الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلاطين لن يتعظوا ... استذكارا للدكتور علي الوردي

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2011 / 10 / 15
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


السلاطين لن يتعظوا..
في استذكار الدكتور علي الوردي
كتب سيغموند فرويد في أحد مؤلفاته المهمة " إن معظم الناس ينصاعون للنواهي الثقافية المتعلقة بالمتطلبات الغريزية تحت ضغط الإكراه الخارجي وحده وبالتالي حينما يكون هذا الإكراه محسوسا بقدر ما يكون مهاب الجانب " ، وهذه الملاحظة المركزة أصبحت مسلمة مقرة لدى العديد من مناهج علم النفس يتم على أساسها تفسير الظواهر الاجتماعية في مختلف التجمعات البشرية . ويشخص فرويد في مؤلفه " مستقبل وهم " امكانية تطور الثقافة على نحو سيجد الناس أنفسهم ملزمين بأن ينظروا الى بعض التلبيات الغريزية المباحة اليوم بنفس عين الاستهجان التي ينظرون بها الآن الى نزعة أكل لحم البشر ، فقد حدثت تغيرات من هذا الطراز في مراحل التبدلات التاريخية الكبيرة مثل تحريم الزواج الداخلي في العشائر البدائية ، كذلك تحريم وأد البنات ومنعه بشكل مطلق بعد انتصار الدعوة الاسلامية وثمة أمثلة لا حصر لها في هذا الاطار .
ويمكننا أن نتبين من هذه الطروحات سمات المثالية الأوروبية حيث تنقلب النتائج لتكون قيما أو حدود جوهرية بحد ذاتها ، تفعل فعلها المستقل وتمتلك جدل تطورها بمعزل عن الجذر الاجتماعي لها ، مما يضعف البعد العلمي الذي يؤكد الحالة الموضوعية - الاقتصادية الاجتماعية - كونها أصل ومحرك كل تطور أو حركة ذهنية .
إن الثقافة جزء فعال في أي تكون ايديولوجي وهي متحددة على أساس صلة البنية الايديولوجية بكل المستويات البنيوية في التشكيل الاجتماعي القائم ويكون تأثير البنية الاجتماعية في مستوى الثقافة منطلقا باستمرار من حالة طبقية معيتة .ولا بد من الاشارة الى أن الطبقية في بعض المجتمعات - وخصوصا البدوية - تكتسب مضامين متفردة حيث لن نرى بوضوح أداة انتاج متميزة يتم فرز المجتمع استنادا لعلاقتهم بها إنما هناك أنماط للتمايز الطبقي تستمد من ضرورات استمرار المجتمع الرعوي المتنقل ، لكن في كل الأحوال فالمسألة واحدة حتما ، ولايمكن تصور امكانية فعلية عامة أو اجتماعية لتحريم وأد البنات مادام المجتمع المكي ومجتمع الأعراب المحيط بها مرتبط بأسس الاقتصاد التجاري لكن التطور نحو الاقتصاد الزراعي ومن ثم الاقطاعي وفر تلك الامكانية بل حتمها .
وفي إطار ما سبق فإن سلسلة النواهي الموضوعة في مجتمع ما إنما تستجيب للتركيب الاجتماعي بما يتضمنه من طبقات سائدة واخرى مسودة ، وينتج من تلك الاستجابة المسوغات الواقعية للأزمات الاجتماعية ومظاهرها أي أن الثقافة لن تتطور كحالة مستقلة إنما ستتحرك طبقا لعلاقتها الجذرية بالبنية الاجتماعية ومستوياتها المختلفة ، بمعنى آخر فإن درجة الحرية التي تتحرك عندها ظاهرة ثقافية ما محددة بالفضاء الذي تتيحه البنية الاجتماعية حسب . وبصورة أعم فإن الانتقالات الفكرية الكبيرة والحاصلة بصيغة الثورة والانقلاب على ما هو سائد لن تكون رغبة شخصية بالتغيير أو فعلا غيبيا مقطوع الصلة يالمجتمع إنما هي حاصلة باعتبارها نتاجا لحركة التاريخ وكونها عبورا بنيويا حتميا من حالة الى أخرى ، كذلك وكما يقول ماكس شيلر " فإن الافكار لا تستطيع تغيير مجرى التطور الاجتماعي بل كل ما تستطيعه هو تعجيل أو إبطاء سير هذا التطور " .
وفي مرحلة الانتقال يتم استقطاب كل القوى الاجتماعية لتنضوي تحت ألوية قوى التجديد الصاعدة أو قوى الشد للوراء فتبدو الحدود بين أطراف الصراع واضحة رغم عدم انجاز مهمة التغيير الثقافي بنفس السرعة التي تجري بها التغيرات الاجتماعية الاخرى ، لكن زمنا طويلا لن يمضي حتى ينشب الصراع مرة أخرى بين أطراف قوى التجديد ذاتها لتبدأ دورة أخرى من التناقضات المصطرعة تمتد من مستويات البناء التحتي الى كل البنى الفوقية . وطوال فترة الانتقال يزدحم المجتمع بالدعوات الى إصلاح شأنه من خلال التمسك بثقافة قوى التجديد المنطلقة والمعبرة عن مصالحها ومصالح حلفائها الطبقيين بدرجة أقل ، وفي هذا نلمس انحيازا علنيا لا تردعه نواه وضوابط التشكيل الاجتماعي القديم التي أصبحت بالعرف الجديد مدعاة لوصفها بالرجعية والديكتاتورية والظالمة وغير ذلك من الأوصاف المعروفة . إن الثورة الاسلامية التي قامت أصلا على ضوء تحرك الواقع الاقتصادي لمكة ومعظم نواحي الجزيرة العربية قد أدى الى تغييرات ثقافية هائلة رافقت عملية التحول من المجتمع العبودي الى المجتمع الزراعي ومن ثم الاقطاعي الرصين ، وخلال فترة الانتقال التي استمرت من لحظة التغيير المحمدية الأولى وانتهت باغتيال الامام علي على يد أطراف التحالف السابق والمنشقة لاحقا كانت تدور صراعات خافتة حينا وصاخبة حينا آخر اتخذت شكل الصراع على السلطة والنفوذ والثروات وعندما قتل الخليفة الثالث مثل ذلك انتصارا مؤقتا لقوى الشد نحو الوراء لكن مسيرة التاريخ اكملت خطواتها لتستكمل تأسيس الدولة لاقطاعية تماما في العهد الأموي وتبدأ سلسلة من الصراعات الجديدة بين قوى الاقطاع ذاتها ، ومع كل تلك المراحل كانت الثقافة تتعرض للتغيرات المطلوبة اجتماعيا وتاريخيا في صيرورة صعبة نسفت معظم تاريخها وأبقت النزر اليسير من حقائقها .
لكن زمن استمرار بنية اجتماعية ما حيث تنشأ قوى وصراعات جديدة في إطارها ينتج بالفعل نكوصا ثقافيا لدى الفئات المقموعة قد يتولد عنه ممارسات ثقافية لا مفر من تسميتها بالصراع النفسي الاجتماعي خصوصا إذا استمر هذا الزمن قرونا طويلة .
إن قدم البنية الاجتماعية يوفر لها فرصة أكبر لبناء وتشكيل ضرورات التنظيم الاجتماعي في كامل مستويات البنية الايديولوجية مضافا الى تأسيس المؤسسات التنفيذية المختصة بنقل تلك الضرورات الى حيز التطبيق ، وضرورات التنظيم الاجتماعي مضاف الى مؤسسات تطبيقية هي من وجهة نظر القوى المقموعة ادوات تسلط وقهر تجعل من المعاناة الأيديولوجية ( والمعيشية أصلا ) أمرا حقيقيا سيدفع بالأزمات النفسية الاجتماعية الى الظهور بشدة حيث تلاحظ كثرة الأمراض والأدواء التي تسكن الممارسات الاجتماعية لتلك الفئات .
بكلمات أخر فإن الأزمة الثقافية ( أي الصراع النفسي الاجتماعي ) هي في الحقيقة انعكاس لصراع أطراف التناحر الطبقي والفئوي المتنافرة المصالح ، ذلك الصراع الذي ابتدأ منذ الحروب الأولى التي نشبت بين المجاميع البشرية البدائية ، ولهذا العمق بالتحليل يغوص الدكتور علي الوردي ليلمس ( أن الواعظين عندنا يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم عيشهم وينذروهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة ) حيث يكون الوعاظ جزء من مؤسسات القهر والضغط بالضد من التطور الذي تناضل من اجله فئات المجتمع الفقيرة .
لكن موقع أي واعظ ليس نتاجا حرا للإرادة الشخصية بل هو من افرازات الصراع الاجتماعي الموضوعية وفي حقيقة الامر فإن هذا الواعظ وبقدر معرفته المحددة بالأسيجة العالية للأيدلوجية السائدة يحاول خدمة اولئك الفقراء من خلال نصحه ووعظه ، لكن المفارقة ستكون كبيرة لو أن واعظا دعا الى تغيير المجتمع وفق أسس أيديولوجية غير التي نعرفها ، وستكون تلك المفارقة أكبر عندما عندما يتحول من يفهم أصل الصراعات النفسية الاجتماعية الى واعظ من طراز مختلف . إن الدكتور علي الوردي يقدم وعظه بعد دعوته الى دراسة النفس البشرية واستخلاص قوانينها ونواميسها ، ومع أن دراسة النفس البشرية لا تتعارض مع مصالح الفئات الفقيرة ولا مع مصالح الفئات الثرية لكنها لا تستطيع تقديم أساس موضوعي لانجاز عملية اجنماعية معقدة من قبيل إنهاء االصراعات النفسية الاجتماعية .
ولن تكون أراء فرويد بشأن عدم نشوء الحضارة نتيجة كيفية التعامل مع الثروات والموارد وصيغ توزيعها إلا سنديكالية متوقعة ، وينطبق الحال ذاته على طروحات الوردي الواردة بقوله ( إن كل فجوة نفسية بين الحاكم والمحكوم تؤدي الى الثورة ما لم تستأصل في وقت قريب ) ، إنه منطق يجاهد لمنح أساتذة علم الاجتماع البرجوازي وهم القدرة على تغيير المجتمع وقيادة معادلات حركته وبذلك سقطت هذه الطروحات بنفس دائرة مؤسسات وضرورات القمع والقهر الذي تمارسه الطبقات والفئات السائدة .
يقول جورج لوكاش ( إن تاريخ الايديولوجية البرجوازية هو تاريخ زعزعة معتقد الايمان بالرسالة المنقذة العامة لتحويل المجتمع حسب القاعدات البرجوازية ) وهكذا يصبح دفاع الدكتور الوردي عن القابليات المفترضة لمنهج تحليل النفس البشرية في تغيير المجتمعات الانسانية جزءا من تاريخ الايديولوجية البرجوازية التي أشار إليها لوكاش ولايختلف مطلقا ( من حيث الجوهر ) عما ذهب إليه وعاظ السلاطين بدعاواهم وآرائهم ووأساليبهم إلا من حيث الشكل في بعض الاحيان . ومما هو جدير بالمناقشة تنوع أسالييب الفئات والطبقات المترفة والمستغلة للحفاظ على مصالحها ونتاج تنظيمها الاجتماعي في المستوى الايديولوجي تارة بتطوير النظريات البرجوازية في شتى المجالات الثقافية وتارة أخرى باستخدام العنف المفرط لدمج فئات المجتمع الفقيرة وإخضاعها تحت هاجس الخوف لإرادة أولئك المترفين .فالمنصور العباسي أجبر مالكا على كتابة الموطأ وألهى الناس بالاختلاف على الاحاديث ، صحيحه وضعيفه ومثبته وخاضت الثقافة الاسلامية في بحر لا حدود له من عمليات التزييف والكذب والترقيع خدمة للحاكم الطاغي ، ومثل هذا فعل الرشيد والمأمون فكانت محنة خلق القرآن ملهاة للجميع وفي مقدمتهم المعدمين الباحثين عن نجاتهم الأخروية كملجأ من قدرهم القاسي فقتل من قتل وسجن من سجن ، وهل خفي ما معنى الخوض بمثل هذا الشأن إلا خدمة السلطان ؟ لكن الطغاة لم يتوانوا مطلقا عن إلحاق كل الأذى بمن يقف بوجه ظلمهم ويخرج عن دور الواعظ فسجن المنصور الامام ابو حنيفة حتى مات في السجن ومثل ذلك فعل الرشيد بالامام موسى الكاظم لأنهما رفضا أن يكونا جزءا من منظومة القهر والاستلاب التي سحقت المجتمع الاسلامي ، ولا يفوتنا أن نذكر الحجاج بن يوسف الثقفي كونه أداة السلطة الغاشمة في تطويع الناس فقد قال ذات مرة وهو يوجه كلامه الى أهل العراق ومن خلالهم الى كل مسلم في طول الأرض وعرضها ( أما والله لتستقمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده ! ) وبالطبع فإن طريق الحق عنده هو خدمة السطان حتما .
ووصل الأمر في عصرنا الحاضر الى الدعوات ( العلمية النفسية والاخلاقية ) وغيرها التي تلعب ذات اللعبة القديمة فتذر الرمال في عيون الفقراء وتجاهد من أجل صرف تفكيرهم عن البواعث الحقيقية لبؤسهم ومشاكل مجتمعهم الاساسية ، وهناك الكثير من نظريات الاخلاق وفق هذا المفهوم ليس عند المجتمعات الاسلامية فقط وإنما في أوروبا المسيحية أيضا ومنها ما اتى به فيورباخ حيث قدم ما عده نظرية تصلح لكل الشعوب ولجميع الأزمان والأوضاع وقادرة على معالجة الازمات الاخلاقية والنفسية لدى الناس جميعا ، وهو يستمد أصول نظريته من الدعوة الخالصة للمحبة بين البشر بما يشبه الى حد كبير ما دعا إليه السيد المسيح وفاته أن يتذكر أن دعوة المحبة المسيحية لم تحل دون تعذيب وصلب السيد المسيح ! . ورغم هذا التصور الاصلاحي الطوباوي فإن فيورباخ يقول في موضع مختلف ( في القصور يفكرون بطريقة تختلف عما في الاكواخ ) ويسترسل ( إذا لم تكن لديك بسبب الجوع والبؤس أي مواد غذائية في الجسم فليس لديك أيضا أي غذاء للأخلاق في رأسك أو مشاعرك أو قلبك ) فيقف ذات موقف الاستاذ الوردي ، يعرف أصل المعضلة ويعمل على فضحها ويهاجم أولئك الاستغلاليين البرجوازيين ثم يقترح حلا يزيدها تأزما ويساعد على تمديد فترة اضطهاد هؤلاء الفقراء المساكين . إنه العجز عن تقديم منهج عملي واقعي لإقرار العدالة الاجتماعية ذلك العجز المسوغ بالانتماء الطبقي والايديولوجي البرجوازي ، فتغدو القضية صفحات ترتب عليها الكلمات بطريقة استعراضية مثيرة .
إن الصيغة الوحيدة القادرة على استيعاب الصراع النفسي الذي تعانيه مجتمعاتنا وتحسمه طبقا لمباديء العدالة هي تلكم التي تهتم بالتوزيع العادل للموارد والثروات وما ينتج عن ذلك من قوانين اقتصادية بشكل متوازن لا يؤدي الى خلق تفاوتات طبقية جديدة تكون مدخلا لصراعات وأزمات اجتماعية متلاحقة أخرى ، إنها الاشتراكية وليس غيرها شيء .
إن تولستوي هذا الفنان العظيم عاصر زمن العبودية الذي ساد في روسيا القيصرية واكتسب شهرة عالمية كبيرة كمفكر وأديب وواعظ ، وعبر مؤلفاته الكثيرة والمهمة طرح أفكارا عظيمة عن المسائل التي يعج بها مجتمع روسيا حينذاك ناهيك عن قدرته الفنية المبدعة مما جعل لأعماله ثقلا عالميا مميزا ، وقد كانت مضامين أعماله فضحا مثيرا للإضطهاد الذي عانته الفئات الفلاحية نتيجة سطوة الاقطاعيين القساة واحتج على هذا الامر بكل حماسة منتقدا النظام الاجتماعي السائد والازمات الاجتماعية والنفسية عبر أعماله المعروفة ورغم ذلك فقد عبر عن عدم قدرته لطرح حل عملي لإنهاء تلك المعاناة العميقة عندما طرح فكرة إنكار السياسة ودعا الى مذهب عدم مقااومة الشر ، ويبدو أن هذا عزاء لنا في موقف الدكتور العلامة على الوردي رحمه الله .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي