الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحية الصباح الأخيرة - قصة قصيرة

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2011 / 10 / 22
الادب والفن


تحية الصباح الأخيرة

في ذلك الصباح المشمس البارد ، حيث تتمطى أغصان الأشجار الندية ، وتلاعب وجوه الناس العابرين من تحتها ، امتلأ المدى بينهما بدفقات نظرات مترددة تفيض منها معاني ود مضمر مقهور ، فيما اختلطت روائح وعطور متنافرة ضج بها فضاء المترقبين تحت مظلة حديدية حمراء ، إذ أخذ جمعهم يتضخم بتقاطر الناس إليه كأنه بركة ماء في يوم ممطر مدرار ، وراحت عشرات العيون التي ترصع وجوه المتطلعين الى نهاية الشارع الاسفلتي المبقع بالخطوط البيض تلتقي دون مضمون وأقل من أن يكون لقاؤها عابرا .
ركبت نظراتهما طوفان الحب الذي اجتاح في أعماقهما سدود التردد فكان لابد أن يتبادلا تحايا الصباح لأول مرة ، بكلمات تكررت في أفواه المارين بسرعة فاختلطت بأنفاسهم المتقطعة التي يتعجلون نفثها ، لكنهما أحسا بنطق عسلي الطعم ، شفاف كا الضوء لحروف كان وقعها سماويا هابطا بإلهام لن يعيده القدر قط ..( صباح الخير ) .
ثمة مراقب بوجه شاحب ممتزج بألوان علب السجائر البراقة سره اندفاعهما الصباحي غير المتوقع أبدا متمتعا بدوره كمراقب ، يلحظ وينفعل ولا يتدخل . ومن بعيد ظهرت حافلة قديمة تجر وراءها عمود دخان أسود مصحبا بأصوات وحشية ملأت أسماع المتحفزين على الارصفة المزدحمة ، وحالما توقفت تدافع البعض عبر البوابة المعدنية أما هو فتخلى عن وقاره الثقيل ليقترب منها باضطراب أثارته حرارة النظرات ودفء تحية الصباح الجريئة ، فكر ..لا بد أن ننهي هذا الامر ، سأتكلم معها ، واسترسل في حلم يقظة سعيد ، رفع رأسه فالتقى بعيني السائق المنزعجتين وهما تتقلبان بين التذاكر والنقود وأصابع الناس ، في الوقت ذاته تمكننت هي من امساك مقبض كرسي بكفها ، فيما أطبقت على ورقة صغيرة في كفها الآخر ، مقاومة بقوة حركات الناس التي زحزحتها من محلها قليلا ، وأرسلت نظرها تبحث عنه بين الرؤوس المتداخلة ببعضها ، لاح لها في مقدمة الحافلة وهو يراقب السائق الضجر الذي لم يمل من تحويل يديه المتثاقلتين بين الأيادي الممدودة إليه وبين علبة معدنية اختلطت فيها التذاكر والنقود ، وبين الحين والآخر يدير رأسه ويرفع جسده على مقدمة قدميه لعين محل وقوفها مستدلا بلون شعرها المتميز بوضوح ، كانت الزحمة تبث في مزاجه قلقا بدا كخيط مرارة ينتاب صبحه العسلي ، وفي لحظة هم بدفع النقود تذكر أنه نسي محفظته وكل أوراقه ونقوده على الطاولة امام المرآة التي أطال وقوفه أمامها تهيؤا لهذا الصباح ، وفي لجة ارتباكه أحس بالبرودة تتسلل الى عظامه فيما غامت عيناه لفترة وجيزة ، لعن المحفظة والمرآة واستدار حانقا يدفع الآخرين لينزل من الحافلة بينما كانت اللهفة تشيع في كيانها دفأً متزايدا يخفف من حدتها أملها باقترابه منها ، غير أن الحافلة تحركت ولم يظهر بعد ، كأن رؤوس الناس كانت لوحش فابتلعه ، أحست بانفجار مدمر حول مدينة أحلامها محض شظايا وألما ممضا ، تبددت أوصالها وارتخت يدها فانفلتت الورقة المعطرة لتترنح وتستقر تحت عشرات الاقدام المرتبكة والضاغطة بقسوة على حروفها الزرق التي نحتت عنوانا في محافظة بعيدة ارتحلت إليها .
عند المحطة التالية تركت الحافلة ، تلفتت مرة أو مرتين لعله لحقها فلم تبصر سوى بضعة اكياس طيرتها الريح ، واصلت مشيها وكفت عن التلفت وبعد حين غابت بين جموع السائرين .
في الصباح التالي تسمر هناك تحت المظلة الحمراء وظل هكذا في كل صباح يتبادل التحايا مع صديقه الجديد ، بائع السكائر ، وينقل نظراته في كل اتجاه كأن له موعدا مع المستحيل ، ويتحسس في كل حين محفظته المشؤومة ، متلذذا بسيجارته ودخانها الكثيف وبذكرى ذلك الصباح وتلك التحية الأولى والأخيرة ! .

عباس يونس العنزي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير