الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يجب أن نختلف؟

خالص جلبي

2002 / 8 / 22
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 



لفهم هذه الجدلية يجب استيعاب ثلاث حقائق: (الحقيقة الأولى): الكون مبني على التعددية سواء الفيزياء أو النبات أو الحيوان والطير والإنسان والأفكار والحضارات. فالعناصر تتدرج بزيادة بروتون واحد في كل قفزة مثل السلم الموسيقي، ولكن مع كل قفزة تتحقق شخصية جديدة لمعدن مستحدث. ولا تعني زيادة بروتون على بروتون أنه أصبح نفس العنصر بكمية أكبر، بل تعني ولادة عنصر جديد. والصوديوم والكلور عنصران مختلفان، فالكلور لوحده غاز سام استخدم في خنادق الحرب العالمية الأولى. والصوديوم لوحده شبه معدن فعال، ولكن اجتماع الاثنين يخلق ملح الطعام الذي لا نستغني عنه في كل وجبة طعام، ويشكل جوهراً في تركيب أخلاط الدم. وفي يوم كان الناس يتبادلونه مثل صرر النقود والمعادن النفيسة، كما ان الزئبق والذهب يقتربان من بعضهما جداً وسحب بروتون واحد من الزئبق تقلبه ذهباً وبالعكس. والبلوتونيوم 239، يعتبر سلاح التفجير النووي، ومن ملكه أصبح قوة عظمى، ولو كان شعبه مليون نسمة. وهو يوجد باللعب في ذرة اليورانيوم بين اضافة بروتون وسحب نترونين لقلب الذرة التي تحمل 92 بروتوناً و146 نتروناً. وقانون التعددية هذا يسري على كل الكون، «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء».
(الحقيقة الثانية): ان الكون خلق بالأصل على قانون الاختلاف، ولذلك خلقهم ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكنه لم يجعلهم أمة واحدة. وإلا ما معنى أن يجعل لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
(الحقيقة الثالثة): ان هذه الجدلية والاختلاف يمشيان في اتجاهي التفاعل أو التدمير. وهي ظاهرة معروفة في الفيزياء. فاجتماع الإلكترون والبوزترون يدمر الاثنين، واجتماع المادة ومضاد المادة يفني الجانبين ويطلق طاقة خرافية. وإذا تشقق المجتمع إلى أقليات تعيش كل أقلية في شرنقتها الخاصة، تتبادل الكراهية أكثر من الخبرة والكيد أكثر من التنوع الثقافي، فإن حدث هذا، دخل المجتمع ليل التاريخ ويتبرمج آلياً للحرب الأهلية، كما حصل في البوسنة ورواندا ولبنان، أو دخل مشكلة التطهير العرقي كما حصل في تركيا بإبادة مليون أرمني عام 1918، أو في اسبانيا بتهجير مليوني مسلم بقرار الترحيل الجماعي للملك فيليب الثاني عام 1608، وقد يحل المجتمع المشكلة الإثنية، ولكنه يتورط في مشاكل جديدة كما في الحرب الأهلية مع الأكراد في تركيا، بعد أن انتهى من مذابح الأرمن. وكاد أن يطير رأس أوجلان على حبل عثماني مجدول لولا السوق الأوروبية التي أجبرت تركيا على إلغاء حكم الإعدام. فسارع برلمانهم يقول إنها مفخرة عثمانية منذ أيام السلاطين، ولكن لم نعلن عنها حتى اليوم. وكما اندلعت الحرب الأهلية في اسبانيا بين فرانكو والشيوعيين، فالتهمت في نارها ثلاثة ملايين من الأنام. وقتل الاسباني الاسباني بعد أن لم يبق مسلم من أيام عبد الرحمن الناصر. لأن جدلية الاختلاف الجوهرية لم تحل، وجدلية الاختلاف تنهي التناقض في مرحلة ولكنها لا تحل كل التناقض بل تقفز إلى عتبة جديدة، فهذا قانون وجودي.
ويبدو أن الجغرافيا تلعب دوراً في تشكيل شرانق الانعزال إلى حين دخول المجتمع المرحلة المدنية وانفتاحه على بعض، كما يحدث في الخراجات المتعفنة حينما تنفتح إلى السطح الخارجي. فلا شيء أخطر من انحباس الخراجات في جيوب عميقة معزولة، ولا أصلح (للعقد النفسية) من التنفس للخارج فيتحرر المرء من عقال.
وفي الشام مثلا تكاثرت الطوائف بسبب جغرافي بحت بوجود الجبال التي تعين على الانعزال، فمع أن مصر صدرت الدروز والعلويين، لكنهم لم يحافظوا على وجودهم إلا في جبال سوريا ولبنان. وينطبق نفس الشيء على اليزيديين والشيعة، فمع أن يزيد بن معاوية توفي قبل ألف سنة ولم يخرج الامام المختفي ولكن الطوائف المتعلقة بهم زاد عددها وامتد نطاقها. سنة الله في خلقه. وينطبق هذا على بعض مناطق العالم العربي، حيث الصحارى المعزولة، مما شجع على انعزال فرق الخوارج أو نشوء تيارات التشدد. وهو عكس ما يحصل لأهل السواحل، حيث يتم من خلال التجارة تبادل الأفكار مع البضائع. وهكذا انتقلت البوذية على طول طريق الحرير، حيث دمر الطالبان تماثيل بوذا. ومشى حواريو المسيح كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي على طول الطرق التي سلكتها اللجيونات الرومانية فانتقلت المسيحية الى كل الأصقاع حتى القبائل الجرمانية وايرلندا.
وحيث الجبال عششت الفرق الخائفة من الاضطهاد، كما في الدروز في جبل العرب. والمارونيين في جبال لبنان، واليزيديين في جبل سنجار، ولم يحصل هذا في مصر لأن حواف النيل لا تسمح بالعزلة، فاختلط الناس. وفي يوم كانت مصر فاطمية لمدة مائتي سنة، ولكن لا يوجد اليوم فاطمي واحد، والأزهر صممه الفاطميون بالأصل مع مجيء جوهر الصقلي لنشر الدعوة الفاطمية، وهو اليوم مركز إشعاع الفقه السني. وفي الوقت الذي أنتجت مصر الدروز فانمحى رسمهم هناك انتقلوا إلى الشام فوجدوا الملاذ في جبال معزولة حتى حين. ونفس الشيء حصل لأتباع زرادشت في إيران وللبهائيين. سنة الله في خلقه. واليوم تصدق أوكرانيا على قانون يحظر الجماعات الدينية التي ينقص عددها عن عشرين، ولكن المسيحية بدأت برجل واثني عشر حواريا وخائنا. والأديان والأحزاب والجماعات تبدأ من رجل واحد كما حصل مع حسن البنا في الإخوان المسلمين وانطوان سعادة مع الحزب القومي وميشيل عفلق مع حزب البعث وأكرم الحوراني مع الحزب الاشتراكي ولينين مع الحزب الشيوعي. وإن ابراهيم كان أمة قانتا لله ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه. ولكن الدعوات في العادة تبدأ عملها بدون رخصة مزاولة مهنة، فتحارب وتنمو حتى تتغلب. سنة الله في خلقه.
وامتصت إيران الإسلام بطريقتها الخاصة، حيث المعارضة فأنبتت المذهب الشيعي والموضوع لا علاقة له بالتفكير والاختيار. أكثر من الملابسات الجغرافية والتنوع الحضاري. والإسلام في إيران هو تمثل خاص لمادة الخام الإسلامية. وإسلام التتر غير إسلام أهل البوسنة، وهو مبدأ مهم أن نفهم أن كل تنوع ثقافي يمتص الفكر بطريقته الخاصة ويلونه بلونه المتميز. وفكرة تنوع النماذج أو النسخ الإسلامية مهمة، كما صرح بذلك شيخ الأزهر في مقابلة لمجلة «در شبجل» الألمانية. وبذلك اختلف الإسلام التركي عن الإيراني والماليزي عن العربي. وأربكان في تركيا حل صراعه مع النظام العلماني ليس حسماً بالسيف، بل بالصبر على الأذى وانتظار نضوج الثمر، فكل أمة لها نكهتها الخاصة في التصدي للمشاكل.
ولكن العصر يتغير واحتكاك الثقافات يزيد، وفي أوروبا توجد إثنيات لا نهاية لها، ولكن المواطن يعطي ولاءه اليوم إلى ما هو أكبر من الدولة القومية. وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. وليس لتتقاتلوا.
وفي كندا يرحب بالمهاجر ويقال له نحن نرحب بك حسب انتمائك الإثني ونريد منك أن تغني تجربة المجتمع الكندي، ومن يمشي في شوارع مدينة مونتريال في كندا يلاحظ تباين الألوان لأقوام يرطنون بعشرات اللغات ومئات اللهجات، وتسعى كندا للمحافظة على تراث الهنود الأصليين في أكثر من مناسبة وتشريع.
وكما يقول المؤرخ توينبي إن أقوى تجمعات الأرض كانت أمريكا الشمالية بسبب هذا التمازج الإثني والولاء للمجتمع الكبير وأن قيمة الإنسان من عمله وليس أصله.
وأما في الشرق المنكود فما زالت تعيش أيام تيمورلنك وكل يحدق من حوله بنظارة لونية مختلفة، هل هو شيعي تشع من عينيه الحيلة؟ أو سني متشدد؟ أو أموي شارك في قتل آل البيت في الوقت الذي لم يبق على ظهرها أموي ولا إمام؟!
وطالما عششت فينا هذه الخراجات فلنرتقب خسفاً أو مسخاً أو ريحاً حمراء أو ريحاً صرصراً سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا