الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربيع الحرية العربي(1)-محاولة للفهم

مروان عبد الرزاق
كاتب

(Marwan)

2011 / 6 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


ربيع الحرية العربي- محاولة للفهم

الثورات العربية الراهنة ستُحدث بدون شك, تغييرا جذريا في حياة الشعوب العربية ومستقبلها, وعلى كافة الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والنفسية. ولن يمر العام (2011) إلا ونجد أنفسنا أمام مشهد عربي جديد, يصنعه الشعب العربي منذ بداية العام.
وكمحاولة لفهم المشهد العربي الراهن, مع استمرار هذه الثورات من اجل الحرية والكرامة والعدالة, لابد من ترتيب بعض الأفكار والرؤى, وذلك من خلال محاولة الإجابة على بعض الأسئلة مثل:أولا: طبيعة الأنظمة العربية, والمعارضات العربية. وثانيا: طبيعة الثورة العربية الراهنة وحدود توسعها وانتشارها, من هم الثوار ومن هم أعداؤهم, آفاق تطور الثورة حتى تحقق أهدافها في بناء الدولة-الأمة, وتحقيق العدالة الاجتماعية.وثالثا: بعض الدروس وردود الأفعال والمستقبل.

ربيع الحرية العربي(1)
1- النظام العربي الرسمي

لاشك أن الثورات العربية الراهنة في تونس ومصر, والآن في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين – ثم في الجزائر والمغرب والأردن كما يلوح في الافق القريب- فاجأت الجميع, مثقفين وعامة, حكاما ومحكومين. ولم يتجرأ حتى الآن أي من المثقفين على الإدعاء بأنه توقعها. إنها فاجأت حتى صانعيها في مدى اتساعها وعمقها, وهذا يؤشر على مدى عمق واتساع وفظاعة الاضطهاد الذي يتعرض له الشعب كله عل يد حفنة من المافيات الأمنية الاستبدادية, وحجم الغضب المكبوت داخل صدور الشعب العربي, الذي مزقه الاستعمار, وورثته ورسخته حكومات الاستقلال الاستبدادية .
وليس في تاريخ العرب الحديث رموز التحمت الملايين العربية - كما نراها الآن في ساحات التغيير- معها سوى جمال عبد الناصر الذي أرعب الغرب بوقوفه ضد إسرائيل. وعبرت الملايين عن هذا الالتحام حين أعادته إلى السلطة عندما أعلن تحمله المسؤولية عن الهزيمة عام (1967) والتنحي عن السلطة- وهو الرئيس العربي الوحيد الذي فعل ذلك- وحين تم توديعه إلى مثواه الأخير, بعد أن تم اغتياله على الأرجح بأيادي خفية عمل الجميع على طمسها لتُسجل ضد مجهول.
وكانت الحرية عند عبد الناصر هي التحرر من إسرائيل والغرب الاستعماري بالدرجة الاولى, وليس بناء مجتمع حر ديمقراطي. وهذا سهل المهمة أمام خلفائه, السادات ومبارك الذين أسسوا لنظام مافيات ليبرالي استبدادي أهان الشعب المصري أولا بتجويعه وإهدار كرامته يوميا. وأهان العرب ثانياً: بارتهانه لإسرائيل وتأسيسه المقدمة الكبرى للهزيمة الكبرى للعرب أمام إسرائيل.
والمشهد المصري تكرر في كل الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج بدون استثناء. فكل التيارات السياسية الوطنية في العالم العربي والتي عملت على الاستقلال, أو تلك التي تشكلت بعد الاستقلال, لم تكن مسألة الحريات والديمقراطية من ضمن إيديولوجياتها. وهذا يشمل القوميين(بما فيهم عبد الناصر) والشيوعيين والليبراليين والإسلاميين..وبعد الاستقلال وبدلا من التأسيس لدولة وطنية حرة ومستقلة, يشارك فيها كل أبناء المجتمع وتياراته, وتعمل على التنمية البشرية والاقتصادية من اجل نزع الاستعمار من الداخل وسد الفراغ الذي تركه, وبناء مجتمع حديث. كان الصراع على السلطة هو المحور الأساسي الذي كان يلف المشهد السياسي في مرحلة ما بعد الاستعمار.
ولم يكن هناك أي تيار سياسي قادر على سد الفراغ الذي تركه الاستعمار, على المستوى السياسي والاقتصادي, كما انه لم توجد برجوازية قوية قادرة على تأسيس نظام سياسي ديمقراطي وإنضاج وتطوير بعض المخاضات التي تركها الاستعمار كالبرلمان مثلا, باعتباره الساحة الأمثل للصراع السياسي السلمي, وولادة مثل نظام كهذا.
ومن حيث النتيجة, أفرزت الصراعات داخل كل قطر السيطرة لفريق واحد شكَل سلطة استبدادية وابعد بالحديد والنار التيارات السياسية الأخرى بالقتل آو الاعتقال آو النفي.. وحول المجتمع كله إلى رعايا. ورغم الصيرورة المختلفة لكل قطر, سواء في الأقطار التي اعتمدت رأسمالية الدولة والتي تم تسميتها (بالاشتراكية!) مثل: مصر وسوريا والعراق وتونس والجزائر, ثم تحولت إلى ليبراليات مافيوية استبدادية, أو تلك التي اختارت النهج الليبرالي الاستبدادي منذ البداية مثل: المغرب والأردن ودول الخليج. إلا أنها جميعا وبعد نصف قرن رسخت سلطات, رغم بعض الاختلافات الشكلية, إلا أنها متشابهة وذات صفات جوهرية مشتركة.
أولا: كل السلطات العربية غير منتخبة, استبدادية تحكم بالحديد والنار ولا تعترف بوجود الرأي الآخر, ولا بحقوق الإنسان. وتم تفصيل الدساتير والقوانين وفق مقاس السلطة, في محاولة لإضفاء نوع من الشرعية الدستورية على السلطة المطلقة للرئيس الإله!, والتي تم تأسيسها لتكون أبدية يتوارثها الأبناء عن الآباء, فكانت السلطات العربية جميعها عائلية لا تختلف عن بني أمية أو بني العباس في تاريخنا العتيد. بالإضافة إلى قانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية. مدعومة بجهاز إعلامي يعمل على ترسيخ ثقافة الرئيس/ الإله – والرعية, وبجهاز امني أخطبوطي يسحق بدون رحمة كل الأنفاس المعارضة أو حتى التفكير في المعارضة. ومهزلة الاستفتاءات ليست سوى احتقار لوعي ومشاعر الشعوب. وتداول السلطة لم يخطر في ذهن أي رئيس عربي على الإطلاق.
ثانيا: بالإضافة إلى احتكار السياسة, أفرزت هذه السلطات كقاعدة اقتصادية لها, رجال الأعمال الجدد وهي الليبرالية الجديدة- المتوائمة مع الليبرالية العولمية الجديدة- والتي انتعشت من نهب المال العام ,والذي هو بتصرف الملك أو الرئيس, والتي تشكلت من العائلة الحاكمة والمافيات التي تدور في دائرتها, سواء كانت جمهورية أم ملكية أم إماراتية, ثم بدأت بعد عقود على تبييض هذه الأموال بمشاريع اقتصادية مستندة إلى قوانين تم تفصيلها في دوائر الفساد, بالإضافة إلى الاحتكارات التجارية في الاستيراد والتصدير...الخ. وبذلك سيطرت على مفاصل الاقتصاد, بحيث لا يوجد مشروع اقتصادي واحد ذو ربحية عالية إلا ويكون مصمم سلفا من سيكون صاحبه من العائلة المسيطرة. وهذا بطبيعة الحال أدى إلى الفشل في التنمية الاقتصادية والبشرية, وأدى إلى المزيد من الإفقار والجهل والأمية والبطالة لكل فئات الشعب, وتدهور أحوال الطبقة الوسطى- وهي نقطة توازن كل مجتمع- بحيث أصبح الإنسان يلهث كباقي الكائنات الحية غير الإنسانية طوال اليوم كي يجد قوت يومه, دون أن يشعر بالأمان لليوم التالي.
ثالثا: تعميم الفساد: فالاستبداد السياسي والاقتصادي هو الأساس لتشكيل شبكة فساد عنكبوتيه تم نشرها لتشمل المجتمع بأكمله من رأس الهرم إلى القاعدة. وهذه الشبكة ضرورية كي يستطيع رأس الهرم التحكم بالرعية, بالإضافة إلى القوة العارية وأقبية المخابرات. وبذلك يمكن السيطرة على الرعية بكافة فئاتها, وفي كل القطاعات. فالمناصب الهامة كالمحافظين ورؤساء البلديات ومدراء المؤسسات الحكومية, تباع وتشترى كالأسهم في أسواق البورصة. وكل رأس في كل دائرة يكون مسئولا عن بيع المناصب الأقل, وصولا إلى الآذن الذي يقدم خدمات القهوة والشاي والتنظيف..وحتى بعض مواقع شرطة المرور, يتم شراؤها, وتتحدد قيمتها بحسب القدر من الكسب غير المشروع (الرشوة) الذي توفره. والحقل الأخطر في الفساد هو القضاء, والذي بفساده يفسد المجتمع كله. ولا يمكن لأي فرد أن يحصل على أية خدمة في دوائر الدولة بدون الرشاوى وانحناءة في الرأس. ولا احد يعرف كيف يمكن لأي إنسان أن يخرج من مخفر للشرطة, والتي عنوانها (في خدمة الشعب) سواء كان معتدي أو معتدى عليه.
رابعا: تعاملت الأنظمة العربية مع الأقليات بالإرهاب والقمع من اجل تحويلهم إلى عرب, وصادرت حقوقهم القومية, كما جرى مع الأكراد والامازيغ وجنوب السودان والتركمان والآشوريين وغيرهم. وكذلك تعاملت بالإرهاب مع الطوائف الدينية المختلفة وخاصة بين الشيعة والسنة وكذلك مع المسيحيين, المنتشرين في اغلب أقطار العربية. وهذا اوجد الأرض الخصبة لنشوء التيارات السلفية الدينية التي لا تقل خطورة عن الاستبداد السلطوي, مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي واوجد شرخا بين مكونات المجتمع المختلفة يمكن له أن ينفجر كبركان دم في أية لحظة, كما حصل قي العراق ومصر وسوريا واليمن والسودان والجزائر. وكل الأقطار العربية مرشحة للتفتت قوميا وعرقيا واثنيا ودينيا.
خامسا: الارتهان لإسرائيل العدو التاريخي للعرب. كل على طريقته سواء بالمعاهدات المباشرة كما جرى في مصر والأردن, وحصار المقاومة الفلسطينية والتآمر عليها بعد المجازر التي نفذتها ضدها, منذ مجازر 1970 في الأردن, وتفتيتها الى تيارات تقبع خانعة في دكاكينها المغلقة, ثم تم تكبيلها بمعاهدات اوسلو وإجبارها على التحول إلى سلطة أمنية لحماية امن إسرائيل من الفلسطينيين. أو بالعلاقات السرية المباشرة وغير المباشرة مع إسرائيل. والدول التي رفضت الانصياع إلى معاهدات مهينة مع إسرائيل مثل سوريا ولبنان, وهو موقف يعتز به الجميع, إلا أنهم بدلا من الاستمرار في المقاومة والعمل على استرداد الأراضي المغتصبة- رغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة- اخترعوا مفهوم الممانعة بدلا من مفهوم المقاومة, تماما مثل اختراعهم لمفهوم النكبة(1948) ومفهوم النكسة(1967) بدلا من مفهوم الهزيمة, والاستفتاء بدلا من الانتخاب...الخ.
سادسا: عودة هذه السلطات للغرب الاستعماري من اجل مشاركتها في نهب ثروات البلاد, ومن اجل حمايتها من شعوبها كي تستمر في السلطة, وكذلك حمايتها من البطش الإسرائيلي.
من حيث الجوهر, لم يخرج النظام الرسمي العربي من المحيط إلى الخليج عن ترسيمة النظام السلطاني العربي- الإسلامي الذي حكم المنطقة العربية منذ بني أمية وحتى تحرر العرب من العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى. وتقوم هذه الترسيمة على الأركان الثلاث:( السلطان- حاشية السلطان- الرعية).
فالسلطان( خليفة, أو ملك, أو مملوك, أو أمير, رئيس نظام عربي حالي) هو الذات التي يتربع على قمة الهرم الاجتماعي, وهو الكائن الواحد الأوحد, وهو الأول والآخر, وهو من طينة خاصة, وهو فريد من نوعه, يتموقع خارج الأسماء وخارج أخلاق العامة, وهو المستبد بأمره, والاستثنائي في ظهوره, بحضوره تغيب الفتنة وبوجوده تحيا الشريعة ويتحقق العدل. وطبيعته الحقيقية كلها عدل, وهو الرقيب على كل الظاهر والباطن, والعلم بكل شيء من صفاته والخوف من علمه الشامل صفة العموم. باختصار هو ظل الله على الأرض.
والحاشية السلطانية هي ظل السلطان. وهي الوسيط بين الذات(السلطان) وموضوع هذه الذات(الرعية). وبواسطتها يستطيع السلطان تدبير شؤون رعيته(الوزراء والحجاب والولاة والشرطة والجيش والعسس وبعض رجال الدين..الخ) وهذا الوسيط نتيجة وضعيته بين "ذات" السلطة وموضوعها, يعيش ازدواجية مدوخة تتمثل في خضوعه للسلطة وممارسته لها في آن واحد. وبذلك ترى الحاشية السلطانية في ذاتها "موضوعا" لذات السلطان, وترى في الرعايا موضوعا ل"ذاتها".
والركن الثالث للترسيمة السلطانية هي الرعية وموقعها في أسفل الهرم, وتوصف الرعية بالعامة أو الدهماء أو الرعاع أو الأوباش وقطاع الطرق أو الزعران.. وكل هؤلاء يشكلون قطاعات واسعة مما ندعوه اليوم بالجماهير الشعبية أو الشعب )بحسب محمد أركون).
"ولا يتعامل الخطاب السياسي مع الرعية ككيان قائم بذاته, ولا يتصورها "ذاتا" مستقلة تستحق خطابا مستقلا بقدر ما هي على الدوام "موضوع" ل"ذات" السلطان." ويصورها أبو بكر الطرطوشي بأنها "جسدا" مآله الموت لولا "الروح"السلطانية, وإنها "أرضا" ظمأى من دون ماء, و"ظلاما"حالكا لولا "سراج الملوك". ويصفها الشيرازي ب"الغنم" السائبة إن تعذر راعيها, ويصورها ابن طباطبا وابن الأزرق كائنا "مريضا" يحتاج للدواء السلطاني كي يسترد عافيته. والأدب السلطاني حافل بأوصاف لا تحصى للرعية, وكلها تُخرج الرعية من دائرة الإنسانية."
وواجب الرعية هو "الطاعة" و"العمل" لأجل السلطان. ولا يجوز للرعية تحت أي ذريعة كانت إعلان ثورتها على الحاكم لان ذلك يحدث "الفتنة" ويفرق كلمة الإسلام. وهناك ثلاثة مجالات لا يحق للرعية الكلام أو النبش فيها وهي: السياسة والشريعة وشخص السلطان. وعليها أيضا التماهي مع أفراحه وأحزانه. وعليها "العمل" وتفويضه التصرف بكل الأمور المالية.
بالمقابل لابد من لجوء السلطان عبر حاشيته لمجموعة من الأساليب أو التقنيات لضبط الرعية واستمرار خضوعها, ودوام حكم السلطنة. لذلك لابد من إظهار هيبة ورهبة الحاكم. وأن يكون السلطان مستبدا يحكم بالقتل والسجن والتعذيب هو حق مطلق لابد منه, مع "الترغيب" مثل تودد الملك إلى رعيته وظهوره أحيانا أمامهم بكل أبهته وجلاله , وتقديم بعض المكرمات.
"وحضور السلطان يعني "انتفاء" الفتنة, وبغيابه يغيب النظام والأمن ويخرب العمران وتضيع الحقوق.. لان الرعية بطبيعتها مادة غير منتظمة, تميل إلى الفساد ومعرضة باستمرار للتلف, لذا لابد لهم من "وازع"يقيهم أولا من أنفسهم "الأمارة بالسوء", ويسمح لهم ثانيا, وهو "السراج المنير" بالعمل في امن وآمان." ولولا السراج المنير لانتشر الظلام وتحرك "الحيوان الشرير" وخربت البلاد.
فالرعية مجبولة على الفساد وإتباع الأهواء وقلة السداد.ومصلحة الرعية تقتضي إذعانها لسلطانها مهما بالغ في التنكيل بها. وان جور الرعية اشد من جور السلطان, و"الفتنة اشد من القتل". وإذا جار السلطان فالخلل ما في الرعية, "أعمالكم عمالكم, كيفما تكونوا يولَ عليكم".
"ويمكن أن نميز مجموعة من الأبعاد تتحكم في العلاقة بين الراعي ورعيته: أولا:حاجة الرعية إلى راعي, كحاجة الجسد للروح, والأرض للماء. والقطيع للراعي, والابن للأب. وثانيا: قوة السلطان ورهبته وانسحاق الرعية أمامه, كالجيفة أمام النسر كما يراها ابن قتيبة. وثالثا: الخوف وضرورته لتبقى الرعية حذرة دائما, والخوف لا يأتي من القوة والبطش فقط, بل ينجم أساسا عن صعوبة التنبؤ بالسلوك السلطاني, إذ يشًبه ب"صبي" لا تدري ما سيأتي به من أفعال.(كل المعلومات السابقة عن النظام السلطاني مأخوذة من كتاب- الآداب السلطانية-د.عز الدين العلام-عالم المعرفة324-2006 ).
ومن سوء حظ الجيل الذي ولد في خمسينات القرن الماضي وعايش أنظمة الاستقلال العربية والتي لا تختلف من حيث الجوهر عن أنظمة الاستبداد السلطانية التي حكمتنا لأكثر من ألف وخمسمائة عام.
فالمحرمات هي ذاتها: السياسة, والدين, وشخص الرئيس, وتم إضافة الجنس في العصر الحالي. والرئيس أو الملك أو الأمير العربي لا يختلف عن أي سلطان قديم (تفرده,واستبداده, وهيبته, وسيطرته على الأموال العامة, ومكرماته, وأبديته في الحكم وتوريثه للأبناء, ونظرته للرعية-الشعب..الخ) وربما تطورت الأساليب والتقنيات للتحكم بالرعية كتطور أساليب التعذيب وفظاعتها, والسجن لعشرات السنين, والدجل والتلفيق.. إلا أن الهدف نفسه وهو التحكم بالرعية.
أما الحاشية فهي في نفس موقع الحاشية القديمة إلا أن شكلها وتسمياتها اختلفت عن السابق فأصبحت تضم: مجلس الوزراء ومجلس الشعب, والمحافظين, وبعض رجال الدين, وأجهزة الأمن بتنويعاتها وأشكالها المختلفة, وأجهزة الإعلام..الخ. إذ لم تسجل أية مواقف مخالفة للرئيس من داخل الحاشية, إنما كل شيء يتم بفضله وكرمه ورعايته.
والشعب العربي المتناثر في الأقطار العربية(تفصيلة سايكس-بيكو), مازال ينظر إليه كرعايا من قبل الأنظمة السائدة. وتم تأسيس الخوف في صدر كل فرد, عبر حملات القمع والقتل المستمرة, وهو الشرط الأول لاستمرار السلطة وارغام الشعب على الخضوع. مما أدى بالعديد من المثقفين والمنظرين, وعند جزء كبير من الشعب, الاحتفال بموت الشعب, وعدم أحقيته بالحرية لأنه لا يتم ضبطه إلا بالبوط العسكري.
ليس هذا وحسب, فإن أنظمة الاستقلال "المأساة", وقبل رحيل الجيل الأول إلى القبر بشكل طبيعي, أي منذ نهاية القرن الماضي, بدأ يجهز الأولاد لوراثة السلطة, لإعادة إنتاج السلطة الاستبدادية من جديد, والتي لم تكن سوى "السلطة-المهزلة", باستعارة المفهوم من ماركس حين يعيد التاريخ نفسه.
مقابل هذا التشكل لأنظمة الحكم العربية, عملت المعارضات العربية بأيديولوجياتها المختلفة ودفعت أثمانا باهظة من اجل السلطة. إلا أنها في النهاية وبعد نصف قرن من الصراع مع السلطة, فشلت وانكفأت على نفسها في غرفها الضيقة, أو تحولت إلى دمى بيد الأنظمة المتسلطة.
بمعنى آخر, إن ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر, ليست في صلب الثقافة العربية السياسية أو الثقافة العامة التي كانت سائدة في النصف الثاني من القرن العشرين. وإنما السائد هو ثقافة الايدولوجيا المغلقة الاستبدادية التي لا تعترف بالآخر سواء كانت ثقافة السلطة أو ثقافة المعارضة. وحتى الليبرالية التي تدعي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, لم يكن يهمها من الحرية إلا الجانب الاقتصادي, أي الحرية في جني المزيد من الأرباح, والتحالف مع الاستبداد, ونهب المال العام. وهذا ما تؤكده تجربة البلدان التي انتهجت الليبرالية منذ الاستقلال وحتى الآن, مثل الأردن والمغرب.
و خلال العقدين الماضيين, سادت ثقافة اليأس وفقدان الأمل بالتغيير عند الجميع. وبدأت بالظهور مفاهيم جديدة مثل: عدم أهلية الشعوب العربية للحرية والديمقراطية, وتخويف الشعوب منها. وكما انتم يولى عليكم, وضرورة البحث عن المستبد العادل, والقناعة بالقضاء والقدر...إلى آخره من المفاهيم والتصورات التي أنتجها العقل العربي المهزوم, لتوصيف المستنقع العربي وكيفية الخروج من النفق المظلم. وبرز المخرج الوحيد هو اللجوء إلى الخارج على طريقة الاحتلال الأمريكي للعراق!
ولم يبق في الساحة السياسية والمجتمعية إلا الفساد وطغيان الاستبداد والحركات الأصولية الطائفية, والبحث عن الخارج الأمريكي والأوروبي كمنقذ وحامل للحرية وحقوق الإنسان!.
إلا أن هذا المشهد المظلم لم يكن مطلقا. إنما حققت نضالات الشعب في سبيل الخبز والحرية بعض الهوامش والحقوق, وان لم تكن على مستوى التضحيات, كما نراها في بعض الدول العربية مثل: مصر والجزائر والمغرب واليمن. إلا أن هذه الشعوب بنظر الأنظمة لم تخرج عن دائرة الرعية.
وجاءت المفاجأة التي أربكت الجميع. "الرعية" تنتفض, تنفض عنها الغبار الذي كاد يخنقها, لتصنع ثورتها ومستقبلها, وحريتها, وصرخت بأعلى صوتها أنا لست "رعية" أيها الأوغاد.أنا الشعب الذي سيصنع ثورته ومستقبله. انأ إنسان وليس غنما أيها الطغاة, وإذا الشعب أراد الحياة, فلابد للطغيان إلا أن ينقلع.
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر


2- طبيعة الثورات العربية الراهنة

أن تتحول الرعية إلى شعب قادر على الإحساس بالظلم والإهانة, وبكرامته المهدورة, وشعوره بالقدرة على استعادة حقوقه وإنسانيته, شيء يربك السلطان-الطاغية, وحاشيته, ويجعلهم غير قادرين على تصديق ما يراه بأعينهم, وسماعهم لجرأة "الرعية" (إرحل). لأنه لا يوجد في قاموسهم كيف تتحول "الرعية" إلى شعب.
وبقي الطغاة الأوائل في تونس ومصر مشدوهين لا يصدقون الذي يحصل إلا بعد أصبحوا خارج القصر. وهذه الميزة الأولى للمستبد بأنه لا يرى إلا نفسه باعتباره الكائن الأوحد المتفرد والأبدي كالإله الذي لا يموت.
ومنذ انتصار الثورة التونسية ثم المصرية وتجاوز الحلقة الاولى برحيل رأس النظام. أصبح الحديث عن الثورة يملا الفضاء الثقافي العربي والعالمي, في محاولة لاستيعاب وفهم ما يحدث. وخاصة أن كلمة ثورة أو ثوار لم يعد لها وجود في الثقافة العربية الراهنة, منذ- على الأقل- تدمير الثورة الفلسطينية وترحيل المقاومة من لبنان عام 1982 على أيدي إسرائيل والأنظمة العربية.
ولعل التساؤل الأكثر غباء والذي تناوله بعض المثقفين- وبإيحاء من الأنظمة- بأنه: هل هذه الاحتجاجات والتظاهرات السلمية في الشوارع يمكن اعتبارها ثورة أم لا, ثورة أم حركات احتجاج, ثورة أم تخريب, ثورة أم فوضى؟ وكأن الحرية والكرامة التي يدعو إليها الثوار, ليست موضوعا حقيقيا وكافيا لكي توصف حركاتهم ودعوتهم لإسقاط النظام بالثورة.
مع أننا لسنا أمام حالة جديدة للثورة كي نرتبك في تسميتها ثورة أم لا. إذ لم يمر سوى عقدين على تفكيك المنظومة السوفيتية والانتقال السلمي نحو الحرية والديمقراطية في روسيا وأوروبا الشرقية, والتي رافقها بعض العنف كما حصل في رومانيا ويوغسلافيا.
إنما الجديد الذي أربك المثقف العربي والغربي هو أن ينهض الشعب العربي ويصنع ثورته من اجل الحرية. ويعود الارتباك أيضا إلى الترسيمة الكلاسيكية لمفهوم الثورة عند الجيل القديم.
فمن المعروف بالشكل العام إن أي ثورة كي تنجح وتحقق أهدافها بحاجة إلى:
أولا: عامل ذاتي, وهو الحزب أو القيادة مدعومة من أنصار, أو مؤيدين, كحامل اجتماعي لأهداف الثورة. وان تكون الأهداف معروفة ضمن برنامج واضح يعبر عن رؤية الحزب أو القيادة لكيفية إعادة بناء التركيب السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع. كما حصل في الثورة الفرنسية(1798) والثورة البلشفية(1917) في روسيا.
وثانيا: إلى عامل موضوعي, ويشمل المناخ العام الثوري الذي سيحضن الثورة ويعمل على دعمها ويحميها, بالإضافة إلى تعفن النظام أو السلطة الاستبدادية, وإمكانية تفكيكه.
وبسبب هذه الأفكار المسبقة عن الثورة وأسسها وطبيعتها, التي يحملها المثقف آو الجيل القديم, انتشرت التساؤلات: هل هذه الاحتجاجات ثورة أم لا, وأين برنامجها, وقيادتها؟
نحن أمام ثورات حقيقية لشعوب مقهورة اشترك فيها كل طبقات الشعب, العمال والفلاحون والطبقة الوسطى والمثقفون والطلبة والموظفون...الخ, عدا مافيات السلطة والليبرالية المتحالفة معها. وأهدافها الحرية والعدالة, وهي أهداف سياسية جذرية لا تتحقق إلا بإسقاط النظام. ولذلك ساد الشعار الرئيسي (حرية-كرامة) و (الشعب يريد إسقاط النظام) بلحن واحد انتشر في كل الشوارع العربية. ولا يمكن أن يكون لها اسم آخر غير الثورة الشعبية. وليس هذا فحسب, إنما تعادل في أهميتها وعظمتها أهمية الثورة الفرنسية(1789), والتي كانت البداية لفرنسا وأوربا للخروج من مستنقع القرون الوسطى نحو الحرية ثم الحداثة.
الثورات ليست قوالب جاهزة مسبقة الصنع, يمكن تعميمها على كل التجارب, رغم الأهمية الضرورية للتحضير المسبق, وأهمية القيادة, والوضوح في الأهداف والوسائل. أي رغم وجود معايير عامة لمفهوم الثورة. إلا أن كل ثورة تضيف للمعرفة الإنسانية تجارب وخبرات جديدة يجب التوقف عندها من اجل فهمها وإنضاجها, وليس معارضتها بمفاهيم قديمة جامدة.
ومقدمات هذه الثورة موجودة:
أولها: تعفن النظم الاستبدادية واسترخائها بعد قضائها على كل أشكال المعارضة, بحيث أصبح إهدار كرامة الإنسان تتم بدم بارد ولامبالاة من قبل رموز السلطة.
وثانيها: تفاقم الأزمات الاقتصادية, وما أنتجته من فقر وبطالة مقابل الغنى الفاحش للمافيات السلطوية.
وثالثها: بروز جيل جديد متعلم نشأ ضمن ثورة الاتصالات الحديثة(الانترنت), وما رافقها من ثورة معلوماتية أتاحت له التعرف على الحضارة الحديثة بكافة مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والجنسية. إلا أن هذه الحياة الافتراضية الحديثة أحدثت شرخا في البنية النفسية لهذا الجيل, قطباه: الواقع الفعلي المرير- والحلم. ماهو كائن- وما يجب أن يكون. الاستبداد- والحرية. الخوف- والشجاعة. الاستلاب- والحاجة إلى امتلاك الذات. ولابد لهذه الثقافة الجديدة والمترافقة مع مشاعر القهر والغضب, أن تختمر وتنضج وتبحث عن ارض فعلية تنبت بها. وكانت شبكات التواصل الاجتماعي التي افرزها الانترنت الأداة المساعدة الكبرى لتجعل الشباب في حالة اجتماع دائم ومفتوح لتبادل الآراء, وإنضاجها وتطويرها, ووضع خطط مستقبلية يغمرها الأمل والحلم من جديد. ويحلو لبعض المثقفين تصوير هذه الثورات على أنها ثورة الفيس بوك, وانه لولا "الفيس بوك" لما قامت الثورات, وهذا يعني إحلال الأداة"الفيس بوك" محل الإنسان وإعطائها القيمة الأكبر. وهذا يعني من جديد تمرير الرأي, بان الإنسان العربي متخلف وعاجز عن صنع مستقبله بنفسه.
ومن جهة اخرى, يتم تصوير هذا الجيل الجديد الذي صمد في ساحات التغيير كأنه هبط من السماء, عبر نوافذ "الفيس بوك". في حين انه امتداد حقيقي للأجيال القديمة الهرمة والتي انكفأت يائسة وبائسة في زواياها الضيقة, بعد ان أنهكها القتل والاعتقال والتعذيب والإبعاد...الخ. إذ من الصعب أن تجد شابا لم يتأثر بشكل مباشر آو غير مباشر من عائلته القريبة, أو جيرانه, أو الوسط العام, بالأذى أو الإهانة التي ألحقها النظام بكل أفراد المجتمع عبر نصف قرن. وهذا شكل خميرة اختزنها بداخله لتكون منبعا للإحساس بالظلم والقهر, والذي كبته بداخله, بانتظار أن يجد مخرجا للتعبير عنه بحرية وكرامة.
بالإضافة إلى ذلك, من الخطأ تصوير الجيل الجديد كباحث عن الأفلام الإباحية في الانترنت فقط, رغم ان هذا احد حقوقه وهو يعيش في مجتمع مستبد مغلق. أو ينظر إليه كطفل لم يبلغ سن الرشد بعد. انه في الحقيقة, يعرف مارسيل خليفة والشيخ إمام ومحمود درويش وأصابه القرف من ادعاء الأنظمة العربية لمساندة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للقتل اليومي منذ أكثر من نصف قرن. ويعرف أيضا, وان لم يكن بشكل موسوعي على طريقة بعض مدعي الثقافة والفهم, عابد الجابري وعلي حرب وطيب تيزيني وجورج طرابيشي وغيرهم, ويدرك أهمية تحرير العقل وإعادة قراءة التراث من منظور حداثة القرن الحادي والعشرين. ويعرف أيضا الكواكبي وطبائع الاستبداد وطه حسين وسيد القمني, ويدرك أهمية وضرورة الإصلاح الديني, ونبذ الصراع الديني الطائفي, وان الدين لله والوطن للجميع.
إن لم بكن هذا الجيل يمتلك مثل هذه المعرفة وأكثر, لما استطاع أن يصمد في وجه الطاغية حتى رحيله. ومستمر في صموده في باقي الأقطار العربية, حتى يرحل الآخرون.
ورابعها: الحاجة إلى الشرارة التي تشعل راية الثورة. فكان "بوعزيزي" الذي احرق نفسه ردا على ظلم وإهانة النظام في تونس, و"خالد محمد سعيد" الذي مات تحت التعذيب في أقبية الأمن في الإسكندرية المصرية, واعتقال الأطفال وتعذيبهم, في درعا السورية الذين سطروا بعفوية شعار إسقاط النظام على جدران المدينة, متأثرين بالثورات في تونس ومصر واليمن, وتم إهانة أهاليهم, وعندما خرجوا للمطالبة بهم, تم رشقهم بالرصاص كالخراف.
أن يحرق الإنسان ذاته, احتجاجا على الظلم والاهانة, تحمل في ذاتها شجاعة نادرة, ورمزية كبيرة. كأنه كان يقول للشعب التونسي: خذوا من دمي شعلة لتحرقوا المستبد وتنيروا طريقكم, الموت ارحم من العيش بدون كرامة. وكان الشعب التونسي جاهزا للاستجابة. واتسعت الاحتجاجات بسرعة قياسية, خلال اقل من شهر, وانتقلت من حركات احتجاجية تدعو إلى رفع مستوى المعيشة, والقضاء على البطالة والفساد, وحرية الرأي والتعبير, إلى ثورة شعبية تدعو إلى الحرية وإسقاط النظام, ورحيل رمز الاستبداد الأول: بن علي.
ولنتوقف قليلا عند شعارات الثورة:
الشعارات الرئيسية للثورات العربية: "حرية","كرامة", "عدالة" "سلمية", "ارحل", "الشعب يريد إسقاط النظام". وقد تكررت نفسها في كل الأقطار, تونس ومصر, والآن في ليبيا واليمن وسوريا. وهذه الشعارات ليست تحريضية, أو دعائية,. كما أنها ليست كما يرى بعض المثقفين بان هذه الثورات هي نفي سلبي للاستبداد, لأنها لم تقدم برنامجا ايجابيا بديلا عن الاستبداد القائم, وليس لديها قيادات كاريزمية وحزب قائد. وهذا يعبر عل الأقل على ضعف الثقة بالشباب الذين أنجزوا الثورة. إنما في الحقيقة هذه الشعارات في مجملها وتكاملها, تُعبر عن برنامج سياسي كامل.
"ارحل" هو الشعار المركزي الأول, والذي يطالب رأس النظام بالرحيل. وهو تعبير ذو دلالة سياسية تشير إلى انه برحيل الرأس يمكن تفكيك الجسد بسهولة, بموت السلطان- الطاغية, يمكن تفكيك الحاشية. ودلالة رمزية نفسية تشير إلى إزالة الرمز أو الكابوس التاريخي الذي يجثم على صدورنا, وتم ذلك بوضوح في حرق وإزالة وترحيل صور وتماثيل الرأس من الأماكن العامة, ثم أُضيف إلى ذلك رموز الحزب الحكم, ومقرات الأمن التي كان يُجلد بها الشعب.
أما شعار الحرية والكرامة, لا اعتقد أن إنسانا في العالم لا يعرف معناهما, ولا يقدر حاجة الشعب العربي للحرية. أما الحديث عن برنامج الحرية على المستوى السياسي فهو معروف وأصبح مكررا, منذ تسعينات القرن الماضي, اثر انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته في أوروبا الشرقية, عند رموز المعارضة الباقية على قيد الحياة, وموجود أيضا على كل صفحات الفيس بوك للشباب الجديد.
وهذا البرنامج يعني بناء دولة ديمقراطية تعددية حديثة تحمي الحريات العامة والخاصة, بدلا من العصابات المافيوية المتسلطة. وتفاصيل هذه الدولة المنشودة أصبحت محفوظة بتفاصيلها من قبل الجميع. إنها الدولة الرأسمالية الديمقراطية الحديثة. وخاصة أن الشباب الثوار الجدد ليس في ذهنهم أو برنامجهم إسقاط النظام الرأسمالي واستبداله بنظام اقتصادي سياسي أكثر عدلا, كالنظام الاشتراكي أم غيره. إنما إسقاط النظام يعني إسقاط الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي, الذي تمارسه الليبرالية الرأسمالية الحاكمة, مع المحافظة على النظام الرأسمالي كبنية اقتصادية سياسية سائدة, وجعله أكثر عدلا في توزيع الثروة. بمعنى آخر الشعوب العربية تصنع لليبرالية العربية برنامجها السياسي الحديث والذي لا يهم الليبرالية الرأسمالية فقط, إنما كل طبقات المجتمع.
وهذا ليس استثناء في التاريخ. فالشعوب الأوروبية خاضت صراعات طويلة استمرت لأكثر من قرن ونصف, منذ الثورة الفرنسية(1789) وحتى بناء ما سمي بدولة الرفاه والتي يصفها المؤرخون بأنها مصالحة تاريخية بين العمل والرأسمال, بعد الحرب العالمية الثانية, حيث تنازلت الرأسمالية عن جزء من الاستبداد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, وتحقيق جزء من العدالة كالأجور العادلة والتامين الصحي والاجتماعي بما يضمن العيش حياة كريمة وآمنة, بالإضافة إلى احترام حقوق الإنسان وحرياته كافة, ومنح المرأة حق الانتخاب والمساواة مع الرجل. وهذا لم يتم نتيجة سخاء الليبرالية وكرمها ونضالها, إنما بفضل نضال الشعوب وتضحياتهم الطويلة, وكان للحركات العمالية والاشتراكية والشيوعية الدور البارز في تحقيق الحريات العامة, وتحقيق جزء من العدالة الاقتصادية والاجتماعية, وبناء الدولة الحديثة, وبناء الدولة/ الأمة. والليبرالية السياسية الأوروبية السائدة حاليا في أوروبا ولدت عبر مخاض هذه الصراعات الطويلة.

إنها ثورة الحرية, إنها تفتح الأبواب لنبدأ نتنفس بحرية, ونطلق العنان لأفكارنا ونفكر بحرية, ونبدأ بتفكيك الأوهام والثوابت الاستبدادية التي تسيطر على عقولنا, نحو إعادة إحياء العقلانية والعلمانية التي بدونهما لا يمكن التأسيس للمجتمع الحديث المنشود. وهذا بالتأكيد لا يمكن انجازه ببساطة أو بقرارات سياسية فقط. إنما يحتاج إلى فضاء الحريات العامة بما فيها الحريات السياسية كي ينمو وينضج بشكل تدريجي. لكن هذا لا يعني أننا بحاجة لمئات السنين كي ننجز فلسفتنا التنويرية على المستوى المعرفي والسياسي والاجتماعي, كما حصل في أوروبا. وخاصة أن القرن العشرين افرز رموزا عربية معرفية لا يُستهان بها مثل: الجابري وعلي حرب وطيب تيزيني وحسين مروة وجورج طرابيشي..... وغيرهم الكثير.
ومع رحيل الرأس يمكن البدء بإسقاط النظام/ الحاشية. "الشعب يريد إسقاط النظام". وهذه المرة حقوق التأليف والتلحين والغناء والتوزيع محفوظة حصريا للشعب. ومن الخطأ تصوير الشباب بأنهم لم يكونوا يدركوا, أن إسقاط النظام يحتاج إلى فترة انتقالية, قد تطول أو تقصر, للانتقال من الاستبداد إلى الحرية, وان بناء الدولة الجديدة لا تقوم بقيادة رموز النظام القديم, إنما يجب العمل على إزالة ومسح كل النظام القديم ومرتكزاته وآلياته, حتى يتم بناء الجديد على أسس صلبة. ومن يراقب يوميات الثورتين في تونس ومصر بعد رحيل الطاغية الرئيس, يعرف أن ائتلافات الشباب الجدد مدركين لمخططات أعداء الثورة, ودائما واقفين بالمرصاد لمن يحاول سرقتها, أو الالتفاف عليها. ونحن أمام مثال حي للحقيقة التاريخية التي عبر عنها لينين والقائلة: بان ما تعلمنا إياه الثورة في أيام يفوق ما نتعلمه في سنوات.
ثم كيف يمكن بناء الدولة الديمقراطية بدون فضاء الحرية. فالحرية هي الحاضنة الحقيقية للديمقراطية, أو هي الأرض الخصبة التي ستنمو فيها براعم الديمقراطية, بتعبير طرابيشي. والأنظمة الاستبدادية العربية حرقت هذه الأرض وألغت كل الحياة السياسية, وحكمت الشعوب بعقلية القرون العربية السابقة المظلمة, أو عقلية المافيات الحديثة. والمهمة الاولى للثورات العربية هي إعادة إحياء وتخصيب هذه الأرض. ولاشك بان الوصول إلى نظام ديمقراطي علماني يحتاج إلى وقت طويل, ربما عقد أو اكتر. وربما نحتاج إلى ثورة ثانية وثالثة. لكن المهم أن هذه الثورات أصبحت ممكنة بفضل الثورات الاولى الراهنة. لأن تركة الاستبداد ثقيلة للغاية ولا يمكن تحقيقها دفعة واحدة, وعلى كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية....الخ. لكن المهم أن نبدأ بالسير على الطريق الصحيح.
وعلى المستوى القريب, فان الشروع في بناء دولة ديمقراطية يحتاج إلى وجود أحزاب سياسية مختلفة تعبر عن أطياف وطبقات المجتمع المختلفة ومصالحهم, واقتناعها بنبذ العنف والتداول السلمي للسلطة, وحماية الحريات, وتحسين مستوى المعيشة...الخ. ومثل هذه الأحزاب بدأت بالتشكل الآن وهي حتما بحاجة إلى زمن حتى يمكن لها أن تدعي تمثيلها للشعب أو لفئة أو طبقة منه. لان الديمقراطية بالأساس ليست هي الهدف الأعلى, إنما هي أداة يمكن بواسطتها أن يحكم الشعب نفسه, وبواسطتها يمكن تأسيس الدولة الديمقراطية بمؤسساتها المختلفة, والتي تعبر عن الإرادة العامة للمجتمع وليس إرادة طبقة أو فئة أو طائفة أو عصابة. وبمعنى آخر, تعبر الديمقراطية في كل مرحلة من مراحل تطورها, عن درجة التوازن الاجتماعي والطبقي للمجتمع. ولكي يكون هذا التعبير حقيقيا لابد من وجود ممثلين حقيقيين لهذا المجتمع: أحزاب, منظمات مجتمع مدني, جمعيات, نقابات..الخ. وان يعمل الجميع في فضاء الحريات على كافة المستويات.
ولتحقيق شعار "عدالة", والمقصود العدالة الاقتصادية والاجتماعية, وليس المساواة, لان المجتمع الرأسمالي لا يحقق المساواة. والعدالة هنا مفهوم نسبي لكنه هام للغاية. كما انه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان", أيضا "ليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان". ولا يمكن أن يتحقق, أي شعار العدالة, بما يعنيه أيضا حرية المرأة ومساواتها مع الرجل, إلا حين يفرز المجتمع الأحزاب التي تسعى إلى ذلك. اقصد حين يفرز المجتمع الأحزاب اليسارية, والنقابات وغيرها من المنظمات والمؤسسات, التي ستأخذ على عاتقها تحقيق هذه العدالة, ضمن النظام الديمقراطي الحر. ولاشك أن الصراعات التي ستخوضها طويلة ومريرة, ضد الليبرالية اليمينية, التي لا يهمها إلا الربح, ونهب الطبقات الفقيرة.
وبالحقيقة لا يمكن لأي منظّر أن يقول للشعب التونسي والمصري بعد أن أنجز ثورته الاولى, ماذا سيفعل كي يبني ديمقراطيته. لان مسار الديمقراطية وتطورها لا يخضع لأية وصفة جاهزة, , إنما ينجزها كل مجتمع وفق بنيته, ودرجة تطوره, والتحديات التي تواجهه.. رغم اتفاق الجميع على مفاهيمها تقريبا.
لكن يمكن القول بأنه أمام الثورات الراهنة مشوار طويل للوصول إلى الحرية والعدالة. وخاصة أن الاستبداد في المجتمعات العربية لا يقتصر على الاستبداد السياسي فقط, إنما يشمل كل ثقافتنا وسلوكنا, وعند كل فئات المجتمع. لكن المهم أن المشوار قد بدأ, وسيستمر رغم كل العثرات, وسينتصر دعاة الحرية والعدالة في النهاية. وفي المدى المنظور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أيها الظالم المستبد
عبد الله محمد صقر ( 2011 / 6 / 14 - 01:47 )
يقول الشاعر أبو القاسم الشابى
ألا أيها الظالم المستب
حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شغب ضعيف
وكفك مخضبة من دماه
وسرت تشوه سحر الوجود
وتبذر شوك الاسى قفى رباه
رويدك لا يخدعنك الربيع
وصحو الفضاء, وضوء الصباح
ففى الافق الرحب هول الظلام
وقصف الرعود , وعصف الرياح
حذار, فتحت الرماد اللهيب
ومن يبدد الشوك يجن الجراح
تأمل , هنالك أنى حصدت
رؤوس الورى , وزهور الامل
ورويت بالدم التراب
وأشربته الدمع , حتى نمل
سيجرفك السيل , سيل الدماء
ويأكلك العاصف المشتعل

اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة