الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولـةفي ظل الــقــرن الحـــادي و الـعــشــريــن

ساسي سفيان

2004 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


الباحث الجزائري ساسي سفيان
الدولـةفي ظل الــقــرن الحـــادي و الـعــشــريــن

الدولة الديمقراطية :
" الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجية أو إرادة وهمية، بل على إرادة عامة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية - اقتصادية واحدة... والدولة القومية تتميز بأنها لم تعد دولة تجبل الأقوام جبلاً في مساحة الأرض التي تبسط ظلها عليها، لأنها أصبحت تصطدم بإرادة متحدة هي، قوميتها، وإرادة القوميات الأخرى. فإذا اتسّع نطاق الدولة حتى جاوز نطاق الأمة أصبحت الدولة إمبراطورية أو استعمارية كما هي الدول الأولى الآن" (1).
الدولة القومية:
إزاء التحديات الخطيرة التي تواجه الكوكب الأرضي، التهديد النووي، التلوث الخطير للبيئة، توسع ثقب الأوزون...وإزاء التغيرات التي تفرضها النتائج المتسارعة للثورة الجديدة. يتساءل عدد ممن المفكرين والباحثين عن مصير ومستقبل الدولة القومية. جان تنبرغن الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1969 يقول: " لم يعد من الممكن أن تحل ، الحكومات الوطنية مشاكل البشرية ، فما يلزم لذلك هو حكومة عالمية " (2) . ويتساءل بول كينيدي عن مستقبل الدولة القومية بعد هذه التطورات المتخطية للقوميات ويقول : " هل بقي من دور كبير لتلعبه الهيئات القومية كمجالس الوزراء أو وزارات التجارة ؟ وإذا لم يعد أمام هيئات كهذه دور كبير تؤديه ، فكيف يمكن لنا أن نعتقد بأن الدول برمتّها تستطيع أن تنسق فيما بينها في مواجهة القرن القادم " (3) . ويعتبر "أن الثورة المالية الدولية تفرض تحدياتها الخاصة على السيادة المفترضة للدولة القومية . وأنه إذا كانت التحديات الجديدة ذات سمات كونية فلا يمكن مجابهتها إلا على نطاق دولي ومن خلال الوكالات المتخطية للقوميات "(4) .
لكن هل يمكن أن نتصور إمكانية تحقيق هذه الأحلام ؟ وهل يمكن القول أن الدولة القومية هي دولة القرن الحادي و العشرين و التي نشأت في الحقبة الأخيرة من تاريخ البشرية أصبحت في طور الأفول ؟ وهل يمكن أن نتصور انتهاء الأمم وزوال شخصياتـها واندماجـها في شخصية واحدة على المستوى العالمي ؟
يقول أنطون سعادة : " كانت الدولة قبل نشوء القومية إرادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله، أما بعد نمو القومية فقد أصبحت النظام والهيئة الممثلين لإرادة الأمة "(5). " والأمة هي واقع اجتماعي بحت "(6). والأمة متحد اجتماعي أو مجتمع طبيعي من الناس قبل كل شيء آخر. وكل ما مرّ آنفاً من العناصر هي أوصاف للأمة ناشئة من مجرى حياتها وتاريخها ،.. وهي قابلة التطور والتكيف ، فقد تتعاقب الأديان ويتحول الأدب و تتعدل التقاليد وترتقي الثقافة في أمة من الأمم من غير أن يشوب سنة نشوء الأمم شائبة ، ومن غير أن ينتفي وجود الأمة ، إلى أن تزول الأمم والقوميات من الوجود ويصبح العالم كله متحداً اجتماعياً واحداً لا تفصل بينه فواصل أرضية أو اجتماعية أو اقتصادية "(7) . رغم كل التطورات التقنية المذهلة التي تحتم التقارب والتعاون والتنسيق بين المجتمعات البشرية، لا نعتقد أننا اقتربنا أو سنقترب من المرحلة التي يمكن أن نتصور فيها زوال الفواصل الأرضية والاجتماعية والاقتصادية .
ثمة مشاكل وتحديات فوق قومية على مستوى قاري أو مستوى كوني ، وهذه المشاكل والتحديات تتطلب تنسيقاً وصيغاً على مستوى قاري أو مستوى كوني، لكنها لا تختزل التحديات القائمة على المستوى القومي والنابعة من الواقع الاجتماعي لكل أمة ، بل على العكس من ذلك، فالواقع الجديد يتطلب فعالية أكبر و استعداد أكبر للأمة ولدولتها حتى يمكن مواجهة التحديات قومية . والأمة التي لن تستطيع تعزيز لحمتها الداخلية وبناء اقتصادها القوي وتأمين قوتها المادية والنفسية قد تتمزق وتتلاشى نتيجة الصراعات الدولية المتعددة الأوجه التي تقودها الليبرالية الجديدة المتوحشة .
جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 1994 : " الشمال لديه زهاء خمس سكان العالم وأربعة أخماس دخله، وهو يستهلك 70 % من مصادر الطاقة الموجودة في العالم ويستهلك 75 % من معادنه و 85 % من أخشابه " (8) .
ويصرح معدّو التقرير " ليس ثمة سبب يدعو لقبول الكيفية الحالية التي تتقاسم بها الأمم الفنية والأمم الفقيرة تراث الإنسانية المشترك. فلأن البيئة عوملت على أنها مورد مجان ، استغلت الأمم الغنية ذلك مسببة معظم التلوث في العالم " (9).
لا يمكننا أن نتوهم أبداً إقدام الدول الغنية على مساعدة الدول الفقيرة انطلاقاً من اعتبارات أخلاقية وإنسانية . والليبرالية الجديدة المتوحشة التي تترك ملايين من أبناء شعبها بدون أكل ودون مأوى ، لن تعطف أو تحن على الشعوب الأخرى حيث 800 مليون نسمة فـي العالم يجوعون(10) . وإن فلسفتها هي كما يقول هاني العاصي " فلسفة دستور: دعه يعمل ، دعه يمر، دعه يجهل، دعه يمرض، دعه يجوع، دعه يموت (11) .
العالمية ( الإمبراطورية الكونية ) :
إن فكرة الوحدة العالمية هي فكرة قديمة وجميلة ولكن تبين أنها خيالية، نجدها في العديد من الفلسفات والأديان ، في الرواقية ، في المسيحية والمحمدية ، في الماركسية وفي الرأسمالية الليبرالية المنتشية بالظفر بعد زوال المعسكر الاشتراكي. ونجدها في الدول الإمبراطورية التي سعت كلها عبر التاريخ كي تكون إمبراطوريات كونية شاملة، لكن تبين أن هذا لم يكن سوى حلم
ربما تنجح أميركا أو غيرها من الدول العظمى في إنشاء إمبراطورية كونية من نمط جديد، لكنها تظل محكومة في عقلية ونهج الإمبراطوريات السابقة، وتظل محكومة أيضاً بطرق زوالها . ويذكر جوزيف شترا ير أن العالم القديم قد شهد نوعين من الوحدات السياسية : المدينة - الدولة و الإمبراطورية . ويقول : " كانت المدينة - الدولة تستخدم مواطنيها بصورة أفضل مما تفعله الإمبراطورية ، فكان سكانها يشتركون بنشاط وفعالية في الحياة السياسية والنشاطات الاجتماعية. وكان الولاء نحو الدولة قويا ً.
ولكن لم يحدث أبداً أن استطاعت مدينة - دولة أن تحل مشكلة استيعاب أراض جديدة أو سكان جدد . وكانت المدينة الدولة تصبح نواة الإمبراطورية وتكون بذلك خاضعة لجميع متاعب الإمبراطورية . وتبقى المدينة - الدولة ضعيفة عسكرياً وتسقط عاجلاً أو آجلاً ضحية للغزو. وكانت الإمبراطوريات تتمتع بالقوة العسكرية لكنها لم تكن تستوعب سوى قسم صغير من سكانها في العملية السياسية أو في نشاط آخر يتجاوز المصالح المحلية المباشرة . وكان ذلك يسبب تبديداً كبيراً للموارد البشرية ، ونزعة ولاء معتدلة جداً إزاء الدولة .
وبالنسبة للأكثرية الكبرى من رعايا إمبراطورية ما ، لم يكن الخير الأعلى هو صيانة الدولة . وهناك حالات لا تحصى كان السكان ينظرون فيها دون تأثر إلى انهيار الإمبراطورية للعودة إلى وحدات سياسية أصغر ، أو الامتصاص من قبل إمبراطورية جديدة تقودها نخبة جديدة " (12).
الدولة القومية التي نشأت في الغرب أخذت قوة المدينة - الدولة من حيث إشراك الناس بفعالية أكبر في الحياة السياسية ، ومن حيث قوة ولائهم للدولة . كما أخذت من قوة الإمبراطورية المدى الذي يعطيها القوة والمناعة لضمان أمنها والدفاع عن نفسها. من أهم ميزات الدولة القومية مطابقة الدولة للأمة كمجتمع طبيعي، وأنها تعبير عن إرادة الأمة وليست تعبيراً عن إيرادات خصوصية أو خارجية أو غيبية . لذلك فالدولة القومية هي حكماً دولة ديمقراطية .
وقد عرف القرن التاسع عشر بأنه عصر القوميات في أوروبا ، لكن في الواقع كانت الدول الأوروبية التي حملت الصفة القومية ، دولاً استعمارية تتجاوز نطاق المجتمع الأمة وتحمل فلسفة عنصرية بلغت ذروتها في الحركة النازية .
وقد عرف القرن العشرون بأنه عصر اكتمال القوميات في العالم ، خاصة مع حركات الاستقلال بعد الحرب العالمية الثاني .
لكن ، في الواقع ، نجد أن معظم الدول التي تنتمي إلى ما يسمى شعوب العالم الثالث لم تكن دولاً قومية بالمعنى الصحيح للكلمة ، نتيجة التخلف الذي تعانيه هذه الشعوب وغلبة العصبيات المحلية من أثنية وطائفية وعشائرية وغيرها ، وبغياب الإرادة العامة والولاء الجامع غابت الديمقراطية، وبغياب أو ضعف التفكير العقلاني وعدم معايشة أو استيعاب الانقلابات المعرفية الكبرى التي شهدتها أوروبا منذ حوالي الخمسة قرون بقيت ثقافة القرون الوسطى وثقافة عصر الانحطاط هي المسيطرة في معظم هذه المجتمعات . إن نشوء الدولة القومية في الغرب بدأ قبل الثورة الصناعية التي عرفتها أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وفي هذا الصدد يقول جوزيف شتراير:"منذ بداية القرن الرابع عشر ، أصبح بديهياً أن الدولة ذات السيادة ستكون البنية السياسية الغالبة في أوروبا الغربية . وأن الإمبراطورية الكونية الشاملة لم تكن أبداً سوى حلم . لقد لزم أربعة أو خمسة قرون للدول الأوروبية لكي تتغلب على نواحي ضعفها، وتسد الثغرات والنواقص الإدارية، وتحول ولاء فاتراً إلى نزعة وطنية وقومية ملتهبة " (13) . لكن الثورة الصناعية بما أحدثته من انقلاب في أساليب العمل وأسس الاجتماع ساهمت في تعزيز الدولة القومية وفي تعزيز وحدة المجتمع بعد صراعات مريرة داخل المجتمع أدت إلى لجم الليبرالية المتوحشة ، وأجبرت الدولة على التدخل لتخفيف البؤس والمعاناة عن الفئات الشعبية الكادحة . إذا كانت خطيئة الدول البوليتارية هو التدخل الكلي في شؤون الأفراد والجماعة إلى حد مصادرة المجتمع وتعطيل فعاليته ، فإن جريمة الليبرالية المتوحشة هو منع الدولة من أي تدخل بحجة حماية الحرية التي لا تعني سوى حرية الرأسماليين في الاستغلال إلى أقصى الحدود ،.. وحرية المحرومين في الصراخ والألم والجوع والتشريد والمرض والموت .
الثورة و مستقبل الدولة :
إن الثورة الجديدة بما تقدمـه من تقنيات متطورة يمكن أن تجلب الأمل والخير للبشرية ، لكن يمكنها من جهة أخرى أن تجلب الموت والدمار . فالمشكلة هنا لا تكمن في التقنية ، وإنما في نظام القيم الذي يقف وراءها . يصرح بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت :" أن سيادة الولايات المتحدة ستزداد : التقنيات الجديدة هي أميركية ، إذن نحن المستفيدون من انفجار الأسواق "(14) . إن العولمة التي تحصل في اتجاه تعزيز سيادة الإمبراطورية الأميركية والفلسفة الليبرالية المتوحشة سترفضها المجتمعات ذات الأنظمة السياسية والاجتماعية المتطورة لأنها ستزيد من ويلات الشعوب ومآسيها ،.. وقد تجلب الدمار الشامل . أما العولمة في اتجاه انفتاح المجتمعات البشرية على بعضها من خلال تأكيد شخصيات الأمم والدول القومية المعبرة عنها فهي غنى وخير كبيران . يقول أنطون سعادة : " أوجدت الأبجدية والتجارة اتجاهاً ثقافياً جديداً انتهى إلى عصر الآلة الصناعية الذي هو عصر التمدن الحديث . وهذا العصر فسح للثقافة العقلية أوسع مجال ورقّى التفاعل الاجتماعي إلى درجة عالية جداً . يمكن الآن ملايين البشر أن يفكروا في قضايا الإنسانية الحيوية والاجتماعية مستقلين ومشتركين ، وأن يشتركوا في ثقافة إنسانية عامة يدهش المفكر لألوانها المتعددة تعدد القوميات ، وللخصائص النفسية التي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات " .
إن شخصيات الأمـم الضاربة في أعماق التاريخ ، والمنشئة له لن تلغيها الثورة الجديدة ، بل بالعكس من ذلك فالتقنيات الجديدة الناجمة عن هذه الثورة ستعّزز شخصيات هذه الأمم إذا عرفت كيف تستفيد منها لتدخل في ثقافة العصر بعدما تخلّفت عن الدخول في الثورة الصناعية ولم تحصد سوى النتائج السلبية لها. إن تعزيز وحدة المجتمع بكونه بيئة الاجتماع حيث يجري الاشتراك في حياة واحدة ، ستسارع إذا سيطر التفكير العقلاني وانتشرت المعارف والعلوم ، وهذا ما يمكن أن تقدمه الثورة الجديدة من خلال التطور المذهل في الإعلام والمعلوماتية وسرعة انتشار شبكة الانترنيت ، ويتهاوى الانغلاق الفكري والاجتماعي مما يؤدي إلى زوال العصبيات الأثنية والطائفية والعشائرية ، ويتعزز الولاء الجامع العقلاني والمنفتح الذي يقوم على أساس الاشتراك في الحياة الواحدة بغض النظر عن الاختلافات الاثنية والمذهبية والدينية وغيرها، وتنبثق الإرادة العامة التي يعبر عنها في الدولة القومية ، دولة الأمة المنفتحة على العالم والمساهمة بفعالية في الثقافة الإنسانية الواحدة .
المستقبل ليس للإمبراطوريات ولا للدول العنصرية المنغلقة .
المستقبل هو للدولة القومية الديمقراطية الناظمة لشؤون مجتمعها ، والمعبّرة عن إرادة الأمة في عالم منفتح يبتدع مؤسسات وصيغ تعاون وتنسيق لمواجهة المشاكل والتحديات الكونية، لا مؤسسات تشكل ظلاً أو امتداداً لإمبراطورية استعمارية تدّعي زوراً الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان .

مصادر ومراجع الدراسة
(1) انطون سعادة ، نشوء الأمم ، الطبعة الثانية ، دمشق 1951 ، ص 138 – 140
(2) المرجع السابق، ص 103 .
(3 ) تقرير التنمية البشرية لعام 1994 ، ص 88 .
(4) بول كينيدي – الاستعداد للقرن الحادي والعشرين ، دار الشروق ، بيروت 1993، ص ص 167 - 168
(5) بول كينيدي – المرجع السابق، ص 174 و177
(6) انطون سعادة، المرجع السابق، ص 140
(7) المرجع السابق، ص 141
(8) المرجع السابق، ص 178
(9) تقرير التنمية البشرية لعام 1994، ص 18
(10) تقرير التنمية البشرية لعام 1994 ، ص 27
(11) هاني العاصي، مجلة اتجاه، نيسان 1996 ، ص 6
(12) جوزيف شتراير، الأصول الوسيطة للدول الحديثة، دار التنوير، بيروت 1982 ، ص 15
(13) جوزيف شتراير، المرجع السابق، ص 59
(14 ) Ignacio Ramonet, le Monde Diplomatique, Mars 1995. P:1
(14) أنطون سعادة، المرجع السابق، ص 86 .

الباحث ساسي سفيان
البريد الإلكتروني : [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا