروري إحداث التدخل المتبادل بوجود القنبلة الهيدروجينية.
2. نمو أهيمه الدولة في الدول المتخلفة، والذي يعد أحد سمات التاريخ، فعندما تواجه المجتمع مهمة تاريخية في ظل غياب الطبقة التي عليها التغيير، يحل محلها مجموعة أخرى من البشر، وفي الغالب ما تكون سلطة الدولة، وتلعب هذه السلطة في مثل تلك الظروف دورًا غاية في الأهمية، فهي لا تعكس فقط ما يمكن أن يبني عليه الاقتصاد اليوم.
3. نمو الأهمية الأنتلجنسيا كقائدة وموحدة للوطن، وتكون فوق الكل كمتلاعب بالجماهير، وهذه النقطة الأخيرة تحتاج لتفصيل خاص.

الإنتلجنسيا

أهمية الأنتلجنسيا في حركة ثورية تتناسب طرديًا مع الوضع المتخلف العام – الوضع الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي – للجماهير التي ترتفع هذه الأنتلجنسيا من وسطهم.

تميزت "الحركة الشعبية الروسية" والتي كانت مقارنة بأي حركة أخرى. تؤكد على الحاجة لتثوير الفلاحين الذين يعدون أكثر أقسام المجتمع تخلفًا، أنها بالغت بشكل استثنائي على أهمية الأنتلجنسيا "أساتذة التفكير النقدي".

وعلى الرغم من أن الحركة الثورية في روسيا كانت تحتوي بشكل كبير على مثقفين. فيدافع مثقفي "الحركة الشعبية" عن قضية الفلاحين، ويدافع مثقفي "الحركة الماركسية" أنه بالنسبة للعمال الصناعيين يوجد اختلاف أساسي في الطريقة التي يرون بها العلاقة ما بين "القيادات" و"الجماهير"، فالحركة العمالية كانت على الأقل منظمة أثناء أعلى مراحل الصراع – إلى حد بعيد كان المثقفون مسئولون عن الوحدة العمالية – على الرغم من ذلك فاتجاههم المتأصل – أي المثقفين – في الفصل والارتفاع بنفسهم عن الجماهير. أدى إلى كبحهم عن طريق نفس هذه "الوحدة".

بالنسبة لمثقفي "الحركة الشعبية" كانت البيئة المحيطة أقل تقييدًا. ومن ثم فقد أظهروا استبدادية نتيجة للميل إلى التذبذبات والانشقاقات، وكما قال لينين في هذا الوقت: (لن يكون لأحد أن ينكر ما تتميز به الأنتلجنسيا من فردية وعجز عن الانضباط والتنظيم، هو نتيجة لطبقة منتجة من مجتمع رأسمالي حديث).

أثبتت الأنتلجنسيا الثورية نفسها كعامل أكثر تماسكًا في الدول النامية اليوم، مقارنة بروسيا القيصرية. فكما تعرف، الملكية الخاصة البرجوازية مفلسة، والنضال الامبريالي لا يحتمل، ونمو أهمية تخطيط الدولة إضافة إلى نموذج روسيا. وكذلك العمل التنظيمي والانضباطي للأحزاب الشيوعي، أعطى كل هذا معنى جديدًا لتماسكها – أي الأنتلجنسيا. ولأنها الفئة الوحيدة غير المتخصصة في المجتمع، تكون المصدر الواضح ل "نخبة ثورية محترفة". بحيث تظهر لتمثل مصالح "الأمة" في مواجهة التناقضات الإقليمية والمصالح الطبقية. يضاف إلى ذلك أنها الجزء من المجتمع المتشرب بالثقافة القومية. فالفلاحون والعمال لا يمتلكون الوقت أو التربية التي تؤهلهم لذلك.

تتأثر الأنتلجنسيا أيضًا بالتحالف التكنولوجي لذواتها. فهي مقيدة بهذا التخلف الذي يمنعها من المشاركة في عالم العليم والتكنولوجيا للقرن العشرين، ويؤكد هذا الموقف من خلال "بطالة المثقفين" المستوطنة في هذه الدول. مع التخلف الاقتصادي للمثقفين تكون الوظيفة الحكومية هي الأمل الوحيد لمعظم الطلاب بالرغم من عدم وجود قدر ما يكفيهم.

الحياة الدينية للمثقفين أيضًا في أزمة. ففي ظل نظام متفتت تكون فيه الشخصية التقليدية متفسخة، يشعرون بعدم الأمان، وأنعدم الجذور، ونقص القيم الراسخة. وتجعل الثقافات الحاجة ملحة إلى توحيد جديد لابد له أن يكون كليًا وديناميكيًا حتى يستطيع أن يملأ الفراغ الروحي والاجتماعي، ولابد أن يجمع ما بين الحماسة الدينية مع النضالية القومية.

وجد المثقفون أنفسهم تحت ضغط مزدوج قبل أن تفوز دولهم بالحرية السياسية: تمتعهم بامتيازات عن الأغلبية من شعوبهم، وخضوعهم لهيمنة الحكام الأجانب. وهو يفسر ما يتميزوا به من تردد وتدبدب بالنسبة لدورهم في الحركات القومية. لكن أصبح هؤلاء عوامل أخرى في أهدافهم – الشعور بالذنب والمديونية تجاه الجماهير "الجاهلة"، وفي نفس الوقت الشعور بالانفصال والتفوق عليهم.

فالأنتلجنسيا تواقة إلى الانتماء دون أن تكون متشابهة، ودون أن تكف على أن تظل مستقلة ومتسامية. فهي تبحث عن حركة ديناميكية ستوحد الأمة، وتفتح آفاقًا واسعة وجديدة. ولكنها في نفس الوقت تعطي لها – أي الأنتلجنسيا – السلطة. وهي مؤمنة تمامًا بالتنمية، بالتنمية الكاملة في مجتمع هندسي، وتأمل في الإصلاح من "فوق"، وتفضل أن تقود عالم جديد بشعب "مقر بالجميل"، وترى كذلك أن حرية نضال الوعي الذاتي وارتباط الشعب الحر، ينشأ من عالم جديد من أجلها، وهي تهتم بالكثير من عوامل دفع دولها خارج الركود، ولكن بالقدر القليل من الديمقراطية. فهي تجد القيادة من أجل التصنيع، من أجل التراكم الرأسمالي. ومن أجل الانبعاث القومي الجديد. فسلطتها في علاقة مباشرة مع ضعف الطبقات الأخرى وسياستها البطالة. كل هذا يجعل من رأسمالية الدولة الديكتاتورية هدفًا جذابًا للمثقفين. يضاف إلى ذلك أنهم "حاملي الراية" الأساسية للشيوعية في الدول النامية. (وجدت الشيوعية أعظم قبول في أمريكا اللاتينية بين الطبلة والطبقة المتوسطة).

في الهند كانت نسبة الأعضاء من طبقات أخرى غير البروليتاريا والفلاحين في مؤتمر الحزب الشيوعي في "أمريستار" (مارس / ابريل 1958) هي 67% (طبقة وسطى، وملاك أراضي. وصغار تجار). 72% حصلوا على تعليم جماعي. (وقد وجد أنه في عام 1943 كانت نسبة من يعملون كموظفين لوقت كامل هي 16%).

الثورة الدائمة المنحرفة

هذه القوى التي يمكن أن تؤدي إلى ثورة عمالية اشتراكية وفقًا لنظرية تروتسكي، يمكن أن تقود البروليتاريا في ظل غياب عامل موضوعي ثوري. لألبي نقيضها، دولة رأسمالية.

باستخدام ما يعد صحيحًا بشكل كامل وما بعد عارضًا في النظرية – اعتمادًا على الفعالية الموضوعية للبروليتاريا – يمكن أن نصل إلى مصطلح مختلف – مع غياب مصطلح أفضل – هو: "ثورة رأسمالية الدولة الدائمة المنحرفة".

وكيفما كانت ثورتا 1905، 1917 في روسيا، وثورة 1925 – 1927 في الصين. إثباتًا نموذجيًا لنظرية تروتسكي، كذلك فوصول "ماو" و"كاسترو" إلى السلطة هو نموذج مثبتًا أكثر وضوحًا ونقاء لنظرية "الثورة الدائمة المنحرفة".

تعد ثورات التحرر الوطني الأخرى – غانًا، الهند، مصر، إندونيسيا، الجزائر – انحرافات عن القاعدة. ففي هذه الدول، منع الانسحاب السياسي والعسكري للامبريالية، بالإضافة إلى الدعم المالي للطبقات المحلية المسيطرة، وغالبًا ما كانت هذه الطبقات هي الأقسام الأساسية للبرجوازية، وكذلك العجز الذي أصابت به "موسكو" الأحزاب الشيوعية المحلية، منع من وجود رأسمالية دولة نقية ومهيمن عليها غرديًا من قبل البيروقراطية الستالينية الجديدة. وبالرغم من انحراف "نهرو" ،الهند، و"نيكروما" غانا، و"بن بيلا" الجزائر، بشكل أكثر وأقل عن نموذج "الثورة الدائمة المنحرفة"، إلا أنه يمكن فيهم ذلك بالمقارنة والأقتراب من وجهة نظر النموذج.

بعض النتائج تكتسبها الحركة العمالية استنباطًا من "الثورة الدائمة المنحرفة".

في أي من حالات نقائها أو انحرافها:

أولها: في ما يتعلق بالعمال في الدول النامية، والذين عجزوا عن تحقيق الثورة الدائمة وقيادة الثورة الديمقراطية حتى حدود الاشتراكية، وتوحيد الصراع القومي والاشتراكين لابد أن يكون عليهم الآن أن يقاتلوا ضد طبقت(هم) المسيطرة – وقد برهن نهرو على ذلك بقدر ليس أقل حدة مقارنة بالحكم البريطاني عند حصاره للإضرابات العمالية.

برغم ذلك سيكون العمال الصناعيون أكثر وأكثر استعداد للثورة الاشتراكية، ففي ظل حكومات وطنية جديدة ستزيد أعدادهم، ومن ثم يكتسبون في خاتمة المطاف تماسكًا وسيطرة اجتماعية محددة.

ثانيهما: بالنسبة للاشتراكيين الثوريين في الدول المتقدمة التغيير في الإستراتيجية يعني أنه بينما يكون عليهم أن يواصلوا المعارضة بغير تحفظ لأي ضغط وطني للشعوب المستعمرة.

لابد أن أيضًا أن يكفوا عن محاولتهم في إثبات الوحدة الوطنية للطبقات المستقبلية المسيطرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية،، وأن يستثمروا بدلاً من ذلك التناقضات الطبقية والهياكل الاجتماعية لهذه القارات في المستقبل، فيصبح شعار "طبقة ضد طبقة" حقيقة أكثر فأكثر.

وتظل فكرة الأساسية لنظرية "ترورتسكي" صحيحة كما كانت دائمًا، فلابد أن تواصل البروليتاريا النضال الثوري حتى تنتصر على العالم بأسره. والتقصير عن هذا الهدف لن يجعلها تحقق حريتها.



















الفصل السابع
الماركسية والاضطهاد

يكمن الجوهر الحي للماركسية الثورية في أن تحرر الطبقة العاملة لا ينتج سوى من حركة الطبقة العاملة ذاتها. وفي نفس الوقت كان ماركس يجادل بأن الأفكار السائدة في كل مجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة، وفي الأغلب تؤدي تلك الأفكار لانقسام العمال إلى قوميات وأجناس وأديان مختلفة، إلخ. بيد أن اضطهاد البيض للسود، الرجال للنساء، إلخ، يفرق صفوف الطبقة العاملة ويبعثر وحدتها، وسياسة "فرق تسد" توطد سلطة الرأسماليين.

لكن كيف إذن يؤثر الاضطهاد على حياة العمال المضطهدين؟ العمال السود في بريطانيا مثلاً يتم استغلالهم كعمال، حيث يتقاضون أجوراً أقل ويعملون في ظروف سيئة، ويسكنون مساكن رديئة، كما يُحرمون من أغلب الخدمات الاجتماعية. أما الاضطهاد الواقع عليهم يزيد من قسوة الاستغلال.

نفس الشيء يحدث للنساء العاملات؛ فهن يضطررن لتحمل عبء مضاعف حيث يسعين للعمل وكسب العيش وفي نفس الوقت يتحملن مسئولية تربية الأطفال والعنالية بالمنزل. إنهن يعملن في مهن يضطررن كثيراً لتركها من أجل الالتفات للأطفال. وبالنسبة لهن، فإن الاضطهاد الواقع عليهن أيضاً يزيد من قسوة استغلالهن.

كيف يؤثر الاضطهاد إذن على حياة العمال الذين يمارسون ذلك الاضطهاد؟ إنهم يعتقدون بالتأكيد أنهم أعلى شأناً من العمال المضطهَدين. لكن هي يستفيدون حقاً من هذا الوضع؟

يعتقد العمال البيض في الولايات الجنوبية في أمريكا أنهم يستفيدون من اضطهاد زملائهم العمال السود، إذ أنهم يتقاضون أجوراً أعلى، لديهم مساكن أفضل، وهكذا. لكن العمال البيض يتقاضون أكثر بكثير في الشمال. وفي الحقيقة فإن حتى العمال السود في الشمال أجورهم أعلى من العمال البيض في الجنوب.

العمال البروتستانت في أيرلندا الشمالية يعتقدون أن مهاجمة وضرب الكاثوليك أمر جيد بالنسبة لهم، وإلا لماذا يقدمون على ذلك؟ صحيح أن العامل البروتستانتي في أيرلندا الشمالية لديه فرصة أعلى من العامل الكاثوليكي في الحصول على وظيفة أفضل كثيراً، لكن نفس العامل البروتستانتي يتقاضى أقل كثيراً من زميله في بيرمنجهام أو جلاسجو.

نفس الشيء ينطبق على الرجل والمرأة العاملة. العامل يتقاضى أكثر من العاملة، لذا فهو يستفيد من كونها مضطهدة. لكن تلك الرؤية سطحية تماماً لما يبدو عليه الأمر.

إذا كنت مثلاً تسافر على متن قطار رديء وقذر، مثلك مثل أي رجل أبيض في ظل الرأسمالية، سوف تجد مقعد بجانب النافذة وتجلس عليه. أما المرأة أو الرجل الأسود فسوف يجلسون بعيداً عن النافذة، وعلى مقاعد قد تكون رديئة أيضاً. المشكلة الحقيقية هنا تكمن في القطار نفسه. كلنا مضطرين لاستقلال نفس القطار وليس لأي منا تحكم على السائق الذي يقود القطار عبر النفق.

إن القطاعات الأكثر تعرضاً للاضطهاد من الطبقة العاملة، دائماً ما تعكس أحوالهم الفظائع الأبشع للرأسمالية.كتب تروتسكي ذات مرة أن المرء إذا كان يرغب في بناء مجتمع جديد، فعليه أن ينظر في عيون النساء المضطهدات. وإذا كان يرغب في إدراك مدى وحشية الرأسمالية، عليه أن ينظر في عيون اليهود خلال الحرب العالمية الأولى. ونحن نقول: إذا كان يريد إدراك حقيقة المجتمع البريطاني، فعليه أن ينظر في عيون نيفيل ودورين لورينز الذي قُتل ابنهما الشاب الأسود على يد خمسة من النازيين الذين حمتهم الشرطة البريطانية.

كيف إذن يمكن توحيد العمال البيض مع السود، أو العمال الرجال مع زملائهم النساء؟! لقد وضع فلاديمير لينين الفكرة الرئيسية في ذلك بمنتهى البساطة في 1902. لقد أوضح بجلاء أنه عندما ينظم العمال إضراباً عن العمل من أجل أجور أعلى، فهم إذن مناضلون نقابيون جيدون. أما إذا أضربوا عن العمل من أجل منع الهجوم على اليهود أو قمع التظاهرات الطلابية، فهم إذن اشتراكيون جيدون.

الإضراب الذي ينخرط فيه العمال البيض والسود جنباً إلى جنب، قد يساهم في تجاوز العنصرية. الإضراب يقوي التضامن، والتضامن قد يأخذ العمال أبعد من القضية الراهنة، أما تأثير الإضراب على نفوس العمال والتغيرات التي تلحق بهم وبأفكارهم، فتلك هي النتائج الأكثر أهمية للإضراب.

يمكن للتضامن أن يبدأ بمظاهرة ضد العنصرية التي قد تخلق حالة من الوحدة بين العمال السود. كانت اللقاءات التضامنية التي تم تنظيمها لمقابلة عائلة لورينز كبيرة جداً، وقد شارك فيها أناس بيض وسود. ولا شك أن ذلك سيؤثر ليس فقط على موقف الكثير من الناس تجاه الشرطة التي حمت القتلة النازيين، بل أيضاً سيساهم في إثراء حالة التضامن بين الناس حول قضايا أخرى.

مرة أخرى، إن الإضراب الذي يقف فيه الرجال والنساء، كتف بكتف، يساهم في إنهاء التفرقة بينهم على أساس الجنس. يجب هنا أن نتذكر كوميونة باريس حين قاتلت النساء بكل تضحية وتفاني، إلى درجة أن أحد الصحفيين البريطانيين قد كتب أنه "لو كان كل الكوميونيين نساء، لكانت الكوميونة قد انتصرت".

منذ سنوات، كنت بنفسي في اجتماع حاشد في لندن، عندها كنت أقول: "عندما تأتي الثورة، لن يكون غريباً أن يصبح رئيس مجلس العمال في لندن، أنثى، صغيرة السن، سوداء". وكنت قد اخترت تلك الصفات لأنها ببساطة جميعها تتحدى الأفكار السائدة التي تزرعها الرأسمالية، حيث يتم اعتبار صغر السن، قلة حكمة. ويتم احتقار الشخص الأسود. أما المرأة فلا تفقه شيئاً مقارنة بالرجل.

وبعد الاجتماع، اقتربت مني امرأة سوداء صغيرة السن، وقالت "أنا امرأة وسوداء وصغيرة. إذن أنا من تتحدث عنها". وجاء ردي عليها كالتالي: "أنتي مخطئة يا آنستي. سوف تأتي الثورة خلال 10 سنوات على الأقل، وحينها سوف تكونين أكبر سناً بكثير". وبالطبع لا يمكن أخذ كلامي بشكل حرفي، فيمكن مثلاً أن يصبح رئيس مجلس العمال في لندن، عامل أيرلندي في الـ70 من عمره وله 15 حفيد.

ينبغي على الثوري أن يكون معارضاً للاضطهاد إلى النهاية. الثوري الأبيض يجب أن يكون أكثر معارضة للاضطهاد من السود أنفسهم. يجب أن يعارض الثوري معاداة السامية بقوة أكثر من أي يهودي. الرجل الثوري يجب ألا يتسامح مع أي واقعة اضطهاد للمرأة أوالتحرش بها. يجب أن يكون الثوري سنداً لكافة المضطهدين.
































الفصل الثامن
النضال ضد الفاشية

درس صعود هتلر للسلطة

في 30 يناير 1933 أصبح هتلر رئيس وزراء ألمانيا. لكن ذلك لم يكن محتم الحدوث، وهتلر نفسه لم يتوقع أن يحدث ذلك بسهولة. قبل ذلك بشهرين فقط، أي في نوفمبر 1932، حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني على 7.2 مليون صوت في الانتخابات، فيما حصل الحزب الشيوعي على 6 ملايين صوت. لذا فإن المنظمتين العماليتين قد حصلتا سوياً على 13.2 مليون صوت، بينما حصل النازيون على 11.7 مليون، أي أقل بـ 1.5 مليون صوت. وعلى الرغم من ذلك، فإنه ليس بالعدد أو الكم يمكن قياس أهمية الأمر، بل بطبيعة الجمهور الانتخابي الذي أعطى أصواته للطرفين، أو كما أوضح تروتسكي: "بالمقاييس الانتخابية، فإن ألف صوت للفاشيين يعادل ألف صوت للشيوعيين. لكن بمقاييس النضال الثوري، فإن ألف عامل في مصنع واحد كبير يمثلون قوة أكبر مائة مرة من ألف موظف أو مسئول وزوجاتهم وآبائهم. إن الكتلة الانتخابية للفاشيين ليست إلا غبار بشري".

وعلى الرغم من ذلك، كانت قيادتا الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي مفلستان سياسياً بشكل كامل. بالنسبة للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد كان يستند إلى الدولة الألمانية وشرطتها تحت شعار "الدفاع عن الديمقراطية". وحتى بعد صعود هتلر إلى منصب رئيس الوزراء، كان أوتو ويلز، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يحاول طمأنة الشعب بأن الحكومة ليست كلها اشتراكية قومية، لكنها مكونة من تحالف بين الاشتراكيين القوميين والألمان القوميين، حيث كان ثلاثة وزراء فقط من إجمالي 12 وزير في الحكومة، نازيين، والـ 9 الآخريين محافظين. صحيح أن وليهلم فريك، وزير الداخلية النازي في حكومة هتلر، قد أعلن منذ توليه منصبه أن الوزارة ترفض حظر أي حزب، وأنهم لن يتدخلوا في حرية الصحافة، لكن بعد ذلك بشهرين فقط تم حظر الحزب الشيوعي واعتقال المرشحين الاشتراكيين في الانتخابات.

في 30 مارس 1933، تم تمرير قانون يمنح هتلر صلاحيات وسلطة غير محدودة، عبر الريخستاج (البرلمان الألماني). فيما وقف أوتو ويلز، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي أشرنا إليه سابقاً، ضد القانون، لكنه في نفس الوقت أكد أن الحزب يعمل كجزء من المعارضة الشرعية وسوف يمارس معارضته بطريقة قانونية وشرعية، طريقة سلمية ولا عنيفة. قال ويلز: "حصلت أحزاب الحكومة على أغلبية الأصوات في انتخابات الخامس من مارس، وبهذا يكون لديهم الصلاحية للحكم باسم الدستور. نحن نقبل حكمهم على أي حال كأمر واقع".

أما بالنسبة للحزب الشيوعي، فلم يكن أقل تناقضاً ولم تكن قياداته أقل إفلاساً؛ فلقد خطوا خطو ستالين واتهموا الاشتراكيين الديمقراطيين بالفاشية، وبهذا فإنهم قد وضعوا النازيين والاشتراكيين الديمقراطيين في سلة واحدة. وفي 14 أكتوبر 1931، صرح السيد ريميل، زعيم كتلة الحزب الشيوعي في الريخستاج، أن الشيوعيين "ليسوا خائفين من السادة الفاشيين، وسوف يسحبون البساط من تحت أقدامهم أسرع من أي حكومة سبقت". كما أن ريميل قد أكد قبل ذلك أنه عندما يتم عزل هتلر سيأتي دوره هو بالتأكيد في رئاسة الوزراء.

على النقيض من تلك المواقف المتناقضة، دعا ليون تروتسكي الطبقة العاملة الألمانية للتوحد في مواجهة الكارثة القادمة التي مثلها هتلر. وفي كراسة له بعنوان "ألمانيا مفتاح لفهم الموقف الدولي" صدرت في 23 نوفمبر، كتب أن:

"الاتجاه الذي ستسير فيه الأزمة في ألمانيا سوف يحدد ليس فقط مصير ألمانيا نفسها (بالرغم من الأهمية الكبيرة لذلك) لكن أيضاً مصير أوروبا والعالم كله لسنين طويلة قادمة. فوصول الاشتراكيين القوميين للسلطة في ألمانيا سوف يهدد، في المقام الأول، طليعة البروليتاريا في هذا البلد، فسوف يعني تدمير التنظيمات العمالية وبالتالي استئصال ثقة الطبقة العاملة في قدراتها وأملها في مستقبلها. وإذا وضعنا في الاعتبار مدى نضج واحتدام التناقضات الاجتماعية في ألمانيا، فإن نشاط الفاشية في إيطاليا قد يبدو باهتاً وضحلاً بالمقارنة بالنشاط النازي للاشتراكيين القوميين في ألمانيا".

بعد صدور هذا الكراس بثلاث أيام، كتب تروتسكي مقالة طويلة تحت عنوان "من أجل جبهة عمالية ضد الفاشية"، لشرح المهام العملية الملحة أمام البروليتاريا الألمانية: "أيها العمال الشيوعيون الألمان: أنتم مئات الآلاف، بل ملايين. أنتم لا تستطيعون مغادرة البلاد بأي حال، فليس هناك ما يكفي من جوازات السفر من أجلكم. أما صعود الفاشية في بلدكم سوف يحطم عظامكم كالدبابة المخيفة. فقط الوحدة النضالية مع العمال الاشتراكيين الديمقراطيين هي التي ستجلب النصر. ليس هناك المزيد من الوقت. إن جبهة متحدة للعمال المناضلين ضد الفاشية هي ضرورة ملحة ولا غنى عنها".

وفي 28 مايو 1933 (أي بعد صعود هتلر إلى السلطة بحوالي أربعة أشهر) في مقالة بعنوان "الكارثة الألمانية ومسئوليات القيادة"، أكد تروتسكي أن "الهزيمة المدوية التي تلقتها البروليتاريا الألمانية هي بالتأكيد الحدث الأهم منذ انتصار البروليتاريا الروسية في ثورة 1917". وفي 22 يونيو 1933، استنتج تروتسكي أن "الكارثة الحالية في ألمانيا هي بلا شك الهزيمة الأكبر للطبقة العاملة في التاريخ كله".

حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا استوعب الدرس جيداً

بعد ثلاث سنوات من تشكيل حزب العمال للحكومة في بريطانيا عام 1974، ارتفعت معدلات البطالة من 600 ألف إلى 1.6 مليون عاطل، كما انخفضت الأجور بشكل كبير، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تنخفض مستويات المعيشة بهذا القدر. ومع تصاعد معدلات الفقر والبطالة والحرمان من الخدمات الاجتماعية، انتعشت الجبهة القومية النازية وأصبحت أكثر رسوخاً في بريطانيا. وفي 1976 حصلت الجبهة على 44 ألف صوت في الانتخابات المحلية، أما الحزب القومي (وهو الحزب النازي الآخر في الموجود في بريطانيا) حصل على مقعدين في بلاكبرن. وفي 1977، حيث انتخابات المجلس الأعلى للندن، حصلت الجبهة القومية النازية على 119 ألف و63 صوت (أي 5% من الأصوات بدلاً من 0.5 % عام 1973)، واستطاعوا بذلك هزيمة الليبراليين في 33 دائرة انتخابية.

وفي أغسطس 1977 نظمت الجبهة النازية مسيرة في لويشام، تلك المدينة التي تقع جنوبي شرق لندن والمعروفة بالكثافة الكبيرة للسكان السود. استطاع 2000 عضو من حزب العمال الاشتراكي البريطاني تنظيم مسيرة شارك فيها 8000 شخص من العمال والشباب الذين كانوا أغلبهم من السود، والذين استطاعوا قطع الطريق على مسيرة الجبهة النازية وإيقافها.

كانت أحداث أغسطس 1977 في لويشام بمثابة قاعدة انطلاق لتأسيس اتحاد لمناهضة النازية في نوفمبر من نفس العام. وقد كان ذلك الاتحاد عبارة عن جبهة متحدة بين حزب العمال الاشتراكي وبعض نواب البرلمان على يسار حزب العمال الحاكم، وحظى الاتحاد بشعبية كبيرة جذبت الشباب المناهضين للفاشية. وحينما نظم الاتحاد أول احتفالية في أبريل 1979 قبل الانتخابات المحلية، فاق النجاح كل التوقعات، حيث شارك 80 ألف شخص في مسيرة طويلة بدأت من ميدان ترافالجار لتنتهي بحفل موسيقي في متنزه فيكتوريا على بعد 6 أميال. وقد نظم الاتحاد أيضاً، بالتعاون مع حركة مناهضة العنصرية، احتفاليات كبرى في مانشستر (حيث شارك 35 ألف شخص) وفي كارديف (5000 شخص) وفي إيدنبرج (8000) وساوث أمبتون (5000) وهارويتش (2000) وبرادفورد (2000) وفي لندن مرة أخرى (10 آلاف شخص). ونتيجة لكل ذلك المجهود، هبطت أعداد الأصوات التي أُعطت للجبهة النازية في الانتخابات؛ ففي ليدز هبطت الأصوات بنسبة 54%، وفي برادفورد 77%، وحتى في منطقة نفوذ الجبهة النازية جنوب شرق لندن فقد هبطت الأصوات بنسبة 40%.

تحت ضربات اتحاد مناهضة النازية، لم يستطع الفاشيون أن يحظوا بأي تأييد كما كانوا في السابق. ففي الانتخابات المحلية الأخيرة في انجلترا في 17 مايو 1998، كانت إجمالي الأصوات التي أعطيت لكل من الحزب القومي البريطاني والجبهة القومية، تقدر فقط بـ 3000 صوت. ويمكننا أن ندرك درجة الهبوط الكبير في جماهيرية أوالئك الفاشيين عندما نتذكر أن الجبهة القومية وحدها قد حصلت على 44 ألف صوت في انتخابات 1976، و119 ألفاً في انتخابات 1977.

تركزت سياساتنا في محاربة الفاشية على مسارين أساسيين: محاربة الفئران، وتطهير البالوعات التي تتكاثر فيها تلك الفئران. إن محاربة الفاشيين ليست كافية بالتأكيد، ولذلك علينا محاربة البطالة وتدهور الأجور والحرمان الاجتماعي الذي يخلق تربة خصبة لنمو وانتعاش الفاشية.

ماذا عن الفاشية اليوم؟!

لنقارن الآن تلك الأوضاع بفرنسا مثلاً. في انتخابات عام 1974، حصلت الجبهة القومية ذات النزوع الفاشي في فرنسا فقط على 0.74% من الأصوات، أما في 1981 فقد حصلت على نسبة أقل من الأصوات: فقط 0.5% منها. لكن مع وصول فرانسوا ميتران للرئاسة في انتخابات 1981، تغيرت الأمور بشكل كبير. كان قدر الإحباط هائلاً وتضاعفت نسب البطالة، وانتعشت الجبهة القومية في تلك الظروف كثيراً، وفي انتخابات 1984 حصلت على 11% من الأصوات، أي ما يُقدر بـ 2 مليون صوت. أما في 1986 فقد استطاعت الجبهة أن تحوز 35 كرسي في البرلمان الفرنسي، تماماً مثل الحزب الشيوعي. ظل نفوذ الجبهة القومية في اتساع متواصل خاصةً في المدن الصغيرة جنوبي فرنسا، حتى أنه في الانتخابات الأخيرة التي عقدت في يونيو 1997، حصلت الجبهة على 5 ملايين صوت، أي 15% من إجمالي الأصوات الانتخابية.

لكن السؤال المهم هنا هو لماذا انحدر نفوذ الجبهة القومية النازية في بريطانيا بشكل كبير، بينما انتعش نفوذها في فرنسا هكذا، وفي نفس الفترة الزمنية تقريباً؟ وذلك بالرغم من أن نسبة السكان السود في بريطانيا وفرنسا متماثلة. ونفس الشيء بالنسبة للبطالة، ففي فرنسا وبريطانيا تتراوح نسب البطالة بين 5 إلى 6%. والأغرب أن مستوى النضالات العمالية في فرنسا أعلى كثيراً من تلك التي في بريطانيا.

الفرق الذي أدى إلى صعود الجبهة القومية في فرنسا وتدهورها في بريطانيا هو ببساطة وجود اتحاد مناهضة النازية في بريطانيا، أما في فرنسا فإن المنظمة الرئيسية التي تناهض النازية فهي منظمة إس أو إس (SOS) التي تتذيل الحزب الاشتراكي الفرنسي، والتي يرفض زعيمها، هارليم ديزير، مواجهة الجبهة القومية بشكل مباشر تحت دعوى أن ذلك "سيصب في مصلحة لو بان". لذلك فإن الجبهة عندما تدعو للتظاهر فإن تلك مظاهراتها لا يتم مواجهتها من قبل إس أو إس.

كان دور ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، في إخصاء إس أو إس مركزياً في إنعاش الجبهة القومية النازية. ولا يمكن هنا أن ننسى أن ميتران نفسه كان مسئولاً كبيراً في حكومة مارشال بيتان أثناء الحرب العالمية الثانية، تلك الحكومة التي تعاونت مع النازيين الألمان أنفسهم في إرسال 70 ألف يهودي للإعدام في غرف الغاز. وبعدما أصبح ميتران رئيساً لفرنسا، يذهب سنوياً في ذكرة وفاة "بيتان" ليضع إكليلاً من الورود على قبره، باعتباره "قائد وطني كبير".















الفصل التاسع

اليهود وإسرائيل والهولوكوست*

قامت الثورة الفرنسية بتحرير اليهود. فبين عام 1789 – بدء الثورة الفرنسية – وبين وقت حدوث الوحدة في كل من ألمانيا وإيطاليا بعد مائة سنة من ذلك التاريخ تقريبا، كان الجيتو بأشكاله المادية والاقتصادية والثقافية قد اختفى، وأصبح أشخاص مثل ماندلسون وهاين وماركس – وكلهم يهود – شخصيات هامة في إطار الثقافة الألمانية. لكن على الجانب الآخر من القارة الأوروبية، انتشر العداء للسامية وكانت هناك مذابح منظمة ضد اليهود. حدث ذلك في روسيا القيصرية حيث كان الإقطاع منتعشا بينما كانت الرأسمالية الحديثة في مرحلة تطورها الأولى. لكن عندما أصبحت الرأسمالية قديمة وبالية، خاصة بعد الركود الكبير الذي حدث في ثلاثينات القرن العشرين، فقد تحولت ضد كل الانجازات الديمقراطية التي حققتها في صباها. آنذاك، لم يُدفع باليهود دخل الجيتو فقط، ولكن دُفع بهم أيضا داخل حجرات الغاز.

وبين تلك الفترتين، ظهرت حالة من العداء الشديد للسامية في فرنسا. ففي عام 1895، أتهم دريفوس – وهو قائد يهودي في الجيش – بالتجسس لصالح ألمانيا. وأدت هذه المحاكمة إلى حالة من الهستيريا ضد اليهود. وكانت هذه الموجة من العداء للسامية ناتجة عن المعركة الدائرة بين الإمبريالية الفرنسية الصاعدة من جهة، والإمبريالية الألمانية من جهة أخرى. وفي ذلك الوقت في باريس، كان هناك صحفي شهير قادم من فيينا هو ثيودور هرتزل. لخص هرتزل الوضع آنذاك بأن ذلك العداء للسامية كان شيئا طبيعيا ولم يكن من الممكن تجنبه. وقد كتب هرتزل في يونيو 1895: "في باريس، وكما قلت سابقا، توصلت إلى وجهة نظر حرة حول مسألة العداء للسامية، والتي بدأت أفهمها الآن من منظور تاريخي، وبالتالي أستطيع أن أغفر لها. والأهم من ذلك، لقد أدركت الصعوبة الشديدة ولا جدوى المحاولات اليائسة لردع العداء للسامية."

ولقد انتقد هرتزل إميل زولا وفرنسيين آخرين، خاصة من الاشتراكيين، الذين دافعوا عن دريفوس. واشتكى هرتزل من أن اليهود "يبحثون عن الحماية من خلال الاشتراكيين ومن خلال أولئك الذين يحطمون النظام المدني القائم.. إن هؤلاء لا يمكن اعتبارهم في الحقيقة يهودا، وهم ليسوا بفرنسيين أيضا. وغالبا سوف يصبحون زعماء الفوضوية في أوروبا."

ورأى هرتزل أن الرد على العداء للسامية يكمن في أن يترك اليهود، الذين لا ترغب الدولة الأوروبية في استضافتهم، تلك الدول ويؤسسون وطنهم الخاص بهم. ولتحقيق هذا الهدف، فلقد أعلن هرتزل، "إن المعادين للسامية سوف يصبحون أكثر الأصدقاء الذين يمكن الاعتماد عليهم.. إنهم سوف يصبحون حلفاؤنا." ولذلك، فقد ذهب هرتزل ليقابل بليفي – وزير الداخلية القيصري آنذاك – وهو أيضا الرجل الذي نظم مذبحة كيشينيف في عام 1903. وعلق هرتزل الطعم له بمحاولة إقناعه بأن مغادرة اليهود لروسيا سوف تضعف الحركة الثورية التي كانت خصما لدودا لبليفي.

إذن، إذا كان العداء بين اليهود وغير اليهود كما افترضه هرتزل طبيعيا ولا يمكن تجنبه، فبالتالي فإن العداء بين اليهود والعرب في فلسطين كان أيضا طبيعيا ولا يمكن تجنبه. بداية، قام هرتزل بتعريف الصهيونية بأنها "إعطاء دولة بدون شعب لشعب بدون دولة." وعندما لفت انتباهه حقيقة أن العرب يعيشون في فلسطين، أعتبر هرتزل بشكل تلقائي أن المهمة الرئيسية هي ببساطة التخلص منهم. وفي 12 يونيو 1895، كتب هرتزل، "إننا سوف نحاول أن نرفع معنويات ذلك الشعب الفقير خلف الحدود بأن نجد لهم أعمالا في دول الترانزيت، بينما سوف نرفض أن يعملوا في وطننا." ما أشد استفزازية هذه الجملة وتعبيرها عن الميل نحو التطهير العرقي!

انغلاق الاقتصاد الصهيوني

إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين مع نهايات القرن التاسع عشر لم يأملوا في تأسيس اقتصاد مشابه لاقتصاد البيض في جنوب أفريقيا. ففي جنوب أفريقيا، كان البيض هم أنفسهم الرأسماليين بينما كان السود هم العمال. أما الصهاينة فقد أرادوا أن يكون الشعب كله في فلسطين من اليهود. وبالأخذ في الاعتبار انخفاض مستوى معيشة العرب مقارنة بالأوروبيين والبطالة المنتشرة، فقد كان الطريق الوحيد لتحقيق هدف الصهاينة هو إغلاق سوق العمل اليهودي في وجه العرب. وكانت هناك وسائل متعددة لتحقيق ذلك.

فأولا، كان هناك ما يطلق عليه الصندوق القومي لليهود الذي كان مسيطرا على مساحات واسعة من الأراضي المملوكة لليهود، متضمنا على سبيل المثال مساحة كبيرة من تل أبيب. ولقد كان من قواعد هذه المؤسسة أن اليهود فقط هم الذين يمكنهم العمل في هذه الأراضي.

بالإضافة إلى ذلك، قامت فيدرالية اتحاد التجارة الصهيوني والهستدروت (الفيدرالية العامة للعمال اليهود) بفرض نوعين من الضرائب على جميع أعضائهما: الضريبة الأولى كانت من أجل الدفاع عن العمال اليهود، والضريبة الثانية من أجل الدفاع عن المنتجات اليهودية. كما قام الهستدروت بتنظيم إضرابات ضد ملاك المزارع الذين كانوا يوظفون عمالا من العرب، وذلك للضغط عليهم لطرد أولئك العمال العرب. وكان من السائد آنذاك في السوق اليهودي مشاهدة الكثير من الشباب الذين يبيعون الخضراوات والبيض جنبا إلى جنب مع السيدات، ولكن إذا ما اكتُشف أن أحدهم عربي، يأتي الشباب اليهود ويسكبون الكيروسين على الخضراوات التي يبيعها ويكسرون له البيض.

وأذكر أنه في عام 1945، كان هناك هجوم على إحدى مقاهي تل أبيب وتم تدميرها بالكامل، وذلك بسبب إشاعة بأن أحد عمال المطبخ الذين يغسلون الصحون كان عربيا. وأذكر أيضا أنني عندما كنت طالبا في الجامعة العبرية بالقدس في الفترة من 1936 إلى 1939، قامت عدة مظاهرات ضد الدكتور ماجنس – وكان نائب رئيس الجامعة. لقد كان هذا الرجل من اليهود الأمريكيين الأغنياء، ولكن جريمته كانت أنه كان يؤجر منزله من أحد الملاك العرب.

الاعتماد على الإمبريالية

لقد كان واضحا منذ البداية للصهاينة أنهم في حاجة إلى مساعدة القوى الإمبريالية التي كان لها نفوذا كبيرا في فلسطين في ذلك الوقت، وذلك لمعرفتهم بأنهم بصدد مواجهة كبيرة من جانب الفلسطينيين. وفي 19 أكتوبر من عام 1898، قام هرتزل بزيارة القسطنطينية من أجل أن يجد صدى لدى القيصر فيلهلم.

كانت فلسطين في ذلك الوقت تابعة للإمبراطورية العثمانية التي كانت بدورها شريكا لألمانيا. أخبر هرتزل القيصر بأن استقرار الصهاينة في إسرائيل سوف يزيد من النفوذ الألماني هناك. حيث أن مركز الصهيونية وقتها كان في النمسا التي كانت حليفا للإمبراطورية الألمانية. كما قام هرتزل بتعليق جزرة أخرى للقيصر قائلا: لقد شرحت قبلا أننا بذلك سوف نأخذ اليهود بعيدا عن القوى الثورية."

ومع نهايات الحرب العالمية الأولى، وعندما بات واضحا أن إنجلترا سوف تضم فلسطين، قام زعيم الصهاينة آنذاك حاييم وايزمان بالاتصال بالوزير البريطاني المفوض آرثر بلفور وأخذ منه في يوم 2 نوفمبر 1917 إعلانا يعد اليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين. ويبين السير رونالد ستورز – وهو أول حاكم عسكري في القدس – أن "التجارة الصهيونية قد عمت بخيرها عليه، وذلك لأنها أوجدت لإنجلترا أيرلندا شمالية أخرى، ولكنها يهودية هذه المرة، وذلك في وسط محيط من العداء العربي المتوقع."

ومع قدوم الحرب العالمية الثانية أصبح واضحا أن القوة العظمى في الشرق الأوسط لم تعد إنجلترا كما في السابق، ولكنها ستصبح الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما جعل بن جوريون – وهو الزعيم الصهيوني في تلك الفترة –يهرول إلى واشنطن من أجل بناء علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة. وبذلك ظهرت إسرائيل كالحليف التابع الذي يعتمد عليه بالنسبة للولايات المتحدة. وإنه ليس صدفة أن إسرائيل تحصل على مساعدات اقتصادية من الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى، على الرغم من صغر حجمها. كما أن إسرائيل تحصل على مساعدات عسكرية أكثر من أي دولة أخرى في العالم.

الهولوكوست

لقد تنبأ تروتسكي بالإبادة الجماعية التي سوف يتعرض لها اليهود عندما شهد وفهم مغزى النازية. وفي يوم 22 ديسمبر عام 1938، كتب قائلا: "إنه من الممكن التخيل بدون صعوبة ما ينتظر اليهود عندما تبدأ الحرب القادمة. ولكن حتى بدون الحرب فإن التطور المقبل لرد فعل العالم يشير بكل تأكيد إلى الإبادة الجسدية التي سيتعرض لها اليهود.. وأنه فقط من خلال التعبئة الجزئية للعمال ضد رد الفعل المتوقع، وتأسيس ميليشيا العمال والمقاومة الجسدية المباشرة للعصابات الفاشية، وزيادة الثقة بالنفس والنشاط والجرأة من جانب جميع المقهورين، هو وحده الذي سيدفع إلى تغيير علاقات القوى بعضها ببعض ويوقف هذه الموجة الفاشية التي تجتاح العالم، وهو أيضا الذي سيفتح فصلا جديدا في تاريخ الإنسانية."

وحتى وقت بداية الحرب العالمية الثانية كانت الغالبية العظمى من اليهود في العالم، وخاصة العمال اليهود، غير مساندين للصهيونية. وهكذا، فإنه في بولندا حيث كان يقطن أكبر تجمع لليهود في أوروبا في ذلك الوقت، قامت انتخابات المجالس في ديسمبر عام 1938 في وارسو ولودز وكراكو وليفوف وفيلانا وعدة مدن أخرى. وحصل البوند – وهي منظمة العمال اليهود الاشتراكيين المعادين للصهيونية – على 70% من الأصوات في الأقاليم اليهودية. وكسب البوند أيضا 17 مقعدا من 20 في وارسو بينما حصل الصهاينة على مقعد واحد فقط.

ولكن هذا الوضع تغير جذريا بعد حدوث الهولوكوست. فلا يوجد يهودي واحد في أوروبا لم يفقد أعضاء من أسرته في الهولوكوست. وإنني أذكر أنه في وقت قريب قبل الهولوكوست كانت لي عمة تعيش في مدينة دانزيج وجاءت لتزورنا في فلسطين. إنني لم أقابل أفراد عائلتها ولكنها وباقي أفراد عائلتها قد اختفوا جميعا في الهولوكوست. كما كان لي بنت عم أعرفها جيدا ذهبت لتعيش في أوروبا مع زوجها وطفلها البالغ من العمر خمس سنوات قبل بداية الحرب مباشرة، ثم قتلوا جميعا فيما بعد في غرف الغاز. وهكذا، تحول الغالبية العظمى من اليهود إلى صهاينة، وهذا وضع مفهوم جدا.

النكبة

إن هذا التعبير هو ما يستخدمه الفلسطينيون ليصفوا به قيام دولة إسرائيل في 1948. ومنذ ذلك الوقت، وفي الحروب الثلاثة التي قامت بين إسرائيل والعرب في 1948 و1967 و1973، كان هناك تطهير عرقي على مستوى واسع جدا ضد الفلسطينيين. واليوم يوجد 3,4 مليون لاجئ فلسطيني، وهو عدد أكبر بكثير من عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في المدن التي كانوا يعيشون بها من قبل. وتشير الأرقام الخاصة بملكية الأراضي إلى حجم الإبعاد والطرد الذين تعرض لهما الفلسطينيين: ففي 1917 كان اليهود يملكون 2,5% من الأرض في الدولة، وفي 1948 أصبحوا يملكون 5,7%، أما اليوم فهم يملكون 95% من أراضي ما قبل حدود 1967، بينما يملك العرب 5% فقط.

إنها حالة من أكثر الحالات مأساوية في التاريخ. حيث قامت جماعة مقهورة مثل اليهود – بعدما عانت أشد المعاناة من بربرية النازية – بقهر شعب مظلوم لم يكن منخرطًا على الإطلاق في فظائع الهولوكوست.

الحل

إن الفلسطينيين ليست لديهم القوة الكافية لتحرير أنفسهم بشكل منفرد. إنهم حتى لا يملكون القوة لتحقيق أي إصلاحات جادة. فالفلسطينيون ليسوا كالسود في جنوب أفريقيا الذين استطاعوا تحقيق إصلاحات هامة جدا. فالسود استطاعوا أن يتخلصوا من نظام التفرقة العنصرية، كما استطاعوا أن يكسبوا حق التصويت ثم ينتخبوا رئيسا أسود. والحقيقة أن العنصرية الاقتصادية ما زالت قائمة هناك حيث أن الثروة لازالت مركزة في أيدي مجموعة صغيرة من البيض إلى جانب عدد محدود من السود الأغنياء. أما الغالبية العظمى من السود فهي في فقر مدقع.

إلا أن السود في جنوب أفريقيا أقوى بكثير من الفلسطينيين. فأولا، عدد السود يفوق عدد البيض في جنوب أفريقيا بخمسة أو ستة أضعاف، بينما عدد الفلسطينيين مقارب جدا لعدد الإسرائيليين (حيث أن معظم الفلسطينيين يعيشون في الخارج كلاجئين). وثانيا، فإن العمال السود يحتلون قلب الاقتصاد في جنوب أفريقيا بينما يعتبر موقع العمال الفلسطينيين على هامش الاقتصاد في إسرائيل. كما أن نقابة العمال في جنوب أفريقيا، كوساتو، تعتبر نقابة ضخمة جدا استطاعت أن تلعب دورا محوريا في تحطيم نظام التفرقة العنصرية. أما الفلسطينيين فليس لديهم مثل هذه النقابة.

وإذا كانت هناك حالة تنطبق عليها نظرية الثورة الدائمة لتورتسكي أنطباقا تاما، فهي حالة فلسطين. فهذه النظرية تطرح فكرة أنه لا يمكن أن توجد مطالب ديمقراطية أو تحرر وطني بدون قيام الثورة العمالية. إن مفتاح الحل بالنسبة للفلسطينيين وكل الشعوب الأخرى في الشرق الأوسط يقع في دعم المقاومة على أيدي الطبقة العاملة العربية التي تتمركز بشكل رئيسي في مصر، وأقل قليلا في سوريا والعراق ولبنان والدول العربية الأخرى. وللأسف، فإن القوة الحقيقية للطبقة العاملة العربية لم تظهر حتى الآن كواقع ملموس، وذلك بسبب التأثير المدمر للستالينية والتي سيطرت على أوساط اليسار في الشرق الأوسط لفترة طويلة من الزمن. فالستالينيون هم الذين فتحوا الأبواب لحزب البعث ولصدام حسين في العراق الذي بدوره ساعد الأسد وحزب البعث السوري للوصول للسلطة. وهذا الحزب هو بالتالي الذي فتح الباب لعبد الناصر والإسلاميين فيما بعد للسيطرة والنفوذ في مصر.

إن قيام ثورة الطبقة العاملة العربية في الشرق الأوسط هي الوحيدة القادرة لأن تضع نهاية للإمبريالية والصهيونية. وإنه لمن النفاق القول أن هذه الثورة سوف تطيح باليهود في المنطقة. فعندما كان نظام الفصل العنصري مسيطرا في جنوب أفريقيا فإن أصدقاء النظام ادعوا أن المؤتمر الوطني الأفريقي يساندون ذبح البيض وفنائهم. ولكن هذا ما لم يحدث على الإطلاق.














الفصل العاشر
الدروس الهامة لمايو 1968

شكلت أحداث مايو 1968 في فرنسا إلهاماً خاصاً لكل الاشتراكيين عبر العالم. وصلت التظاهرات الطلابية واحتلال الجامعات إلى الذروة في 10-11 مايو (الليلة التي عُرفت بليلة المتاريس)، حيث وقعت مواجهات عنيفة بين آلاف الطلاب والعمال الشباب وسكان الحي اللاتيني من ناحية، وقوات مكافحة الشغب من ناحية أخرى. والأخيرة قد تلقت هزيمة مدوية على يد المتظاهرين.

الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان يحظى بتأييد جماهيري واسع، عارض حركة الطلاب حتى ليلة المتاريس. حينها رأى قادة الحزب أن أفضل طريقة لمواجهة تلك الموجة الطلابية هي أن يضعوا أنفسهم على رأس الحركة. وهكذا دعوا بمشاركة قادة النقابات إلى إضراب عام ليوم واحد في 13 مايو، وتوقعوا أن الإضراب سوف يستمر ليوم واحد كما كانت الإضرابات السابقة التي دعوا إليها. لكنهم كانوا مخطئين تماماً، وما حدث قد فاق كل التوقعات؛ حيث تم تنظيم مظاهرة هي الأكبر على الإطلاق شارك فيها مليون شخص بين طلاب وعمال. وفي يوم 14 مايو قرر عمال شركة سود للطيران في مدينة نانتس الدخول في إضراب مفتوح عن العمل، وفي اليوم التالي تمكنوا من احتلال المصنع. وفي 15 مايو تم احتلال رينو- كليو، وفي يوم 16 اتسع الإضراب إلى جميع مصانع العمال وقام عمالها باحتلالها، وتبع ذلك احتلالات واسعة النطاق في كافة المصانع الهندسية ومصانع السيارات والطائرات. وفي 19 مايو توقف الترام والبريد والتلغراف عن العمل نتيجة الإضراب، وتبعهم المترو وعربات النقل العام في باريس، وقد وصل الإضراب إلى المناجم والموانئ والمطارات، إلخ. وفي يوم 20 أصبح الإضراب عاماً اشترك فيه 10 ملايين عامل، وانضم أيضاً أناس لم يُسبق لهم ولم يكن يتخيل أحد أن يضربوا عن العمل: مثل راقصات الباليه ولاعبي كرة القدم والصحفيين والبائعات. كانت الرايات الحمراء تزين كل أماكن العمل التي يسيطر عليها الإضراب.

كان الرئيس الفرنسي ديجول في موقف مأزوم للغاية، ومن المضحك أنه عندما شرع في الدعوة للاقتراع العام في 24 مايو، لم يجد أي دار طباعة غير مضربة عن العمل، لطبع أوراق الاقتراع. وعندها لجأ ديجول لطباعة الأوراق في بلجيكا، وجاءت المفاجأة عندما رفض عمال الطباعة في بلجيكا طباعة أوراق ديجول تضامناً مع زملائهم في فرنسا.

وعلى الرغم من كل ذلك، انطفأت شعلة الإضرابات إلى لا شيء تقريباً. في 27 مايو، وقّع قادة النقابات اتفاقية مع الحكومة تقضي ببعض المكاسب الاقتصادية للعمال، مثل زيادة الأجور بنسبة 35%.

قام قادة النقابات بعد ذلك، بمباركة من الحزب الشيوعي، بالدعوة إلى إنهاء الإضراب العام، لكن انتزاع بعض الحقوق الاقتصادية قد شجع قطاعات من العمال لاستكمال تحركاتهم، ونظموا مظاهرة ضخمة في 30 مايو. وفي نفس اليوم حاصرت قوات الشرطة محطات التليفزيون والراديو، وألقت كل العمال الذين استمروا في احتلال المصانع خارج مصانعهم، كما هاجموا المظاهرات وقتلوا عاملين وطالب مدرسة.

إن تراث الأجيال الغابرة يعلق كالكابوس في أذهان الأحياء (ماركس)

كان لدى العمال الفرنسيين ولاءاً خاصاً للحزب الشيوعي، فأولاً وأخيراً، هناك جيلاً كاملاً من العمال قد تعلم وتدرب واكتسب كثيراً من الخبرة السياسية من خلال الحزب الشيوعي. في أواخر الحرب العالمية الثانية أثبت الحزب الشيوعي الفرنسي أن لديه هيمنة مطلقة على جماهير العمال. فعندما استطاع الجيش النازي الألماني هزيمة الولايات المتحدة وبريطانيا، وقام باحتلال باريس، نظم العمال –تحت قيادة الحزب الشيوعي- المقاومة المسلحة التي عُرفت باسم "ماكي"، واستطاعوا تحرير باريس. كان العمال المسلحون يسيطرون بالكامل على باريس. وعندما عاد موريس توريز، الأمين العام للحزب الشيوعي، من موسكو، أعلن تعليماته الشهيرة بأن على العمال المسلحين الاصطفاف خلف "بوليس واحد، وجيش واحد، ودولة واحدة". ولا ننسى أبداً أن البوليس الذي أشار إليه توريز هو نفسه الذي قد تعاون من قبل مع النازيين خلال الحرب. أطاع العمال تعليمات توريز سريعاً وسلموا كل الأسلحة.

أما خلال الأحداث الضخمة في مايو 1968، فقد كرر الحزب الشيوعي تأثيره السلبي على حركة العمال، لكن هذه المرة بشكل أكثر فجاجة.

لقد تحدثت من قبل عن مظاهرة المليون طالب وعامل في باريس. لم يكن الحزب الشيوعي يرغب في اندماج الطلاب والعمال معاً، في حين كان الطلاب يدفعون في طريق دمج تحركاتهم مع تحركات العمال. كان الطلاب أبعد ما يكونوا عن تأثير الحزب الشيوعي، كما كانت توجهاتهم السياسية في ذلك الوقت أكثر يسارية منه. أما الحزب، فقد نظم سلسلة طويلة من 20 ألف شخص ليفصل بها كتلة الطلاب عن العمال في تلك المظاهرة (!!).

تحدثت من قبل أيضاً عن احتلالات المصانع، هنا أيضاً لعب الحزب الشيوعي والنقابات الإصلاحية أكثر الأدوار سلبية على الإطلاق. ففي ذروة النضال دعوا العمال للعودة إلى منازلهم، وبالفعل استجاب 80 إلى 90% من العمال، واستمرت قلة من العمال في احتلال المصانع. وهكذا فإن العمال المعزولين في منازلهم قد فقدوا فرصة المناقشة حول الاستراتيجية والتاكتيك واتخاذ القرار بشكل جماعي حول ما يجب عمله، لقد فقدوا روح الحركة ذاتها.

كان للإضرابات لجان إضراب في كل مصنع، لكن تلك اللجان لم تكن منتخبة، بل تم تعيين أعضاءها من قبل الموظفين النقابيين، وبمباركة من الحزب الشيوعي أيضاً.

كان العمال يعارضون فض الإضراب العام الذي دعت إليه النقابات بموافقة وترحيب من جانب الحزب الشيوعي. ومن أجل تسهيل إنهاء الإضراب، كان القادة النقابيون يخبرون عمال أحد المصانع أن عمال مصنع آخر قد فضوا الإضراب، وكان يتم تكرار هذا التاكتيك الخبيث عدة مرات مع العمال في كل المصانع. وبما أن العمال لم يكن لديهم أي صلات ببعضهم عبر المصانع إلا من خلال اللجان النقابية التي كانت تخدعهم، فقد نجحت النقابات بالفعل في خديعة العمال وفض الإضراب العام.

دروس ثورة فبراير 1917

من أجل فهم التناقصات في وعي العمال الفرنسيين في مايو 1968، علينا أن ننظر إلى خبرة العمال الروس في ثورة فبراير 1917. نظم العمال أنفسهم في سوفيتات قاعدية في كل أرجاء روسيا، كما تشكلت مجالس للجنود وانتشرت في الجيش كله.

وصف لينين هذا الوضع بـ"السلطة المزدوجة"، حيث كانت سوفيتات العمال والجنود قوية، لكن في نفس الوقت كانت متوازية مع الحكومة المؤقتة التي مثلت البرجوازية الروسية. صحيح أنه كانت هناك مجالس للجنود، لكن الجنرالات الكبار كانوا يتحكمون في قرارات الجيش. صحيح أن السوفيتات كانت تعكس رغبة ملايين الروس في السلام، لكن الحرب الامبريالية قد استمرت. وصحيح أن اللجان العمالية كانت منتشرة في كل المصانع، لكن المصانع نفسها كانت مملوكة من قبل الرأسماليين. وصحيح أن الفلاحين كانوا منظمين في سوفيتات قاعدية، إلا أن الأرض ظلت في يد الإقطاعيين دون أن يفقدوا شبراً منها. كانت قيادة السوفيتات، المناشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين، ببساطة تؤيد حكومة البرجوازية وسياساتها.

مثلت ثورة فبراير قطيعة مع الماضي، لكنها لم تكن قطيعة تامة؛ فقد ظلت التناقضات مسيطرة على السوفيتات وعلى وعي الملايين الذين صنعوا الثورة بأيديهم.

لقد مثّل سوفييت بتروجراد مؤسسة جماهيرية جديدة ومبهرة على أرض الواقع، ولم تكن تحت قيادة البلاشفة في البداية، فيما سيطر الإصلاحيون الذين كانوا يميلون يميناً. بالنسبة لملايين الناس الذين طالما أيدوا القيصرية، كان القضاء على القيصرية قفزة كبيرة إلى اليسار، لكن ذلك لم يدفعهم بالضرورة لتبني البلشفية بشكل مباشر، بل توجهوا لتأييد المناشفة والاشتراكيين الذين نعتوا أنفسهم كذباً ثوريين. لقد أخذ الأمر أسابيع وشهور من النضال المتواصل كي يكسب البلاشفة تأييد سوفيتي بتروجراد وموسكو في سبتمبر 1917.

ليس لدينا هنا المساحة الكافية لشرح أحداث ثورتي فبراير وأكتوبر، لكن الأمر على كل حال لم يكن يسير في خط مستقيم باتجاه البلشفية. كان نفوذ البلاشفة يزداد في بتروجراد حتى نهاية يونيو 1917، أما في بداية يوليو فقد كانت الأمور تزداد سوءاً؛ حيث تم حظر الحزب البلشفي ومنعه من إصدار أي مطبوعات. اضطر لينين للتخفي والاختباء فيما كان تروتسكي مسجوناً. كان يوليو شهر الافتراءات على حد وصف تروتسكي، حيث كانت الصحف تهاجم لينين والبلاشفة بشكل هستيري وتتهمهم بالعمالة لألمانيا التي كانت منخرطة في الحرب ضد روسيا في الحرب العالمية الأولى وقتها.


ما بين 27 و30 أغسطس، نظم الجنرال كورنيلوف، قائد الجيش، محاولة للانقلاب العسكري. ومن داخل السجن، استطاع ليون تروتسكي تنظيم المقاومة للدفاع عن بتروجراد ضد كورنيلوف. وفي النهاية انهزم كورنيلوف• وأسرعت هزيمته من خطوات الجماهير نحو البلشفية. فبعد هزيمة كورنيلوف ببضعة أيام، حاز البلاشفة أغلبية الأصوات في سوفيتي بتروجراد وموسكو، وبعد بضعة أسابيع أخرى، اندلعت ثورة أكتوبر بقيادة البلاشفة.

لم تكن الثورة حدث يوم واحد، كانت عملية استغرقت وقتاً ليس قصيراً من الزمن، حيث كان العمال يقطعون مع الأفكار البرجوازية التي طالما هيمنت على وعيهم في السابق. وهذا لا يحدث بين ليلة وضحاها؛ فلوقت ليس قصيراً تستمر تناقضات الوعي في الوجود بين العمال. وبالتأكيد كان الشعار الذي تبناه البلاشفة منذ أبريل 1917 (الأرض، الخبز، السلام.. كل السلطة للسوفيتات) شعاراً جذاباً ومتماسكاً لحل كل المشاكل التي تواجه ملايين الفلاحين الذين أرادوا الأرض، وملايين الجوعى الذين أرادوا الخبز، والملايين الذين عذبتهم الحرب. كثيراً من العمال كانوا يقولون "بالتأكيد نحن نريد الأرض، لكن لابد أن ننتظر نهاية الحرب وحينها سيقرر البرلمان أن يمنحنا الأرض، وبالتأكيد نريد السلام، لكن لابد أن ننتصر في الحرب أولاً".

كان لدى الحزب البلشفي في مارس 1917 حوالي 23 ألف عضو، فيما حصل وقتها فقط على 2.5% من أصوات جماهير السوفيتات. ومع الوقت استطاع الحزب أن يكسب الجماهير على مواقفه الثورية.

أما في فرنسا 1968، كان حجم التروتسكيين، على يسار الحزب الشيوعي الفرنسي، شديد الضآلة: 400 عضو فقط في كل فرنسا. والماويون كانوا في حجم مشابه أيضاً. وقد كان ذلك أضعف كثيراً لتحدي سياسات الحزب الشيوعي الستاليني الذي ارتمى بكامله في أحضان الإصلاحية. فلو كان التروتسكيين بعشرات الآلاف، لكانوا قد استطاعوا خلال أحداث يوم 13 مايو أن يجادلوا ويدافعوا عن ضرورة التحام حركة الطلاب مع العمال، الأمر الذي لم يكن يرض عنه الحزب الشيوعي كثيراً. كانوا سيملكون القدرة على إقناع العمال بالاستمرار في احتلال المصانع وعدم العودة لمنازلهم، وانتخاب لجان إضراب قاعدية في المصانع لمواجهة السلطة... لو كان التروتسكيون وقتها في حجم البلاشفة في الثورة الروسية مثلاً، لكان سيبدو لهم صوتاً مسموعاً، ولكان ذلك قد ساهم في تحويل مجريات الأحداث.

مايو 68 القادم

إن انفجار اجتماعي واسع هو في الأغلب وشيك الحدوث في المستقبل. بالطبع لا يستطيع أحد التنبؤ متى سيحدث ذلك بالتحديد. لكن لنا هنا أن نتذكر مثالاً هاماً. قبل ثورة فبراير 1917 بثلاث أسابيع، كان لينين يتحدث إلى مجموعة من الشباب الاشتراكيين في سويسرا، وقد أنهى حديثه عن ثورة 1905 الروسية مؤكداً أن الشباب هم الذين سوف يشهدون ويقودون الثورة الروسية المقبلة، وليس الجيل القديم الذي ينتمي هو إليه. وقبل الثورة ببضعة أيام، بعث لينين خطاباً إلى صديقه إينيسا أرماند، وكتب فيه التالي "بالأمس حضرت اجتماعاً. أصبحت الاجتماعات ترهقني بشدة.. أعصابي ليست في حالة جيدة على الإطلاق.. الصداع يسيطر على رأسي.. انصرفت قبل انتهاء الاجتماع". لو كان لينين يعلم بأن الثورة سوف تقوم بعد بضعة أيام، هل كان سيشتكي بهذه الطريقة؟!

لا يمكن التنبؤ بنقاط التحول الهامة في التاريخ. لوقت طويل جداً من الزمن قد يسير التاريخ ببطء شديد، لعشرة أو عشرين سنة، لكن في يوم أو أسبوع قد تحدث تغيرات كبرى لم تشهدها أجيال سبقت.

ولا شك أن تناقضات الرأسمالية هي الآن أكثر حدة ووضوحاً من تلك التي كانت في 1968. وقد مثل ذلك العام نهاية لأطول فترة رخاء شهدتها الرأسمالية. ومنذ عام 1973، الكساد لا يفارق الرأسمالية، وهي اليوم تعيش حالة من عدم الاستقرار لم تعرفها في تاريخها، واستغلال العمال وغياب الأمان الاجتماعي يتزايد يوماً بعد يوم. لذا نحن ولا شك مقبلون على انفجارات اجتماعية كبرى.

لكن من أجل أن تنتهي تلك الانفجارات بانتصار العمال، فإن الحاجة إلى حزب عمالي ثوري تزداد إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى. حركة العمال العفوية مثل البخار، والحزب الثوري مثل المكبس. المكبس وحده لا قيمة له، والبخار وحده سوف يتبدد في الفراغ دون قيمة. ومن أجل انتصار العمال، فإن إعداد قيادة ثورية في القلب منهم أمر حاسم ولابد منه. هذا ما علمته إيانا أحداث مايو 1968، وبالتأكيد حملت لنا التجربة الكثير من الخبرة والتطلعات نحو المستقبل، لكنها أيضاً تنذرنا بما قد يحدث في حالة غياب قيادة ثورية تقود المظلمومين إلى النصر.


















الفصل الحادي عشر
الثورة الروسية

في 23 فبراير 1917، في ذكرى يوم المرأة العالمي، اندلعت الثورة ضد القيصر في روسيا. وفي اليوم التالي أضرب نحو 200 ألف عامل عن العمل في بتروجراد. وفي يوم 25 فبراير سيطر الإضراب العام على المدينة وقُتل عدد من العمال على يد قوات الجيش. وبعد ذلك بيومين تمرد الكثير من الحراس والجنود في كتائبهم ضد الضباط ورفضوا تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، وفي بعض الأحيان كان يتم قتل الضباط الذين يصدرون مثل هذه الأوامر من قبل جنودهم، وفي نفس اليوم، أدرك القيصر أن النهاية تقترب لذا تنازل عن السلطة. الأمر المثير للاهتمام هنا هو أن العمال قد أنشأوا، في اليوم السابق على تنحي القيصر، سوفييت ضخم يضم نواب منتخبين من العمال، تماماً مثل الذي أنشأوه في العاصمة في ثورة 1905. كانت كل أماكن العمل ترسل مندوبين ليمثلوها في السوفييت.

اتسمت تلك الثورة بالعفوية التامة من قبل الجماهير، أو على حد وصف تروتسكي.. "لم يكن يتخيل أحد أن يوم 23 فبراير يمكن أن يكون بداية للصراع الحاسم ضد الحكم المطلق".

كتب سوخانوف، المؤرخ الروسي الذي شهد ثورة فبراير أنه "لم يكن هناك حزب واحد مستعد بشكل مسبق لتلك الثورة". وحتى رئيس الأوخرانا، البوليس القيصري السري، قد كتب أن ثورة فبراير كانت "عفوية تماماً ولم تكن نتيجة تحريض أي من الأحزاب". كانت الأحداث ضخمة للغاية حيث خرجت الملايين لاقتحام المشهد السياسي لأول مرة، وفي ذلك الوقت كان الحزب البلشفي على هامش الحياة السياسية، حيث كان يضم ما يقرب من 23 ألف عضو فقط. حتى أنه في يوم 25 فبراير حينما قام البلاشفة بتوزيع منشور يدعو للإضراب العام، كان 200 ألف عامل في العاصمة مضربين عن العمل بالفعل، هكذا كان البلاشفة على الهامش من الزحف الجماهيري العملاق. وكانت أول انتخابات للسوفيتات قد كشفت أن البلاشفة يمثلون أقلية ضئيلة من إجمالي عدد المندوبين؛ فمن إجمالي 1500 أو 1600 مندوب، كان هناك 40 مندوب بلشفي، أي 2,5% فقط من إجمالي المندوبين.

السلطة المزدوجة

جنباً إلى جنب مع سلطة الحكومة المؤقتة بقيادة الأمير لفوف، كانت هناك سلطة السوفيتات التي أنشأتها الجماهير. كانت هناك إذن سلطة مزدوجة. لا يمكن بالتأكيد أن يستمر وضع كهذا لفترة طويلة، أحد طرفي السلطة لابد أن يسقط.

في البداية، كانت السوفيتات تؤيد حكومة لفوف. ويُذكر أنه في الجلسة الأولى للسوفيت كان يتم بحث قرار نقل السلطة بشكل كامل للحكومة المؤقتة، أي إلى البرجوازية، وقام 15 مندوب فقط بالتصويت ضد القرار. وهذا يعني أن حتى المندوبين البلاشفة الـ40 لم يعارضوا القرار كلهم. أما الأحزاب التي كان لها الثقل الأكبر في السوفيتات: المناشفة والاشتراكيين الثوريين، فقد اتخذوا مواقف متناقضة؛ حيث أيدوا سوفيتات العمال وفي نفس الوقت أيدوا الحكومة المؤقتة البرجوازية. لقد أرادوا السلام لكنهم أيدوا الاستمرار في الحرب. كانوا متعاطفين على مطالب الفلاحين في توزيع الأرض، لكنهم أيدوا حكومة تنطق بلسان كبار ملاك الأراضي وتمثل مصالحهم.

البلاشفة أنفسهم كانوا في البداية يتبنون مواقف في منتهى الارتباك. في 3 مارس مررت اتخذت اللجنة المركزية للحزب البلشفي في بتروجراد قرار بأن البلاشفة "لن يعارضوا سلطة الحكومة المؤقتة بقدر ما تستجيب الحكومة لمصالح البروليتاريا والجماهير الديمقراطية العريضة".

كان لينين، الذي لم يعد بعد من منفاه في سويسرا، في قمة الغضب عندما وصلته نسخة من جريدة البلاشفة، البرافدا، التي تعلن أن البلاشفة يؤيدون بشكل حاسم الحكومة المؤقتة "طالما ظلت تلك الحكومة تناضل ضد الرجعية والثورة المضادة"، متناسية أن أهم طرف في الثورة المضادة في ذلك الوقت هو الحكومة المؤقتة ذاتها.

لينين يعيد توجيه الحزب

في 3 أبريل 1917 عاد لينين إلى بتروجراد. وبينما كان البلاشفة يؤيدون ثورة فبراير والسلطة التي تمخضت عنها، كان لينين يستنكر هذا الموقف. وحينها أطلق لينين شعار "الخبز والأرض والسلام" و.. "كل السلطة للسوفيتات".

بالطبع يحاول الثوريون أن يؤثروا على توجهات الجماهير، لكن الأمر لا يمكن أن يسير في خط مستقيم طيلة الوقت؛ فتوجهات الجماهير، حتى وإن بدت متناقضة أو خاطئة، يمكن أن تؤثر على الثوريين أنفسهم. بعد ذلك بعدة أيام، قابل لينين اللجنة المركزية للحزب البلشفي في بتروجراد، فيما كان يحاول إقناعهم بأطروحات نيسان، تلك الأطروحات التي كتبها لشرح ضرورة أن تكون "كل السلطة للسوفيتات". ومن ضمن 16 عضو في اللجنة المركزية، قام عضوين فقط بالتصويت لصالح الأطروحات، و13 ضدها، وامتنع عضو واحد عن التصويت.

وعلى الرغم من تلك البداية المتشائمة، استطاع لينين كسب نسبة كبيرة من عضوية الحزب إلى وجهة نظره في وقت قصير نسبياً. وكان ذلك نتيجة كل تماسك لينين وقدرته على الإقناع، والخبرة اليومية لملايين من الناس خلال الأحداث الصاخبة للثورة، حيث استمرت الحرب وسقط فيها الآلاف من القتلى الروس، واستمر الإقطاعيون في استعباد الفلاحين الفقراء، بينما عاش الرأسماليون حياة مترفة في الوقت الذي عانى فيه العمال الفقر المدقع. في ظل كل تلك الأوضاع المتردية، قضى لينين شهراً لإقناع الحزب بوجهة نظره التي تثبتها مجريات الثورة.

أما من أجل كسب السوفييتات في هذا الطريق وعلى شعارات لينين، فقد استهلك ذلك وقتاً أطول. في بداية سبتمبر، استطاع البلاشفة حوز الأغلبية في سوفييت بتروجراد الذي أصبح ليون تروتسكي رئيساً له. وفي نفس الوقت حازوا الأغلبية في سوفييت موسكو الذي أصبح كامينيف رئيساً له أيضاً. ومنذ ذلك الحين، أصبح الطريق لانتصار ثورة أكتوبر ممهداً. وبينما كانت ثورة فبراير عفوية، تميزت ثورة أكتوبر بالتخطيط الدقيق.

في 10 أكتوبر، قررت اللجنة المركزية للحزب البلشفي الدعوة للانتفاضة المسلحة كي تستولى السوفييتات على السلطة. وبعد ذلك بثلاثة أيام صوّت الجنود في سوفييت بتروجراد لنقل كل السلطة العسكرية للجنة العسكرية الثورية التابعة للسوفييت والتي يترأسها تروتسكي. وفي 16 أكتوبر، وافقت أغلبية ساحقة من اللجنة المركزية، والهيئة التنفيذية لسوفييت بتروجراد، والمنظمة العسكرية، وأعضاء سوفييت بتروجراد، والنقابات العمالية، واللجان المصنعية، وعمال السكك الحديدية، على قرار الانتفاضة المسلحة. وفي 20 أكتوبر بدأت اللجنة العسكرية الثورية في الإعداد العملي. وفي يوم 25، بدأت الانتفاضة حيث استطاع تروتسكي تنظيم تلك اللجنة بشكل مبهر، تماماً مثلما فعل بعد ذلك في قيادة الجيش الأحمر للنصر في الحرب الأهلية التي اندلعت عقب انتصار ثورة أكتوبر.

ثورة أكتوبر كان مخطط لها جيداً، لذا لم يراق فيها الكثير من الدم مقارنة بأعداد الضحايا• الذين سقطوا في فبراير 1917.

لكن بعد الثورة، خلال الحرب الأهلية، فقد مئات الآلاف من الروس حياتهم. لم يكن ذلك بسبب الحكومة السوفيتية، بل بسبب غزو جيوش 16 دولة أوروبية للسلطة السوفيتية الظافرة. أما أن نلوم البلاشفة على ذلك، فكأننا بذلك نلوم شخص استخدم العنف ضد من يحاول قتله.

الثورة المنتصرة

خلال القرن العشرين اندلعت الكثير من الثورات التي لعبت فيها الطبقة العاملة أدواراً رئيسية. إلا أن فقط ثورة واحدة منهم –الثورة الروسية- قد انتهت بالنصر. ومرة بعد أخرى، نشهد ثورات نصف منجزة تثبت النبوءة الصائبة لسان جوست في الثورة الفرنسية الكبرى: "أولئك الذين يصنعون نصف ثورة، يحفرون قبورهم بأيديهم".

كانت الثورة الروسية 1917 استثنائاً لكل سلسلة الثورات نصف المنجزة، حيث لعب الحزب البلشفي دوراً محورياً في استكمال الثورة إلى النصر النهائي. أما الفارق بين النجاح والفشل، بين روسيا في أكتوبر 1917 والثورات العمالية الأخرى، هو أنه في الحالة الأولى كان هناك حزب ثوري قوي في قيادة الجماهير، بينما في الحالات اللاحقة كانت الأحزاب الثورية إما ضعيفة وهشة وإما غير موجودة بالمرة. وصحيح أن الثوريين لا يستطيعوا تحديد لحظة اندلاع الثورة الجماهيرية، لكنهم يدركون جيداً أن مصير الثورة يتوقف بشكل كبير على قوة واتساع الحزب الثوري الذي يبذلون جهودهم لبناءه.

"الطبقة العاملة، وليس الحزب الثوري، هي من تصنع الثورة. لكن الحزب الثوري يمكنه إرشاد الطبقة العاملة غلى النصر". هكذا يصف ليون تروتسكي العلاقة بين الحزب الثوري والطبقة العاملة. أو كما كتب في كلاسيكيته الشهيرة، تاريخ الثورة الروسية، أنه "بدون منظمة ثورية مرشدة، تتبدد طاقة الجماهير كما يتبدد البخار من صندوق المكبس إذا لم يكن محكم الغلق. لكن ما يحرك الأشياء في النهاية ليس الصندوق أو حتى المكبس، إنما البخار نفسه".

أراضي الإقطاعيين تم توزيعها على الفلاحين الفقراء، والمصانع تمت مصادرتها منقبل الدولة العمالية لتقع تحت السيطرة المباشرة للعمال. الأمم المضطهدة نالت حق تقرير المصير، وروسيا التي طالما كانت سجناً لتلك الأمم أصبحت فيدرالية يعيش فيها الناس أحراراً وسواسية.

لقرون عديدة، كانت معاداة السامية متوغلة في روسيا القيصرية، ويُذكر أنه تم ارتكاب 500 مذبحة في حق اليهود في العام 1881 فقط. لم يكن مسموح لليهود بالإقامة في العاصمتين، بتروجراد وموسكو، إلا بتصريحات خاصة وتحت قيود صعبة. بعد الثورة، تغيرت أفكار الروس بشكل جذري، حتى أن الجماهير الروسية قد انتخبت قادة ثوريين من أصول يهودية ليحتلوا مناصب ومسئوليات مهمة في الدولة العمالية المنتصرة، مثل رئيس سوفييت بتروجراد (ليون تروتسكي)، ورئيس سوفييت موسكو (كامينيف)، ورئيس الجمهورية السوفيتية (سفردلوف)، وبعدما تولى ليون تروتسكي قيادة الجيش الأحمر، تم انتخاب زينوفيف لرئاسة سوفييت بتروجراد، وكان هو الآخر يهودي.

كانت الثورة عيداً احتفل فيه كافة المضطهدين بالتحرر من أغلالهم. خلال ثورة 1917، وخلال الشهر العصيب الذي انتصروت فيه الثورة بشكل نهائي، كان الخطيب الثوري البارع، أناطولي لوناتشارسكي، يعقد لقاءات جماهيرية يحضرها 30 إلى 40 ألف شخص لسماعه وهو يتحدث لمدة ساعتين غلى ثلاث ساعات وهو يتحدث عن الأدب عند شكسبير والدراما الإغريقية، إلخ. أما في لندن، فكان عدد السكان أكثر أربعة أضعاف من سكان بتروجراد في ذلك الوقت، كما كان العمال البريطانيون أكثر تعلماً من الروس، لكننا لم نشهد لقاءات مثل تلك في لندن، ولم نقابل مثل تلك الحالة أبداً. ببساطة لأنه لم يكن هناك صعود ثوري بالقدر الذي كان في روسيا.

خطت أيضاً الحكومة السوفيتية أكثر الخطوات واتخذت أكثر الاجراءات تقدمية في سبيل تحرر المرأة: حق الطلاق ووحق الإجهاض، الذي تم منحه للمرأة للمرة الأولى في التاريخ. بجانب التربية الجماعية للأطفال. وجديرٌ بالذكر أن اول وزيرة في العالم كانت ألكسندرا كولونتاي التي انتخبت في منصب مفوض الشعب لشئون الأسرة عقب انتصار ثورة أكتوبر. كما أن كافة القوانين المعادية للشواذ والتخلص منها نهائياً.

هل حقاً قادت الثورة في روسيا إلى طغيان ستالين؟!

كثيراً ما نسمع تلك الحجة من قبل أولئك الذين ينتقدون الثورة الروسية. وإذا اعتبرنا أن طغيان ستالين واستبداده كانا نتاجاً طبيعياً للثورة الروسية، فإننا يمكن بنفس المنطق أن نعتبر أن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما كان نتاجاً طبيعياً لقانون نيوتن للجاذبية. بيد أنه لولا قانون الجاذبية لما سقطت القنبلة من الطائرة (!!)

على أي حال، لا يمكننا فهم صعود ستالين إلى السلطة، إلا إذا تناولنا الثورة الروسية في سياقها العالمي.

كانت الثورة الروسية جزء من الحالة الثورية التي ألمت بالعالم كله في ذلك الوقت. أما الطبقة العاملة الروسية فقد كانت صغيرة للغاية؛ حيث وصل عدد العاملين في المصانع والسكك الحديدية والمناجم إلى 3 ملايين من إجمالي 160 مليون هم عدد سكان روسيا ككل. ولم يتخطى الإنتاج الصناعي في روسيا الإنتاج الصناعي لدى بلد صغير مثل بلجيكا، لكن الطبقة العاملة الروسية كانت مركزة في وحدات صناعية كبيرة، أكثر من أي بلد في العالم، حيث وصل عدد العمال في مصنع واحد في مقاطعة فيبورج في العاصمة بتروجراد: مصنع بوتيلوف –أكبر مصنع في العالم في ذلك الوقت- إلى 40 ألف عامل. ولم يكن ذلك نتيجة التطور التدريجي للاقتصاد الروسي، لكن نتيجة دور رأس المال الأجنبي الذي استثمر في روسيا.

تبلورت أيضاً تطلعات العمال الروس خلال الظروف العالمية للحركة الثورية. على سبيل المثال، في بريطانيا، منذ بداية الإنتاج الصناعي، تطلب الأمر قرنين من الزمان حتى يتشبع العمال بمطلب تحديد يوم العمل بـ8 ساعات يومياً. بينما في روسيا، كان هذا المطلب مركزي بالنسبة لثورة 1905.

كما أن الماركسية لم تكن متأصلة في روسيا، فلم يكن آدم سميث روسي، ولم يتبعه ديفيد ريكاردو روسي، ولم يكن ماركس روسياً هو الآخر، بل وقد أتت الماركسية إلى الحياة السياسية في روسيا من الخارج. وجدير بالذكر أن الجزء الأول من كتاب رأس المال الذي قد نشر في 1867، قد تم ترجمته إلى الروسية بعد ست سنوات فقط من نشره، وكانت الروسية هي أول لغة يُترجم بها الكتاب. وأخيراً، أتى الحافز الأساسي للثورة الروسية من الخارج أيضاً، حيث انهيار الجيش الروسي أمام نظيره الألماني.

طالما حذر لينين وتروتسكي من انحدار السلطة السوفيتية إذا لم تنتشر الثورة في أجزاء أخرى من العالم، وبالأخص في ألمانيا التي لم تنتصر الثورة فيها وبالتالي لم تمتد يد العون لمساندة الثورة في روسيا.

أما ستالين، فلم يكن بأي حال وريثاً للثورة الروسية، لكنه حافر قبرها. لقد قتل كل زملائه في اللجنة المركزية للحزب البلشفي الذين خاضوا الثورة والحرب الأهلية وعاشوا بعدها. وهذه الحقيقة قد توضح أن ستالين ليس وريثاً للثورة بل حافر قبرها. ومن زاوية أخرى، لم تكن الستالينية وليدة لينين، لكن وليدة نوسكه، زعيم الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الذي خطط لاغتيال روزا لكسمبرج وكارل ليبكنخت، ولاغتيال الثورة في ألمانيا.


الفصل الثاني عشر
الرأسمالية والتسليح

في تركيا اليوم، يتم إنفاق نصف ميزانية الدولة على التسليح، حتى أن تركيا قد أصبحت قوة مسلحة كبرى في المنطقة. لكن هذا بسبب أن الحكومة التركية تدفع في سياسات التقشف والإفقار، وفي نفس الوقت تنفق أموالاً ضخمة لشراء الدبابات والطائرات الهيلوكوبتر.

وفي الأسبوعين الماضيين، أصبح الإنفاق على التسليح يحتل المساحات الأكبر حتى على صفحات جرائد رجال الأعمال. أحد الكتاب المشهورين قد كتب أننا من خلال حسبة بسيطة نستطيع أن ندرك أنه قد "أصبح لكل مواطن تركي نصف قرص أسبرين، وثلاث قنابل يدوية. لكل 100 ألف مواطن مركز طبي واحد، ودبابتين". أصبح الجيش التركي هو الأكبر في حلف الناتو –بعد الولايات المتحدة الأمريكية طبعاً- حتى بالرغم من أن الناتج المحلي لتركيا أصغر بكثير منه في ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا.

الدور المتغير لاقتصاد الحرب

طوال القرون السابقة، لعب اقصاد الحرب أدواراً مختلفة تبعاً لاختلاف المراحل التي مرت بها الرأسمالية. فمثلاً عندما كانت الرأسمالية في بداياتها، وعندما كانت تقدمية في مواجهة المجتمع الإقطاعي، كانت الجيوش تلعب أدواراً ثانوية وليست جوهرية في الاقتصاد، لكن الأمور تغيرت منذ بدأت الرأسمالية في الانحطاط. في ألمانيا عام 1933، وصلت البطالة إلى 8 ملايين عاطل، لكن بعد سنتين فقط اختفت البطالة تماماً أثناء عملية إعادة التسليح الضخمة للجيش النازي؛ حيث استوعبت المصانع الحربية أعداد ضخمة من العاطلين. حدث ذلك أيضاً في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول رأسمالية أخرى.

بعد الحرب العالمية الثانية، عملت الحرب الباردة على الحفاظ على جيوش ضخمة، أضخم بكثير مما كانت عليه في العشرينات وبداية الثلاثينات، لكن بالطبع أقل قليلاً مما كانت عليه أثناء الحرب. وهذا بالظبط ما أطلقنا عليه وقتها "اقتصاد الحرب الدائم" الذي عمل على استيعاب البطالة وحافظ على مستويات توظيف عالية، لكنه كان مليئاً بالتناقضات. في العام 1956، كنت قد كتبت مقالة تحت عنوان "اقتصاد الحرب الدائم"، وأوضحت فيها تلك التناقضات؛ حيث أنه صحيح أن اقتصاد الحرب يشجع التوظيف والقضاء على البطالة، لكن تلك الدول التي تنفق كثيراً على إنتاج السلاح تجد نفسها أقل قدرة على إعادة تدوير الصناعة وتحديثها من البلدان التي تنفق أقل على إنتاج السلاح. وقد اتضح ذلك بجلاء طوال فترة الستينات وبداية السبعينات، فالبلدان التي أنفقت أقل على التسليح، مثل اليابان أو ألمانيا الشرقية، كانت قادرة على إعادة التصنيع وتحديث الصناعة، أكثر بكثير من الولايات المتحدة وبريطانيا. هكذا مثلاً استطاعت اليابان وألمانيا الشرقية التفوق في صناعة السيارات والإلكترونيات وفي مجالات اقتصادية أخرى. وفيما بعد عندما انهار سعر الدولار، مصحوباً بارتفاع رهيب في أسعار النفط، اضطرت الولايات المتحدة وبريطانيا لتقليص ميزانياتهما العسكرية بشكل كبير.

العلاقة المعقدة بين الرأسمالية والتسليح

صحيح أن الجيوش تخدم الرأسمالية، لكن هذا لا يعني أن الجنرالات ليس لديهم مصالح خاصة ويريدون أحياناً فرضها على المجتمع. فإذا استأجر الرأسمالي بلطجياً للدفاع عن مصالحه، فإن هذا البلطجي لديه بالتأكيد مصالح خاصة يريد أن يفرضها على سيده.

القاعدة الأساسية في كل شيء هي العلاقات الاقتصادية، أما السياسة والعلاقات السياسية فهي البنية الفوقية لهذه القاعدة. لكن هذا لا يعني أيضاً أن البنية الفوقية ليس لها تأثير على القاعدة. الجنرالات الكبار في تركيا، على سبيل المثال، يريدون الحفاظ على جيش ضخم، أضخم بكثير مما يريده كثير من الرأسماليين الأتراك. وعندما وقع الزلزال في الشمال الغربي لتركيا، هرع الجيش سريعاً إلى المشهد، لكن ليس بالمجارف والبلدوزرات لإزالة الأنقاض وإنقاذ الناس الذين دفنوا تحتها، بل بالبنادق والدبابات لبسط السيطرة والانضباط. المشهد السابق يدلل على أن الجيش ببساطة له أجندته الخاصة التي يحاول بسطها على الجماهير كما على القوميات المضطهدة مثل الأكراد. وقد يكون المشهد مثالاً حياً لما نقصده بالعلاقة بين الرأسمالي والجنرال.

























الفصل الثالث عشر
الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية

في كل البلدان التي تفتقر إلى الديمقراطية السياسية – أي البلدان التي تهيمن عليها الملَكية المطلقة أو الجيش أو الفاشية أو قوة إمبريالية أجنبية – تكون الحاجة إلى الديمقراطية واضحة. ونحن الاشتراكيون الثوريون نناضل بجدية لتحقيق ذلك: نناضل من أجل الانتخاب الحر للحكومات القومية والمحلية، ومن أجل حرية الصحافة، ومن أجل حرية الاجتماع والتنظيم، ومن أجل حق تقرير المصير. لكن هذا كله ليس كافيا بالنسبة لنا.
أول سبب لأننا نرى أن هذا ليس كافيا هو أن اللا مساواة والاستغلال والاضطهاد يبقون جميعا على حالهم طالما ظلت الثروة في أيدي أقلية صغيرة من الرأسماليين. فبدون المِلكية الجماعية لوسائل الإنتاج، ليس فقط تظل اللا مساواة بين الفقراء والأغنياء مستمرة، ولكن أيضا، وبسبب المنافسة بين العمال على الوظائف وعلى المساكن وعلى الفرص التعليمية، تظل اللا مساواة داخل الطبقة العاملة مستمرة. وهذه الأرضية تنتج العنصرية ونزعة تحقير المرأة.
باستمرار سيطرة الرأسماليين على ثروة المجتمع تكون الديمقراطية السياسية أيضا مهددة، ويظل خطر عودة النظام السياسي القديم ماثلا، حيث أن حفنة ضئيلة من الرأسماليين تتحكم، ليس فقط في وسائل الإنتاج المادي، ولكن أيضا في وسائل الإنتاج الذهني مثل الصحافة والتليفزيون وغيرهما من وسائل الدعاية. ومن ناحية أخرى، لعله من المنطقي أن نعتقد أن جهاز الدولة الرأسمالي سيعضد الرأسماليين، إذ أن الجيش والبوليس والجهاز القضائي سيبقون على دعمهم للطبقة الرأسمالية. ومن ثم فلا يمكن ضمان الحقوق الديمقراطية إلا عندما تسيطر الطبقة العاملة على سلطة الدولة.
في نوفمبر 1918 تخلصت الثورة في ألمانيا من القيصر وأنهت الحرب العالمية الأولى. ولكن للأسف، ظل كبار أصحاب الإعمال، كـ"كروبس" و"ثايسن"، في مواقعهم، تماما كما ظل الجنرالات وضباط الجيش الرجعيين – الذين كونوا وحدات عسكرية يمينية أسموها "فريكوربس" – في مواقعهم. وأصبحت ازداوجية السلطة هي المهيمنة في ألمانيا. ذلك أنه جنبا إلى جنب مع البرلمان، كانت هناك المجالس العمالية.
كل الثورات لا تتخلص من أصفاد الماضي في ضربة واحدة. فجنبا إلى جنب مع الجديد، الذي يمثل المستقبل، يظل القديم حيا. وعلى حد قول ماركس: "تراث الأجيال الميتة" يظل مسلّطا على الأحياء. الأحداث في ألمانيا تؤكد تماما الكلمات النبوئية لـ"سان جوست"، أحد قادة الثورة الفرنسية 1789: "أولئك الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبرهم بأيديهم". فتحت مظلة الحكومة الاشتراكية الديمقراطية، قتل ضباط الفريكوربس القائدين الثوريين كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورج. ثم استمرت الأحداث الثورية، صعودا وهبوطا، حتى 1923، ولكنها انتهت بانتصار الرأسمالية. فالحركة النازية ولدت عام 1919، ثم نظمت في 1923 انقلابا فاشلا في بافاريا، ولكنها كانت تتحين الفرصة [إلى أن اقتنصتها]. كانت هذه، بالمقابل، فرصة ضائعة أخرى للعمال، وسوف يدفعون ثمنها غاليا حينما يصل هتلر إلى السلطة.
شهدت فرنسا في الثلاثينات صعودا هائلا في نضال الطبقة العاملة بدأ في فبراير 1934 ووصل إلى ذروته في 1936 في انتصار حاسم للجبهة الشعبية التي كانت تمثل تحالفا بين الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والليبراليين – الذين كانوا يسمون خطأ الاشتراكيين الراديكاليين، وهم لم يكونوا راديكاليين أو ديمقراطيين. وبعد الانتصار، قال ملايين العمال لأنفسهم "الآن نحن نمتلك الحكومة، هيا بنا نسيطر على المصانع". وهكذا ففي يونيو 1936 اندلعت موجة من احتلالات المصانع. ولكن قادة الحزبين الشيوعي والاشتراكي قادوا تراجعا بعد الوصول إلى حل وسط مع أصحاب الأعمال. بعد ذلك تم القذف بالحزب الشيوعي خارج الجبهة الشعبية. وقد كان الاشتراكي الراديكالي دالادييه هو نفس الشخص الذي وقع اتفاقية ميونخ مع هتلر عام 1938. أما البرلمان الذي تم انتخابه في ظل الانتصار الكبير للجبهة الشعبية عام 1936، فقد كان هو نفس البرلمان الذي صوت بالتأييد للمارشال بيتان، رئيس حكومة فيجي التي تواطأت مع النازيين بدءا من عام 1940.
عندما نالت إندونيسيا استقلالها عن هولندا في 1949، تولى البرجوازي الوطني أحمد سوكارنو قيادة البلد. كانت أيديولوجيته ترتكز على مبادئ الـ"بانكاسيلا"، وأسسها الرئيسية هي الإيمان بالله وبالوحدة الوطنية. للأسف الشديد لم يقم الحزب الشيوعي بتحدي سوكارنو، بل على العكس اتفق معه تماما على الحاجة إلى الوحدة الوطنية. وكانت النتيجة أن كلمات سان جوست تحققت. كان لدى الحزب الشيوعي الإندونيسي من الأعضاء ما يفوق بكثير عدد أعضاء الحزب البلشفي وقت الثورة: ثلاثة ملايين عضو في مقابل ربع مليون عضو. الطبقة العاملة الإندونيسية كانت أكبر من الطبقة العاملة الروسية عشية الثورة. الفلاحون كانوا أكثر عددا في إندونيسيا منهم في روسيا. ولكن في 1965 نظم جنرال عيّنه سوكارنو، اسمه سوهارتو، انقلابا بدعم الولايات المتحدة وحكومتي حزب العمال في بريطانيا واستراليا. والنتيجة أن ما بين نصف مليون ومليون شخص تم ذبحهم.
الشرق الأوسط هو منطقة أخرى رأت اضطرابات كبرى هزت النظم القائمة، ولكنها فشلت في تحقيق أي خطوة كبرى للأمام. في العراق، تم إسقاط الملك فيصل في [1958] على يد حركة جماهيرية. الحزب الشيوعي العراقي كان حزبا قويا جدا، كان هو الحزب الشيوعي الأكثر قوة في العالم العربي. دخل الحزب في تحالف مع حزب البعث البرجوازي الوطني. فقد آمن – تحت قيادة ستالينية – بأن الثورة القادمة ستكون ثورة ديمقراطية، وهو الأمر الذي يتطلب تحالفا بين الطبقة العاملة والأحزاب البرجوازية. غير أن تحالفا كهذا، كان يعني عمليا، خضوع العمال للبرجوازية. وقد دفع أعضاء الحزب الشيوعي والعمال ثمنا باهظا لهذا التحالف، حينما نفذ البعث، تحت قيادة صدام حسين وبمعاونة المخابرات المركزية الأمريكية، مذبحة كبرى للشيوعيين.
وفي إيران، أدى الإضراب العام إلى الإطاحة بالشاه في عام 1979. وانتشرت مجالس الشورى (مجالس العمال) في طول البلاد وعرضها. ولكن للأسف الشديد، رأت قيادة هذه المجالس – وكانت في الأغلب الأعم من حزب" توده" الموالي لموسكو ومن الفدائيين – الثورة كثورة برجوازية ديمقراطية وليس كثورة بروليتارية، ومن ثم أعطت تأييدها لإنشاء الجمهورية الإسلامية. وهكذا وصل آية الله خوميني للسلطة، ولكنه لم يُظهر أي امتنان لتوده أو للفدائيين، وأخضع اليسار إلى قمع دموي.
يمكن الإشارة إلى عدد آخر من الثورات المجهضة، مثل المجر 1919 و1956، وألمانيا 1923، والصين 1925-1927، وأسبانيا 1936، وفرنسا 1968، والبرتغال 1974- 1975.
إن التجاور بين الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية، ثم إعطاء الأولوية للأولى، لم يكن أمرا يخص القادة الاشتراكيين الديمقراطيين فحسب، ولكنه كان أيضا الخط المرشد للقيادات الستالينية في طول العالم وعرضه.
مثلت الثورة الروسية في عام 1917 استثناء من هذه الثورات "نصف المنجزة". فقد خلقت ثورة فبراير 1917 وضعا جديدا مثيرا: القيصر تنحى وانتهت قرون من الملكية، تم حل البوليس، ونشأت في كل مصنع لجان مصانع. وفي كثير من وحدات الجيش ظهرت للوجود لجان قاعدية، ونشأت سوفيتات العمال والجنود في كل مكان.
ولكن بعد الثورة في فبراير 1917، وفي موازاة السوفيتات، استمرت المؤسسات القديمة في الوجود. في المصانع استمر الملاك القدامى والمديرون القدامى في الاحتفاظ بمواقعهم. وفي الجيش ظل الجنرالات في مواقع القيادة – قائد الجيش كان الجنرال كورنيلوف الذي كان قد عينه القيصر. في موازاة السلطة السوفيتية كانت هناك حكومة برجوازية يرأسها سياسي ليبرالي من أيام القيصرية. هذا الوضع، الذي أسماه لينين وتروتسكي "ازدواجية السلطة"، كان مليئا بالتناقضات.
وبالرغم من طبيعة السوفيت، فقد توسل قادته للبرجوازية أن تحتفظ بالسلطة. غالبية مندوبي السوفيت كانوا اشتراكيين يمينيين، مناشفة واشتراكيين ثوريين. لم تكن هذه صدفة، بل كانت نتيجة حتمية لوضع انتقل فيه ملايين الناس إلى اليسار، ولكنهم ظلوا يحملون الكثير من المتاع الإيديولوجي للماضي القيصري. وبالنسبة لملايين من الناس كانوا حتى تلك اللحظة يؤيدون القيصر والحرب، لم يكن الانتقال إلى اليسار يعني الانضمام الفوري إلى أكثر الأحزاب راديكالية، أي الحزب البلشفي. الرجل القوي للمناشفة، تسيريتيللي، الذي أصبح وزيرا للداخلية في الحكومة البرجوازية المؤقتة، شرح السبب وراء حتمية الوصول لحل وسط مع البرجوازية قائلا: "لا يمكن أن يكون هناك طريق آخر للثورة. إنه لمن الحقيقي أن لدينا كل السلطة، وأن الحكومة سوف تنتهي إذا ما رفعنا إصبعا، ولكن هذا سوف يعني كارثة للثورة".
عندما عاد لينين إلى روسيا من سويسرا في الثالث من أبريل [1917]، كان في استقباله آلاف من العمال والجنود في محطة فنلندا في بتروجراد. تشخيدزه، رئيس سوفيت بتروجراد، رحب به بهذه الكلمات: "أيها الرفيق لينين، باسم سوفيت بتروجراد وباسم الثورة كلها نرحب بك في روسيا .. ولكن نحن نعتقد أن المهمة الرئيسية للديمقراطية الثورية الآن هي الدفاع عن الثورة ضد أي انتهاكات سواء من الداخل أو من الخارج. نحن نعتبر أن ما يتطلبه هذا الهدف ليس التحرك في اتجاه الفرقة، ولكن التقارب في الصفوف الديمقراطية. نحن نأمل أنك سوف تسعى إلى هذه الأهداف بالمشاركة معنا". وفي المقابل دعا لينين في رده إلى مواصلة الثورة على أساس أن الثورة الروسية هي جزء لا يتجزأ من الثورة الأممية العالمية. رد فعل المناشفة على خطبة لينين كان معاديا إلى أقصى حد. وعلى ذلك أعلن جولدنبرج، وهو عضو سابق في اللجنة المركزية للحزب البلشفي، أن "لينين جعل من نفسه الآن مرشحا لعرش أوروبي ظل خاويا على مدى ثلاثين عاما – عرش باكونين! كلمات لينين الجديدة تردد أصداء شيئا قديما – الحقائق العتيقة للفوضوية البدائية".
لم يكيف لينين نفسه مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين، الذين كانوا بمثابة تجسيد للديمقراطية البرجوازية الصغيرة، لكنه سار باستقامة وراء دعوة ماركس في أيام ثورة 1848 في فرنسا وألمانيا: أن تكون مستقلا تماما عن المعسكر الديمقراطي البرجوازي الصغير. كتب ماركس: "على العمال الألمان ... أن يسهموا بشكل رئيسي في تحقيق نصرهم النهائي، وذلك بتذكير أنفسهم بمصالحهم الطبقية الخاصة، وباتخاذ موقفهم السياسي المستقل في أقرب فرصة ممكنة، وبعدم السماح لأنفسهم بأن يتم تضليلهم بواسطة العبارات المنافقة للديمقراطية البرجوازية الصغيرة في اتجاه الشك ولو للحظة واحدة في ضرورة وجود حزب مستقل التنظيم للبروليتاريا. صيحة حربهم لابد أن تكون: "الثورة الدائمة".
بعد أيام، وأسابيع، وشهور من الأحداث العاصفة، نجح البلاشفة في أن يكسبوا غالبية العمال. ففي التاسع من سبتمبر ناصر سوفيت بتروجراد البلشفية وتم انتخاب تروتسكي رئيسا له. وفي نفس اليوم حقق البلاشفة الأغلبية في سوفيت موسكو. ومن هذه النقطة لم يكن باقيا إلا خطوة صغيرة حتى يتم تحقيق سلطة العمال، وهذا ما حدث في السابع من نوفمبر 1917.
الطبقة العاملة، وليس الحزب، هي التي تصنع الثورة. ولكن الحزب يرشد الطبقة العاملة. وكما كتب تروتسكي بذكاء: "بدون منظمة مرشدة ستتبدد طاقة الجماهير كما يتبدد البخار إذا لم يتم ضخه في المكبس. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الذي يحرك الأشياء ليس هو المكبس، بل البخار ذاته".
الفارق بين النجاح والفشل، بين روسيا في أكتوبر 1917 والثورات العمالية الأخرى، كان أنه في الحالة الأولى وُجد حزبا ثوريا جماهيريا وفّر القيادة الناجحة. وفي حين أن الاشتراكيين لا يمكنهم تحديد اللحظة التي تنفجر فيها الأزمة الثورية، فإنهم يحددون النتيجة النهائية للأزمة بمقدار ما يقومون ببناء حزبا ثوريا قويا.
جرت عادة" كاتو" الأكبر، أحد أعضاء مجلس الشيوخ بروما القديمة، أن ينهي كل خطبه بالكلمات الآتية: "لابد من تدمير قرطاج". وفي نهاية المطاف، دمرت روما قرطاج. ونحن ينبغي أن ننهي كلامنا بهذه الكلمات: "لابد من بناء الحزب الثوري".





الفصل الرابع عشر
الماركسية والديمقراطية

في تركيا، هناك اعتقاد واسع الانتشار بين الناس أنه إذا انضمت البلد للاتحاد الأوروبي، فإن تطبيق الديمقراطية سيكون أمر مضمون. قبل الرد على هذه النقطة بالتحديد، سأحاول رسم صورة أوسع لما تكون عليه العلاقة بين الديمقراطية والتغيير الجذري للمجتمع.

عُرفت كلمة الديمقراطية في الأصل من حضارة أثينا القديمة، والكلمة تعني "حكم الشعب". وعلى الرغم من المعنى الواضح للكلمة، إلا أنه لم يكن مسموحاً لا للعبيد ولا للنساء ولا للسكان غير الأثينيين، بالتصويت.

الاقتراع العام هو الآخر لا يضمن حكم الشعب. وللعلم بالشيء، أول من استخدم هذا الأسلوب كان نابليون الثالث، وعن طريقه استطاع بسط ديكتاتوريته على أي استفتاء آخر. نفس الشيء بالنسبة لبسمارك، الذي يُعتبر أول من أدخل الاقتراع العام في ألمانيا، فقد استخدم هذا الأسلوب لتوطيد سلطة القيصر والأمراء لتحطيم تحركات الاشتراكيين في برلين.

وإذا نظرنا إلى بعض الدول الرأسمالية الديمقراطية مثل بريطانيا، فرنسا أو ألمانيا، نجد أن الاقتراع العام يُستخدم في كثير من الأشياء، كما أن أعضاء البرلمان يتم انتخابهم ديمقراطياً، لكن الديمقراطية على هذا النحو، هي ديمقراطية شكلية وضحلة. بيد أنه صحيح أن أعضاء البرلمان يتم انتخابهم، لكن القضاة، قادة الشرطة والجيش، إلخ، لا يتم اختيارهم على أساس ديمقراطي. كما أن الناس ليس لهم الحق في اختيار رئيسهم في العمل، وليس لهم الحق في عزله إذا أرادوا.

دائماً يخبروننا أن الرأسماليون والعمال هم سواسية في عيون القانون. فعلى سبيل المثال، الرأسمالي مثله مثل أي عامل له فقط صوت واحد في الانتخابات. وفي بريطانيا جرت العادة أن يضرب أولئك الذين يدافعون عن الديمقراطية البرجوازية، المثل بالسيد روبرت موردوتش، رجل الأعمال الذين يمتلك 4 مؤسسات صحفية تصدر جرائد واسعة التوزيع، إلا أنه بالرغم من ذلك ليس له الحق في التصويت نظراً لأنه يحمل الجنسية الأمريكية.

لكننا إذا نظرنا على الجانب الآخر، سنجد أن الصورة مغايرة تماماً؛ فكل عامل في بريطانيا يدفع 23% من راتبه كضرائب، و10% كتأمين اجتماعي، بينما يدفع السيد موردوتش 0.5% فقط من أرباحه للضرائب. هكذا فإن الرأسمالي والعامل متساوون في عين القانون لكنهم ليسوا كذلك فيما يخص الحقوق الاقتصادية.

وقبل كل شيء، فإن الديمقراطية بمفهومها السائد وبالشكل الذي تُمارس به في المجتمعات الرأسمالية، لا تستطيع الحد من الاضطهاد القومي أو العرقي، إلخ. في زيمبابوي على سبيل المثال، فإن السكان البيض الذين يبلغ عددهم 200 ألف فقط من إجمالي السكان، ينعمون بكامل الحقوق الديمقراطية، لكن ذلك لا يوقف الاضطهاد الواقع على السكان الـ 5 ملايين السود في هذه البلد. بل على العكس فإن ذلك يوطد وحدة السكان البيض ضد السود.

يقولون أن اسرائيل دولة ديمقراطية، لكن هذه خدعة كبرى. فكونها ديمقراطية لم يعني في يوم من الأيام أن الثلاثة ملايين فلسطيني الذين تم طردهم من أرضهم وديارهم لهم الحق في العودة مرة أخرى، أو الحق في تقرير مصيرهم. المعيار الحقيقي للديمقراطية الشعبية هو إلى أي مدى يتحكم المضطَهدون في السلطة.

في 1902 كان لينين يشرح كيف أن العامل عندما يخوض إضراباً عن العمل من أجل زيادة الأجور فإنه بذلك مناضل نقابي جيد، أما عندما يخوض إضراباً احتجاجاً على الاعتداء على اليهود فهو بذلك اشتراكي ثوري بحق. كما أكد لينين مراراً وتكراراً أن الثوريين يجب أن يكونوا سنداً لكافة المضطهدين. ففي البلد الذي يسود فيه اضطهاد قومي، يصبح واجباً مركزياً على الاشتراكيين الذين ينتمون للأمة التي تمارس الاضطهاد أن يدافعوا عن ويناضلوا من أجل حق تقرير المصير للأمة المضطهَدة. ومن أجل تحقيق الوحدة بين العمال في الأمة المضطهَدة والأمة المضطهِدة، يكون من الضروري في هذه الحالة أن يؤكد عمال الأمة المضطهِدة على حق تقرير المصير للأمة المضطهَدة، بينما يكون من الضروري أن يتمسك عمال الأمة المضطهَدة بالوحدة النضالية مع عمال الأمة المضطهِدة، ضد الاستبداد والقهر والاستغلال. إن الضرورة القصوى التي تفرض هذه الوحدة النضالية هي أن الاضطهاد القومي يفتت وحدة الجماهير، والعمال في القلب منهم.

في الولايات المتحدة مثلاً، يتميز العامل الأبيض عن العامل الأسود كثيراً في الوظيفة والأجر والإسكان، إلخ، وهذا ما يمكن ملاحظته في تكساس مثلاً أكثر من نيويورك. وإذا نظرنا إلى الأمر بشكل سطحي، سنكتشف بسهولة أن العامل الأبيض يستفيد من الاضطهاد الواقع على السود. لكننا ما يفضح الأمر برمته هو أن العامل الأبيض في نيويورك يشغل وظيفة ويتقاضى أجراً ويسكن منزلاً أفضل كثيراً من مثيله في تكساس، وحتى العامل الأسود في نيويورك يعيش أفضل كثيراً من العامل الأبيض في تكساس. ومن هنا فإننا لا نجد أدنى قدر من المساواة في الحقوق بين العمال البيض وزملائهم السود، والديمقراطية في هذا المجتمع الرأسمالي لا تستطيع الوقوف ضد هذا الظلم.

ولذا فإن الطريق الوحيد الذي يضمن ديمقراطية شعبية حقيقية هو نضال العمال الموحد باختلاف الجنس والعرق واللون والديانة.

سأضرب مثالاً آخر: عندما شاهدت في التليفزيون الآثار المدمرة للزلزال الذي وقع في الشمال الغربي لتركيا العام الماضي، علمت أن الزلزال قد دمر الأحياء الفقيرة التي يسكنها الأتراك والأكراد الفقراء على حد سواء، أما منازل أصحاب الثروة لم تتأثر بالزلزال. المشهد أوضح أيضاً دور الجيش التركي (ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة). فالجيش قد هرع سريعاً بالبنادق والدبابات لحفظ النظام والانضباط، وليس بالجرافات والبلدوزرات لانتشال الضحايا من تحت الركام.

إن أنظمة التعليم كلها مبنية على أساس أن التاريخ تصنعه الطبقات العليا. لقد علمونا في المدارس الكثير عن الملوك والأباطرة وقادة الجيوش، لكنهم لم يعلمونا شيئاً عن الفقراء والطبقات الكادحة. لذا فإنه من الوهم أن نظن أنه بمجرد جلوس رئيس الوزراء التركي مع توني بلير وجرهارد شرودر فإن ذلك يمكن أن يعزز الديمقراطية. ومثل هذا الوهم يجب أن نمحيه تماماً؛ فالديمقراطية الحقيقية لن تتحقق إلا بالنضال الجماعي والموحد للطبقات الكادحة. والطبقة العاملة لا يمكن أن تنتصر وتحوذ السلطة من خلال القيام ببعض الخدع من خلف ظهر التاريخ. لكن فقط من خلال الصراع الطبقي. وكما وضح ماركس من قبل: "فإن تحرر الطبقة العاملة هو من صنع الطبقة العاملة".



































الفصل الخامس عشر
هل الثورة العالمية ممكنة؟

إن الطبقة العاملة الصناعية في كوريا الجنوبية اليوم أكبر من الطبقة العاملة في العالم كله عندما توفى ماركس عام 1883. العمال في العالم أكثر عدداً من الفلاحين، كما أن الوزن الاجتماعي والسياسي للطبقة العاملة أكبر من جماهير الفلاحين بما لا يُقاس. وبينما يعمل العمال في وحدات إنتاجية ضخمة وفي بعض الأحيان يعمل عشرات الآلاف منهم في نفس الشركة الرأسمالية، يعمل الفلاحون في عزلة عن بعضهم حيث تعمل كل عائلة في قطعة أرض خاصة بها.

لقد جادل ماركس بأن الثورة تصبح ضرورة عندما تتناقض قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج، أي عندما تتناقض مع النظام والهيكل الاقتصادي القديم.

في بداية الرأسمالية، لم تكن البرجوازية تقدمية فقط، بل كانت ثورية أيضاً، حيث قاتلت بضراوة ضد الإقطاع وحطمت قيوده. في القرن السابع عشر، قامت البرجوازية الإنجليزية بثورة استطاعت من خلالها بناء نظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ونفس الشيء قامت به البرجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر. وبعد الثورة الفرنسية بسنوات قليلة، أعلن الرأسماليون في المستعمرات البريطانية في أمريكا استقلالهم، وهكذا ولدت الولايات المتحدة.

ومن الواضح أن علاقات الإنتاج الرأسمالي اليوم تشكل عائقاً أمام تطور قوى الإنتاج. هناك بعض الحقائق التي تشرح ذلك ببساطة، مثل أن هناك مئات الآلاف، إن لم نقل ملايين، من عمال البناء معطلين عن العمل، في نفس الوقت الذي لا يجد فيه مئات الملايين من البشر مساكن تأويهم!!. ملايين من الناس يعانون الجوع، ليس بسبب ندرة الغذاء، لكن لأنهم ليس لديهم أموال ليشتروا بها الطعام.

كان انتصار البرجوازية على السادة الإقطاعيين أمر حتمي. كان الرأسماليون أكثر ثراءاً من الإقطاعيين، وعندما كانت ثروات الرأسماليين تتضاعف، كانت ثروات الإقطاعيين تتضائل. وما قد يثبت تفوق الرأسماليين هو أنه عندما كان النبلاء يصطدمون بمصاعب اقتصادية فإنهم كانوا يلجأون لزواج أخوات الرأسماليين. وحتى على المستويين الثقافي والعلمي، كانت البرجوازية متفوقة على الإقطاعيين بمراحل: النبلاء لديهم الإنجيل والكنيسة والرهبان، والبرجوازيين لديها الموسوعة والجامعات والعلماء.

أما علاقة الطبقة العاملة بالرأسماليين فهي مختلفة تماماً عن العلاقة التي كانت بين الرأسماليين بالسادة الإقطاعيين. الرأسماليون يمتلكون المصانع والبنوك، إلخ. بينما العمال لا يمتلكون شيئاً. وبينما تبيع جريدة الصن داي تايمز 4 ملايين نسخة يومياً، بالأساس للعمال، لا أظن أن هناك رأسماليين يشترون جريدة العامل الاشتراكي. لذلك ليس حتمياً أن ينتصر العمال في كل ثورة، فكما أكد ماركس فإن "الأفكار السائدة في كل مجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة"، أكد أيضاً على ضرورة أن يعمم الشيوعيون الخبرة التاريخية للطبقة العاملة العالمية، بيد أنه لا يوجد شخص واحد استطاع استخلاص الخبرة الثورية للطبقة العاملة من خلال تجاربه الشخصية، فما من أحد في العالم اليوم خاض كوميونة باريس مثلاً أو الثورة الروسية 1905، أو 1917. لذا يجب على الحزب الثوري أن يكون ذاكرة الطبقة العاملة، أن يكون مخزن خبرتها، وأن يكون مدرسة حقيقية لكوادرها الطليعيين.

أما عن سؤال هل الثورة العالمية ممكنة؟ فالإجابة أنها ليست فقط ممكنة بل ضرورية أيضاً. إن النظام الرأسمالي العالمي ما هو إلا سلسلة، حلقاتها هي الدول الرأسمالية. وعندما يصل الضغط إلى أقصاه، تنكسر إحدى تلك الحلقات وتؤثر على حلقات السلسلة كلها. الثورة الروسية عام 1917 كانت بداية للثورة في العالم كله، حيث اندلعت في أعقابها الثورة الألمانية 1918، وثورة ضخمة أخرى في الامبراطورية النمساوية- المجرية 1919، وحركة احتلال المصانع في إيطاليا 21-1920، فيما امتدت الثورة في ألمانيا حتى نهاية 1923. نمت الأحزاب الشيوعية واتسعت بشكل كبير في وقت قصير جداً. يّذكر أنه في المؤتمر الدولي في زيمرفالد الذي حضره اشتراكيين مناهضين للحرب عام 1916، قالت روزا لكسمبرج "لقد وصلنا إلى وضع غاية في الضعف، فإجمالي الاشتراكيين المعارضين للحرب في العالم كله يمكن أن يسافروا جميعاً في بضع عربات تجرها الخيول". لكن في 1920، وصل الحزب الشيوعي الألماني إلى نصف مليون عضو، والفرنسي إلى 200 ألف، كما وصل الحزب الشيوعي الإيطالي إلى رقم مشابه أيضاً.

ومع ذلك فإننا عندما نقول أن الثورة العالمية ضرورية فإننا لا نعني بذلك أنها حتماً منتصرة.

أزمة الثلاثينات بالتصوير البطيء

من عشر سنوات توقعت أننا مقبلين على فترة تشبه كثيراً ثلاثينات القرن الماضي، لكن بالتصوير البطيء. نحن نغرق بالفعل في الكساد العالمي، لكنه أكثر ضحالة بكثير مما كان عليه في فترة 1929-1933. وقتها كان هناك في ألمانيا، على سبيل المثال، 8 ملايين عاطل بدون إعانات للبطالة، لكن اليوم يوجد 4 ملايين فقط، كما أنهم يتلقون إعانات بطالة أكثر من تلك التي في بريطانيا. صحيح أن النازي الفرنسي لو بان يشبه هتلر كثيرً، لكن مؤيديه أقل كثيراً من مؤيدي هتلر في الثلاثينات. حيث فاز هتلر في الانتخابات بـ 13 مليون صوت، وكان لديه عشرات الآلاف من النازيين المسلحين ومن فرق الاقتحام التي كانت تهدف لتحطيم المنظمات العمالية. أما الجبهة الوطنية التي يتزعمها لو بان في فرنسا، لا تمتلك شيئاً كهذا، وعندما اندلعت الإضرابات في فرنسا في نوفمبر –ديسمبر 1995، لم تحظى الجبهة الوطنية بأي تأييد. عندها انقسمت الجبهة الوطنية، وتبقى لدى لو بان شراذم محدودة من الجبهة.

مرة أخرى، لا ينبغي أن ننظر إلى الثلاثينات كفترة سواد. صحيح أن هزيمة الطبقة العاملة الألمانية على يد هتلر كانت كارثة حقيقية، لكن في نفس الوقت كان العمال الفرنسيون يحتلون أعداد كبيرة من المصانع في يونيو 1936، وكان الأمر يبشر بثورة قريبة. إلا أن قيادة الإضرابات، التي انحصرت في الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الفرنسيين، أخذوا جانب الليبراليين من أجل احتواء النضالات العمالية. لكن هذا التحالف –الحزب الاشتراكي والشيوعي والليبراليين- بعد ذلك بثلاث سنوات، قد صوّت لتأييد التحالف بين مارشال بيتان مع النازيين.

امتلئ عقد الثلاثينات بالأحداث الخطيرة. كانت حالة الاستقطاب السياسي شديدة العنف بين اليمين واليسار، لم تكن هناك فرصة لمواقف وسطية، والتزام الموقف المحايد كان بالتأكيد مساندة غير مباشرة لقوى الرجعية. وفي الحقيقة فإن هذا العقد يعيد تكرار ذاته مرة أخرى، نحن نشاهد نفس الفيلم لكن بالتصوير البطيء هذه المرة. وهذا يعني أن لدينا فرصة أكبر في إيقاف الفيلم وتوجيهه في الوجهة التي نريد. مفتاح الحل هنا هو بناء الحزب الثوري. وكما شبه ليون تروتسكي، فإن النضال الجماهيري هو حقاً كالبخار، والحزب الثوري كالمكبس الذي يوجه الآلة. المكبس بدون البخار لن يساوي أكثر من قطعة معدنية ميتة، والبخار بدون المكبس سيتبخر في الهواء دون قيمة.

قد يظن القارئ أن الماركسية هي مجموعة دوجمائية من القوانين الحديدية التي تحكم التاريخ. لكن في الحقيقة، هناك الكثير من الأحداث الصغيرة التي قد تغير وجهة التاريخ بشكل كامل. فإذا كان لينين قد مات مثلاً قبل العودة إلى روسيا عام 1917، لكان ذلك سيؤثر على الحزب البلشفي بشكل كبير، وبالتالي على الثورة الروسية كلها.
























الفصل السادس عشر
الألفية الجديدة بين الآمال والمخاوف

في البيان الشيوعي، الذي كتبه ماركس وإنجلز في 1848، هناك تأكيد حاسم بأن "تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع. وبكلمات أخرى، ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة و طوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين".

منذ قرون، هُزمت تمردات العبيد التي قادها سبارتاكوس، وكل تمردات العبيد الأخرى. لكن ذلك لم يؤدي إلى استمرار النظام العبودي في الامبراطورية الرومانية. تم استبدال العبيد بالأقنان، والاقطاعية حلت محل العبودية. وقد أسرعت غزوات القبائل الألمانية على الرومان من انهيار مملكة العبيد.

مرة أخرى، عندما نتحدث عن التحول من الاقطاعية إلى الرأسمالية، فإن العملية تبدو وكأنها سلسة وبسيطة. يستطيع المرء أن يقرأ فصل من كتاب عن الإقطاع خلال نصف ساعة، وأن يقضي نصف ساعة أخرى لقراءة فصل آخر عن الرأسمالية، لكن هذه العملية التاريخية في تحول النظام الاجتماعي كانت مليئة بالتعقيدات والتناقضات. استمر الإقطاع أكثر من ألف سنة في أوروبا، وعندما كان المجتمع الإقطاعي في طريق الانحطاط، وكانت الرأسمالية تولد من رحم هذا المجتمع، لم تسير العملية في خط واحد يقود لميلاد الرأسمالية مباشرةً. وفي الحقيقة، كانت الأندلس مثلاً، عندما كان يسكنها العرب في القرن الحادي عشر ميلادياً، اكثر تقدماً من الوضع التي آلت إليه بعد ثلاثة قرون، وهذا يدل على أن العملية التاريخية لا تسير بالضرورة في طريق التقدم للأمام. وفي القرن السابع عشر، خلال حرب الثلاثين عام (48-1618) تقلص عدد السكان في ألمانيا إلى النصف تقريباً.

كانت مساوئ المجتمع الإقطاعي في قمة البشاعة. على سبيل المثال، لمدة ألف سنة من هذا النظام كان لكل إقطاعي الحق في استباحة عرض أية فتاة تعيش في نطاق الحقول التي يمتلكها. وإلى جانب ذلك استمر اضطهاد وامتصاص عرق الأقنان والفلاحين والعبيد والخدم طيلة استمرار النظام الإقطاعي.

أما الرأسمالية، فهي النظام الأكثر دينامية وسرعة من أي نظام اقتصادي واجتماعي في التاريخ، لذا فإن النتائج السلبية أيضاً تظهر بشكل مأساوي أسرع وأعلى دينامية من أي نظام سابق. الرأسمالية تعمل على تطوير قوى الإنتاج غلى حد كبير جداً، ولذلك فإن الوفرة في الإنتاج يمكن أن تتاح للجميع، لكن في نفس الوقت تمزق الرأسمالية نفسها من خلال المنافسة بين الرأسماليين أو بين الدول الرأسمالية. المنافسة بين جنرال موتورز وفورد تدفعهم لزيادة الاستغلال على عمال كلٍ منهما. وبذلك تلقي المنافسة العشوائية بين الرأسماليين الاضطهاد والاستغلال على كواهل العمال من أجل تحقيق أكبر قدر من الأرباح الرأسمالية. مشهد المجتمع الرأسمالي مليئ بالتناقضات الفجة؛ فالثروة الضخمة في يد الرأسماليين تتوازى مع الفقر المدقع الذي يلحق بقطاعات واسعة من الجماهير.

لم تكن المجاعات ظاهرة جديدة على البشرية، فلقد عرفها البشر خلال آلاف السنين السابقة. لكن المجاعات قديماً كانت نتيجة ندرة موارد الغذاء، أما اليوم في ظل الرأسمالية، لدينا ملايين الجوعى في الوقت الذي تتوافر فيه كميات هائلة من الغذاء الفائض والذي يتم التخلص منه في المحيط دون أدنى اكتراث. يمكننا أن ندرك جيداً مدى عمق تناقضات الرأسمالية عندما نعلم أنه هناك 20 مليون طفل يموتون سنوياً نتيجة استخدام المياه الملوثة، في الوقت الذي تكفي فيه أرباح بيل جيتس، أغنى رجل في العالم وساحب شركة مايكروسوفت، في سنة واحدة، لصناعة أنابيب مياه وحفر الأنفاق اللازمة لها لضمان وصول مياه نظيفة لكل طفل في العالم. أرباح سنة واحدة فقط (!!)

التنافس بين الرأسماليين لا يأخذ أشكال اقتصادية فقط، بل أشكال عسكرية أيضاً. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كتبت روزا لكسمبرج الثورية البولندية –الألمانية الشهيرة، أن مستقبل البشرية يكمن في احتمالين "إما الاشتراكية أو البربرية". ولا شك أننا ندرك اليوم معنى البربرية أكثر بكثير مما كانت روزا تقصده في عصرها؛ فقد أغتيلت روزا في يناير 1919، أي أنها لم تشهد الإبادة في غرف الغاز، ولم تسمع عن دمار القنابل الذرية في هيروشيما وناجازاكي، إلخ.

في بداية التسعينات، كنت قد قلت أن مشاهدة أوروبا في ذلك الوقت يشبه مشاهدة فيلم عن فترة الثلاثينات لكن بالتصوير البطيء. وفي العشرين عاماً السابقة، دخل العالم الرأسمالي في ثلاث فترات كساد اقتصادي، لكن لم يكن أي منهم بالعنفوان الذي كان عليه الكساد الكبير في الثلاثينات، كان كل منهم أشبه بنسخة باهتة لفترة 33-1929. صحيح أن اليمين المتطرف –الفاشيين- قد صعد في أوروبا الثلاثينات، لكن لو بان اليوم هو بالتأكيد نسخة باهتة من هتلر، فقد حصلت الجبهة القومية التي يتزعمها لو بان على 5 ملايين صوت. وهذا بالطبع أضعف كثيراً إذا ما قورن بالـ 13 مليون صوت التي حصل عليهم هتلر. كان لدى هتلر فرق اقتحام مسلحة حتى قبل أن يصبح في السلطة في يناير 1933. أما مؤيدو لو بان، فكل ما يستطيعوا فعله هو الهجوم والاشتباك البدني مع المهاجرين.

الجانب الآخر من العملة، وهو النضال العمالي، هو أيضاً نسخة باهتة من الثلاثينات. صحيح أن درجة نضالية عمال المصانع في التسعينات في فرنسا، قد ارتفعت كثيراً، لكن الإضرابات الضخمة التي وقعت في نوفمبر –ديسمبر 1995، لا يمكن مقارنتها بحركة احتلال المصانع واسعة النطاق في يونيو 1936. كان عقد التسعينات إذن بمثابة فيلم بطيء لما كانت عليه الأوضاع في الثلاثينات، وهذا يعني في المقام الأول، انه يمكن إيقاف الفيلم وتوجيهه من جديد وجهة الثورة العمالية، وهذا أفضل كثيراً من أن يسير الفيلم سريعاً.

الأمر الأهم هو الوضع السياسي للطبقة العاملة الذي يوفر فرص أفضل للثوريين من تلك التي كانت في الثلاثينات. وقتها، كانت الاحزاب الستالينية تسيطر على اليسار في كل أوروبا. وبالتأكيد لم يكن صعود هتلر حتمي الحدوث، بل كان من الممكن محاصرة نفوذه. هكذا جادل ليون تروتسكي أن من الضروري بناء جبهة متحدة بين الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية لمواجهة نفوذ النازيين الذين يتزعمهم هتلر. وأولاً وأخيراً، كان الـ8 مليون صوت الذين حصل عليهم الحزب الاشتراكي الديمقراطي والـ6 مليون صوت الذين حصل عليهم الحزب الشيوعي، أكثر من الأصوات التي أعطت للنازي. الأهم من ذلك هو طبيعة الجمهور الانتخابي نفسه. مرة أخرى وصف تروتسكي مؤيدي الحزب النازي بأنهم مجرد "غبار بشري، فرادى معزولين"، أما مؤيدي الأحزاب العمالية فقد شكلوا ثقلاً ومراكز قوى في المصانع والسكك الحديدية، إلخ. لم يتم إيقاف هتلر ولا محاصرة نفوذه السياسي بين الجماهير، فقط لأن السياسة الستالينية كانت ضد تاكتيك الجبهة المتحدة، حيث شخّص ستالين الاشتراكيين الديمقراطيين كاشتراكيين فاشيين، وحظر على الأحزاب الشيوعية في أوروبا التعاون السياسي معهم.

مرة أخرى، كانت الاحتلالات الواسعة للمصانع في فرنسا 1936، يمكنها أن تؤهل للثورة العمالية، ليس فقط في فرنسا، بل كان يمكنها إضرام نار الثورة في بلدان أخرى تحذو جماهيرها حذو العمال الفرنسيين. دفع الستالينيين في اتجاه التحالف مع الحزب الليبرالي في الانتخابات البرلمانية، ولم يخدم ذلك شيئاً سوى مصالح السياسة الخارجية لستالين. كانت النتيجة أن البرلمان الذي انتُخب في مايو 1936، والذي خاض الحزب الشيوعي انتخاباته متحالفاً مع الحزب الليبرالي تحت شعار "الجبهة الشعبية"، ذلك البرلمان قد صوّت عام 1944 لصالح دعم وتأييد المارشال بيتان، الذي ترأس الحكومة الفرنسية وتعاون مع ألمانيا النازية.

أما في أوروبا اليوم، فقد تحلل نفوذ الأحزاب الستالينية بشكل كبير بعد انهيار أنظمة رأسمالية الدولة في روسيا وأوروبا الشرقية. والآن لدى الثوريين مساحة عريضة لبناء أحزاب عمالية على أسس ثورية حقيقية بعيداً عن تشويشات سياسات الأحزاب الستالينية التقليدية التي نخرت الإصلاحية نخاعها.

الألفية الجديدة إذن تقدم لنا مزيجاً من الآمال والتحذيرات حول مخاطر المستقبل. نحن نعيش عهد مليء بالتناقضات، إمكانيات وفرص ضخمة بجانب مصاعب وتحديات كبيرة. علينا إذن أن أن نضع النصيحة الحكيمة للفيلسوف سيبنوزا في الاعتبار، حيث كتب أن المرء "لا ينبغي أن يضحك أو يبكي، لكن أن يفهم".

وصف البيان الشيوعي العمال بأنهم حفارو قبر الرأسمالية. الطبقة العاملة أقوى اليوم بما لا يُقاس بما كانت عليه وقت كتابة البيان الشيوعي. الطبقة العاملة في كوريا الجنوبية وحدها أكبر من الطبقة العاملة في العالم كله حينما مات ماركس في 1883. لدينا إذن "عالماً لنكسبه".

لقد أوضحت معركة سياتل غضب هائل لدى قطاعات من الجماهير ضد سياسات الشركات الرأسمالية الكبرى. وقد علقت جريدة "دير سبيجل" الألمانية اليومية ذات التوزيع الواسع، أن مظاهرات سياتل ترينا أن "الألفية الجديدة سوف تبدأ بحرب ضد الرأسمالية".

لسنين طويلة كان لفظ "مناهضة الرأسمالية" غير موجود إلا في قاموس المنظمات الثورية الصغيرة، وغير متداول سوى في الأوساط اليسارية الراديكالية، لكنه اليوم أصبح جزءاً من لغة الملايين من الناس. وهذا بالتأكيد ما يلهم الثوريين عبر العالم ويضاعف أملهم في إمكانية القضاء على الرأسمالية واقتلاعها من جذورها... هكذا نبدأ الألفية الجديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أيتام تروتسكي
فؤاد النمري ( 2011 / 3 / 9 - 15:31 )
أيتام تروتسكي يستخدمون دائماً العبارات الماركسية في الحديث عن أشياء ليست موجودة على أرض الواقع بل في مخيلاتهم فقط يتحدثون عن الثورة وهم لا يعرفون ما هي الثورة وهكذا فإن هؤلاء الأيتام هم دائماً ضد الثورة وأداة فاعلة بأيدي الرجعية

اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟