الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصهيونية (16).. المدارس الصهيونية

خالد أبو شرخ

2011 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


الصهيونية كحركة سياسية هدفت إلى توطين اليهود في فلسطين لحل المسألة اليهودية وكلمة صهيون إشتقها الكاتب اليهودي النمساوي "ناثان يرنباوم" من كلمة صهيون لوصف هذا الإتجاه السياسي الجديد الذي حول النزعات الماشيحانية اليهودية إلى حركة سياسية وحولت التطلع الديني الماشيحاني إلى برنامج سياسي.
بدأ الحل الصهيوني يظهر متفرقا بنشر " هس" والحاخام "يهودا قلعي" و "كاليشر" كتيباتهم, كما بدأت جمعيات مثل "أحباء صهيون" و"البيلو" تبني فكرة الهجرة الإستيطانية في فلسطين", ولكن بظهور "هرتزل" على الساحة تحولت الصهيونية إلى حركة سياسية منظمة واعية بالضغوط والضوابط الدولية.
أدرك هرتزل الحقيقة البديهية وهي انه لتهجير يهود العالم إلى فلسطين لا بد من ترخيص دولي ودعم الدول الإمبريالية, والتوجه على أثرياء اليهود مثل عائلة (روتشيلد), وتنظيم الجمعيات اليهودية في شرق القارة الاوروبية وغربها, وعبر هذه الرؤية والنشاط دعا إلى عقد المؤتمر الصهيوني الاول الذي عقد في بازل عام 1897, وفي هذا المؤتمر تحولت الصهيونية إلى حركة سياسية منظمة وواعية.
حملت هذه الحركة في داخلها إتجاهات ومدارس فكرية كثيرة ولكن دون خلافات جوهرية في النسق الأيدلوجي بينها, فجميعها تبنت نسقا أيدولوجيا واحدا, وأهداف سياسية واحدة, وقد حملت المدراس والتيارات الصهيونية أسماءا عدة إلا انها جميعا كانت تنضوي تحت أربع مدارس رئيسية ( الصهيونية العملية, الصهيونية السياسية, الصهيونية الدينية, الصهيونية الثقافية ), أما باقي المدراس فهي مستوعبة في هذه المدارس الأربع, وتظهر وتختفي ولا وجود لها إلا داخل هذه المدراس الأربع.

أولا : الصهيونية العملية :

"الصهيونية العملية" اصطلاح يُطلَق على أحد التيارات الصهيونية التي وُجدت قبل ظهور "هرتزل"، وهو تيار يَصدُر عن الصيغة الصهيونية الأساسية (شعب عضوي ـ منبوذ ـ نافع ـ يمكن توظيفه خارج أوربا لصالحها). ولكن ديباجاتها كانت تنطوي على بعض الخلل، إذ تصوَّر الصهاينة العمليون أن حل المسألة اليهودية لا يمكن أن يتم إلا عن طريق جهود اليهود الذاتية والانعتاق الذاتي والعمل على تحقيق أمر واقع في فلسطين وذلك عن طريق التسلل إلى فلسطين بالطرق السرية أو بالوساطات الخفية غير المباشرة (على حد قول هرتزل) أو عن طريق الاستيطان القائم على الصدقات، أي بمساعدة أثرياء الغرب المندمجين دون اللجوء لمساعدة أية قوى عظمى أو المناورات الدبلوماسية (مع الدول الغربية الاستعمارية) ولا عن طريق الضمانات الدولية. وقد كان "وايزمان" من أهم قادة هذه الاتجاه العملي، ومن أهم مفكريه "ليون بنسكر" و"موشيه ليلينبلوم". وكانت الثمرة العملية لهذا الاتجاه جماعة "أحباء صهيون" الذين كانوا يحاولون استيطان فلسطين عن طريق التسلل وترسيخ أقدامهم فيها عن طريق العمل البطيء والمثابرة.

ومعظم الصهاينة العمليون كانت تجربتهم تقليدية محدودة وكانوا يدورون في إطار الجماعة الوظيفية التي تمارس قيادتها السيطرة الكاملة عليها، وتقوم بدور الوسيط بين الجماعة اليهودية والقوة الحاكمة. والقيادة اليهودية كانت دائماً مجموعة من الحاخامات والأثرياء. ولكن بات من الواضح للجميع أن الحاخامات كانوا قد فقدوا كل صلة بالواقع الغربي الحديث، وأن ثقافـتهم التلمـودية وجهلـهم بلغة البلد قد زادهم عزلة. ولذا، لم تَعُد الحـكومات تخاطـبهم في أمور اليهـود كما كان يحدُث في الماضي. أما أثرياء شرق أوربا فكان عددهم صغيراً، وكانوا ضعـفاء جداً وفي حالة هلع شديد للحفاظ على مواقعهم الطبقية الجديدة، ولذا كانوا يؤثرون الحفاظ على مسافة كبيرة بينهم وبين الجماهير اليهودية في بلادهم.

وحيث إن يهود اليديشية لم يدركوا أهمية الإمبريالية لأنهم كانوا من شرق أوربا، خاضعين للرقابة في الإمبراطورية القيصرية، وهي إمبراطورية لم يكن لها مشروع استعماري استيطاني في فلسطين أو حولها (إذ أخذ مشروعها الاستعماري شكل التوسع من خلال ضم المناطق المتاخمة لحدودها فقط)، لذا نجدهم يتحركون نحو الغرب (مركز القوة). وكان في هذا تحديث للحركة، ولكنهم كانوا لا يتوجهون إلى حكوماته وإنما إلى أثرياء اليهود في الغرب (بدلاً من أثرياء اليهود في الشرق) كي يقوموا بتمويل نشاطهم الاستيطاني والتسللي. ولعل توجُّههم للأثرياء بدلاً من الحكومات هو نفسه نتاج تجربتهم مع الدولة الروسية التي لم تكن تتمتع بعد بالمركزية والهيمنة التي كانت تتمتع بها نظيراتها في أوربا الغربية.

وقد تم النشاط الاستيطاني التسللي بشكل هزيل وعملي، خارج نطاق أي فكر أيديولوجي، وظل محتفظاً بطابعه البرجماتي الإغاثي المباشر، ولم يتجاوز إقامة مزارع صغيرة لا قيمة لها. وقد استفاد الصهاينة العمليون من نفوذ قناصل الدول الغربية (الذين كانوا يتنافسـون على حمــاية اليهود، أي تحويلهم إلى عنصر وظيفي عميل). وهذا يشير إلى أن العمليون كانوا يتحركون عملياً وموضوعياً داخل إطار صهيوني بالمعنى الاستعماري الاستيطاني للكلمة، حتى ولو لم يدركوا هم ذلك. ولكنهم وضعوا أولوياتهم بطريقة أدخلتهم طريقاً مسدوداً (تسلُّل استيطاني ـ دعم الأثرياء ـ إنشاء دولة) إذ جعلوا الاستيطان مقدمة وهو في واقع الأمر نتيجة للآلية الكبرى الإمبريالية. ولذا، فقد سقطوا في نهاية الأمر في يد " عائلة روتشيلد" وأصبحوا موظفين لديها، يقومون بابتزازها وتقوم هي بتمويلهم وزجرهم والتحكم فيهم.

وكان الصهاينة العمليون، بسبب طبيعة نشأتهم في شرق أوربا، يهتمون بمسائل الهوية اليهودية (اليديشية) وبعملية إصلاح اليهود واليهودية. ثم جاء "هرتزل" وحدد الأولويات بطريقة مختلفة تماماً، فبدلاً من جهود العمليين الصغيرة طرح رؤيته الخاصة بما سماه "الاستيطان القومي" الذي يضمنه القانون العام، أي الدول الغربية الاستعمارية الكبرى. والواقع أن "هرتزل"، من خلال صهيونيته الدبلوماسية الاستعمارية ( الصهيونية السايسية )، حدَّد أولويات الحركة بطريقة مغايرة تماماً للطريقة التي حددتها بها الصهيونية العملية: موافقة استعمارية ثم استيطان، وهي صيغة تتفق مع الظروف التاريخية السائدة في أوربا وفي العالم ومع موازين القوى الفعلية التي جعلت من الحتمي على المشروع الصهيوني (وعلى أي مشروع استيطاني آخر) الاستعانة بالقوى الإمبريالية حتى يخرج إلى حيز الوجود. وقد كان "هرتزل" محقاً تماماً في موقفه، فافتقاد المتسللين لأساس القوة جعلهم بالضرورة مفتقدين للاستقلال والسيادة، الأمر الذي جعل استيطانهم عديم الفائدة، خاضعاً لرحمة أو غضب أي باشا ويبقى دائماً عُرضة لفرض القيود عليه (على حد قول نوردو). كما أن "هرتزل" لم يكن يهتم كثيراً بالمسائل الإثنية لأنها لم تكن تعنيه كثيراً، فهي لا تعني الدول الكبرى التي يتوجه إليها طالباً الدعم والشرعية.

ويمكن القول بأن "هرتزل" قام بتحديث مسألة أوربا اليهودية بأن نَزَع القداسة عن اليهود وجعلهم مادة وظيفية استيطانية، ثم قام بتدويل المسـألة اليهـودية بأن توجَّه إلى أوربا بأســرها، صاحبة المشكلة، وأخبرها أنها هي أيضاً صاحبة الحل والمستفيد الأول إن قبلت رؤية اليهود على طريقته. وبدلاً من النظر إلى يهود أوربا بوصفهم شحاذين أو فقراء يحتاجون إلى الصدقات أو شخصيات غريبة ذات تراث إثني فريد، فإن على أوربا (وأثرياء اليهود في الغرب) أن ينظروا لهم باعتبارهم شعباً له نفعه (وتحويل كل شيء إلى مادة نافعة يمكن الاستفادة منها هو جوهر التحديث)، كما أن له وظيفته التي يمكن أن يضطلع بها، ولذا فهو لا يحتاج إلى الصدقات وإنما إلى الدعم مقابل الخدمات التي سيؤديها. والدعم سيأتي من الدول الاستعمارية التي تحتاج إلى إسفين في الشرق والتي ستضمن "وجودنا بالمقابل". ولعل حداثة الصيغة الهرتزلية تظهر في العبارة الأخيرة التي تدل على أنه يستخدم منطقاً تعاقدياً نفعياً. وبدلاً من جماعات "أحباء صهيون" الصغيرة المتفرقة في الشرق والغرب، طوَّر هو صيغة مراوغة ورؤية متكاملة لعقد صهيوني صامت يُوقَّع بين الحضارة الغربية ويهود الغرب وإطار تنظيمي ينتظم الجميع.
وقد ظهرت الخلافات بين الصهاينة العمليين و"هرتزل" في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، ولكن "هرتزل" اكتسح الجميع بسبب دقة أولوياته وحداثة طَرْحه، وخطابه المراوغ، فانضموا هم إلى المنظمة ولم ينضم هو إلى جماعاتهم الكثيرة رغم أنه كان مجرد صحفي كتب كراسة عن المسألة اليهودية وكانوا هم عدة تنظيمات يضمون في صفوفهم كثيراً من المفكرين وبضعة آلاف من الأعضاء. ثم صَدَر برنامج بازل، وقد قبل العمليون الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وقبلوا قيادتها للمنظمة. ومنذ تلك اللحظة، سقطت عنهم الصفة التسللية بإدراكهم حتمية الاسـتعانة بالإمبريالية الغربية لوضع المشـروع الصـهيوني موضع التنفيـذ.

ورغم هذا، استمر الخلاف بين ما يمكن تسميته «الصهيونية العملية (الاستيطانية)» مقابل الصهيونية الدبلوماسية (التوطينية)، فقد شهدت الفترة الواقعة بين عامي 1897و1905 تبلور معارضة الصهاينة الاستيطانيين الذين طالبوا بالتركيز على البند الأول من برنامج بازل الخاص بتشجيع عملية الاستيطان في فلسطين، بينما انصرف اهتمام تيار "هرتزل" الدبلوماسي إلى تحقيق البند الرابع من البرنامج وهو الخاص بالحصول على ضمان أو اعتراف من الدول الاستعمارية الرئيسية لحماية مشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسـطين. ولم تكن الخــلافات بين العــمليين (الاستيطانيين) من جهة، والدبلوماسيين (التوطينيين) من جهة أخرى، سوى خلافات ناجمة عن سوء الفهم من جانب العمليين الذين لم يكونوا قد أدركوا بعد أهمية الدولة الاستعمارية الراعية للمشروع الصهيوني، رغم قبولهم إياها، ومن جانب الدبلوماسيين التوطينيين الذين لم يدركوا أهمية سياسة خَلْق الأمر الواقع في فلسطين وضرورة تبنِّي ديباجات إثنية لتجنيد المادة البشرية المُستهدَفة. ومع هذا، بدأت عملية التقارب، إذ بدأ الاستيطانيون يدركون بالتدريج تفاهة فكرة الاعتماد على الذات، ولذا أصبح النشاط الاستيطاني في مرتبة ثانوية بالنسبة لمنظمة "هرتزل" الصهيونية، كما بدأوا يدركون أولوية الجهود الدبلوماسية الاستعمارية على الجهود الاستيطانية. وربما لهذا السبب لا نسمع كثيراً عن جهود استيطانية مكثفة في هذه المرحلة. ونظراً لسطحية الاختلاف، لم يكن من العسير التوفيق بين الاتجاهين. فمن البداية أعربت المنظمة الصهيونية عن استعدادها للاعتراف بالاستيطان الذي يتم بناء على ترخيص مسبق من الحكومة التركــية، وأعلنت عن اسـتعدادها لتقديم المساعدة لمثل هذا الاستيطان، بل أقامت المنظمة لجنة خاصة لشئون الاستيطان.

وقد تم، في نهاية الأمر، التوصل إلى صيغة توفيقية في المؤتمر السابع (1905)، فرُفض الاستيطان التسللي (الذي يعتمد على الصدقات وعلى الحصول على قطعة أرض) نهائياً. ومع هذا، قررت المنظمة الصهيونية أن تشجع العمل الزراعي والصناعي الاستيطاني هناك، وتم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة تضم ثلاثة من العمليين الاستيطانيين وثلاثة من الدبلوماسيين التوطينيين. وفي المؤتمر الثامن (1907)، أكد "وايزمان" أهمية المزج والتوفيق بين الاتجاهين وطَرَح ما سماه "الصهيونية التوفيقية"، أي الصهيونية التي تجمع بين النهجين العملي الاستيطاني والسياسي الاستعماري الخارجي.

وفي المؤتمر الصهيوني العاشر (1911) انتخب المؤتمر "ووربورج" ومعه 4 أعضاء آخرين في اللجنة التنفيذية، وكانوا من العمليين الاسـتيطانيين، وظلت المؤسـسات الماليــة في يد العمليين الاستيطانيين.

وفي المؤتمر الصهيوني الحادي عشر (1913) أحكم الاستيطانيون السيطرة على كل المؤسسات الصهيونية. وقد كان "هرتزل" ـ شأنه شأن صهاينة الغرب عامة ـ يعتقد أن صهاينة شرق أوربا غير قادرين على قيادة الحركة الصهيونية "بل كان يعتقد أننا سنكون أداة تستفيد منها الحركة الصهيونية الغربية" على حد قول "وايزمان". ولكن مسار التاريخ قَلَب تقسيم العمل المقترح تماماً، فأمسك الشرقيون من يهود اليديشية بزمام الأمور في المنظمة الصهيونية وتولوا قيادتها، وهو أمر منطقي ومتوقَّع. فالاستيطانيون (العمليون) كانوا من شرق أوربا، والمشروع الصهيوني كان ـ حسب تصوُّرهم ـ أمراً حيوياً، بل مصيرياً بالنسبة لهم، فهم ممثلو الفائض اليهودي والقادرون على التحدث باسم هذه الكتلة البشرية المرشحة للنقل إلى فلسطين وبلُغتها، على عكس يهود الغرب الصهاينة الذي كان يهمهم التخلص من الفائض وإبعاده عن بلادهم وحسب، وكانوا غير قادرين على تَفهُّم لغته وآماله.

وقد ساعـدت صياغـة "هرتزل" المراوغـة على امتصـاص كل الخلافات، فتعلَّم الصهاينة أن يعيشوا مع التناقض والصراعات ما دام ثمة اتفاق على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وعلى الأولويات الإجرائية.

ولعل كلمات الزعيم الصهيوني الروسي "مناحيم أوسيشكين" هي أدق تلخيص لصهيونية ما بعد "هرتزل" بمقدرتها الامتصاصية الفائقة، فقد اقترح العودة لا إلى صهيونية "أحباء صهيون" (التسللية الاستيطانية) ولا إلى الصهيونية الدبلوماسية (صهيونية "هرتزل")، وإنما إلى مزيج من هذه التيارات الثلاثة، وبلغة أخرى إلى الصهيونية السياسية كما نص عليها برنامج بازل، أي أنه اقترح العودة إلى صهيونية هرتزل!

ولكن الذي حَسَم الخلاف تماماً بين الفريقين لم تكن المؤتمرات الصهيونية وإنما التطورات الدولية. فبعد اتخاذ قرار تقسيم تركيا، ومع اهتمام إنجلترا المتزايد بالبُعْد الجيوسياسي لفلسطين، لم يكن أمام الصهاينة (العمليين أو السياسيين أو خلافهم) سوى انتظار الدولة الراعية التي سترعى مصالحهم والتي ستوفر لهم الأرض والضمانات الدولية اللازمة. والصهيونية التي لم يكن لديها أية جماهير لم تكن تملك سوى الانتظار والتلقي، وبذا يكون الاستعمار الغربي في واقع الأمر مصدر الوحدة بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة.

ويظهر التمازج الكامل بين الاتجاهات الصهيونية المختلفة عام 1917، إذ نجد أن "وايزمان" (زعيم الصهيونية العملية الاستيطانية) هو أيضاً الذي سعى إلى استصدار "وعد بلفور"، قمة جهود الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية، وكان "آحاد هعام" (زعيم التيار الصهيوني الإثني العلماني) يقدم له المشورة.

ويمكن تلخيص إنجازات صهيونية يهود شرق أوربا في النقاط التالية:

1 ـ رفض العمليون (الدينيون منهم واللا دينيون) الموقف الديني التقـليدي الذي يطـلب من اليهـود الانتـظار إلى أن يبعـــث الإله الماشيَّح، وطلبوا من اليهود عدم انتظار مشيئة الإله والإمساك بزمام الموقف واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق العودة. وبعد أن توصَّل العمليون إلى أن الحل ليس في السماء، اكتشفوا أنه في غرب أوربا متمثلاً في أثرياء الغرب وقناصل دولهم في فلسطين، أي أنهم بدأوا يتحسسون الطريق نحو التحالف الذي سيحوِّل الحلم الصهيوني إلى حركة ومنظمة واستيطان.

2 ـ قبل العمليون مقولة أن وضع اليهود داخل الحضارة الغربية وضع شاذ وهامشي، وأن الفائض اليهودي لا يمكنه أن يندمج في المجتمع. وقد خلصوا من ذلك إلى أن اليهود لا مكان لهم داخل المجتمعات الغربية، وحولوا معاداة اليهود إلى إحدى الدعائم النظرية للفكر الصهيوني، وركزوا على نَقْد الشخصية اليهودية. وقد توصَّل العمليون إلى واحد من أهم ملامح الحل الصهيوني، وهو حل مسألة الفائض اليهودي عن طريق نَقْله إلى خارج أوربا، وقاموا بأول محاولة فعلية لوضع الحل موضع التنفيذ.

3 ـ اكتشف العمليون أن الزراعة وسيلة أساسية للاستيطان في أرض أجنبية معادية، كما أدركوا طبيعة المشروع الصهيوني الإحلالية.

4 ـ اكتشف العمليون إمكانية توظيف الخطاب الصهيوني المراوغ لحل التناقضات العقائدية، فأدركوا إمكانية التعاون مع أثرياء الغرب المندمجين وإمكانية ابتزازهم ما داموا لا يفرضون عليهم الصيغة القومية ولا يشهِّرون بهم لرفضها. كما أدركوا إمكانية تعايش العلمانيين والمتدينين داخل صيغة مبهمة تسمح لكل فريق بأن يفرض المعنى الذي يراه.

5 ـ ظهرت طلائع المفكرين الذين صاغوا الخطاب الصهيوني الإثني (الديني والعلماني) وهو الاتجاه الذي هوَّد الصيغة الشاملة، فعمَّق فكرة الشعب اليهودي وأضفى عليها أبعاداً تاريخية ودينية ونقاها من بقايا الفكر الاندماجي العلماني. وهذا الاتجاه هو الذي أسبغ على الصهيونية شرعية يهودية تُخفي الأبعاد العملية والنفعية التي توصَّل إليها الصهاينة غير اليهـود والصهاينة اليهـود غير اليهـود الذين لا يكترثون بمشاكل الهوية. وقد كانت هذه الشرعية ضرورية للجماهير اليهودية المتدينة في شرق أوربا، وللجماهير التي فَقَدت إيمانها التقليدي وظلت تبحث عن هوية خاصة.

لكل هذا، يمكن القول بأن صهيونية شرق أوربا أسهمت في تطوير فكر صهيوني ذي ديباجة يهودية يحاول حل مشكلة اليهود واليهودية، ويطرح نفسه بوصفه المعبِّر عن آمال وآلام جماهير شرق أوربا، وهي المجموعة البشرية المطلوب تجنيدها لتنفيذ المشروع الصهيوني. وبذا، تكون صهيونية يهود أوربا قد بدأت بالسير نحو حل مشكلة الصهيونية في الحضارة الغربية، فلأول مرة، يظهر مفكرون من داخل صفوف هذه المجموعة البشرية ينظرون إليها من الداخل، ويستخدمون مصطلحها ورموزها، وينظمون بضعة آلاف منها، بل يقومون بتجارب استيطانية قد تكون متفرقة وهزيلة ولكنها تمثل مع هذا نقطة البداية نحو نَقْل اليهود من أوربا وتشكل إطاراً يجعل الحوار مع الغرب غير اليهودي ممكناً.


ثانيا : الصهيونية السياسية

"الصهيونية السياسية" أو"الصهيونية الدبلوماسية" ، والأفضل الاصطلاح الثاني لأنه أكثر تفسيرية وارتباطاً بالظاهرة موضع الدراسة. كما أن كلمة سياسية مصطلح شديد العمومية يفترض أن الصهيونيات الأخرى ليست سياسية. وكلمة سياسية، في هذا المصطلح، تعني في واقع الأمر المناورات السياسية أي الجهود الدبلوماسية. ولذا، فإن الاصطلاح يشير إلى إجراءات تؤدي إلى تحقيق الهدف الصهيوني، وحيث إن هذه الإجراءات تتحد في السعي لدى القوى الاستعمارية لضمان تأييدها للمُستوطَن الصهيوني، فإن المصطلح يجب أن يكون "الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية". ولكننا سنكتفي باستخدام المصطلح دون إضافة أية صفات، فهي أمر مفهوم، وخصوصاً أن كل الاتجاهات الصهيونية استعمارية.

ويُستخدَم اصطلاح "الصهيونية السياسية" أو "الصهيونية الدبلوماسية" للتفرقة بين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي سبقت ظهور "هرتزل"، مثل جماعات "أحباء صهيون" (ونضيف لها الصهيونية التوطينية لأثرياء اليهود في الغرب)، والحركة الصهيونية التي نظَّمها "هرتزل"، وتعود بداياتها إلى عام 1896 (تاريخ نشر كتيب الدولة اليهوديه). ولم تكن قيادة التنظيمات الصهيونية في مرحلة ما قبل "هرتزل" تدرك ضرورة وحتمية الاعتماد على الإمبريالية لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ، وقد كانت تظن أن الاستيطان في فلسطين سيتم بالجهود الذاتية بالاعتماد على الصدقات التي يقدِّمها أثرياء اليهود دون حاجة إلى ضمانات استعمارية. أما "هرتزل"، فقـد أدرك حتمية الاعتماد على الإمبريالية من البداية، ومن ثم ضرورة أن تسبق الجهود الاستيطانية التسللية جهود دبلوماسية تهدف إلى تأمين الدعم الغربي الاستعماري للمشروع الصهيوني. وقد عرَّف "وايزمان" الصهيونية السياسية (الدبلوماسية) بأنها تعني جَعْل المسألة اليهودية عالمية، أي جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي.

والصهيونية الدبلوماسية تختلف عن صهيونية غير اليهود في أن المؤمنين بها من أعضاء الجماعات اليهودية، ولكنها لا تختلف عنها في أنها تنظر لليهود من الخارج باعتبارهم فائضاً بشرياً يجب التخلص منه بإنشاء دولة وظيفية له. فالصهاينة الدبلوماسيون هم عادةً إما يهود جاءوا من ألمانيا أو يهود ذوو خلفية ألمانية أو غربية حديثة، ولذا فهم مبتعدون تماماً عن اليهودية بالمعنى الإثني الديني أو العلماني، فهم يهود غير يهود. ولكنهم، مع هذا، وجدوا أنفسهم متورطين في المشروع الصهيوني لأن أعداء اليهود صنفوهم يهوداً، ولأن وصول يهود اليديشية هـدَّد مواقعهم وتطـلَّـب منهم تحركاً سريعاً أخذ شكـل الصهيونية التوطينية. فالصهاينة الدبلوماسيون لا يهتمون بالمشروع الصهيوني إلا باعتباره مشروعاً لتخليص أوربا من الفائض البشري، ولذا فإنهم لم يعيروا التوجه السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أي اهتمام. وهم، بسبب معرفتهم بالعالم الغربي، كانوا قادرين على أن يقوموا بدور الجسر بين الغرب وبين المادة البشرية المُستهدَفة في شرق أوربا، يتحدثون مع كل عالم بلغته، ولذا فقد تمكنوا من صياغة العقد الصهيوني الصامت وبَذْل الجهود السياسية أو الدبلوماسية التي أدَّت إلى عقد أو وعد بلفور.

وبعد إصدار "وعد بلفور"، لم تَعُد هناك ضرورة لبذل مثل هذه الجهود. ولذا، فقد اختفت الصهيونية السياسية أو الدبلوماسية وتبنَّى يهود العالم الغربي المندمجون صيغة توطينية أخرى هي "الصهيونية العمومية" و"الصهيونية التصحيحية" وما يُسمَّى «صهيونية الشتات». و"هرتزل" هو المناور الصهـيوني الأكـبر بــلا منازع، وواضع أُسس الصهيونية السياسية أو الدبلوماسية، ومن أهم أتباعه "ماكس نوردو" و"جيكوب كلاتزكين".

ومن اهم مدارس الصهيونية السياسية ما يسمى "الصهيونية التنقيحية" أو "المراجعة" ويعتبر هذا التيار إستمرارا لافكار "هرتزل" و"نوردو" ويعتبر "جابوتنسكي" المفكر والمنظر الأساسي له .
ينطلق المراجعون ان معاداة السامية وفشل الإندماج هما أسباب وجود الشعب اليهودي, وظهور المسألة اليهودية ويرون ان المشكلة مشكلة يهود وليس يهودية, بل انهم يرون ان اليهودية من تراث الماضي, وبناء فوقي ديني يمكن الإستغناء عنه, ويتفق المراجعون مع "هرتزل" في فكرة تغليب الجانب القومي على الجانب الديني, ويرى المراجعون ان القومية فكرة سياسية يجب ان يكرس الإنسان الصهيوني المؤمن كل قواه لخدمتها مستبعدا كل العناصر الدخيلة مثل الدين أو المفاهيم الإشتراكية, نفى المراجعون الصراع الطبقي بين اليهود وفي أحسن الأحوال إعتبروه ثانويا, وإغتبروا اليهود الأنقياء لا يشكلون طبقات متناحرة والمستوطنون في فلسطين ليسوا برجوازيين ولا برولتاريين, فهم رواد لا إتجاه طبقي لهم يسعون للسيطرة على الأرض وتفريغها من سكانها.
عارض المراجعون وعلى رأسهم "جابوتنسكي" الصهيونية العملية التي ركزت على النشاط الإستيطاني فقط وأهملت الجانب السياسي والديبلوماسي فقد راى "جابوتنسكي" ألا سبيل إلى النجاح إلا عن طريق النشاط السياسي والبحث عم مساندة القوى الإمبريالية لتنفيذ المخطط الصهيوني.
بالرغم من وصف المراجعون بالتطرف إلا أن دراسة فكرهم بقودنا إلى إعتبارهم في أكثر تيارات الصهيونية واقعية, وإتساقا مع الفكر الصهيوني, فمنذ البداية أكدوا على الطابع البرجوازي للفكر الصهيوني وأكدوا على القانون الأساسي للحركة الصهيونية الذي يحكم حركتها ألا وهو مدى إستعدادها للإرتماء في حضن الإستعمار وخدمته, وهو الذين كانوا متيقنين أن العنف هو الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الفلسطينين.
وإستخدام العنف والإرتماء في حضن الإمبريالية والإيمان بالمثل الرأسمالية كلها موضوعات تواترت في كتابات "هرتزل" ورواد الصهيونية ولكنها كانت مغلفة بغلاف ليبرالي رقيق حيث ان الصهيونية في زمن "هرتزل" كانت ما زالت حركة ضعيفة غير قادرة على الكشف عن اهدافها وكلما إزدادت قوه كشفت عن هويتها أكثر.
فالفرق بين "هرتزل" و"جابوتنسكي" كان في النبرة والمصطلح وليس في الرؤية والهدف والفلسفة وقد وصف "جابوتنسكي" نفيه انه خليفة "هرتزل" ووافقه "نوردو" على ذلك, ويمكننا أن نرى ذلك الخيط الرفيع المتواصل بين "هرتزل" و"نتنياهو" عبر "جابوتنسكي" و"بيغن" و"شارون"


أما التيار الثاني من الصهيونية السياسية أو الديبلوماسية فهي "الصهيونية العمالية" وهي تيار صهيوني يَقْبل الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد تهويدها وإدخال ديباجات اشتراكية عليها، وهو تيار استيطاني بالدرجة الأولى. وقد نشأت الصهيونية العمالية في صفوف المثقفين اليهود في شرق أوربا ممن سقطوا ضحية تعثُّر التحديث في روسيا. ويتلخص إنجاز الصهيونية العمالية فيما يأتي:

أولاً: نجاحها في التوصُّل إلى صيغة صهيونية مقبولة لدى الشباب اليهودي الثوري في أواخر القرن التاسع عشر. فقد شهد الشتتل ومنطقة الاستيطان اليهودي صراعاً طبقياً حاداً بين العمال والفقراء اليهود من جهة وأصحاب العمل (اليهود أساساً) من جهة أخرى. وكان 30% من جملة المقبوض عليهم لجرائم سياسية عام 1900 من اليهود. وكتب "وايزمان" في خطاب له يشكو من أن شباب اليهود ينخرطون في سلك الاشتراكية وكأن الحمى قد أصابتهم، ولعله كان يشير إلى أخيه الذي انخرط في صفوف الثوريين آنذاك. وقد نظمت اتحادات نقابات العمال اليهودية في الفترة 1895 ـ 1904 ما لا يقل عن 2276 إضراباً ضد أصحاب العمل، وانضم إليهم عمال غير يهود. ومن هنا كانت شعبية "البوند" وانتشاره.

وقد تَأسَّس "البوند" في العام نفسه الذي أُسِّست فيه المنظمة الصهيونية (1897). ومع هذا، نجحت الصهيونية العمالية في خداع بعض هؤلاء وأقنعتهم بإمكان تحسين مستواهم المعيشي في فلسطين. وساعد على ذلك وجود إحساس عام بين المستوطنين بأنهم سيصبحون ملاكاً للأرض لا مجرد أُجراء زراعيين أو عمال صناعيين، أي أن الاسـتيطان كان يشـكل صعوداً أكـيداً في السلم الطبقي وليس هبوطاً فيه, بل يمكننا أن نقول إنه لولا الصهيونية العمالية لما قُدِّر للمشروع الصهيوني أي نجاح، فهي التي نقلت جزءاً من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية إلى فلسطين.

ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية (صهيونية ساحة القتال الاستيطانية) في التوصل إلى صيغة تَحُل إشكالية خصوصية الاستيطان الصهيوني وإحلاليته. وقد اكتشف الصهاينة العماليون أن الصيغة الجماعية (ذات الديباجة الاشتراكية) هي الصيغة المُثلى الكفيلة بتحقيق الاستعمار الصهيوني بجانبيه الاستيطاني والإحلالي, فالدولة الراعية لم يكن لديها استعداد لمد المشروع الصهيوني بما يحتاج إليه من تخطيط شامل وجهد بشري وتمويل كثيف لتوطين المهاجرين من أوربا وتهويد فلسطين سكانياً. والمادة البشرية المهاجرة من شرق أوربا لم تكن تملك رأس المال اللازم. ومن هنا، كان الشكل الجماعي (التعاوني الاشتراكي) حيث تقوم المنظمة الصهيونية والصهاينة التوطينيون في الخارج بجمع رأس المال القومي اللازم من أعضاء الجماعات اليهودية (ولا سيما الأثرياء) في الغرب، ثم تقوم بإعطائه للوكالة اليهودية في الداخل، التي تقوم بتوظيفه بشكل تعاوني على أرض مملوكة ملكية جماعية. ويقوم العنصر البشري الدخيل بتنظيم نفسه على هيئة وحدات جماعية تمارس الزراعة والقتال لأن المجهود الفردي لا يمكن أن يُكتَب له النجاح (وهو أمر اكتشفه المستوطنون البيض الأوائل في الولايات المتحدة أثناء حرب الإبادة ضد الهنود بدون مساعدة من أي فكر اشتراكي).

أما الشق الإحلالي من الاستعمار الصهيوني، فقد تكفلت به المفاهيم الاشتراكية الخاصة بنُبل العمل اليدوي, وقد نادت الصهيونية العمالية بأن يذهب يهودي المنفى إلى فلسطين ليعمل بنفسه ويزرع أرضها بيديه، فيزيل ما علق بذاته في الشتات، ويكون آخر اليهود وأول العبرانيين (كما قال "جوردون"). وهكذا، فإن اليهودي إذا استأجر عاملاً عربياً فقد هدم الفكرة الصهيونية من أساسها. ومن هنا طرح "جوردون" فكرة اقتحام العمل، أي أن يعمل اليهودي بنفسه، ثم اقتحام الأرض، أي أن يزرعها بنفسه، وأخيراً اقتحام الحراسة، أي أن يحرسها بنفسه (وهذا ما نسميه "الزراعة المسلحة"). ورغم أن الديباجات المُستخدَمة ديباجات ثورية شعبوية تتسم بشيء من الجمال والجاذبية، فإنها في واقع الأمر تترجم نفسها إلى إحلالية. فهذه المفاهيم تعني في واقع الأمر تغييب العربي، والاستيلاء على الأرض بعد إخلائها من سكانها العرب مصدر العمالة الرخيصة التي كانت تتهدد المشروع الصهيوني من أساسه، وإحلال المستوطن الصهيوني محله. وبذلك تكون الصهيونية العمالية قد نجحت في التوصل إلى الصيغة التي تسمح بترجمة أهم عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (أي توطين الفائض اليهودي في فلسطين بعد التخلص من العرب) إلى برنامج عملي وممارسة فعلية.

ويبدو أن أعضاء البورجوازية اليهودية المندمجة أو شبه المندمجة في الغرب ووسط أوربا (والتي جاء من صفوفها كثير من زعماء الصهيونية السياسية مثل "هرتزل" و"نوردو") كانوا واعين بحقائق الموقف وبصعوبات الاستيطان. كما أنهم لم يكن يعنيهم، من قريب أو بعيد، شكل الدولة الصهيونية ما دامت تؤدي الأغراض المطلوبة منها مثل إبعاد يهود شرق أوربا عنهم والقيام بدور المدافع عن المصالح الإمبريالية. ولذلك، لم تمانع هذه القيادات البورجوازية في اتخاذ قرارات «اشتراكية» ثورية عديدة. فالنقطة الأولى في برنامج "بازل" تدعو إلى توطين اليهود في فلسطين بالوسائل اللازمة دون تأكيد أي محتوى طبقي أو نمط إنتاجي معيَّن. وبمرور الزمن، اكتشف جميع الصهاينة بشكل برجماتي أن الاستيطان الجماعي والعمالي هو أهم أشكال الاستيطان، فعملية تمويل المشروع الصهيوني كان لابد أن تتم بشكل جماعي أو قومي، كما أن المستوطنين اضطروا إلى التجمع على هيئة جزر متماسكة في وجه الرفض العربي. لكل هذا، نجد أن المؤتمرات الصهيونية الأولى (التي سيطرت علىها الطبقات الوسطى والحاخامات) وافقت على مبدأ تأميم الأرض باعتباره أهم أُسس الدولة الصهيونية في المستقبل، كما اتخذت هذه المؤتمرات كثيراً من القرارات الثورية الأخرى. وكان "وايزمان" (الصهيوني العملي البورجوازي) يعطف كثيراً على النشاط الصهيوني العمالي ولم يكن يأبه باعتراضات المموِّلين اليهود اعتقاداً منه أن الصهيونية العمالية ستَخدم، في نهاية الأمر، المشروع الصهيوني.

وتجدُر ملاحظة أن الصهيونية العمالية الاستيطانية لا ترفض اليهودية الحاخامية وحسب وإنما تقدم نقداً عميقاً للشخصية اليهودية في المنفى باعتبار أنها تود أن تُسبغ مركزية على المُستوطَن الصهيوني فتزيد من شرعيته وتضمن تَدفُّق الدعم المالي والسياسي عليه. وكان التصور أنه كلما زاد هذا النقد عمقاً زادت الشرعية وزاد الدعم، بل إن النقد العمالي الاستيطاني وصل إلى درجة رفض ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تماماً واعتبارها من مخلفات الماضي، ومن ثم نشأت الدعوة إلى أن يكون المستوطنون آخر اليهود وأول العبرانيين، وأصبحت الدعوة للهوية اليهودية من أمراض المنفى.

وتؤمن الصهيونية العمالية بأزلية معاداة اليهود وإن كانت تعطي تفسيراً اجتماعياً مادياً لهذه الظاهرة. وتتلخص المشكلة، حسب التصور الصهيوني العمالي، في أن التركيب الاجتماعي والحضاري لليهود يختلف عن التركيب الاجتماعي والحضاري للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، فاليهود الذين يُحرَّم عليهم ممارسة مهنة الزراعة كانوا يعيشون أساساً في المدن، أما العمال منهم فهم لا يشكلون بروليتاريا صناعية وإنما ينتمون إلى قطاع البروليتاريا الرثة ومُحرَّم عليهم ممارسة كثير من الحرف والأعمال، أما أثرياء اليهود فإنهم يشتغلون بالتجارة والربا أو ببعض الصناعات الاستهلاكية. وهذا كله دليل على تَشوُّه البناء الطبقي عند اليهود وعلى هامشيتهم. وقد عبَّر "بوروخوف" عن هذه الفكرة بصورة الهرم المقلوب: فكل شعب يتكون من فئات اجتماعية تأخذ شكل الهرم الذي يتكون من قاعدة عريضة تُسهم في العمليات الإنتاجية الأساسية، وكلما بَعُدت العمليات الاقتصادية عن هذه العمليات الأساسية قلَّ عدد العاملين حتى نصل إلى قمة الهرم. ويجد "بوروخوف" أن هذا الهرم مُشوَّه تماماً عند اليهود ففي صفوفهم عدد كبير، من المحامين والأطباء والمفكرين وغيرهم، يشاركون في العمليات الإنتاجية الهامشية وينتمون إلى الطبقة الوسطى وإلى قمة الهرم، مع قلة قليلة من الفلاحين، إن وُجدت، وبروليتاريا صغيرة الحجم نسبياً ممن ينتمون إلى قاعدته, وقد نتج عن هذا الوضع المتميز شيئان:

أولاً: أن كل الطبقات اليهودية في المجتمع ـ رأسماليين كانوا أو عمالاً ـ كانت تشكل وحدة متميزة مرفوضة من بقية المجتمع بسبب هامشيتها (وبسبب تراثها الفكري الديني القومي). وهذا يعني أن معاداة اليهود شيء موجه ضد كل اليهود بجميع طبقاتهم، وهي تكاد تكون مرضاً أزلياً لأن المجتمعات الاشتراكية اللا طبقية غير قادرة على حل هذه القضية لعدم إدراكها خصوصية وضع اليهود.

ثانياً: أُصيبت الشخصية اليهودية بالذبول والطفيلية لأنها فقدت علاقتها بالأرض الزراعية وبأي عمل منتج. وقد ازداد هذا الوضع حدَّة وتفاقماً، بسبب ظهور طبقة رأسمالية محلية (في روسيا وبولندا) تُنافس الرأسماليين اليهود وترفض استئجار العمال اليهود وذلك بسبب التعصب الديني ولأن العامل اليهودي في معظم الأحيان كان لا يمتلك الخبرات. ولقد راحت هذه الرأسمالية المحلية الجديدة تؤلب الجماهير المسيحية المُستغَلة ضد كل من الرأسماليين والعمال اليهود، حتى لا تعرف هذه الجماهير مستغليها الحقيقيين، وتحليل أوضاع اليهود بعد سقوط الجيتو على هذا النحو فيه كثير من الجدة والصدق. ويشترك الصهاينة العماليون في الإيمان بأن اليهود فقدوا كثيراً من الصفات القومية وإن كانوا مع هذا يشكلون أمة مستقلة أو أمة لها سمات الطبقة، وبأنها منبوذة في الغرب للأسباب التي ذُكرت آنفاً.

وبالتالي، فإن الحل الذي يطرح نفسه هو إخلاء أوربا من يهودها وتصفية الجماعات اليهودية (وإن كان "بوروخوف" يرى إمكان استثمار مثل هذه الجماعات وبالتالي وجوب الدفاع عن حقوقها السياسية). وتتم عملية التصفية من خلال نقل الكتلة البشرية اليهودية إلى فلسطين، أي تحويل الهجرة التلقائية (إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان) إلى استعمار استيطاني في فلسطين حيث ستُؤسَّس دولة صهيونية تُجسِّد القيم القومية اليهودية وتساهم في تطبيع الشخصية اليهودية وتُطهِّرها من أدران المنفى من خلال العمل اليدوي.

وقد طالب العماليون بأن تُجسِّد هذه الدولة القيم الاشتراكية والثورية وكل القيم التقدمية المطروحة آنذاك في أوربا، ولا يخلو أي برنامج صهيوني عمالي من الحديث عن وحدة الطبقة العاملة. وفي الماضي، كان العماليون يتحدثون كذلك عن الأممية والتضامن البروليتاري العالمي وما شابه من شعارات. ولكن، داخل هذه الوحدة البنيوية الأساسية، توجد بنَى فرعية مختلفة. ولعل أهم هذه البنَى تيار "بوروخوف" الذي حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكد الأساس الطبقي والاقتصادي للصهيونية، وخَلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني كوسيلة لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة للإنتاج. أما تيار "سيركين"، فقد ركز على العنصر الأخلاقي ووحدة الرؤية بين اليهود، ولذلك فهو يؤكد التعاون والأخوة ويُقلِّل أهمية الصراع الطبقي. وقد انصرف جل اهتمام "جوردون" إلى الجانب النفسي، ولذلك فقد ركز على فكرة اقتحام الأرض والعمل كوسيلة للتخلص من آفات المنفى وكوسيلة للولادة الجديدة وتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج. وقد كُتب لأفكار "جوردون" و"سيركين" الشيوع في الأوساط العمالية الصهيونية, وإنعكس الخلاف بين تيارات الصهيونية العمالية على المستوطنين الصهاينة في اليمين العمالي (الماباي) متأثرا بأفكار"جوردون", و(المبام) متأصرا بأفكار "بورخوف" , إلا أن الحزبان اندمجا فيما بعد في ما عرف بالتجمع " المعراخ" الذي تشكل منه حزب العمل, وحركة "ميرتس"

ويعود ظهور الاتجاه العمالي إلى المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، لكنه قوبل برفض شديد من أغلبية المشاركين بزعامة "هرتزل" وكان الرافضون يقدِّمون الصهيونية آنذاك على أنها طريقة لتحويل الشباب اليهودي عن طريق الثورة. وبعد ذلك، عُقد مؤتمر في لاهاي عام 1907 لجماعات "عمال صهيون"( بوعالي تسيون) بقيادة "بوروخوف"، ثم انضمت لهم جماعات أخرى، مثل "العامل الفتي" (هابوعيل هاتسعير) والفتي الحارس (هاشومير هاتسعير) و"اتحاد العمل" (أحدوت هعفودا).

ويمكن القول بأن الموجة الثانية من الهجرة اليهودية (1905 ـ 1914) هي التي أتت بالمادة البشرية الاستيطانية العمالية. فالمهاجرون اليهود في الموجة الأولى من الهجرة كانوا في معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، ولذا فقد استقروا في المدن الفلسطينية، ولم يعمل منهم في الزراعة سوى 5% فقط. أما مهاجرو الموجة الثانية فكانوا ـ لاعتبارات تتعلق بانتماءاتهم الطبقية والأيديولوجية على حدٍّ سواء ـ مصرين على العمل الزراعي الذي رأوه مفتاحاً لحل المسأة اليهودية وإصلاح الهرم الاجتماعي المقلوب عند اليهود.

لقد تمت هذه الموجة " الثانية " من الهجرة في سنوات الهجرة اليهودية الكبرى من روسيا وأوربا الشرقية إلى أمريكا، وحدثت نتيجة فشل ثورة 1905وازدياد معاداة اليهود في روسيا القيصرية نتيجة تعثُّر التحديث. ولقد كانت الأقلية العقائدية هي التي هاجرت إلى فلسطين بدلاً من أمريكا. كانت هذه الأقلية في معظمها من الشبان (77% كانوا في سن دون 25 عاماً)، ولا يملكون أية مدخرات، ومتشبعون بالأفكار الشعبوية الروسية (المعادية للصناعة) وبالأفكار الثورية الاشتراكية. ولذا استخدموا هذه الديباجات في تبرير الاستيلاء على الأرض العربية وطَرْد سكانها، ولذا بدلاً من المنطق الاستعماري التقليدي الذي يقوم بطرد السكان الأصليين وإبادتهم لأنهم من أجناس مُلوَّثة لجأ هؤلاء المهاجرون إلى تبرير عمليات الطرد والإبادة من خلال ديباجات اشتراكية ملتهبة. فاستولوا على الأرض بحجة أن الأرض لمن يزرعها، وطردوا أصحابها منها بحجة أن إنتاجيتهم ضعيفة.

وقد تحوَّلت الصهيونية العمالية في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيدين السياسي والعملي. ويعود هذا إلى نجاحها في مجالين أساسيين:

أولاً: نجحت الصهيونية العمالية فيما فشلت فيه كل الاتجاهات الصهيونية الأخرى، أي تجنيد المادة البشرية الأساسية للعملية الاستيطانية.

ثانياً: نجحت الصهيونية العمالية في تنفيذ القسم الأكبر والأهم من عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة من خلال صيغ وأشكال مختلفة.

والبناء الاقتصادي السياسي في المُستوطَن الصهيوني نتاج نشاطات الصهيونية العمالية بالدرجة الأولى. فـ"الهستدروت" و"الكيبوتس" و"الهاجاناه" و"البالماخ" هي الأدوات التي استخدمها الصهاينة لتحويل جزء من فلسطين إلى مُستوطَن صهيوني تحكمه دولة صهيونية وظيفية، وهي مؤسسات أوجدتها وسيطرت عليها الصهيونية العمالية التي لا تزال لها اليد الطولى في إسرائيل.

إن الصندوق القومي اليهودي الذي أسسه الممولون من أعضاء الجماعات اليهودية كان سيصبح مؤسسة بلا هدف بدون المادة البشرية وبدون المؤسسات العمالية التي حققت لها البقاء والاستمرار. ولذا ليس من الغريب أن تعرف أن أموال الصندوق القومي اليهودي ما بين سنة 1921 وسنة 1945 كانت تذهب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى الاقتصاد العمالي. فالبند الوحيد الذي كان لا يخضع لسيطرة شبكة الأحزاب والمؤسسات العمالية هو بند الإسكان في المدن البالغ 6.8% فقط من مجموع الإنفاق. أما باقي المصاريف، فكان يذهب مباشرةً إلى العمال، كمصاريف المستعمرات الزراعية والهجرة والتدريب والإسكان، كما كان يذهب بصورة غير مباشرة إلى مؤسسات يُشرف العمالي عليها، كالمصاريف المتعلقة بالثقافة والأمن والصحة.

وقد تحوَّلت "الصهيونية العمالية" في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1933) إلى أكبر أجنحة المنظمة الصهيونية العالمية وأكثرها تأثيراً على الصعيـدين السـياسي والعملي الخاصين بالمشروع الصهيوني. ويُلاحَظ أنه مع تزايد اعتـماد الدولة الصـهيونية على يهود العالم، ومع تزايد خفوت النبرة الاشتراكية في صفوف الصهاينة العماليين، اختفى النقد الراديكالي للهوية اليهودية، بل استوعبت الصهيونية العمالية ديباجات الصهيونية الإثنية العلمانية وأصبحت الهوية اليهودية الرقعة المشتركة بين يهود الدولة الصهيونية ويهود العالم.

ثالثا : الصهيونية الدينية :

"الصهيونية الدينية" تيار صهيوني يتقبل معظم مقولات الصهيونية الأساسية الشاملة بعد إدخال ديباجة إثنية دينية عليها. وحينما ظهرت الصهيونية برفضها العميق لليهود واليهودية تَصدَّى لها كثير من المتدينين (الأرثوذكس والإصلاحيين)، باعتبارها هرطقة وكُفراً وإلحاداً ونكوصاً. وإذا كان الصهاينة قد أعلنوا عزمهم غزو الجماعات اليهودية، فإنهم قد قرروا أن يُغيِّروا اليهودية نفسها ويعلمنوها من الداخل حتى ولو لم يعلنوا عن ذلك. ولعل مما يسَّر هذه العملية عدة عوامل من أهمها أن اليهودية نفسها في أواخر القرن التاسع عشر كانت تمر بأزمة حادة بعد خروجها من الجيتو. فعالم الأغيار في الغرب قد أثبت جاذبيته الشديدة، كما أن اليهودية كانت قد أجادت التعامل مع العالم من داخل أسوار الجيتو والعزلة، ولكنها لم تكن بعد قد أجادت التعامل معه في إطار الإعتاق والاستنارة والمساواة.

ولعل زيادة علمنة المجتمع الغربي وانتشار العلم والتكنولوجيا قد جعلا استمرار اليهودية صعباً، وخصوصاً أن اليهودية الحاخامية كانت قد تجمدت وأصبحت مثل القشرة اليابسة. وقد تهاوت مع اليهودية المؤسسات التقليدية التي ساعدت الحاخامات وأثرياء اليهود على إحكام قبضتهم على جماهير اليهود، مثل القهال. وقد ساهمت حركة التنوير "الهسكالاة" في خلق جيل جديد من شباب اليهود الذي كان يتحـرك بيُسر بين عالـم اليهـود وعـالم الأغيار ويجيد علوم الغـرب، وأصبحت القــيادة الحاخامية معزولة عن هذا الوضع الجديد. ومما زاد الأمور سوءاً أن اليهودية نفسها كانت منقسمة بحدة إلى المؤسسة الحاخامية التقليدية والحركة الحسيدية التي اكتسحت شرق أوربا، وهي حركة حلولية متصوفة تمثل احتجاجاً على وضع اليهود، وعلى جفاف العقيدة التلمودية. وقد أحست المؤسسة الدينية بأن الوضع آخذ في الانهيار. وربما كان أكبر دليل على ذلك انتشار اليهودية الإصلاحية وما تبع ذلك من زيجات مُختلَطة، حتى أن الحديث عن اختفاء اليهود كان مطروحاً بين علماء الاجتماع في الغرب.

في هذا السياق، كان للعقيدة الصهيونية في صياغتها المراوغة (المتمثلة في برنامج بازل) بريقها. فهي، رغم هجومها على اليهود واليهودية، قد استخدمت كل الرموز التقليدية من عودة إلى صهيون والأرض المقدَّسة والشعب المقدَّس. ودولة اليهود التي تحدَّث عنها "هرتزل" تُشبه في نهاية الأمر الجيتو والقهال من بعض الوجوه، فهي دولة بدون أغيار. وكان أعضاء المؤسسة الدينية يدركون مدى حدة معاداة اليهود في أوربا عامة، وأكثر من هذا مدى خطورة الاندماج والعلمانية. ولذا، فلم يكن من العسير عليهم أن يأخذوا بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المُهوَّدة (بعد صهينة اليهودية).

وعلى كلٍّ، فإن "هرتزل" نفسه لم يمانع في إنشاء حزب ديني بل رحب به قبل فاته، وقام بتمويل حزب "مزراحي"، حيث أدرك أنه لا تعارض حقيقياً بين صهيونيته الدبلوماسية التي تهدف إلى إخلاء أوربا من يهودها وبين الخطاب الإثني الديني. كما أن دعاة الصهيونية الدبلوماسـية وجـدوا أنه قد يكون من المفيد اسـتخدام الدين لتجنـيد اليهود، بل إزالة الفوارق بين الصهيونية واليهودية في نهاية الأمر بحيث يتم تهويد الصهيونية وصهينة اليهودية. وقد اتخذ المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) قراراً بتأسيس حركة دينية تُسهم في تثقيف اليهود بروح القومية اليهودية، أي تُظهر التلاحم الكامل بين القومية والدين.

وقد طوَّر الصهاينة الدينيون هذا البرنامج، فطرحوا الأفكار الدينية التقليدية كافة بعد تفريغها من بُعدها الأخلاقي وتأكيد بُعدها الإثني، فأعادوا صياغة فكرة العودة بطريقة تتفق مع متطلبات الاستيطان الصهيوني، فتم تفسير الاستيطان (أو العودة الجسدية الفعلية إلى فلسطين) الذي كان يُعَدُّ هرطقة من المنظور الديني التقليدي باعتباره مجرد إعداد لعودة "الماشيَّح". بل إن فكرة القومية العضوية نفسها تم التعبير عنها من خلال الصيغة الحلولية، فالصهاينة الدينيون يرون أن اليهود أمة ولكنهم أمة تختلف عن بقية الأمم لأن الإله هو الذي أسسها بنفسه، فهم يدورون في إطار المفهوم الحلولي الخاص بوحدة التوراة والأمة وأن اليهود كشعب لا يمكنه الاستمرار بدون التوراة. وأن هذه الوحدة، مع هذا، لا يمكن أن تأخذ شكلها الكامل خارج فلسطين، أي أن عناصر الثالوث الحلولي: (الأمة والكتاب والأرض) لابد أن تلتحم، وبالتحامها تظهر عبقرية الأمة كالينبوع الذي تعود له الحياة فجأة، والذي لا تملك البشرية الخلاص دون فيضه السخي. وهذه الفكرة هي فكرة القومية العضوية نفسها بعد أن اكتسبت ديباجة دينية حلولية.

بل إن مفكري الصهيونية الدينية كانوا من المؤمنين بأن علمانية الصهيونية الظاهرة هي مجرد وهم، وأنها مجرد إطار ساهم هو نفسه في إحكام قبضة القيم الإثنية الدينية على الوجدان اليهودي، وأن المشروع الصهيوني سَيسقُط في يد الصهاينة الدينيين. وبهذا، تكون الصهيونية الدينية قد سوَّغت الصهيونية للمتدينين ولكنها تكون في الوقت نفسه قد قامت بصهينة الدين اليهودي حتى أصبح لا يختلف كثيراً عن الصياغة الإثنية التي طرحها "آحاد هعام" والتي لا تتعارض بأي شكل مع الصياغة الدبلوماسية التي طرحها هرتزل.

وكما هو مُتوقَّع، نشب صراع حاد بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة الإثنيين العلمانيين، فهم يتحركون في المجال نفسه، منطقة الوعي وإدراك الهـوية ومعنى الوجود. وقـد كان الصراع حـاداً منذ البداية، منذ "أحباء صهيون"، واستقرت حدته بعد ظهور "هرتزل" داخل المؤتمرات الصهيونية المختلفة، وقد هدأت الأمور قليلاً بعد "وعد بلفور" وتقسيم مناطق النفوذ بين الصهيونية العمالية التي تبنت الصيغة الإثنية العلمانية والصهيونية الدينية التي مُنحت الإشراف على المدارس الدينية وعلى المحاكم وبعض المؤسسات الأخرى. ومع ظهور أزمة الصهيونية وظهور مشكلة الشرعية داخل المُستوطَن الصهيوني بعد عام 1967، بدأ الاتجاه الإثني الديني يتغلب على الاتجاه الإثني العلماني حتى بدأ كثير من أعضاء النخبة الحاكمة في إسرائيل يدَّعي التدين ويستخدم مصطلحاً إثنياً دينياً، وأخيراً وليس آخرا كانت ظاهرة "مائير كهانا" و " ليفنغر "وهم من أكبر دعاة الصهيونية الإثنية الدينية وهي صهيونية مُفرَّغة تماماً من أي مضمون خلقي أو ديني.

والصهيونية الدينة في الوقت الحاضر هي العمود الفقري لليمين الصهيوني، والأرثوذكس هم طليعة الاستيطان في الضفة الغربية ودعاة صهيونية الأراضي بعد أن أصبحت الأرض هي مركز القداسة ، وأصبح التنازل عن أي شبر منها كفر وهرطقة (على عكس الأرثوذكس في الماضي الذين كانوا يرون العودة للأرض باعتبارها كفراً وهرطقة).

وأهم مفكري الصهيونية الإثنية الدينية هما "موهيليفر" و"كوك". وتسيطر المؤسسة الصهيونية الدينية الآن على جمهور ثابت في الشارع الإسرائيلي عن طريق توليها شئون الدين والزواج والطلاق وشبكة واسعة من المدارس والمعاهد الدينية والمؤسسات المالية وحركات الاستيطان التابعة لها.

والمشكلة الكبرى التي تواجهها الصهيونية الإثنية الدينية الآن أن أغلبية يهود العالم الساحقة ليست أرثوذكسية، كما أنها تعيش في مجتمعات علمانية تحقق لها قسطاً كبيراً من الحرية، ولذلك يصدمهم سلوك هذه المؤسسة التي تصر على الخطاب الإثني الديني وعلى تطبيق مقولاته، وتظهر المشكلة دائماً في شكل سؤال: من هو اليهودي؟

رابعا : الصهيونية الثقافية :

"الصهيونية الثقافية" أو "الصهيونية الروحية" ويشار لها أحياناً بـ "الصهيونية العلمانية". وهي اتجاه صهيوني في تيار الصهيونية الإثنية ينطلق من الصيغة الصهيونية الأساسية ويهتم بقضايا الهوية والوعي ومعنى الوجود، ويرى أن المشروع الصهيوني مهما كان توجُّهه السياسي الاقتصادي لابد أن يكون ذا بُعْد إثني يهودي. ومجال الصهيونية الإثنية العلمانية هو كل يهود العالم، ولذا فهي لا تُفرِّق بين المستوطنين الصهاينة ويهود العالم. وتنادي الصهيونية الإثنية العلمانية بأن يتحول المُستوطَن الصهيوني ( الدولة اليهودية ) إلى مركز لإحياء الإثنية اليهودية، وترى أن الثقافة اليهودية لا يمكن أن تستمر دون هذا المركز. وفيما يتصل بالعقيدة اليهودية، فإن الصهيونية الإثنية العلمانية ترى أنها قضت نحبها، وأن ما يمكن أن يحقق الاستمرار هو الإثنية اليهودية التي يمكن أن تصبح موضع المطلقية ومصدر القداسة. وخلفية الصهيونية الإثنية هي نفسها خلفية الصهيونية على وجه العموم من تعثُّر عملية التحديث في شرق أوربا إلى وصولها إلى طريق مغلق عام 1880، الأمر الذي جعل استمرار حركة التنوير اليهودية صعباً. ويُضاف إلى هذا، الوضع الإثني الخاص ليهود شرق أوربا المتمثل في ثقافتهم اليديشية القديمة نوعاً ما وفي ثقافتهم العبرية الجديدة. ويضاف إلى ذلك أيضاً وضعهم الاقتصادي الوظيفي المتميِّز. كما يجب أن نضع في الاعتبار فكرة القومية العضوية والشعب العضوي (الفولك) التي أثرت في اليهود تأثيراً سلبياً عميقاً بنبذهم، وتأثيراً عميقاً إيجابياً بطرح نموذج الحركة لهم.

ويُعَدُّ المفكر اليهودي الروسي "آحاد هعام" أهم المفكرين في هذا التيار، كما تعد أفكاره الأفكار الأساسية لهذه المدرسة. ويمكن أن نضم إليه "أليعازر بن يهودا" (1858 ـ 1922). كما يُصنَّف "مارتن بوبر" (1878 ـ 1965) ضمن أتباع هذا الاتجاه بسبب تقديسه للشعب اليهودي، وبسبب رؤيته الحوارية الحلولية، ولاستخدامه مصطلح الفكر القومي العضوي.

وبسبب اختلاف المستويات، لا يوجد تناقض بين الصهيونية الإثنية العلمانية والتيارات الصهيونية الأخرى، كما أن الصراع لا ينشب إلا بينها وبين أتباع الصهيونية الإثنية الدينية. ويمثل فكر الصهيونية الإثنية العلمانية فريقان، أحدهما في إسرائيل والآخر خارجها. أما الفريق الإسرائيلي فيؤكد مركزية (أو أرستقراطية) الدولة الصهيونية في حياة الشتات بل يتخطى أحياناً حدود الصيغة الآحاد هعامية وينادي بإلغاء أو نفي الشتات أو اعتبارها مجرد جسر أو قنطرة. أما الفريق الثاني فهم صهيونيو الشتات (الصهاينة التوطينيون في الخارج)، وهم أكثر اقتراباً من الصيغة الأصلية. وهؤلاء يرون ضرورة وجود مركز ثقافي في إسرائيل حتى يستمد التراث اليهودي أسباب الحياة والاستمرار فيدعم هويتهم اليهودية الآخذة في التآكل في مجتمعاتهم العلمانية، ولكنهم لا يرون أية ضرورة للاستيطان في إسرائيل. والمشكلة بالنسبة إليهم هي، إذن، مشكلة يهودية وليست مشكلة يهود، كما أن الدولة بالنسبة إليهم وسيلة ثقافية وليست غاية، تماماً كما كان الحال مع "آحاد هعام".

والواقع أن أغلبية يهود المُستوطَن الصهيوني الساحقة (من أقـصى اليمين حتى أقـصى اليسـار) من أتباع الصهيونية الإثنية العلمانية. وكذلك غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ممن يناصرون الصهيونية هم من أتباع هذا التيار، وخصوصاً في صياغته التي تتركهم وشأنهم في أوطانهم ولا تطلب منهم الهجرة.

على الرغم من هذه المدارس الصهيونية إلا جميع القيادات الصهيونية وبغض النظر عن أي مدرسة تنتمي كانت تمزج بين جميع منطلقات واهداف وأساليب جميع التيارات الصهيونية مما يدلل ان الصهيونية الحقة هي التي تمزج بين جميع التيارات الصهيونية عمالية كانت أو رأسمالية, راديكالية أو مراجعه, عملية أو سياسية, دينية أو لا يدنية.
فالصهيونية تتحرك ديبلوماسيا لتنال الوعود وتعقد الإتفاقيات ( الصهيونية السياسية), في الوقت الذي تخلق بواسطة الإستيطان حقائق جديدة يجعل من التراجع عن الوعود والقرارات الدولية أمرا مستحيلا ( الصهيونية العملية), وتشجع رأسمال اليهودي على الهجره لتثبيت ركائز المشروع الصهيوني (المراجعون) وتزود التنظيمات العمالية الصهيونية بالمساعدات (صهيونية عمالية), وكذلك أيدولوجيا ليس لها إنتماء ديني (الصهيونية اللادينية القومية), وتقدم نفسها على أنها التعبيرالوحيد عن اليهودية (الصهيونية الدينية), وجميع هذه التيارات تشترك في الغيبية والإعتماد شبه المطلق على الرأسمال اليهودي وعلى التأييد الإمبريالي.
لذا يمكن القول ان جميع مدارس الصهيونية توفيقية وجميع هذه المدارس تعبر عن فلسفة واحدة متكاملة وبنية فكرية متسقة مع ذاتها أي نسق أيدولوجي واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رداً على روسيا: بولندا تعلن استعدادها لاستضافة نووي الناتو |


.. طهران تهدد بمحو إسرائيل إذا هاجمت الأراضي الإيرانية، فهل يتج




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل بعد مقتل اثنين من عناص


.. 200 يوم على حرب غزة.. ومئات الجثث في اكتشاف مقابر جماعية | #




.. إسرائيل تخسر وحماس تفشل.. 200 يوم من الدمار والموت والجوع في