الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصهيونية (17)..موقف الجماعات اليهودية

خالد أبو شرخ

2011 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


تروِّج الدعاية الصهيونية لصورة مفادها أن الأغلبية العظمي من يهود العالم تؤمن بالعقيدة الصهيونية، وتؤازر الدولة الصهيونية وتقف وراءها صفاً واحداً. وقد يكون هناك شيء من الحقيقة السطحية والمباشرة في هذا القول، فرغم أن يهود إسرائيل لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من يهود العالم لا تتجاوز الثُلث بأية حال فإن الحركة الصهيونية قد هيمنت علي معظم المؤسسات اليهودية في العالم، ومنها كثير من الجمعيات اليهودية الأرثوذكسية والإصلاحية التي يوجد بينها وبين الصهيونية تَناقُض من ناحية العقيدة. فاليهودية الأرثوذكسية تري أن اليهود شعب بالمعني الديني وحسب وليس بالمعني العرقي كما يتصوَّر الصهاينة. أما اليهودية الإصلاحية فتري أن اليهود ليسوا شعباً أساساً وإنما جماعة دينية يؤمن أفرادها بالعقيدة نفسها. وقد أصبح منْ يرفضون الصهيونية بشكل علني وعقائدي أقليةً هامشيةً لا يُعتد بها ولا يُسمَع لها صوت.
وتاريخ الرفض اليهودي للصهيونية يبدأ مع تاريخ الصهيونية نفسها. وقد جاء في موسوعة الصهيونية وإسرائيل أن المنظمات اليهودية الرئيسية "كافة" قد اتخذت من الصهيونية موقفاً معارضاً أو موقفاً غير صهيوني (أي غير مكترث). وقد دفعت المعارضة اليهودية القيادة الصهيونية لنقل مقر انعقاد المؤتمر الأول (1897) من ميونخ إلى بازل. وأعلنت اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامات في ألمانيا، عشية انعقاد المؤتمر، اعتراضها على الصهيونية على أساس أن فكرة الدولة اليهودية تتعارض مع عقيدة الخلاص اليهودية. كما اتخذت المنظمتان اليهوديتان الرئيسيتان في إنجلترا (مجلس مندوبي اليهود البريطانيين، والهيئة اليهودية الإنجليزية) مواقف مماثلة. وأعرب مؤتمر الحاخامات الأمريكيين المركزي عن معارضته التفسير الصهيوني لليهودية باعتبار أن الصهيونية تؤكد الانتماء القومي. وعارض حاخام فيينا (مسقط رأس هرتزل) فكرة إنشاء دولة يهودية لأنها فكرة معادية لليهود وتُرجع كل شيء إلى العرْق والقومية. وقد تبنت اللجـنة اليهـودية الأمريكية موقـفاً مناهضاً للصهيونية عام 1906، ثم انتهجت نهجاً غير صهيوني استمر حتى أواخر عام 1940. وعندما صدر وعد بلفور أعلن 299 يهودياً أمريكياً رفضهم في الحـال، في عريضـة موجهة إلى الحكومة الأمريكية، وقعوا عليها، على أساس أن ذلك يروج لمفهوم الولاء المزدوج. وفي 4 مارس سنة 1919، بعث جوليوس كان، عضو الكونجرس الأمريكي عن كاليفورنيا، ومعه 30 يهودياً أمريكياً بارزاً، رسالة إلى الرئيـس وودرو ويلـسون يحتـجون فيها على فكرة الدولة اليهودية. وأعرب أكثر الموقعين على هذا الاحتجاج عن أنهم يعبِّرون عن رأي أغلبية اليهود الأمريكيين، وكتبوا يقولون: إن إعلان فلسطين وطناً قومياً لليهود سيكون جريمة في حـق الرؤى العالمية لأنبياء اليهود وقادتهم العظماء. واسـتطرد البيان يقول: إن دولة يهودية لابد أن تضع قيوداً أساسية (على غير اليهود) فيما يتعلق بالجنس، وأكد أن توحيد الكنيسة والدولة في أية صورة سيكون بمنزلة قفزة إلى الوراء تعود إلى ألفي عام. وأعرب جوليوس كان وغيره (ممن وقعوا على الاحتجاج) عن أملهم في أن ما كان يُعرَف في الماضي بالأرض الموعودة يجب أن يصبح أرض الوعد لكل الأجناس والعقائد.

وكما أن مصطلح صهيونية مصطلح مختلط الدلالة، فإن مصطلح رفض الصهيونية أو العداء لها يتسم بالصفة نفسها:
1 ـ ففي بعض الأحيان، يُطلَق على اليهودي الذي يقف ضد التوسعية الصهيونية أو ضد قمع الدولة الصهيونية للفلسطينيين مصطلح «معاد للصهيونية».
2 ـ ويُستخدَم المصطلح نفسه للإشارة لنعوم تشومسكي الذي قرر أن السياسات الإسرائيلية والصهيونية ليستا بالضرورة مترادفتين، ومن ثم يستطيع أي يهودي أن يشجب السياسات الإسرائيلية والتصدي لها دون أن يتخذ موقفاً معادياً للصهيونية بالضرورة، ومع هذا صُنِّف تشومسكي معادياً للصهيونية رافضاً لها.
3 ـ أما ألان سولومونوف، وهو شخصية أمريكية يهودية شهيرة، طالبت إسرائيل في الماضي (قبل توقيع إعلان المبادئ المعروف بإتفاقية أوسلو) بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وأن تنشئ دولتين، واحدة فلسطينية والأخرى إسرائيلية، ولكنه رفض أن يتم تطبيق اصطلاح «صهيوني» أو «معاد للصهيونية» عليه. بينما نجد أن إدموند هاناور (مؤسس جماعة سيرش) يطالب بالمطالب نفسها، ويُسمِّي نفسه مع هذا «معادياً للصهيونية».
4 ـ يرى الصهاينة أن العداء اليهودي للصهيونية إنما هو شكل من أشكال كُره اليهودي لنفسه.

والرفض اليهودي للصهيونية ينقسم إلى قسمين أساسيين: ديني وعلماني:

1 ـ الرفض الديني:
أ) الرفض الأرثوذكسي: يرى بعض اليهود الأرثوذكس ورثة اليهودية الحاخامية (انطلاقاً من رؤيتهم الدينية) أن العودة إلى أرض الميعاد لا يمكن أن تتم إلا بعد ظهور الماشيَّح المخلِّص في آخر الأيام على أن يقوم هو بقيادة شعبه اليهودي. وبناءً على ذلك، تكون الحركة الصهيونية، بمحاولتها اتخـاذ خطوات عمليـة (مادية علمانية) لإقـامة وطن قومي يهودي، إنما تدخل في أخص خصوصيات الإرادة الإلهية، أي أنها نوع من التجديف والهرطقة، وتأسيس أية دولة علمانية في فلسطين على يد اليهود هو خرق للتعاليم التوراتية. إن الشعب اليهودي ليس شعباً مثل كل الشعوب وإنما هو أمة من الكهنة، كما أن العهد المبرم بينهم وبين الرب عهد ديني من نوع خاص وليس عهداً قومياً كما يتخيل الصهاينة. ويرى هؤلاء الأرثوذكـس ضرورة الإبقـاء على اليديشـية لغةً للتعـامل اليومي، فالعبرية هي اللسان المقدَّس. وقد قامت جماعة أجودات إسرائيل بالوقوف في وجه الصهيونية, كن التيار الصهيوني، اكتسح جماعة أجودات إسرائيل، شأنها شأن كثير من الجماعات الدينية اليهودية، ولم يبق الآن من ممثلي هذا التيار سوى نواطير المدينة (أناطوري كرتا ) متفرقة في انحاء العالم؟

ب) الرفض الإصلاحي: تصدر اليهـودية الإصلاحية عن شكل جديد من أشكال الحلولية، وهو ما نسميه "حلولية شحوب الإله " إذ يرون أن الإله قد حل لا في الأمة اليهودية ولا في الأرض الهودية ولا حتى في التاريخ اليهودي وإنما في روح التقدم والعصر، ولذا فهم يرون أن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقليات دينية، وأن الماشيَّح ليس شخصاً وإنما عصر مشيحاني تتحقق فيه كل قيم التقدم والعدالة وهو ليس مقصوراً على اليهود وحدهم. ولذا، فإن اليهودية الإصلاحية تقف ضد الصهيونية بشراسة لأن الصهيونية تصر على أن موضع الحلول هو الشعب اليهودي والأرض.
وقد حدث تغيُّر جوهري على اليهودية الإصلاحية، إذ اكتسحها التيار الصهيوني، وتمت صهينتها من الداخل، وأصبحت مُمثَّلة في المنظمة الصهيونية العالمية. كما تم تعديل كتاب الصلوات الإصلاحي بحيث أصبح يضم إشارات وعبارات صهيونية.
وكان دعاة اليهودية المحافظة في بداية الأمر من رافضي الصهيونية. وبسبب تَماثُل بنيتها وبنية الصهيونية (الشعب مركز الحلول)، تمت صهينة اليهودية المحافظة تماماً وبسرعة، وتشبهها في ذلك اليهودية التجديدية.

2 ـ الرفض العلماني.
أ) الرفض الليبرالي: يؤمن الليبراليون بمُثُل عصر الاستنارة، ووجوب فصل الدين عن الدولة، وأن اليهود ليسوا شعباً وإنما أقلية دينية، وأنهم ليسوا أمة من الكهنة وإنما مواطنون عاديون يتجه ولاؤهم إلى الدولة التي يعيشون فيها، وأن اليهود ليس لهم تاريخ مستقل وإنما يشاركون الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها تجاربهم التاريخية. فتاريخهم فرنسي في فرنسا، وإنجليزي في إنجلترا، واللغة التي يجب أن يتحدثوا بها هي لغة الوطن الذي يعيشون فيه. وعلى هذا، فإن حل المسألة اليهودية لن يتأتى إلا عن طريق مزيد من الاندماج. بل إنهم يعتبرون الحركة الصهيونية عقبة كأداء تقف في طريق الاندماج السوي. ومعظم الذين يشكِّلون هذا التيار هم من أعضاء الطبقات الوسطى في أوربا الغربية والولايات المتحدة والذين لم يجدوا صعوبة اقتصادية أو حضارية في الاندماج. ومن أهم الرافضين للصهيونية على أساس ليبرالي إدوين مونتاجو وهانز كون وموريس كوهين.
وقد تسبَّب إعلان دولة إسرائيل وصداقتها للعالم الغربي الرأسمالي في تَساقُط الجمعيات التي تعبِّر عن هذا الاتجاه، ولم يبق منها سوى جمعيات متفرقة مثل المجلس الأمريكي لليهودية، الذي يخضع الآن بعض الشيء للنفوذ الصهيوني، وهو ما اضطر الحاخام برجر للاستقالة منه وتكوين جمعية صغيرة مستقلة تحت اسم «بديل يهودي للصهيونية».

ب) الرفض الاشتراكي: يَصدُر الرفض الاشتراكي اليهودي للصهيونية عن تَصوُّر أن اليهود أقلية دينية وأن ما يسري على كل الأقليات يسري عليهم، وأن حل المسألة اليهودية يكون عن طريق حل المشاكل الاجتماعية والطبقية للمجتمع ككل. وقد كان هذا هو الحل الأكثر شيوعاً بين صفوف الشباب اليهودي في روسيا وبولندا وبين صفوف العمال اليهود، الأمر الذي جعل الوجود اليهودي في صفوف الحركات الثورية في شرق أوربا وروسيا أمراً ملحوظاً (وقد أفزع هذا أثرياء اليهود في الغرب أمثال روتشيلد، فساهموا في تمويل الحركة الصهـيونية ليحــولوا الشـباب والعـمال عن طريق الثورة). وقد هُزم هذا التيار في الأربعينيات والخمسينيات بعد ظهور دولة إسرائيل، لكنه بدأ في الظهور مرة أخرى في الغرب خصوصاً بعد أن ظهرت بوضوح الطبيعة الاستعمارية للدولة الصهيونية. ويُلاحَظ أن قطاعات كثيرة من اليسار الجديد في الغرب تعادي إسرائيل رغم (أو بسبب) وجود كثير من الشباب اليهودي الساخط على قيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الذي تمثله الدولة الصهيونية في العالم الثالث.
وقد ضم تيار الرفض الاشتراكي اليهودي للصهيونية عبر السنين عدداً كبيراً من المفكرين اليهود البارزين، مثل: روزا لوكسمبرج وليون تروتسكي وإليا إهرنبورج وكارل كاوتسكي. وفي السنوات الأخيرة، ضمت القائمة ماكسيم رودنسون وإسحق دويتشر وبرونو كرايسكي. ولا يزال عدد كبير من المنظمات اليسارية في أوربا والولايات المتحدة، التي تضم في صفوفها أعداداً كبيرة من اليهود، تنتهج موقفاً مناهضاً للصهيونية والاستعمار.

جـ) الرفض من منظور قومية الشتات : دعاة قومية الشتات يرون أن اليهود يُكوِّنون أقليات قومية لها هويات مستقلة خارج فلسطين. وحين يتحدث دعاة قومية الشتات عن اليهود, يشيرون إلى أقلية قومية أو حتى إلى أمة قومية، ولكنهم في واقع الأمر يشيرون إلى أقلية إثنية. وحيث إن معظم دعاة هذا الاتجاه كانوا يتحدثون باسم غالبية يهود العالم، وهم يهود اليديشية، فإنهم يتحدثون في العادة عن القومـية اليديشـية التي تكـونت هـوية أعضـائها تحت ظروف خاصة.
ولكن، إلى جانب هذا التيار، بدأ يظهر تيار مماثل بين يهود أمريكا يرى أن هويتهم الحقيقية هي هوية أمريكية يهودية تستحق الحفاظ عليها، ومن ثم ينبغي عدم تصفيتها أو إخضاعها للدولة الصهيونية.

هذه هي التيارات الأساسية في الرفض اليهودي للصهيونية. ويمكن القول من ناحية التطور التاريخي بأن العداء اليهودي للصهيونية كان قوياً للغاية حتى إعلان وعد بلفور، حين تم توقيع عقد بين الحضارة الغربية والصهاينة الذين ادعوا تمثيل الشعب اليهودي، وقد أُزيل بالتالي احتمال ازدواج الولاء. ومع إعلان الدولة الصهيونية دولة وظيفية في خدمة الاستعمار الغربي، أصبح من العبث معارضتها بل أصبح من المنطقي تبنِّي العقيدة الصهيونية باعتبارها العقيدة التي تُدخل اليهود في نطاق الحضارة الغربية وتُوظِّفهم لصالحها، وهذا ما حدث لمعظم يهود العالم الغربي ومنظماتهم. لكن المقاومة اليهودية للصهيونية، مع هذا، لم تنته تماماً، فقد بدأت تظهر شخصيات وتنظيمات جديدة معارضة للصهيونية أو متملصة منها.

الرفض اليهودي بعد قيام إسرائيل
وعلى الرغم من نجاح المشروع الصهيوني لم ترتق العلاقات ما بين الجماعات اليهودية والحركة الصهيونية لعلاقة طيبة دائماً, فقد رفض أعضاء الجماعات اليهودية ـ في الممارسة العملية الخضوع للأوامر والنواهي الصهيونية فهم، علي سبيل المثال، يرفضون الهجرة إلي إسرائيل "وطنهم القومي" الوهمي، وهم قد يقبلون الصهيونية اسماً وشكلاً لكنهم يرفضونها فعلاً وعملاً. وهذا ما نسميه "التملص اليهودي من الصهيونية". كما أن اهتمام أعضاء الجماعات اليهودية في العالم ينصب علي موروثهم الثقافي من المجتمع الذي يعيشون في كنفه، فيهود الولايات المتحدة علي سبيل المثال يهتمون بموروثهم الأمريكي اليهودي ويتعلمون اللغة الإنجليزية ويضعون مؤلفاتهم الدينية والدنيوية بها، كما أنهم لا يدرسون العبرية إلا في مراكز خاصة لدراسة اليهودية يعاني خريجوها من البطالة لعدم وجود اهتمام كاف بهذه الدرسات. وهذا الوضع هو تعبير عن رفض ضمني كامن للمفاهيم الصهيونية الخاصة بنفي الشتات وبمركزية إسرائيل في حياة الشتات، وهي مفاهيم تؤكد أن يهود العالم مجرد أداة لتحقيق الهدف الصهيوني، وأنهم يمثلون هامـشاً يدور حـول المركز "القومي" الصهيوني أي الدولة الصهيونية.
وحتي في إطار الخضوع الظاهري الكامل لإسرائيل، تنشأ مشاكل عدة بين يهود العالم من الصهاينة واليهود غير الصهاينة من جهة وإسرائيل من جهة أخري. ولعل أهم هذه القضايا هي تلك التي أُثيرت منذ عام 1948 عن مدي حق أعضاء الجماعات، علي مستوي العالم، في توجيه النقد إلي إسرائيل. فالدولة الصهيونية تحاول أن تكون علاقتها بيهود العالم علاقة هيمنة، فتتلقي منهم العون والمساعدات والتأييد دون أن يكون لهم حق التدخل في شئونها. ولكنهم، في نهاية الأمر، رفضوا الهجرة إليها وآثروا البقاء في "المنفي"، وما يقدمونه هو تكفير عن عدم مساهمتهم في تحقيق رؤية الخلاص والمثل الأعلي الصهيوني. أما يهود العالم، فيرون المسألة بشكل مختلف، إذ كيف يُطلَب منهم قبول قرارات سياسية إسرائيلية لم يشتركوا في صياغتها، أو تأييد هذه القرارات دون اعتراض؟ ... وإذا كان لدي الدولة الصهيونية استعداد لأن تتلقي نقودهم بصدر رحب وحماس زائد، فيجب أيضاً أن يتسع صدرها لانتقاداتهم التي تَنصبُّ في الغالب علي مسائل محدَّدة.
وأولي المسائل المهمة التي يثيرها يهود العالم أن الصهيونية وعدتهم بأن تؤسِّس دولة يهودية تسمح لليهود بالتحكم في مصائرهم مستقلين عن مجتمع الأغيار. ولكن هؤلاء، حين ينظرون، يرون دولة مصابة بأزمة اقتصادية مزمنة وصل فيها التضخم في وقت من الأوقات إلي معدلات قياسية. ورغم أن التضخم تمت السيطرة عليه، فإن حجم مديونية هذه الدولة يجعل المواطن فيها من أكثر المواطنين مديونية في العالم ويُلاحَظ كذلك تذبذب معدلات النمو الاقتصادي. وقد أدَّي كل ذلك إلي الاعتماد المتزايد والمذلّ علي الولايات المتحدة.
وقد ادعت الصهيونية أن اليهود مصابون بشتي أمراض المنفي، مثل الهامشية والطفيلية وانقلاب الهرم الإنتاجي، وأنها ستقوم بتحويلهم إلي شعب منتج يعمل بيديه. ولكن هذه النبوءة لم تتحقق إذ أن عدد اليهود في الدولة الصهيونية الذين يشتغلون بأعمال إنتاجية في الوقت الحالي يبلغ 23%، وكانت النسبة 24% قبل عام 1948. وقد تزايد قطاع الخدمات وتَضخَّم في المجتمع الإسرائيلي وفي الجيش نفسه.
ومن القضايا التي يثيرها يهود العالم من المؤمنين باليهودية، مشكلة معدلات العلمنة المتزايدة في الدولة اليهودية التي لا تسودها القيم اليهودية، فكثيراً ما يجدون أن بعض مبعوثي الدولة اليهودية لم يقرأوا التوراة في حياتهم قط، ولم يذهبوا إلي معبد يهودي. وتضطر الدولة التي يقال لها "يهودية" إلي أن تعطي دورات مكثفة في الدين اليهـودي لبعـض مبعـوثيها إلي الخـارج حتي لا ينكشف السر، فهم لا يعرفون كيف تُقام الصلوات اليهودية ولا يدرون شيئاً عن السلوك الواجب اتباعه في المعبد اليهودي.
ويشير هؤلاء المتدينون أيضاً إلي أن الدولة اليهودية، التي كان من المفترض أن تكون مثلاً أعلي يُحتذَي، أصبحت ذات توجُّه استهلاكي حاد يُقبل سكانها علي استهلاك السلع الغربية بشغف شديد. وهي، علاوة علي هذا، دولة تنتشر فيها الجرائم والمخدرات والدعارة، كما أصبحت ترتع فيها الجريمة المنظمة، وأصبح الجهاز الحكومي لا يتمتع بسمعة طيبة بسبب فضائحه المالية المتتالية.
وحينما تتهم الدولة الصهيونية أعضاء الجماعات اليهودية بأنهم آخذون في الاندماج، بل في الانصهار والتلاشي، يشيرون هم بدورهم إلي حياة إسرائيل العلمانية، ويؤكدون أن الإسرائيليين هم الذين يفقدون هويتهم اليهودية بالتدريج، وأنهم هم الذين سيندمجون تماماً في حضارة الأغيار. بل إن بعضهم يري أن ما يحدث في إسرائيل هو ظهور قومية جديدة إسرائيلية لا علاقة لها باليهودية، وبالتالي لا علاقة لها بهم.
ويثير يهود العالم قضية أساسية أخري يبدو أنها دون حل في الوقت الحاضر، وهي أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل ترفض الاعتراف باليهود الإصلاحيين والمحافظين كيهود، وهم يشكلون مع اليهـود اللا أدريين والملحـدين ما يزيد علي 80% من يهود العالم الغربي، في حين لا يشكل الأرثوذكس إلا أقلية صغيرة. وتأخذ القضية شكلاً حاداً، كلما أثارت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل قضية تغيير قانون العودة حتي يصبح تعريف اليهودي هو من تهوَّد حسب الشريعة، أي علي يد حاخام أرثوذكسي وحسب.
ويري بعض المفكرين الدينيين اليهود أن ظهور الدولة الصهيونية قد أدَّي إلي انهيار اليهودية وتآكُلها من الداخل، فأصبحت الدولة هي دين يهود العالم، ومصدر القيمة المطلقة لهم، كما أصبح جمع التبرعات من أهم الشعائر "الدينية". وهم يرون أن اليهودي العادي قد أصبح يُفرغ أية شحنة دينية داخله عن طريق النشاط الصهيوني، وهو نشاط دنيوي بالدرجة الأولي.
ويثير يهود العالم قضية أساسية أخري، وهي: هل الدولة اليهودية مجرد دولة تخدم مصالحها بغض النظر عن مصالح اليهود، أو هي دولة يهودية تضع مصالح يهود العالم في الاعتبار؟ وقد أثيرت بسبب التعاون الوثيق بين الحكومة الصهيونية وحكومات أمريكا اللاتينية العسكرية سابقا. فعبى سبيل المثال قام "إسحق شامير" عندما كان وزيراً لخارجية إسرائيل، بزيارة الأرجنتين في الأيام الأخيرة للنظام العسكري، وقد ثبت أن هذا النظام، المشهور بميوله النازية المعادية لليهود، كان يقوم بتعذيب معارضيه، واليهود منهم علي وجه الخصوص. ومع هذا، فقد استمر النظام الصهيوني في الحفاظ علي علاقاته بالنظام العسكري في الأرجنتين. وكانت السفارة الإسرائيلية ترفض التدخل لصالح المعتقلين السياسيين اليهود. وثمة حقيقة مهمة تدعو إلي التساؤل: إن أحد أهداف الدولة اليهودية هو توفير الأمن والحماية لليهود، ومع ذلك فإن أعضاء الجماعات اليهودية يشعرون بأن أمنهم قد تزعزع بسبب الأحداث في الشرق الأوسط وأن الجو الذي يعيش فيه اليهود في عدة بلاد قد تحوَّل من جو آمن إلي جو قلق مشحون. وفي الواقع، فإن كثيراً من المؤسسات اليهودية تحتاج الآن إلي حراسة مسلحة. وقد صرح "إسحق شامير" ذات مرة بأن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تضطلع بمسئولية حماية أعضاء الجماعات اليهودية إذ أنها مشغولة بحماية وبناء نفسها.

ويشير اليساريون اليهود في العالم إلي علاقات إسرائيل بالنظم العسكرية والديكتاتورية والعنصريه على غرار النظام السابق في جنوب إفريقيا, إذ كيف يتأتي لدولة يهودية متمسكة بالقيم اليهودية أن تتحول إلي حليف لكل قوي القمع والإرهاب في العالم؟ ويضطر الليبراليون أيضاً إلي الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الكيان الصهيوني حينما يقوم بعمليات وحشية تفوح رائحتها مثل مجازر صبرا وشاتيلا وقانا وغزة. وقد حاولت الصهيونية أن تحل مشكلة سلوكها العنصري والإرهابي بأن قلَّصت مجال هذه العنصرية وجعلتها مقصورة علي مكان واحد فقط هو فلسطين، فهي ليست عنصرية كونية علي الطريقة النازية بل عنصرية مقصورة علي بؤرة واحدة (فلسطين)، وعلي شعب واحد. ولذا، تستطيع العقيدة الصهيونية أن تتخذ ديباجات اشتراكية، وديباجات رأسمالية ليبرالية، وديباجات فاشية، ويمكنها في النهاية أن تمارس وحشيتها كاملة في فلسطين دون أن تسبب حرجاً كبيراً لمناصريها في الخارج. ومع هذا، نجد أن اندلاع الانتفاضات الفلسطينية قد غيَّر هذه الصورة، فقد أصبح الاحتفاظ بالازدواجية صعباً واضطر يهود العالم إلي شجب الأعمال الوحشية التي تمارسها إسرائيل.
ومن القضايا التي تثير بعض التوتر بين أعضاء الجماعات اليهودية والدولة الصهيونية، هجرة عدد كبير من مواطني الكيان الصهيوني إلي الولايات المتحدة واستيطانهم فيها,خاصة من هم مواليد إسرائيل (فلسطين)، أي من جيل "الصابرا"، ومن هنا يتم طرح السؤال التالي: هل من الواجب أن تقوم المؤسسات اليهودية بتقديم المساعدة لهؤلاء المهاجرين باعتبارهم يهوداً أم تجب مقاطعتهم باعتبارهم خونةً مرتدين؟
ويمكن القول بأن واحداً من أكبر أشكال فشل الدولة الصهيونية في الهيمنة الفعلية علي أعضاء الجماعات اليهودية في العالم أنه بعد مرور ما يزيد علي قرن وربع علي الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وبعد مرور نحو ستة عقود علي إنشاء الدولة الصهيونية، وبعد الحملات المكثفة، بل الهستيرية، التي تهدف إلي إقناع أعضاء الجماعات بالهجرة إلي فلسطين انطلاقاً من إيمانهم الديني القوي، والتي تؤكد لهم أن هذه الهجرة هي السبيل الوحيد إلي الحفاظ علي وطنهم القومي، أي إسرائيل، بعد كل هذا لم تقابل المنظمة الصهيونية والدولة الصهيونية كثيراً من النجاح، الأمر الذي فرض عليهما أن تطرحا جانباً في الآونة الأخيرة تلك المنطلقات العقائدية الصهيونية وتطرحا بدلاً منها شعارات مادية استهلاكية. فإسرائيل، حسب الحملات الدعائية الجديدة، ليست أرض الميعاد ولا مسرح الخلاص، وإنما هي بلد تتوافر فيه أسباب الراحة المادية للمهاجر حيث يمكنه أن يمتلك بيتاً واسعاً كبيراً بشروط ائتمانية سهلة، وبالتقسيط المريح، أو يمكنه أن يجد فرصاً أحسن للعمل أو الاستثمار. بل تم تعديل الأسطورة الصهيونية نفسها، فبدلاً من الإصرار علي اليهودي النقي الخالص، اليهودي مائة في المائة، تم الاعتراف بالأمريكي اليهودي، أي اليهودي الذي ينتمي إلي وطنه الأمريكي انتماءً كاملاً، ويعتز بتراثه الإثني ما دام هذا الاعتزاز لا يتناقض مع انتمائه الأمريكي. ولا يختلف الأمريكي اليهودي في هذا عن الأمريكي الإيطالي أو الأمريكي البولندي. وداخل هذا الإطار، تصبح إسرائيل مثل إيطاليا وبولندا أي «مسقط الرأس» الذي أتي منه المهاجر. ولكــن المفــارقة تكمــن في أن هذه الأسـطورة تقف علي النقيــض من الأســطورة الصهيــونية، لأن «مسـقط الــرأس» هي البلـد الــذي يهاجر منه اليهودي، علي عكس «صهيون» أو «أرض الميعاد» فهي البلد الذي يعود إليه. وهكذا تحوَّلت الأسطورة الصهيونية إلي نقيضها من خلال محاولتها التكيف مع الوضع الأمريكي. وهذا هو أحسن تعبير عن مدي ارتباط أعضاء الجماعات بأوطانهم، وعن حقيقة موقفهم المتعيِّن من الصهيونية الذي يتجاوز التصريحات الساخنة والشعارات النارية الصهيونية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة