الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علم الاجتماع والليبرالية: دوركايم نموذجاً

أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية

2011 / 8 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مقدمة:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيطرت على المناخ الفكري والأكاديمي الغربي نزعات فردية Individualism و نفعية Utilitarianism ، وكان أبرز ممثلي هذه النزعات جيريمي بنتام و جون ستيوارت ميل في النظرية السياسية و الاقتصاد السياسي، و سبنسر في علم الاجتماع، و فونت في علم النفس. و كانت نفس هذه الفترة هي فترة ظهور علم الاجتماع و سعي رواده نحو تأسيسه كعلم. و قد وجد كثير من هؤلاء الرواد أن علم الاجتماع لن يستطيع التواجد على الساحة الأكاديمية ما لم يقدم نقدا للنـزعات الفردية و النفعية و يحل محلها، ذلك لأن هذه النزعات تنظر إلى الفرد على أنه هو الحقيقة الأولى والأخيرة وهو الموضوع الوحيد الجدير بالبحث العلمي، وترد جميع الظواهر الاجتماعية إلى وقائع فردية؛ و بذلك لا تعترف باستقلالية للمجتمع عن أفراده، و تكون العلوم الاجتماعية الحاصلة على شرعية وفق هذه النزعات هي علم النفس و الاقتصاد السياسي والتاريخ فقط. لم يكن لعلم الاجتماع إذن دور في ظل النزعة الفردية لليبرالية القرن التاسع عشر، ولهذا السبب نجد لدى أغلب رواد علم الاجتماع مواجهة و نقدا وأحيانا صراعا فكريا مع الليبرالية، و أبرز هؤلاء ماركس و تونيز و دوركايم.
يتشابه الوضع الفكري و الأكاديمي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مع ذلك الوضع الذي وصفناه للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالنزعات الفردية عادت إلى الظهور حتى في مجال علم الاجتماع نفسه، و أبرز مثال على ذلك اتجاه نظرية الاختيار العقلاني Rational Choice Theory والاتجاهات الفينومينولوجية و الإثنوميثودولوجية و التفاعلية الرمزية Symbolic Interactionism، بالإضافة إلى نظرية الفعل لدى بارسونز Action Theory و مدرسته و المستمرة حتى الآن؛ و هي كلها اتجاهات تحاول استخلاص كل المجتمع ببنائاته و نظمه من أفعال الأفراد و توجهاتهم المعيارية. هذا الوضع الحالي المتمثل في الصعود الجديد للنزعة الفردية يصاحبه صعود آخر للنزعة النفعية التي تتجسد في سيطرة المنظور الاقتصادي، بل والاستهلاكي، على العلوم الاجتماعية، و طغيان الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي على علم الاجتماع وتراثه النظري. فأصبحنا نرى الآن تزايدا في الاهتمام بنظريات اجتماعية و سياسية من صنع الاقتصاديين أمثال فون ميسز Von Mises و فريدريك هايك Hayek و ميلتون فريدمان Friedman ، و ذلك في ظل انسحاب رواد علم الاجتماع ونظرياتهم إلى الظل. و هذا ما أدى إلى حلول الليبرالية الاقتصادية محل المنظور السوسيولوجي الأصيل.
إن هذا الوضع يدفعنا نحو إعادة قراءة التراث السوسيولوجي عند لحظة تأسيس علم الاجتماع، فهذا التراث، و عند لحظة تأسيسه بالذات، واجه النزعات الفردية والنفعية بنجاح، و كذلك واجه الليبرالية الاقتصادية و أسس علم الاجتماع في مواجهة الاقتصاد السياسي. وأبرز مؤسسي علم الاجتماع الذين يتضح في أعمالهم هذا الجانب الناقد للفردية و النفعية هو دوركايم. ونظرا لتشابه الوضع الفكري والأكاديمي بين عصر دوركايم و عصرنا نستطيع القول أن دوركايم لا يزال معاصرا لنا، بمعنى أن نظريته السوسيولوجية لا تزال قادرة على إلهامنا بأفكار ومواقف نستطيع بها الوقوف أمام الصياغات العلمية المعاصرة للنزعات الفردية والنفعية وأمام طغيان المنظور الاقتصادي على العلم الاجتماعي.
المسلمات الأساسية لليبرالية:
يحتوي الفكر السياسي الليبرالي على نظرية في المجتمع و ذلك قبل ظهور علم الاجتماع بزمن طويل. إذ تنتمي إلى الفكر الاجتماعي أفكار هوبز و لوك وروسو حول حالة الطبيعة الأولى السابقة على الاجتماع البشري، و حول كيفية نشأة الدولة والنظم السياسية انطلاقا من هذه الحالة الأولى فيما يعرف بنظرية العقد الاجتماعي، وحول الحقوق الطبيعية ووسائل ضمانها من قبل النظام السياسي. وعندما ظهر علم الاجتماع في القرن التاسع عشر كان الفكر الليبرالي مكتملا ويمتلك عددا مترابطا من النظريات حول طبيعة المجتمع ونشأته و ظهور السلطة السياسية به و دور الأفراد فيه. ماذا كان موقف علم الاجتماع من هذا التراث الليبرالي السابق عليه؟ لقد كان على علماء الاجتماع تحديد موقفهم من الفكر الليبرالي سواء بصورة صريحة أو ضمنية، لا في بداية ظهور علم الاجتماع وحسب، بل عبر تاريخ هذا العلم كله. ولم يكن موقف علماء الاجتماع مجرد موقف من تراث سابق عليهم و متمثل في شخصيات بعينها مثل هوبز و لوك و روسو و ميل و بنتام، بل من أفكار و قضايا ونظريات ظهرت في هذا التراث و تقف عقبة في طريق تأسيس علم الاجتماع كان على رواده تخطيها.
تعبر الليبرالية عن نزعة فردية Individualism . تتمثل هذه النزعة في النظر إلى الفرد على أنه هو الوحدة الأولى المكونة للجماعة، و النظر إلى الجماعة على أنها ليست إلا مجموع أفرادها. و تترتب على هذه النزعة مجموعة من المسلمات:
أ. ينشأ المجتمع بكل نظمه نتيجة اتفاق إرادي و طوعي بين الأفراد.
ب. إن ما يدفع الأفراد للدخول في مجتمع الرغبة في الحفاظ على حقوقهم الطبيعية وممتلكاتهم التي تتعرض للخطر إذا لم يكن هناك نظام يحميها.
ج. يتحقق النظام في المجتمع بطريقة تلقائية و بدون تخطيط مقصود. فلأن المجتمع ليس إلا مجموع أفراده المكونين له، يتحقق الخير العام بسعي كل فرد نحو مصلحته الخاصة.
د. المصلحة العامة هي مجموع مصالح الأفراد و هي في طبيعتها مصلحة فردية معممة على المجتمع كله.
هـ. الآلية التي تحقق النظام و التوازن التلقائي في المجتمع تشبه في عملها طريقة عمل اقتصاد السوق
و. نظرت الليبرالية إلى القيم على أنها ذاتية، أي يمتلكها الأفراد فقط، أما المجتمع فلأنه شئ مصطنع فهو محايد تجاه القيم.
و الحقيقة أن المسلمات السابقة تحبط أي محاولة للتفكير العلمي في المجتمع، ذلك لأنها لا تعطي للمجتمع استقلالا عن أفراده و تنظر إليه على أنه شئ مصطنع، وتستبعد أن يكون المجتمع نفسه مبدأ لتفسير الظواهر الاجتماعية، فالأفراد بأهدافهم الجزئية هم مبدأ التفسير لدى الليبرالية لا المجتمع كمقولة مستقلة. كما أن الذهاب إلى أن النظام يحدث بصورة تلقائية أو بفعل يد خفية أو آلية شبيهة بآليات السوق يستبعد أي تفكير سوسيولوجي في المجتمع، ذلك لأن هذه الطريقة في التفكير تنظر إلى المجتمع على أنه سوق كبيرو بالتالي تختزل الظواهر الاجتماعية إلى البعد الاقتصادي. و لهذا السبب كانت العقيدة الليبرالية مناسبة تماما للاقتصاد السياسي. وكانت معارك رواد علم الاجتماع مع الاقتصاد السياسي بهدف إثبات مشروعيته كعلم، و ظل الجدل قائما بينهما طوال القرن العشرين؛ و المحرك الأساسي لهذا الجدل هو احتواء الاقتصاد السياسي على النواة الليبرالية التي تتعارض مع النظرة السوسيولوجية للمجتمع.
وأبرز من ظهر لديه هذا الجدل واضحا و قدم نقدا سوسيولوجيا لليبرالية من رواد علم الاجتماع هو دوركايم. و سوف تحاول هذه الدراسة الكشف عن كيفية تأسيس دوركايم لعلم الاجتماع من خلال صراعه مع النزعة الفردية لليبرالية.
المجتمع "تصور" في الوعي الجمعي:
يذهب دوركايم إلى أن ما أعاق ظهور علم الاجتماع هو نظرة أغلب علماء السياسة السابقين منذ أفلاطون إلى المجتمع باعتباره شيئا مصنوعا من قبل الأفراد. فالمجتمع في نظر هؤلاء وسيلة يتمكن بها الفرد من تحقيق مزيد من المنافع و ذلك بالتعاون مع أقرانه، و هي منافع لن يستطيع تحقيقها إذا عاش بمفرده. الاجتماع إذن يأتي بقرار و تخطيط من قبل الأفراد ( ). و الحقيقة أن علماء السياسة هؤلاء كانوا يخلطون بين المجتمع و الجسد السياسي؛ فمن الممكن أن يكون التنظيم السياسي نتيجة تخطيط و تعاون من قبل الأفراد و اتفاق بينهم على إقامته، إلا أن هذا لا ينطبق على المجتمع. و الواضح أن دوركايم يدافع عن وجهة النظر المقابلة الذاهبة إلى أن المجتمع شيء طبيعي يظهر نتيجة لتواجد البشر معا. إذ أن مجرد تواجدهم واشتراكهم في نشاطات الحياة يخلق بينهم الروابط التي تعرف في مجموعها بالمجتمع.
وعن الوعي بالمجتمع لدى الأفراد يذهب دوركايم إلى أن شعور الأفراد بانتمائهم إلى مجتمع ما إنما يرجع إلى وعي جمعي لديهم Collective Consciousness ليس مصدره الأفراد. فالمجتمع عبارة عن تصور جمعي و لا يرجع أبدا إلى أفكار فردية؛ إذ يمكن أن ترجع التصورات الفردية إلى أسباب سيكولوجية أو فيسيولوجية أو يمكن أن تكون استدعاء من الذاكرة لوقائع أو خبرات فردية سابقة، ولا يمكن أن تكون هذه أسبابا لمقولة المجتمع في وعي الأفراد. يقول دوركايم:"التصورات الجمعية (عن المجتمع) هي لحمة نسيج (هذا المجتمع)" ( ) ، فهذه التصورات هي التي تشكل المجتمع نفسه. وفي نفس هذا السياق يقول "الوقائع الاجتماعية هي أمور مستقلة على نحو ما عن الأفراد وخارجية بالنسبة للمشاعر الفردية". وهذه الوقائع الاجتماعية تفرض نفسها من الخارج على الأفراد. وعلى هذا الأساس درس دوركايم ظواهر مثل الدين والقانون وتقسيم العمل و نظم التربية، وتوصل إلى أن الظاهرة الاجتماعية "ملزِمة، وأن هذا الإلزام هو دليل على أن هذه الأنماط .. ليست من عمل الفرد، وإنما هي في جملتها أمور صادرة عن قوة معنوية تفوقه" ( ) . ويؤكد دوركايم على أن مصدر التصورات الجمعية المجتمع لا الفرد بقوله: "إن القول بأن التصورات الجمعية .. أمور خارجية بالنسبة للمشاعر الفردية لا يعني أن هذه التصورات تنجم عن الأشخاص فرادى وحدانا، بل المقصود أنها تنبعث عما يقوم فيما بينهم من اتحاد و ترابط".
العوائق المنهجية في طريق تأسيس علم الاجتماع:
كانت النزعة الليبرالية للاقتصاد السياسي في عصر دوركايم من أهم عوائق ظهور علم الاجتماع وتأسيسه كعلم. وفي محاضرة مبكرة لدوركايم (1888) تناول فيها علاقة الاقتصاد السياسي بالعلم الجديد محددا إسهاماته في العلم الاجتماعي والمعوقات التي يشكلها أمام علم الاجتماع. وكان تعامل دوركايم مع مدخل الاقتصاد السياسي في دراسة المجتمع سابقا على دراساته السوسيولوجية الأساسية والتي بدأت بكتاب "تقسيم العمل في المجتمع" سنة 1894، ويدل هذا على أن دوركايم كان عليه التعامل مع التحيز الفردي للاقتصاد السياسي قبل أن يضع أسس منهجه السوسيولوجي (1896). يذهب دوركايم إلى أن الخدمة التي أداها الاقتصاد السياسي لعلم الاجتماع هي أنه نظر إلى الحياة البشرية على أنها كاشفة عن قوانين يمكن اكتشافها ودراستها. لكنه، ولحرصه الشديد على أن يميز نفسه عن العلوم الأخرى عزل موضوع دراسته ونظر إلى الإنسان من جانب واحد فقط وهو كونه إنسانا اقتصاديا Homo Economicus ، و على الرغم من أن الظواهر الإنسانية مركبة ومتشابكة إلا أن اقتصاره على الجانب الاقتصادي جعل دراساته مجردة وموضوعه كما لو كان عائما في الفراغ ( ) . بعكس علم الاجتماع الذي بدأ على يد كونت معترفا بالتشابك والتداخل بين العلوم الاجتماعية نظرا لتعدد وتعقد جوانب الظاهرة الاجتماعية.
ويذهب دوركايم إلى أن أغلب علماء الاقتصاد لم يتمكنوا من معرفة الجوانب السيكولوجية والأخلاقية والمعيارية والثقافية للظاهرة الاجتماعية لأنهم كانوا في الأساس إما رجال أعمال أو محامين أو رجال سياسة، في حين أن معرفة تعقد الظاهرة الاجتماعية يتطلب دراسة لعلم النفس والفيسيولوجيا والتاريخ، وهذا ما توافر لأوجست كونت. ويعترف دوركايم أن الاقتصاد السياسي قد أدى خدمة كبيرة لقضية حرية الفرد بتوضيحه لكيفية ظهور المجتمع من أفعال الأفراد وبدعايته لمذهب دعه يعمل Laizze Faire ولباقي المبادئ الليبرالية الأخرى؛ لكن العمل العلمي في سبيل قضية الحرية لا يمكن أن يقتصر على مجرد توضيح لأساس حرية الفرد وإمكانيتها على المستوى الاقتصادي، بل يجب كذلك أن يسعى في دراسة ما يعيق وصول الفرد إلى حريته هذه، وكذلك الإطار الاجتماعي الذي ستتحقق فيه هذه الحرية؛ فإذا كان المجتمع كيانا أخلاقيا ومعياريا في الأساس، وإذا كان يتمتع بحقيقة وأولوية وكيان أعلى من الفرد وسابق عليه، فإن دراسته يجب أن تكون أساسية بالنسبة للتناول العلمي لقضية الحرية.
ينقد دوركايم التحيز الفردي للاقتصاد السياسي بقوله:
"عندما لا يرى المرء في المجتمع إلا أفرادا ويختزل مفهوم الفرد إلى فكرة بسيطة واضحة بـذاـتها لكنها جافة وفارغة، مفهوم تم إفراغه من كل شئ مركب وحي، فمن الطبيعي ألا نسـتقي منه شيئا مركبا وبذلك ننتهي إلى نظريات مبسطة ومقطوعة الجذور. لكن إذا تمت دراسة كل ظاهرة وتم وصلها بعدد لامتناه من الظواهر الأخرى.. فلن يصير من الممكن حل الإشكاليات مقوليا" ( ) .
يواجه دوركايم في هذا النص الفردية المنهجية Methodological Individualism ويكشف عن عيوبها، فهي تنتج نظريات جافة وفارغة وسطحية ومبسطة للغاية وبالتالي لا تستطيع إفهامنا غنى وتعقد الظاهرة الاجتماعية الحية. وهو أيضا نقد للاقتصاد السياسي الذي يكشف منهجه عن الفردية المنهجية.
ويعارض دوركايم الاتجاهات التي ترفض أن يكون للمجالات التي تتجاوز الفرد حقيقة مستقلة، ذلك لأن الفرد هو كل شئ لديها. يقول دوركايم عن هذه الاتجاهات:
"إذا لم يكن هناك واقع خارج الوعي الفردي فسوف يكون فاقدا لكل مادة (عينية) خاصة به. وفي هذه الحالة فإن الموضوع الوحيد القابل للملاحظة سوف يكون الحالات الذهنية للفرد بما أنه لا يوجد شئ آخر غيرها" ( ) .
وبالتالي تتم معالجة الأسرة والزواج والدين من منطلق حاجات الفرد، وهي بالطبع طريقة خاطئة في تناول هذه الموضوعات.
"لا يمكن أن يكون هناك علم اجتماع إلا إذا كان هناك مجتمع، ولا يمكن أن تكون هناك مجتمعات إذا كان الأفراد هم كل ما هو موجود.. كيف يمكن تعريف الأشكال العينية للحياة الاجتماعية إذا كان وجودها تابعا؟" ( ) .
وتعد سوسيولوجيا سبنسر من أهم الاتجاهات الفكرية التي ينقدها دوركايم نظرا لسيطرة النزعة الفردية عليها. يذهب دوركايم إلى أن نظرية سبنسر ليست علم اجتماع حقيقي بل فلسفة علم الاجتماع، وذلك لأنه مارس في عمله الضخم طريقة رؤية الطائر Bird eyeview وأخذ يجمع معلومات عن مجتمعات مختلفة عبر التاريخ هادفا إثبات رؤيته أو فكرته المسبقة عن التطور. صحيح أنه صاحب حدس علمي سليم والمتمثل في نظرته إلى المجتمع على أنه كيان عضوي، إلا أن هدفه الأساسي هو الكشف عن أن التطور يسير من المجتمعات العسكرية إلى المجتمعات الصناعية، ومن الإلزامات القهرية القوية التي كانت تمارسها المجتمعات التقليدية على أفرادها إلى ظهور الإلزام الذاتي للفرد في المجتمعات الحديثة. ولذلك فإن ما كان يوجهه عبر عمله الكبير هو فكرة مسبقة جمع معلوماته ورتبها وصنفها بهدف إثباتها وهي أن المجتمعات تسير في تطورها نحو مزيد من الفردية، هادفا بذلك توكيد الحريات الفردية وتوضيح أن حقوق الحرية الفردية تطور طبيعي في المجتمعات. ويتساءل دوركايم هل تكون السياسة الإيجابية وفقا لسوسيولوجيا سبنسر هي العودة إلى العقد الاجتماعي لروسو مرة أخرى؟ إن فكرة العقد الاجتماعي كأساس للتنظيم الاجتماعي قد ولى زمانها ولم تكن إلا أيديولوجيا. إن سبنسر لا توجهه أفكار روسو بالطبع لكن توجهه الأفكار الليبرالية الإنجليزية التي حكمت جمعه وتصنيفه لمادته العلمية والنتائج التي أدخلها عليها لأنها أفكار مسبقة لديه. ويذهب دوركايم إلى أنه من الصحيح أن الفردية تزيد وتتقدم، إلا أن قيمة الفردية هي فيما تؤدي إليه من نتائج وليست قيمة في ذاتها. ويتمثل أحد أهداف سوسيولوجيا دوركايم في الكشف عن الجوانب السلبية لصعود الفردية الحديثة والمتمثلة في افتقاد الروابط الاجتماعية القديمة التي كانت تضم الفرد والجماعة في وحدة واحدة، وظواهر فقدان المعايير لدى الأفراد وحالة التشظي والضياع التي يعانون منها. وليس معنى صعود الفردية الحديثة انتهاء القيود المفروضة على حرية الفرد، إذ يكشف دوركايم عن أن القيود على الحرية الفردية أصبحت أكثر خفاء ومن الصعب الوعي بها واكتشافها. كما أن الخطأ الذي وقع فيه سبنسر هو الاعتقاد في أن الفرد يحصل على حريته بمعارضة المجتمع ووقوفه ضده، وأن تخف وطأة المجتمع على الفرد وتقل الإلزامات المفروضة عليه من المجتمع؛ وبلا من هذه الصورة المتطرفة في فرديتها لظهور الفردية الحديثة يثبت دوركايم كيف أن صعودها كان في إطار اجتماعي جديد هو الذي سمح بظهورها ( ) ، نتيجة لزيادة تقسيم العمل، فمع زيادة تخصص الأعمال وتجزئتها يتجزأ المجتمع ويتحول إلى مجموعة من الأفراد. إن توضيح النتائج السلبية للفردية الحديثة والمعوقات الخفية لمزيد من التحرر والأساس الاجتماعي للحرية الفردية هي أهداف دوركايم في دراساته السوسيولوجية.
وفي مقابل النزعة الفردية المنهجية تنص أحد أهم قواعد المنهج السوسيولوجي عند دوركايم على ضرورة أن ندرس الظاهرة الاجتماعية باعتبارها شيئا، أي واقعا ماديا متجسدا خارج الأفراد ووعيهم وإراداتهم. وقد فهمت هذه القاعدة دائما على أنها توصية للباحث السوسيولوجي بأن يعامل الظواهر الاجتماعية "كما لو أنها" أشياء، وعلى أنها إجراء منهجي يمكن الباحث من موضعة مجال دراسته Objectification ، أي تحديده وتشييئه كي يتمكن من دراسته، وفهم هذا التشييئ للظاهرة على أنه تكميم لها Quantification، أي معاملتها كميا ورياضيا. لكن لم يكن هذا هو هدف دوركايم، فهدفه الأساسي ليس مجرد توصية بطريقة معينة في دراسة المجتمع، بل إثبات أن الظاهرة الاجتماعية هي بالفعل شئ، واقع مادي خارج وعي الأفراد ولا يمكن أن يرد إليهم ولا إلى أفعالهم الفردية. وإذا كانت الظاهرة الاجتماعية شيئا متمتعا بواقع مادي خارجي، فكيف ينتج الأفراد هذا الواقع المادي الخارجي؟ كيف تبني الأفعال الفردية دون وعي أو قصد من الأفراد شيئا خارجيا متشيئا ومستقلا عنهم؟ كيف يصدر المجتمع عن الأفراد تلقائيا ودون قصد منهم؟ يقول دوركايم أن المجتمع ينشأ بمجرد ما أن يجتمع الأفراد معا، فاجتماعهم هذا يخلق الروابط المعيارية والأخلاقية التي تشكل المجتمع.
تفنيد عناصر الرؤية الليبرالية:
يظهر الاختلاف واضحا بين سوسيولوجيا دوركايم والنزعة الليبرالية في تناوله لموضوعات ثلاثة بالتحليل السوسيولوجي وهي: الملكية والعقد والفرد. يتمثل المذهب الليبرالي في تفسير حق الملكية على أنه حق طبيعي للفرد، وفي النظر إلى المجتمع على أنه نتيجة عقد اجتماعي بين أفراد، وفي النظر إلى الفرد على أنه وحدة واحدة سابقة في وجودها على المجتمع وعلى أنه الخلية الأولى في النسيج الاجتماعي ونقطة الانطلاق الأولى في أي بحث في الظواهر الاجتماعية. يقدم دوركايم بتحليله للأصول الاجتماعية لهذه الموضوعات الثلاثة نقدا سوسيولوجيا لليبرالية ونزعتها الفردية.
1) الملكية:
يوضح دوركايم أن الفردية والملكية الخاصة تطورتا من خلال النظام الأبوي Patriarchy في المجتمع القبلي البدائي. فابتداء من الأسرة المشاعية التي كانت تسودها شيوعية بدائية، عمل التوسع المتزايد لرقعة الأرض التي تشغلها على اتساع ملكيتها وزيادة أنشطتها الإنتاجية، وزادت حركة الأب خارج حدودها، فتطورت الملكية من ملكية جماعية للأرض إلى ملكية أشياء صغيرة متحركة قابلة للانتقال من يد إلى يد. وفي البداية كان الأب ممثلا لأسرته أو قبيلته وبالتالي كان حائزا على كل الممتلكات الصغيرة. رب الأسرة أو شيخ القبيلة هو أول ظهور لفرد في تاريخ البشرية، وهو ظهور يعتمد على مصاحبة الملكية الفردية له ( ) . ويثبت دوركايم بذلك كيف أن الفرد والملكية الخاصة ظهرا معا، بل إن إمكان التملك الخاص لشيء هو أساس الفردية. والملاحظ في تحليل دوركايم السابق أن الفردية وملكيتها الخاصة ظهرا باعتبارهما نتيجة للتغير الكمي، أي للتوسع الجغرافي والتزايد العددي، للقبيلة البدائية؛ ذلك التوسع وهذا التزايد للجماعة الأولى شكلا الشرط الأول لظهور الفرد وملكيته، وبالتالي ليست الملكية الخاصة حقا طبيعيا ولا الفردية طبيعة إنسانية أصلية. والملاحظ أن تحليل دوركايم هذا يتفق مع قانون تحول الكم إلى الكيف والذي صاغه ماركس، إذ أن دوركايم يوضح كيف أدت التغيرات الكمية للجماعة الأولى إلى حدوث تغير كيفي وظهور شكل جديد من الملكية هو الملكية الخاصة وظهور الفرد تبعا لها.
ويذهب دوركايم إلى أن الملكية عبر التاريخ لم تكن مقتصرة على الفرد، بل إن الجماعة كانت تمتلك، وكانت هي المالك الوحيد لدى القبائل البدائية، كما كانت هناك ملكية للدولة منذ ظهورها، وما تملكه الدولة أو الجماعة يكون ملكية مشتركة بين أفرادها. ولم يكن الارتباط بين الملكية وحق الاستعمال موجودا قبل العصر الحديث، إذ كانا منفصلين. فقد وجدت مجتمعات يمتلك فيها الأفراد أشياء على سبيل الحيازة لكن لا يملكون حق التصرف فيها أو استعمالها أو بيعها مثل الأوقاف في البلاد الإسلامية وممتلكات الكنيسة، ومجتمعات أخرى كان للأفراد فيها حق الاستعمال لا حق الملكية ( ) . ولم تصبح الملكية مرتبطة بحق الاستعمال وحق البيع إلا في العصر الحديث.
ويميز دوركايم بين ثلاثة أنوع من حقوق الملكية: حق الاستخدام، وحق الانتفاع، وحق الاستهلاك. حق الاستخدام هو حق العيش في مسكن أو ركوب حصان أو السير عبر غابة. وحق الانتفاع هو الحق في جني ثمار شجر معين أو حصاد محصول حقل معين أو الحصول على ألبان وأصواف قطعان معينة أو ريع أرض أو أرباح مبلغ من المال. وهذان الحقان لا يتضمنان بالضرورة حق ملكية مصدر الاستخدام أو الانتفاع أو التصرف فيه ببيعه أو نقل ملكيته إلى شخص آخر، كما لا ينطويان على تغيير تركيب المصدر أو طبيعته أو أخذ أجزاء منه أو تدميره. أما حق الاستهلاك فهو الحق في إحداث تغيير جوهري على الشيء مثل كل أنواع الطعام، وهو كذلك الحق في تغيير الوضع القانوني لملكية الشيء ببيعه أو تأجيره أو تقطيعه أجزاء والتصرف في كل جزء على حدة. ويذهب دوركايم إلى أن الملكية الخاصة في أغلب المجتمعات البدائية لم تكن تتضمن إلا حق الاستخدام وحق الانتفاع، أما حق الاستهلاك وحق تغيير الحالة القانونية للشيء فلم يظهر إلا في العصر الحديث. كما أن ما يميز حق الملكية الخاصة الحديث هو أنه حق استحواذي وقصري واستبعادي، بمعنى أن الشيء كي يكون ملكية خاصة يجب أن يكون ملكية لشخص معين فقط ويتم عزله وإقصائه عن الأشخاص الآخرين ومنعهم أيضا من الانتفاع به.
وفي حين كانت بعض المجتمعات البدائية تسحب الملكية الخاصة من حيازة الفرد إذا لم يستطع الانتفاع بها، إذ كانت القدرة على الانتفاع من مبررات التملك الخاص، فإن المجتمع الحديث يعترف بحق مطلق للفرد فيما يحوزه حتى لو لم ينتفع به، بل حتى لو دمره وأفناه تماما؛ إن هذا الحق في حقيقته هو دكتاتورية الفرد على الأشياء. وينتهي دوركايم إلى تعريف لحق الملكية الحديث، الذي هو المفهوم الليبرالي عن الملكية بقوله:
"إن حق الملكية (بالمعنى البورجوازي الليبرالي) يتأسس في جوهره في الحق في عزل شيء عن الاستعمال العام. فالمالك يمكن أن يستخدم الشيء أو لا يستخدمه؛ وهذا ليس له إلا اعتبار ضئيل. لكن الأساس في القانون هو منع الآخرين من استخدام الشيء أو حتى الاقتراب منه. إن حق الملكية يمكن أن يعرف سلبا أفضل من تعريفه من خلال مضمون إيجابي، بالاستبعاد الذي يتضمنه لا بالالتزامات التي يفرضها" ( ) .
إن الملكية الخاصة بالمعنى البورجوازي هي الحق في استبعاد الآخرين وتحريم استعمالهم أو حتى اقترابهم من الشيء المملوك. ويبحث دوركايم عن موضوع اجتماعي شبيه بالملكية الخاصة لدى القبائل البدائية كان موضع التحريم ويجده في التابو والمقدس. إتصف التابو في المجتمعات البدائية بنفس صفات الملكية الخاصة بالمعنى البورجوازي من استبعاده عن التداول والانتفاع العام وتحريمه. التابو كان هو الشيء المعزول عن الاستعمال العام والمحرم على كل أفراد المجتمع ما عدا شخص يكون هو نفسه تابو أو مقدس وهو الكاهن أو الساحر أو القسيس. يلمح دوركايم بذلك إلى أن الطابع التحريمي والتقديسي للملكية الخاصة في العصر البورجوازي الليبرالي يجعل من الفرد المالك تابو، شيئا محرما مغلقا على نفسه؛ وتصبح الحرية الفردية تبعا لذلك هي الصنم الأكبر والأساسي في العصر الليبرالي لما ورثته عن التابو من طبائع التحريم والاستبعاد والتقديس؛ وتنتهي زيادة تقديس الفردية في العصر الحديث إلى أن يصبح الأفراد أصناما بالنسبة لبعضهم البعض، وهذا هو ما عبر عنه ماركس بالاغتراب. كما أن اقتراب الفردية وملكيتها من التابو يذكرنا بدراسة فرويد عن "الطوطم والتابو" وذهابه إلى أن التابو هو أصل التقديس وأصل الدين. وفي ذلك يقول دوركايم : "وبالتالي فنحن على حق في افتراضنا أن أصول الملكية الخاصة توجد في طبيعة معتقدات دينية معينة. فبما أن آثارها متطابقة (التابو والملكية الخاصة) فيمكن أن تعزى إلى أسباب واحدة" ( ) ، ذلك لأن الملكية الخاصة كان لا يمكن أن تظهر في المجتمع البدائي الذي تسوده المشاعية إلا بمنع المجتمع من الاستفادة منها أو حتى الاقتراب منها بحجة أنها تابو، شيء مقدس، أي استخدام الدين وعملية التقديس في عزل موضوعات معينة عن الاستخدام العام. وبذلك نرى كيف كان ظهور كل من الدين والملكية الخاصة والفردية من داخل المجتمع البدائي عملية متشابكة للغاية أدت إلى بلورة العناصر الثلاثة معا وفي نفس الوقت.
ويوضح دوركايم الارتباط بين التابو والملكية الخاصة في القبائل البدائية بقوله أن التطابق والتوازي بينهما كبير من حيث أن التعدي على المقدس هو تجديف Sacrilegious ، وهذا التجديف يستوجب عقوبة حازمة وصارمة، وهو نفس طابع الاعتداء على الملكية الخاصة في العصر البورجوازي الليبرالي، والملاحظ أن قانون العقوبات في الأنظمة القانونية الليبرالية يحتوي جزء كبير منه على عقوبات التعدي على الملكية الخاصة.
إن التابو يستمد قداسته في الأصل من كونه شيئا جماعيا ينتمي للجماعة ككل ويعبر عن اتحادها وتمركزها حوله، وتحتل الملكية الخاصة مكان التابو بسهولة وذلك لأنها تصبح هي الشيء الذي يلتف حوله المجتمع ويجد فيه هويته ووسيلة لإشباع رغباته. وفي المجتمع البدائي كان أي شيء يحصل على قيمته من كونه ملكا للجماعة، وعندما يتملكه فرد تملكا خاصا فيكون بذلك قد حصل على قداسة هذا الشيء الجماعي، أي قيمته لدى الجماعة، "فالأفراد قد أخذوا بذلك لأنفسهم حق الجماعة" والقيمة التي أضفتها الجماعة على هذا الشيء؛ "الملكية الخاصة أتت إلى الوجود لأن الفرد حول إلى حسابه الخاص واستخدامه الخاص الاحترام الموحى من المجتمع، أي الشرف الذي تضفيه الجماعة على أشيائها"( ) التي خصخصها الفرد. الجماعة كانت هي المالك الأصلي لكل شيء، وما الملكية الخاصة إلا استيلاء الفرد على القيمة الاجتماعية للشيء والتي حصل عليها لكونه جزءا من ملكية الجماعة.
إذا كانت الملكية الأصلية هي ملكية الجماعة فكيف حدث للفرد أن أصبح مالكا؟ يرجع دوركايم السبب في ذلك إلى تطور العائلة وتمايز الوظائف بها. إذ أدى هذا التطور إلى صعود الأب باعتباره ممثل العائلة، و أصبحت تقع على عاتقه مسئوليات كثيرة، والمسئوليات تأتي معها بحقوق، إذ مثل عائلته في المقايضات، ومن طول حيازته للأشياء موضوع المقايضة أصبح مالكا لها، وبذلك أصبح مالكا شخصيا بعد أن كان ممثلا لملكية الجماعة. الملكية الفردية إذن نتيجة لتطور النظام الأبوي الذي أدى إلى مزيد من التخصص وتقسيم العمل.
ونستطيع تلخيص نظرية دوركايم حسب الصورة الآتية: يؤدي التزايد العددي والتوسع الجغرافي للمجتمع إلى زيادة التخصص في الأعمال وازدياد تقسيم العمل، وهذا الازدياد يأتي معه بتطور في أسلوب الإنتاج الذي يفرض على الجماعة أن ترتب نفسها من جديد. وهذا الترتيب الجديد ينتج عنه المزيد من تعقد العلاقات بين الجماعات المختلفة و بالتالي المزيد من تقسيم العمل الذي يأتي بتطور جديد في أسلوب الإنتاج ..و هكذا. وبذلك ينجح دوركايم في تجاوز ثنائية أسلوب الإنتاج وعلاقات الإنتاج في الفكر الماركسي، ذلك لأنه يوضح أن تطور أسلوب الإنتاج نتيجة لتقسيم العمل، أي لترتيب جديد يحدثه المجتمع على نفسه. ولا يرجع تطور أسلوب الإنتاج عند دوركايم إلى مجرد تطور تكنولوجي كما تذهب كثير من الاتجاهات الماركسية بل إلى تطور اجتماعي يتمثل في ترتيب جديد للمجتمع وزيادة في تعقد علاقاته وتمفصلها. وينجح دوركايم بذلك في إثبات استقلال المجتمع عن الاقتصاد وفي تجاوز الحتمية الآلية للماركسية اللينينية والستالينية التي تجعل أسلوب الإنتاج هو المتحكم في علاقات الإنتاج بصورة تامة.
2) العقد:
يذهب دوركايم إلى أن عمل المرء لا يأتي معه بحق الملكية الخاصة من نفسه بل بفضل التبادل. فإذا كان حق الملكية هو حق الفرد فيما ينتجه فقط لكانت الملكيات الخاصة صغيرة الحجم للغاية ولكان من المستحيل توسعها؛ فالتبادل يمثل الوسيلة الأخرى بجانب العمل والذي يوسع من الملكية الفردية عن طريق تبادل ما يملكه الفرد مع غيره. ويتم التبادل في المجتمع على أساس العقود. ومعني هذا أن العقد يفترض وجود الملكية الخاصة والأفراد باعتبارهم أشخاصا قانونيين، أي أشخاصا يمكنهم الدخول في علاقات قانونية ملزمة. وتأخذ النظريات الليبرالية نموذج العقد هذا وتحاول عن طريقه وصف الحياة الاجتماعية وتفسير نشأة النظم السياسية، لكنها بذلك تصادر على المطلوب، ذلك لأنها تفترض وجود الأفراد باعتبارهم شخصيات قانونية قبل الدخول في أي نظام اجتماعي.
وفي تحليله للعلاقات التعاقدية يذهب دوركايم إلى أن لهذه العلاقات أساس سوسيولوجي وهو تقسيم العمل، ذلك لأن الفرد يظهر باعتباره كيانا مستقلا عندما يحدث التمايز بين الأعمال ويزداد التخصص بحيث ينشغل كل فرد بجزء معين من العملية الإنتاجية. وعندما يشترك العديد من الأفراد في عملية إنتاجية واحدة يظهر ما يسميه دوركايم التساند العضوي Organic Solidarity ، وهو عضوي لأنه يرجع إلى تكامل الوظائف الجزئية التي يقوم بها الأفراد واشتراك هذه الوظائف في صنع منتج واحد. هذا التساند يسود في المجتمعات الحديثة حيث تطور أسلوب الإنتاج بحيث لم يعد هناك مكان للحرفي القديم الذي يقوم بكل الأعمال التفصيلية. أما التساند الآلي Mechanical Solidarity فيسود في المجتمعات التقليدية التي لم تعرف بعد التمايز والتخصص في الأعمال، وبالتالي فإن ما يميز الأفراد في هذه المجتمعات هو تماهيهم مع السلطة الأخلاقية للمجتمع بالكامل، ويكون كل وعي فردي تكرارا لوعي الجماعة. وبينما يندرج الأفراد تلقائيا في المجتمع التقليدي، يحتاج الأفراد في المجتمع الحديث إلى التعبير عن أي تساند ينشأ بينهم عن طريق صيغة قانونية مكتوبة وهي العقد. وفي حين أخذت نظريات العقد الاجتماعي العلاقات التعاقدية كأمر مسلم به ونظرت إلى الصيغة القانونية للعقد على أنها المصدر الوحيد لطابعه الإلزامي، يذهب دوركايم إلى أن الحقوق والإلزامات المتبادلة في العقد تستند على تقسيم العمل الحديث الذي يؤدي إلى بروز التساند العضوي؛ الحقوق والإلزامات لا تأتي من العقد بل من كون أطراف العقد داخلين في علاقات اجتماعية عضوية قبل أن يعبروا عن هذه العلاقات في صورة الصيغة القانونية للعقد. بالإضافة إلى أن ظهور الفرد باعتباره شخصية اعتبارية يحق لها أن تكون طرفا في عقد يستند على تقسيم العمل الحديث الذي مكن الفردية من الظهور ( ) . فلأن المجتمع الحديث تطور إلى الدرجة التي أصبح لكل فرد فيه وظيفة خاصة محددة فقد زاد الطابع الفردي لهذا المجتمع وبالتالي زادت أهمية العلاقات التعاقدية التي تربط الوظائف المختلفة ببعضها. ليست العلاقات التعاقدية إذن إلا منتج جانبي by-product لعمليات توزيع الأدوار والوظائف في المجتمع الحديث الذي يسوده التساند العضوي.
كما أن العقد عند دوركايم لا يضع مبادئ ومعايير للتفاعل بين الأفراد بل يحدد العلاقة بين الأفراد والأشياء باعتبارها موضوعات للملكية، والتساند الذي يحدثه هذا العقد تساند سلبي، ذلك لأنه لا يعتمد على تقديم خدمة بل على تجنب وقوع الأذى، لأنه في الأساس حماية للملكية الخاصة وإقامة حدود حولها، كما أنه استعادي restitutary ، إذ يهتم باستعادة وضع الملكية السابق على وقوع الأذى أو الجرم أو أي نوع من اضطراب العلاقة بين المالك وموضوع ملكيته. هذا بالإضافة إلى أن العقد الليبرالي يحرص على إحداث تمايزات وإقامة حدود فاصلة وعازلة بين الأفراد للحفاظ على ملكياتهم الخاصة منفصلة ومستقلة، لا إحداث اندماج وانسجام بينهم ( ) ، وبذلك تغيب عنه أي رابطة اجتماعية.
إن المجال الأساسي للعقد الليبرالي هو إدخال ودمج الأشياء في المجتمع وتنظيم علاقة الأفراد بالأشياء موضوع الملكية لا تنظيم علاقاتهم ببعضهم البعض؛ وفي حين لا تندمج الأشياء في المجتمع إلا بتوسط الأشخاص، تنقلب الآية في العصر الرأسمالي حيث يصبح دخول الأفراد في المجتمع يتم بتوسط الأشياء، ذلك لأن المجتمع الرأسمالي قد نظم نفسه باعتباره سوقا، ولا يدخل الأفراد هذا السوق إلا باعتبارهم ملاكا. وينتج عن هذا أن من يملك أكثر من غيره يكون مشاركا في المجتمع أكثر من غيره، أي متمتعا بمزايا وحقوق أكثر، كما لو كان المجتمع شركة مساهمة.
ويشير دوركايم إلى أن نموذج العقد الليبرالي يفترض التساند والاندماج الاجتماعي كمسلمة ضمنية، "فلكي يعترف إنسان بأن للآخرين حقوق .. فهو قد وافق مسبقا على أن يحد من حقوقه هو. وتبعا لذلك فإن هذا التقييد المتبادل كان لا يمكن أن يتحقق إلا بروح الفهم والانسجام" وعلى أساس تساند اجتماعي قائم بالفعل وسابق على أي عقد. ليست حقوق الملكية هي مصدر الاندماج والتساند الاجتماعي بل العكس، إذ أن تلك الحقوق لا يمكن أن تقام إلا على أساس اندماج وتساند قائم بالفعل. كما يستمد العقد سلطته الإلزامية من المجتمع، وفي ذلك يقول دوركايم:
"يجب أن نأخذ في اعتبارنا أنه إذا كان العقد حاصلا على قوة ملزمة لأطرافه فإن المجتمع هو مصدر هذه القوة. دعنا نفترض أن المجتمع لا يعطي موافقته على الإلزامات المتعاقد عليها؛ حينئذ سوف تصبح هذه الإلزامات وعودا خالصة لا تمتلك إلا سلطة أخلاقية. إن كل عقد بالتالي يفترض وجود المجتمع خلف الأطراف التي تلزم بعضها البعض وجاهزا لأن يتدخل ويفرض الاحترام بالقوة لكل ما يقرره العقد"( ) ،
والمجتمع لا يعطي موافقته إلا على العقود المتفقة مع معاييره هو. ومعنى ذلك أن العقد لا يتضمن الناحية الفردية إلا لأن المجتمع يعترف بالفردية وبحقوقها وبإمكان دخولها في تعاقدات ملزمة.
وعلى الرغم من أن العقد يكون بين أفراد، إلا أن المجتمع يظل هو الغائب الحاضر دائما خلف الطابع الفردي للعقود؛ يقول دوركايم: "أينما وجد عقد، فهو يخضع لقوة منظمة يفرضها المجتمع لا الأفراد؛ إنها قوة تتزايد في الثقل والتعقيد" ( ) . ومعنى ذلك أن الأفراد يمكنهم أن ينشئوا تعاقدات، لكن ما إن يظهر العقد حتى ينفلت من أيديهم ويصبح ملكية للمجتمع كله، إذ يدخل الكل الاجتماعي ضامنا للعقد وتنفيذه، وينتهي بذلك دور الأفراد الذين وضعوه ويطويهم النسيان، وكأن المجتمع بذلك هو الإله في الآلة deus ex machina الذي ظل مختفيا ثم يظهر فجأة. هذا بالإضافة إلى أن العقد الذي يتم بين أفراد ينطوي على عناصر عديدة ليس للأفراد سيطرة عليها. ففترة نفاذ العقد والعقوبات المفروضة على المخالف له وطبيعتها وحجمها، كل ذلك يقع خارج مجال الأفراد، كما أن من ينفذ العقوبة أطرافا آخرين غير الذين وضعوا العقد. هذا بالإضافة إلى أن العقد يصبح باطلا إذا تعارض مع قانون المجتمع، وإذا حدث مثل هذا التعارض يحق للمجتمع أن يتدخل بالقوة لإبطاله.
الفرد والمجتمع في العصر الحديث:
إن التساند السائد في المجتمعات التقليدية هو التساند الآلي، لأن أعضاء هذه المجتمعات لا يتمتعون بالفردية والاستقلال الذي يمكنهم من التحرك فرادا؛ فالحركة والفعل في المجتمع التقليدي لا يكونان إلا بالكل الاجتماعي، الكل هو الذي يتحرك، وتكون حركة أفراده مثل حركة جزيئات المادة التي تتحرك قسرا مع حركة هذه المادة، ولذلك فإن حركتها آلية. ويعتمد التساند الآلي على التماثلات والتطابقات بين أفراد المجتمع، وكشفهم جميعا عن نمط واحد من الأخلاق التي ترجع إلى الطابع السيكولوجي للمجتمع. ويتطابق كل وعي فردي مع الوعي الجمعي، وهذا بالضبط هو تأثير الدين في مثل هذه المجتمعات، إذ يفرض الدين على كل فرد أن يتفق في وعيه مع النمط السيكولوجي العام الذي تشكله الأخلاقيات الدينية. والحقيقة أن الدين يفعل أكثر من ذلك، إذ لا يقتصر على تشكيل الوعي الفردي حسب النمط الأخلاقي العام بل يصل كذلك إلى تنظيم الجسد بفرض نظام من الشعائر والطقوس اليومية عليه مثل الصلاة، وتصل درجة تحكم الدين في الجسد إلى درجة فرض زي معين عليه وتحريم تناوله لبعض المأكولات، والتحكم في طريقة الكلام والمشي والنوم والجلوس.
ويشهد المجتمع الحديث نهاية لهذا النمط الآلي من التساند ليفسح المجال لظهور التساند العضوي، والملاحظ أن التساند في المجتمع التقليدي كان مفروضا على الأفراد من أعلى ومتمثلا في السلطة الأخلاقية للمجتمع على الفرد والتي تجد تجسيدها الأعلى في الدين، وبالتالي فقد كان التساند التقليدي مصطنعا يعتمد على الإرغام المعنوي و جعل الوعي الفردي متماهيا ومتطابقا مع الوعي الجمعي الذي هو وعي ديني في شكله السائد؛ أما التساند العضوي فلن يكون معتمدا على رابطة متخيلة مثل رابطة الدين ولن يربط الأفراد بمجتمعاتهم عن طريق تشكيل وعيهم الفردي، بل سوف يكون تعبيرا عن التقسيم الحديث للعمل الذي يتصف بالطابع العضوي، وبالتالي يكون التساند الاجتماعي الحديث متخذا نفس الطابع العضوي الذي تتخذه عملية العمل الحديثة.
وينقد دوركايم الاتجاهات النفعية بقوله إنه إذا كان المجتمع ينشأ باتفاق الأفراد فما الذي يدفع هؤلاء لأن ينتقلوا من الحالة الفردية الخالصة، حالة الاستقلال والتفرد التام، إلى حالة عدم الاستقلال والاعتماد على الآخرين بدخول المجتمع؟ إن هذا غير منطقي كما أنه غير طبيعي. فإذا كان الأفراد حاصلين على فرديتهم قبل تأسيس المجتمع، فإن ما هو فردي لن يصدر عنه إلا ما هو فردي، ولن يصدر الجماعي عن الفردي أبدا. يقول سبنسر أن ما يدفع الأفراد نحو إنشاء المجتمع هو الفائدة أو النفع الأكبر الذي يحصلون عليه بفضل ذلك، لكن يرد عليه دوركايم بأن للفردية فوائدها الحالية أيضا فما الذي يدفع الأفراد لأن يتخلوا عن فوائد ومنافع فردية حالية في سبيل منافع كلية مجتمعية مستقبلة؟ وبالتالي نعود مرة أخرى إلى نفس السؤال الذي انطلق منه سبنسر ولم ينجح في الإجابة عنه. ويتجاوز دوركايم السؤال بذهابه إلى أن ما يحتاج إلى تفسير ليس صدور المجتمع من الأفراد، لأن المجتمع سابق في ظهوره على الأفراد، بل في كيفية تحول أعضاء المجتمع إلى أفراد ( ) ؛ فالمجتمع هو الذي ينتج الأفراد وليس العكس، و هذا هو ما يحتاج إلى تفسير.
وفي مقابل الاتجاهات الليبرالية التي تذهب إلى أن ظهور الفردية ونموها يأتي من قبل الأفراد أنفسهم في مواجهة مجتمعاتهم، يأتي دوركايم بتفسير سوسيولوجي لصعود الفردية الحديثة. ففي "تقسيم العمل في المجتمع" يصف دوركايم صعود الفردية الحديثة على أنه نتاج زيادة التخصص في الوظائف وانتقال المجتمع من التساند الآلي إلى التساند العضوي. الفردية إذن تأتي نتيجة لتغيير في أسلوب تقسيم العمل لا نتيجة لمبادرات فردية. وهنا يحذرنا دوركايم من تصديق الرأي الذي يذهب إلى أن الفردية الحديثة نشأت من خلال صدام و مواجهة مع مجتمعاتها، ذلك لأنها في حقيقتها متفقة تماما مع الأسلوب الجديد في تقسيم العمل والتساند الاجتماعي الذي يأتي به، ويقول دوركايم أن الفردية الحديثة قيمة اجتماعية ناتجة عن التساند العضوي وليست قيمة فردية؛ إنها يمكن أن تتصادم مع قيم اجتماعية تقليدية قديمة لكنها متفقة تماما مع القيم الجديدة للمجتمع الصناعي.
ولا يوافق دوركايم سبنسر في تقديمه للحياة الاجتماعية على أنها نتاج طبائع الأفراد وحسب، ذلك لأن هذه الطبائع هي التي تنشأ عن الحياة الاجتماعية. وفي ذلك يقول دوركايم: "إن السؤال الذي كان نقطة انطلاقنا في دراستنا هو حول العلاقة بين الشخصية الفردية والتساند الاجتماعي: كيف أصبح الفرد أكثر اعتمادا على المجتمع في حين أنه ازداد استقلالا وفردية في نفس الوقت؟" ( ) . ويجيب دوركايم أن الفرد أصبح أكثر اعتمادا على المجتمع نظرا للتقسيم الحديث للعمل الذي أصبح كل فرد فيه متخصصا في عمل محدد وجزئي وفي حاجة إلى كل المجتمع كي يكتمل عيشه، هذا في الوقت الذي اختفت فيه أخلاقيات اجتماعية تربط الفرد أخلاقيا ومعياريا بالكل الاجتماعي. إن الفرد الحديث مرتبط بالمجتمع من جهة الضرورة لا من جهة العقل والمعايير.
التساند العضوي:
تعد نظرية دوركايم في التساند العضوي بديلا سوسيولوجيا عن نظريات لوك وهيوم وآدم سميث في النظام التلقائي الذي يحدث بفعل يد خفية. فمع تحليلات دوركايم للتساند العضوي لا يعد النظام تلقائيا بل يأتي من خلال تقسيم العمل والتخصص في الوظائف. فلأن الوظائف موزعة على أفراد ومؤسسات عديدة فإن النظرة الليبرالية الذرية Atomist التي تضع الأفراد نصب عينها تعتقد أن النظام تلقائي، وهذه النظرة ترجع إلى أن أصحاب هذه النظرية لا يفكرون في المجتمع بالطريقة السوسيولوجية بل بالطريقة الذرية.
ويفصل دوركايم فصلا حاسما بين نظريته في التساند العضوي والنظريات الليبرالية في النظام التلقائي، إذ يقول: "صحيح حقا أن الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الصناعية عند سبنسر (وغيره من الليبراليين) يرجع أساسا إلى تقسيم العمل، إذ أن صفته المميزة هي أنه يتأسس في تعاون ينتج تلقائيا من حقيقة أن كل شخص يسعى وراء مصلحته. ويكفي أن يكرس كل فرد نفسه لوظيفة معينة ليكتشف أنه يرتبط بالضرورة بغيره من الناس" ( ) . لكن لا يرضى دوركايم عن هذا النوع من الانسجام أو التساند والنظام الذي يحدث تلقائيا وبدون تخطيط مقصود، ذلك الذي تؤمن به كل المذاهب الليبرالية. وينقد دوركايم سبنسر لكونه رفض أي تدخل في هذا النوع من التساند من قبل أي مؤسسة، حيث أنه يحدث تلقائيا، والتدخل سوف يضر بانتظامه. ويذهب دوركايم إلى أنه إذا حدث ذلك بالفعل واختفت أي سيطرة على هذا النوع من التساند فسوف تصبح العلاقة الوحيدة بين الأفراد هي علاقة التبادل المادي. كما أن مثل هذا المجتمع الذي تدعو إليه المذاهب الليبرالية لن يكون في حاجة إلى عقد اجتماعي أو إلى إجماع أعضائه على مبادئ ومعايير معينة، ذلك لأن التساند الصناعي الناتج عن تقسيم العمل كاف وحده ليربطهم في سياق المصلحة المشتركة. لكن الحقيقة أن هذا النوع من التساند قهري وخاضع للضرورة الموضوعية التي يفرضها تقسيم العمل، ولا يمكن أن يبنى تساند وانسجام اجتماعي بناء على الضرورة، التي هي في حقيقتها ضرورة اقتصادية وتكنولوجية. فحسب النظرة الليبرالية يضطر المجتمع لأن ينظم نفسه حسب الضرورة الاقتصادية والتكنولوجية السائدة، وما الانسجام والتساند الاجتماعي إلا استجابة لهذه الضرورة السائدة، وبذلك تكون المذاهب الليبرالية متهمة بإخضاع المجتمع للحتمية الاقتصادية، نفس التهمة التقليدية الموجهة للماركسية.
تبدو نظرية التساند العضوي على السطح متشابهة مع نظرية النظام التلقائي في المذاهب الليبرالية، فهذا التساند يحدث تلقائيا كأثر للتقسيم الحديث للعمل؛ فهل يكون دوركايم معبرا بذلك عن نظرية آدم سميث بطريقة سوسيولوجية؟ لا بالطبع، فنظرية آدم سميث هي نظرية تعاقدية في الأساس، يحدث وفقها النظام كأثر أو منتج جانبي للعقد بين الأفراد. ويميز دوركايم بين التساند التعاقدي Contractual Solidarity والتساند العضوي، الأول يحدث بين أفراد ويصدر عنه النظام الاجتماعي بطريقة تلقائية، أما الثاني فيحدث نتيجة لتقسيم العمل لا للتعاقدات الفردية. والحقيقة أن فكرة دوركايم شبيهة بفكرة ماركس في هذا الشأن، إذ ذهب ماركس إلى أن تطور أسلوب الإنتاج ينزع نحو الاشتراكية، أي نحو أشكال أكثر جماعية في تنظيم الإنتاج الذي أصبح اجتماعيا، ونحو السيطرة الاجتماعية على الإنتاج ونهاية السيطرة الفردية، أو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فكلما تزايد تقسيم العمل تخصصا، والذي يعد تقدما في أسلوب الإنتاج، كلما زاد طابعه الاجتماعي، إذ تصبح العملية الإنتاجية عملية اجتماعية ينخرط فيها المجتمع كله. والنشاط الممارس اجتماعيا يجب السيطرة عليه وإدارته اجتماعيا. هذه هي الفكرة المشتركة بين دوركايم وماركس. إن مفهوم التساند العضوي الدوركايمي هو التعبير السوسيولوجي عن مفهوم الاشتراكية.
يريد دوركايم أن يكون المجتمع مسيطرا على أساليب عيشه ولا يخضع للضرورة العمياء التي تفرضها قوانين اقتصاد السوق، وهذا هو سبب ميله القوي إلى الاشتراكية. والحقيقة أن هذا الميل لم يكن نتيجة لقراءة مؤلفات الاشتراكيين بل نتيجة للتحليل السوسيولوجي للمجتمع المعاصر. وقد وجد دوركايم أمامه تحليلا للمجتمع سابقا عليه هو تحليله الاقتصادي لدى علماء الاقتصاد السياسي، وأدرك أن علم الاجتماع لن يكون مشروعا كعلم ما لم يحل محل التفسيرات الاقتصادية السائدة في عصره، وهذا ما دفعه إلى التمييز بين نظريته السوسيولوجية ونظريات الاقتصاد السياسي؛ يقول دوركايم:
"نرى هنا كيف تختلف نظرتنا لتقسيم العمل عن الاقتصاديين. فتقسيم العمل بالنسبة لهم يتمثل أساسا في زيادة الإنتاج. أما نحن فهذه الزيادة في الإنتاج مجرد نتيجة ضرورية أو عرض جانبي للظاهرة. إذا كنا نتخصص في أعمالنا فليس هذا من أجل أن ننتج أكثر، بل من أجل أن نتمكن من العيش في ظل شروط الحياة الجديدة التي نجد أنفسنا فيها" ( ).
وينقل دوركايم بذلك موضوع تقسيم العمل من مجال الاقتصاد إلى المجال السوسيولوجي حيث يصبح تقسيم العمل استجابة لأوضاع اجتماعية جديدة، وتجنبا للصراع الذي يمكن أن يؤدي إلى موت أحد أطرافه. فإذا كان أعضاء المجتمع يؤدون وظائف متماثلة أو متشابهة فإن هذا كفيل بإدامة الصراع بينهم وتكون حرب الكل ضد الكل بتعبير هوبز، ويكون حل الصراع بالقضاء على أحد أطرافه، إذ أنه في هذا الوضع يمكن الاستغناء عنه بسهولة نظرا لوجود كثيرين غيره يؤدون نفس وظائفه. تحل المجتمعات الحديثة هذه المشكلة بأن يتخصص أعضائها في أعمال مختلفة وبذلك تتجنب الصراع وتخلق حالة من الاعتماد المتبادل بين كل أعضاء المجتمع. حالة الصراع إذن لا يقضى عليها بعقد اجتماعي يتنازل فيه الأفراد عن جزء من حرياتهم لسلطة يعترفون بها بهدف حفظ الأمن كما يذهب هوبز، بل يقضى عليها بأن ينظم المجتمع إنتاجه المادي بحيث يخلق اعتمادا متبادلا بين أعضائه. والحقيقة أن هذا هو نفس الحل الذي يقترحه دوركايم للقضاء على الصراع الطبقي في المجتمع الحديث، إذ يذهب إلى ضرورة أن ينظم المجتمع إنتاجه المادي ولا يترك هذه المهمة للأفراد ولأصحاب الملكيات الخاصة المتناحرين، وهذا هو مفهوم دوركايم عن الاشتراكية.
برنامج دوركايم الاجتماعي:
نظر دوركايم إلى علم الاجتماع على أنه العلم الذي يعطي للمجتمع استقلالا عن الاقتصاد على المستوى المنهجي، إذ يجعل المجتمع مقولة تفسيرية لا يمكن ردها بعد ذلك إلى خصائص سيكولوجية للأفراد أو إلى قوانين اقتصادية. و ما كان يدفع دوركايم نحو تأسيس هذا النوع من السوسيولوجيا ليس مجرد طموح أكاديمي أو رسالة علمية يهدف تحقيقها، بل هدف اجتماعي وسياسي أيضا يتمثل في السعي نحو جعل المجتمع مسيطرا على الاقتصاد بدلا من أن تتحكم في المجتمع الضرورة الاقتصادية العمياء. سوسيولوجيا دوركايم إذن هي الجانب العلمي الأكاديمي من برنامج اجتماعي أوسع، ولم يكن هذا البرنامج سوى الاشتراكية. وليس غريبا على دوركايم أن يكون مناديا بالاشتراكية، فمصطلح علم الاجتماع Sociology و مصطلح الاشتراكية Socialism مشتقان من نفس الجذر Social ، كما أن لعلم الاجتماع والاشتراكية نفس المنشأ، إذ ظهرا معا لدى سان سيمون. فحسب دوركايم يعد سان سيمون من أكثر المفكرين الذين ارتبط تأسيسهم لعلم الاجتماع بالبرنامج الاجتماعي الذي أسماه الاشتراكية.
يميز دوركايم بين الليبرالية والأسلوب التعاوني في تنظيم المجتمع، ففي حين تعتمد الليبرالية على نموذج العقود بين الأفراد، حيث تستخلص من هذا النموذج إلزامات قانونية آتية من تعميمات عرضية، فإن الأسلوب التعاوني أو الاشتراكي يعتمد على حضور الكل الاجتماعي Collectivity على مستوى وضع القواعد والقوانين وتشكيلها ( ) . وبما أن النشاط الأساسي الذي ينخرط فيه المجتمع الحديث هو الصناعة، وبما أن أغلب الوظائف التي ينخرط فيها أفراد هذا المجتمع وظائف مهنية، فإن التنظيم التعاوني للمجتمع يجب أن يكون تنظيما اشتراكيا للصناعة والمهن، أو بكلمة واحدة للاقتصاد كله.
يذهب دوركايم إلى أن لكل مجال مهني الأخلاق التي تناسبه، وأن كثيرا من المهن تحقق بالفعل المتطلبات الأخلاقية الخاصة بها، أما النظام الاقتصادي المعاصر (الرأسمالية) فهو يشكل استثناء من هذه القاعدة، ذلك لأن الوظائف التي يقوم بها هذا النظام لا علاقة لها بالمعايير الأخلاقية، فكل معاييرها متمثلة في تحقيق الربح. وعلى الرغم من أن أخلاقيات المهنة في الوظائف الاقتصادية موجودة إلا أن نموها ناقص وحضورها خافت للغاية. "وقد أعلن أن هذه الفوضى الأخلاقية حق للحياة الاقتصادية"، إذ قد تم الادعاء بأن عدم ارتباط النظام الاقتصادي بأخلاقيات تحكمه هو حق من حقوق هذا النظام ويتمشى مع طبيعته ذاتها، وهذا هو الحياد الأخلاقي للسوق الحر. يقول دوركايم: "يقال أنه ليست هناك حاجة للتنظيم Regulation لكن من أي مصدر يستقي النظام الاقتصادي هذا الامتياز؟ كيف لهذه الوظيفة الاجتماعية المخصوصة أن تُـعزل عن شرط هو الأساسي لأي بناء اجتماعي؟"( )؛ ويقصد دوركايم أن أي بناء اجتماعي لديه أخلاقه وقواعده الاجتماعية التي يسير عليها، فمن أين اكتسب النظام الاقتصادي الحق في أن يكون استثناء من هذه القاعدة، وأن يكون مستبعدا لأي تنظيم؛ فكل مؤسسة اجتماعية لها الشكل التنظيمي الخاص بها: السياسة لها الأحزاب والبرلمانات والمجالس الشعبية والمحلية، والدين له كنائسه، والأعراف والتقاليد لها النظام القانوني والتشريعي الذي تندرج فيه، فلماذا لا يوجد نظام يتحكم في الاقتصاد الذي هو النشاط الاجتماعي الأساسي في العصر الحديث؟ ويستمر دوركايم في نقده قائلا:
"من الواضح أنه إذا كان هناك خداع للذات إلى هذه الدرجة لدى الاقتصاديين الكلاسيكيين فلأنهم درسوا الوظائف الاقتصادية على أنها أهدافا في ذاتها، ودون اعتبار لما قد يكون لها من آثار جانبية على النظام الاجتماعي ككل. وفي هذه الحالة فسوف يبدو الإنتاج السلعي على أنه هو الهدف الأساسي في كل نشاط صناعي..وبطرق معينة يمكن أن يظهر ذلك الإنتاج كما لو أنه ليس بحاجة لأن ينظم؛ بل على العكس، فإن أفضل شيء يمكن عمله هو ترك الأعمال الفردية والمشاريع الخاصة للمصلحة الخاصة لأن تصول وتجول في بعضها البعض في تنافس حام، بدلا من محاولتنا المحافظة عليها في حدود. لكن الإنتاج ليس كل شيء، وإذا كانت الصناعة لا تستطيع أن تحتفظ بمعدل إنتاجها العالي إلا بحالة دائمة من الحرب والسخط الذي لا نهاية له من قبل المنتجين (العمال)، فليس هناك ما يوازن الشر الذي تحدثه. وحتى من وجهة نظر نفعية فما الهدف من دفع الثراء قدما إذا لم يخدم سد حاجات العدد الأكبر، بل على العكس يؤدي إلى تصاعد التلهف على الاستحواذ؟ يعني هذا ضرورة توجيه الانتباه إلى حقيقة أن الوظائف الاقتصادية ليست أهدافا في ذاتها بل مجرد وسائل لأهداف أخرى، وأنها أحد الأجزاء العضوية للحياة الاجتماعية..لن يكون للمجتمع مبرر للوجود إذا لم يأت بقليل من السلام للناس..وإذا لم تستطع الصناعة أن تكون منتجة إلا بإقلاق سلام الناس وإشعال الحروب فلا طائل من ورائها.. إن الإنتاج الكمي الكبير ليس شرطا لسعادة المجتمع، لأن هذا الشرط ليس إلا التدفق المنتظم للموارد الكافي لشغل القوة العاملة. لا يجب أن تكون هناك فترات متعاقبة من فرط في الإنتاج ونقصه. إن هذا التعاقب يعني أنه ليس هناك انتظام" ( ).
ففي حين يأخذ الاقتصاد السياسي هذا التعاقب على أنه أمر مسلم به ويفسره على أنه ناتج عن طبيعة النظام الاقتصادي، يذهب دوركايم إلى أنه علامة على الفوضى واختفاء الخطط المنظمة للاقتصاد.
يهدف دوركايم العثور على طريقة لتنظيم العمل في المجتمعات الصناعية، وعندما يبحث في التاريخ الغربي عن طرق وجدت بالفعل لتنظيم العمل يجدها في النقابة الحرفية Guild التي ظهرت أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية وظلت موجودة طوال العصور الوسطى وبدأت في الاختفاء مع الثورة الصناعية. وعلى الرغم من أن النقابات الحرفية لم تكن تلعب دورا سياسيا هاما في الإمبراطورية الرومانية ولم يكن لها حضور في الدستور أو القانون الروماني، إلا أنها كانت موجودة ونشطة، وبدأ دورها في الظهور في العصور الوسطى، حتى أصبحت النموذج الذي تأسست عليه الكومونات Communes ، وكانت الكومونات عبارة عن تجمعات من النقابات الحرفية التي تنظم الشئون الاجتماعية لأهالي الكومونة وتعين لها إدارتها وتباشرها وتراقبها. والكومونة بذلك كانت وحدة إنتاجية مكتفية بذاتها وتتمتع بالحكم الذاتي وبسلطات تشريعية تجعلها تفرض قوانينها الخاصة بها على مجتمعها. وكانت الكومونة هي التي قامت عليها بعد ذلك المدن الكبرى في غرب أوروبا ( )، ذلك لأن كل من لندن وباريس وأمستردام وبروكسل وفرانكفورت كانت في بداياتها الأولى في العصور الوسطى تجمعا من الكومونات التي تسيطر عليها النقابات الحرفية، ويتطابق تحليل دوركايم هذا مع نفس التحليل الذي قدمه كل من إنجلز وكارل كاوتسكي لنشأة المدن الكبرى في غرب أوروبا.
ويعلن دوركايم أن النقابة هي الشكل الأنسب لتنظيم العمل في العصر الصناعي ( )، ذلك لأنها لا تُخضع العمل لاعتبارات الربح الشخصي لصاحب رأس المال بل تراعي الجوانب الاجتماعية لحياة العمال؛ صحيح أن النقابة المهنية تنتمي إلى عصر بائد إلا أن دوركايم يتوقع ألا يتمكن العمال من تنظيم أنفسهم سياسيا إلا عبر النقابات المهنية. وفي اتفاق مع هيجل ينظر دوركايم إلى النقابة على أنها تقوم بدور الوسيط بين الفرد والدولة باعتبارها آلية لنقل المصالح الفردية المشتتة إلى مستوى المصالح العامة التي تتطلب فعلا من الدولة State Action .
إن الديمقراطية في نظر دوركايم لم يعد من الممكن أن تتأسس على نظام تمثيلي قائم على أساس جغرافي أو إقليمي، فهذا النظام يجعل ممثلي الشعب هم ممثلي مقاطعات وأقاليم، وبذلك يتحول البرلمان إلى الانشغال بالمشاكل المحلية لهذه الأقاليم وبالإنشاءات العامة ويتحول إلى مجلس محلي كبير. وليست هذه هي الديمقراطية في نظر دوركايم. الديمقراطية عنده يجب أن تعبر عن الأوضاع الحالية للمواطنين، وهؤلاء لا يتأسس وجودهم الاجتماعي في الانتماء إلى إقليم ما بل يتأسس في انتمائهم إلى حرفة ما. إن العمل الذي يشغل يوم المرء كله وحياته كلها هو انتماءه الحقيقي وما يشكل ماهيته، وبالتالي فإذا أشاحت الديمقراطية بوجهها عن هذه الحقيقة فلن تكون إلا ديمقراطية زائفة. الديمقراطية الحقيقية في نظر دوركايم هي المقامة على أساس نقابي، بحيث يكون ممثلو الشعب هم ممثلو نقابات أعماله لا ممثلي أقاليم ومقاطعات جغرافية. وعندما يتحول النظام التمثيلي في البرلمان إلى التمثيل النقابي لن تعود هناك سيطرة لرأس المال الخاص على المجتمع، بل سيصبح المجتمع هو المتحكم في اقتصاده ومصيره، وهذه هي رؤية دوركايم للإصلاح المطلوب، والتي أعلن أنها ليست إلا الاشتراكية النقابية.
لكن هل ستسمح الطبقات المسيطرة بهذا التحول الجذري لبنية الديمقراطية؟ لا بالطبع، ذلك لأن النظام القائم يخدم مصالحها جيدا. يبدو أن مشروع دوركايم لن يتمكن من التحقق سلميا وإصلاحيا كما توقع وأراد، فمع سيطرة الطبقات الرأسمالية وقبضتها الحديدية فإن مثل هذا المشروع غير ممكن إلا بأن تصل النقابات العمالية إلى جهاز الدولة بالقوة وتفرض نظامها التمثيلي الخاص؛ إنها دكتاتورية البروليتاريا مرة أخرى.

1) Emile Durkheim, “Course in General Sociology”, in On Institutional Analysis, edited by Mark Traugott (University of Chicago Press: Chicago 1978) p. 44.
2) إميل دوركايم: علم اجتماع وفلسفة. ترجمة د. حسن أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، 1966، ص 49
3) المرجع السابق، ص 50.
) Durkheim, "Course in General Sociology", op. cit, pp. 50-51.
) Ibid, p. 52.
) Durkheim: Suicide. A Study in Sociology. Translated by John Spaulding and George Simpson. (London: Routledge and Kegan Paul, 1979), p.38
) Ibid, loc.cit.
) Durkheim: The Division of Labour in Society. Translated by W. D. Halls. (London: Macmillan, 1984), p.58.
) Durkheim: Professional Ethics and Civic Morals. Translated by Cornelia Brookfield (London: Routledge and Kegan Paul, 1957), p.142.
) Ibid, p.138.
) Ibid, p.142.
) Ibid, pp. 143-144.
) Ibid. p.162.
) Durkheim: The Division of Labour, p.81.
) Ibid, p.74-75.
) Ibid, p.71
) Ibid, p.158.
) Ibid, p.220.
) Ibid, p xxx.
) Ibid, p.150.
) Ibid, p.217.
) Ibid, p. xxxiv.
) Durkheim: Professional Ethics, p. 15.
) Ibid, pp. 15-16.
) Ibid, pp. 34-35.
) Ibid, p103.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يسلم فكرك
محمد لفته محل ( 2017 / 11 / 15 - 13:32 )
مقال عظيم ورائع تمتعت به جدا

اخر الافلام

.. الوساطة القطرية في ملف غزة.. هل أصبحت غير مرحب بها؟ | المسائ


.. إسرائيل تستعد لإرسال قوات إلى مدينة رفح لاجتياحها




.. مصر.. شهادات جامعية للبيع عبر منصات التواصل • فرانس 24


.. بعد 200 يوم من الحرب.. إسرائيل تكثف ضرباتها على غزة وتستعد ل




.. المفوض العام للأونروا: أكثر من 160 من مقار الوكالة بقطاع غزة