الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور الشباب في تنمية المجتمع المدني

نورالدين الوردي

2011 / 10 / 28
المجتمع المدني


دور الشباب في تنمية المجتمع المدني
يقول فريديريك نيتشه أن لا أمل في أن يمتلك الإنسان وجوده وكينونته إلا بالنضال من أجل إرادة القوة، والتي لا يمكنها أن تتحقق إلا بمجابهة تمثلات الواقع ومسلماته، والتضحية بالحياة واحتقارها، بحثا عن حياة ثانية كلها مجد وكرامة؛ لأن الإنسان كائن يمتلك الإرادة الحقيقية على تغيير نفسه وتغيير العالم من حوله، بحيث لا يظل الإنسان عبدا يتحكم في حياته الأسياد ويحجرون على تفكيره وحركته.


إن تراجع الدولة عن دورها في الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ساهم في تزايد مبادرات أفراد المجتمع في الانتظام وبشكل منظم جماعيا داخل تنظيمات وجمعيات مختلفة من حيث الأهداف، وعرفت وثيرة متنامية ومتسارعة في العقود الأخيرة من الزمن، قوامها الأساس مبدأ "التطوع" في مختلف المجالات من أجل تحقيق أهداف مجتمعية في حياد واستقلالية عن الدولة؛
في السياق التاريخي لمفهوم المجتمع المدني:
ظهر لأول مرة مصطلح المجتمع المدني (La société civile)في الفكر الإغريقي، حيث أشار إليه أرسطو بأنه "مجموعة سياسية تخضع للقوانين" بمعنى أنه لم يكن يميز بين الدولة والمجتمع المدني؛ والمقصود بالدولة في التفكير السياسي الأوروبي القديم هو المجتمع المدني على أساس أنه يمثل تكتلا سياسيا ما، يضم أعضاءه من المواطنين الذين يقرون بالاعتراف بقوانين الدولة ويتصرفون وفقا لمقتضياتها؛ لكن مع تطور الفكر الغربي على وجه التحديد، مع فلاسفة عصر الأنوار الأوروبية، جعلوا منه مقابلا للدولة الاستبدادية التي كانت يسودها نظام الحكم المطلق، بناء على ذلك تم اعتبار الجمعيات هي النسق الأفضل لمواجهة مخاطر الاستبداد السياسي؛
كما سيعرف المفهوم تطورا في الفكر الليبرالي، حيث أشار هيغل في مؤلفه (مبادئ فلسفة الحق) "المجتمع المدني يتموقع بين الأسرة والدولة، تنتظم كلها داخل القانون المدني"؛ تعريف يقوم على أساس التمايز بين الدولة، والتي هي تعبير عن سمو الفرد إلى الكونية، وبين المجتمع الذي يتكون من الأفراد والطبقات والجماعات ككيان متفرد يختلف عن الكيان الدولتي ويتمايز عنه، يتجسد في مجموعة من المؤسسات؛
أما في الفكر الماركسي فإن مفهوم المجتمع المدني استعمل لمواجهة السلطة الشمولية على أساس أنه فضاء يتحرك فيه الإنسان، بعيدا عن مصالحه الشخصية، واعتبره كارل ماركس "ساحة للصراع الطبقي"، وفى القرن العشرين وفي إطار تفسير جديد لمسألة المجتمع المدني مع أنطونيو غرامشي حيث اعتبره "ساحة للتنافس الإيديولوجي" بين مجموعة من البنيات الفوقية (النقابات، والأحزاب، والصحافة، والمدارس، والكنيسة تختلف مهامه عن وظائف الدولة وعن المجتمع السياسي.. كسلطة منظمة داخل المجتمع بعيدة عن تأثير الدولة، التي تدفع إلى إخضاع هيئات المجتمع المدني وتوجيهها حسب إرادتها؛ والتي فسرها فيما بعد يورغن هابرماس ب"الرأي العام غير الرسمي"، بمعنى ذاك الذي لا يخضع لسلطة الدولة، على إثر الانقسام الذي حصل في المجتمع الأوروبي مع احتدم الصراع بين طبقات تتفاوت مصالحها أو تتناقض، انطلاقا من التمييز بين السيطرة السياسية، والهيمنة الإيديولوجية؛
ومع اتساع دور المجتمع المدني وتزايد أهميته في المجتمعات الديموقراطية، فقد أصبح يحظى باهتمام لدى الكثير من المفكرين والباحثين المعاصرين، وأخذ المجتمع المدني عدة تعاريف؛
جون لوك يرى بأن المجتمع المدني لا يختلف عن الدولة، بل عن المجتمع السياسي.، لكون أن المجتمع المدني هو"مجتمع المدينة" الذي يعني له مجتمع التحضر الذي لا يمكن أن يوجد ويتحقق إلا عندما يسمو القانون في العلاقات بين أفراده، أي أن المجتمع المدني يشترك مع الدولة في خاصية معيارية ومرجعية تتمثل في فرض القانون لتنظيم العلاقات الاجتماعية، لأنه يمثل ضمانة الحرية. وهنا يبرز الاختلاف بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، اعتبارا أن هذا الأخير ينظم السلطة، مما يعني أنه يشكل سدا أمام الحرية.
دومينيك كولاس يقول بأن المجتمع المدني "يعني الحياة الاجتماعية المنظمة انطلاقا من منطق خاص بها، وبخاصة الحياة الجمعوية التي تضمن دينامية اقتصادية وثقافية وسياسية"؛
ويقول برتراند بادي "كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع دون تدخل أو وساطة من الدولة"؛
ووايت جوردون يصفه بأنه "مملكة توسطية تقع بين الدولة والأسرة، وتقطنها منظمات منفصلة عن الدولة، وتتمتع باستقلال ذاتي في علاقتها معها، وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية مصالح أو قيم معينة"؛
ويرى عبد الغفار شكر بأنـه "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح، والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف"؛
ونفس الأمر عند سعد الدين إبراهيم الذي يعتبره ذلك: "المجال الذي يتفاعل فيه المواطنون، ويؤسسون بإرادتهم الحرة، تنظيمات مستقلة عن السلطة، للتعبير عن المشاعر، أو تحقيق المصالح، أو خدمة القضايا المشتركة"؛
إن هذا الاختلاف في تعريفات المجتمع المدني يقول فيه محمد عابد الجابري ، فمهما كان، فإن ما هو بديهي ولا يمكن أن يكون محل اختلاف، هو أن المجتمع المدني أولا وقبل كل شيء "مجتمع المدن"، وأن مؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة، لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهي إذن مؤسسات إرادية، أو شبه إرادية، يقيمها الناس وينخرطون فيها، أو يحلونها، أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي التي هي مؤسسات "طبيعية" يولد الفرد منتميا إليها، مندمجا فيها، ولا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة والطائفة؛
وتتفق مجموعة من الدراسات الأكاديمية والجامعية على أن المجتمع المدني هو "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها، أو لتقديم خدمات للمواطنين، أو ممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح، والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف"؛
ويذهب عبد الله حمودي إلى القول في شأن نقل المفهوم الذي يعبر عنه المصطلح "أي المجتمع المدني" من بيئته الغربية إلى المحيط العربي دون تهيئة تربة جديدة ملائمة لغرسه باعتبار أن المصطلح إنتاج غربي، ويرتبط بمفاهيم الديمقراطية الليبرالية، هذا النقل يؤدي إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار "خصوصية الدولة المغربية وتركيبها، وأسس ونوعية العلاقات التي تنبني عليها سلطتها ومشروعيتها.. وإغفال ما يمكن تسميته بالشعور الذاتي لهذه التنظيمات، والرؤية التي تكونها عن نفسها ومسؤوليتها"، ويضيف أن هناك إهمالا لتعريف هيغل للمجتمع المدني الذي يركز على فكرة الوسائطية، التي تجعل المجتمع المدني وسيطا بين الأسرة والدولة، مما يستلزم تجاوز البنية العلائقية الأسرية والقبلية والعشائرية؛
غير أنه بالرغم مما يطرحه نقل المفاهيم والمصطلحات الغربية إلى الثقافة العربية من إشكاليات، خاصة في المجال المعرفي والفلسفي، لأن ثمة هناك ظواهر كونية تشترك فيها المجتمعات البشرية، ومن هذه الظواهر نزوع الإنسان بطبيعته إلى العمل الجماعي لتحقيق منافع مشتركة، وإذا كانت تجليات المجتمع المدني متعددة ومتنوعة، وتحمل كل منها خصائص المجتمع الذي انبثقت منه، والمكان والزمان الذين وُجدت فيهما، فإنها لا تخلو من عناصر مشتركة بينها، يعيد إنتاجها العقل الإنساني الكوني في أماكن مختلفة، وعصور مغايرة، ويطبعها كل شعب بطابعه الخاص انطلاقا من هويته المتميزة؛
المغرب عرف منذ زمن طويل، تنظيمات مدنية نشأت بعفوية، واستجابة لحاجات مجتمعية، وتتمتع بالاستقلالية؛ وإذا كانت الظروف السياسية قد أفرزت بعض الكيانات خارج هذا الإطار، فإن ذلك لم يؤد إلى اندثار أو تغييب العمل الجمعوي المنبثق من المجتمع، والذي يعمل انطلاقا من وعيه الذاتي، وباستقلال عن الدولة كما سنرى؛
يتضح من خلال كل هذه النماذج من التعاريف المذكورة للمجتمع المدني، ما يفيد في القول بأن مصطلح المجتمع المدني في التداول السوسيولوجي المعاصر، أو في الأدبيات السياسية الحديثة، معنى "الوسائط المبادرة" التي تنطلق بدء من الاتفاق على تشكيله وتأسيسه من خلال مجموع إرادات الأفراد الساعين من وراء ذلك تحقيق طموحاتهم وغاياتهم ومطالبهم التنموية؛
مقومات المجتمع المدني
ورغم تعدد واختلاف تعاريف المجتمع المدني فإن معظمها يركز على مقومات أساسية يستند عليها في وجوده ويمكن تلخيص أهم ركائزها فيما يلي:
التطوعية: وتعني الرغبة المشتركة لأصحابها بمحض إرادتهم الحرة في ظل تعايش واقعي مع ظروف المجتمع، غير مفروضة من طرف أي جهة، واختيارا لتقديم خدمة للمجتمع دون توقع لأجر مادي مقابل هذا الجهد للإيمان بقضية معينة مع ضرورة توفر القدرة اللازمة على التفاعل والتعايش مع كل أفراد المجتمع، ولا يتم إحداثها استجابة لتعليمات أو توجيهات من الغير، وممارس أنشطة تستجيب للأهداف التي المسطرة لنفسها بعيدا عن أي ضغط أو تأثير خارجي، والوعي بجسامة المسؤولية، وبأهمية الانخراط في القضايا العامة بالاشتراك مع الآخرين، وما يقتضيه ذلك من تطوع وتضامن وتعاون من أجل المصالح العامة الأسمى، التي تعود بالنفع على المجتمع ككل؛
التنظيم: يخضع للقوانين السائدة والتي تتيح حرية تأسيسها من جهة، كما تخضع في تسييرها وقيامها بمهامها لقوانينها الأساسية، وأنظمتها الداخلية من جهة ثانية، وتقوم العلاقة بين أعضاء الجمعية على أساس التكافؤ واحترام كل الآراء والاجتهادات، مما يجعل الجمعية إطارا يتيح ويشجع كل الأعضاء على الابتكار والإبداع، والمساهمة الإيجابية في الوصول إلى الغايات المشروعة المشتركة.
الاستقلال عن الدولة: فهي لا تكون أداة تُسخر إنها منظومة ذاتية التأسيس والاشتغال، أن علاقته بها لا تتسم برابطة التبعية، وعندما تكون هناك أوراش تساهم فيها الدولة والمجتمع المدني في نفس الوقت، فإن طبيعة العلاقة في هذه الحالة تكون مبنية على الشراكة والتعاون، غير أن علاقات التكامل بين المجتمع المدني والدولةوتخضع فيها كل العلاقات لسيادة القانون، أما إذا كانت الدولة تقيد الحريات، وتنهج أسلوب القمع مع الأفراد والجماعات، فإن هيئات المجتمع المدني في هذه الحالة، إن وجدت، تكون قوة معارضة.
خدمة الصالح العام: إن أعمال ومبادرات منظمات المجتمع المدني لابد أن تصب في خدمة الصالح العام، من خلال تقديم خدمات لفائدة المجتمع، أو بعض الفئات المستهدفة منه، الأعمال الاجتماعية التي تستهدف الفئات المحتاجة، ورعاية الأشخاص المعاقين، وحماية الطفولة، والاهتمام بقضايا المرأة والشباب، ومحاربة الأمية، والوقاية الصحية، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتعميم مفاهيمها وثقافتها، ونشر قيم المواطنة، وحماية البيئة، والمساهمة في تنمية الحواضر والقرى، ومحاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي، وترسيخ مقومات الهوية الوطنية، وما تتميز به من غنى وتنوع، والنهوض بالفنون، والتشجيع على الإبداع، وغير ذلك من المجالات ، دون أن تكون الغاية من وراء ذلك هي التجارة أو الربح، أو المصلحة الذاتية للأعضاء.
عدم السعي للوصول إلى السلطة: كون أنشطة وأهداف المجتمع المدني لا تبتعد عن مجالات الشأن العام، فإنها لا تسعى من خلال ذلك للوصول إلى السلطة، ومن هذه الزاوية يتميز المجتمع المدني عن الأحزاب السياسية التي من طبيعتها أن تعمل للوصول إلى الحكم؛ أي جمعية من المجتمع المدني لا تتدخل في كل المجالات، وإنما تختار أن تقدم خدمات معينة في مجال محدد، ولا تدخل في المنافسة الانتخابية التي تعني الأحزاب السياسية ومنهج عملها مغايران، فهي تتنافس في الاجتهادات والبرامج التي تهم مختلف مجالات الشأن العام.
عدم اللجوء إلى العنف: تقوم منظمات المجتمع المدني بالاحتجاج على السياسة التي تتبعها السلطات العمومية في مجال ما، أو في مواجهة إحدى الظواهر السلبية في المجتمع، ومن حقها أيضا ممارسة الضغوط لتحقيق فوائد للمجتمع، ومكتسبات للشرائح الاجتماعية التي تدافع عن مصالحها، فإنها لا يمكن أن تستعمل في ذلك إلا الوسائل السلمية المتحضرة، والمتمثلة في رفع المطالب، وإبداء الملاحظات، والحوار مع الجهات المعنية، واستعمال وسائل الإعلام والاتصال لتوضيح مواقفها، ويمكنها أن تلجأ إلى التظاهر السلمي إذا اقتضى الأمر ذلك؛ ولا يمكنها مطلقا اللجوء إلى العنف، لأن المجتمع المدني من المفروض أن يساهم في تهذيب السلوك العام، وليس في ترهيب المجتمع، ويعبئ الطاقات لخدمة الصالح العام، ولا يهيج الناس من أجل التخريب، ويعمل على نشر قيم التضامن والتسامح، ولا يزرع الحقد والكراهية.
مزايا المجتمع المدني
المجتمع المدني من المكونات الأساسية لكل مجتمع ديموقراطي حداثي في العصر الحاضر، بدور حيوي في تعبئة الطاقات لخدمة الصالح العام، والمساهمة الفعالة في تحقيق التنمية والتقدم، يشتمل في أدائه لمهامه على مزايا كثيرة وفوائد متعددة، نشير إلى أهمها فيما يلي:
ترسيخ الثقافة الديمقراطية، والتربية على المواطنة، من حرية، ومسؤولية، وتنظيم، ومشاركة، وتعدد، واختلاف، وحوار، وخضوع للأغلبية، وتسامح، واحترام الرأي الآخر، وتعامل في إطار مؤسساتي وقانوني.
توسيع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة، وتقوية الشعور بالانتماء الوطني، وروح التطوع، والعمل الجماعي المنظم، والحد من النزعة الفردية والأنانية، وتحقيق الاندماج والتعاون بين أفراد تجمعهم الرغبة المشتركة في خدمة المجتمع.
امتصاص حالات الاحتقان السياسي والاجتماعي، واعتماد النهج السلمي في اتخاذ المواقف المختلفة، والتعبير العلني عن القناعات المتباينة.
تلبية الاحتياجات المتعددة والمتنوعة للأفراد من خلال انخراطهم في الأنشطة الجمعوية التي تتلاءم مع تخصصاتهم وميولاتهم وتطلعاتهم، وبضمان حرية تكوين الجمعيات، والانخراط فيها بدون تمييز، لا يبقى هنا المجال لأي كان احتكار العمل في المجالات الاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها.
مشتل تشكيل وتكوين النخب، تتيح لأعضائها التدريب على الخدمة العامة، والتمرس على العمل الجماعي المنظم، وفي أدائها لوظيفتها، تبرز المواهب والكفاءات في التدبير، ويتم اكتساب المهارات الجديدة، وتعميق الخبرة والتجربة من خلال تبادل الأفكار والتصورات وتقاسم التجارب وطرح الأفكار والرؤى والتصورات والدفاع عنها بكل جرأة وحرية، كما أن تبوء مواقع المسؤولية، والقيام بتوزيع الأدوار، وتنظيم العمل، وتدبير الاختلاف، والتقارب أو التوفيق بين الآراء، يساعد على امتلاك فن القيادة.
الديمقراطية فضاء لنمو المجتمع المدني
تحقق كل غاية مطلوبة من طرف أصحابها؛ فالمجتمع المدني يرى النور إلا عند توفر الحرية، من أجل نموه وتحقيقه لأهدافه ومراميه في ارتباط بطبيعة المحيط الذي يوجد فيه، بجميع أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، وكلما كانت العلاقات التي تسود المجتمع مرتكزة على القواعد الديمقراطية المؤسساتية، ومتشبعة بقيم التعدد والاختلاف، وروح المواطنة، والتنافس لخدمة المصلحة العامة، وحرية الاجتهاد، والمراقبة والمساءلة والنقد، فإن توفر هذه القواعد والقيم يفتح الفضاء الطبيعي لنمو المجتمع المدني وتطوره؛
وفي الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والمجتمع المدني، أنه كلما ساد المناخ الديمقراطي في الحياة السياسية، وانتشرت الثقافة الديمقراطية، وترسخت قيمها في المجتمع، كلما ساعد ذلك على نمو وتطور المجتمع المدني، واتساع مجالات تدخله، وازدياد فعاليته في تحقيق أهدافه المجتمعية؛ ويمكن القول باختصار أن الحرية هي التي تساعد المجتمع المدني كي يرى النور، والديمقراطية هي الفضاء الطبيعي الذي يتيح له أن يعيش وينمو ويتطور.
العلاقة بين المجتمع المدني والدولة:
إن مفهومي الدولة والمجتمع المدني، يقومان على مبدأ تكامل الأدوار بينهما، التي تتميز وتتسم بالتوافق والتصادم في نفس الآن؛ وهي علاقة ليست علاقة مبنية عل التنافسية، بل تقوم على أسس التكامل والتعاون والتشارك حول موضوع Sujet التدخل Intervention، مع الحفاظ لكل طرف في هذه العلاقة بآرائه ووجهات نظره في قضايا المجتمع، والتي ترمي كلها في المصلحة العامة للمجتمع، من أجل البناء الحضاري والتقدم البشري غاية وهدفا، لأن المجتمع المدني جاء تتويجا لمرحلة من مراحل تطور الدولة، وسيظل في حاجة دائمة إلى دعم وضمان حماية أمنه من طرف الدولة، لمنع أي تجاوز قد يحدث نتيجة أي شطط غير شرعي وغير أخلاقي أو يمس بالأمن العام؛ كما أن وجود دولة قوية يرتهن بدعم وسند المواطنين، إذ أنه بمستطاعهم إذا ما تجمعوا وتكتلوا منتظمين في إطار تنظيمات مدنية، إبراز المجتمع المدني كقوة اقتراحية للدولة، ويكون له تأثير في الرأي العام؛
لأجل بناء المستقبل التنموي الشامل للمجتمع، ينبغي تدخل تنظيمات المجتمع المدني في المواجهة والتصدي لأهم مظاهر التحديات التي تقف في وجه هذا البناء، ومن أهم هذه التحيات التي تواجه الشباب على وجه التحديد:
• إحساسهم بالغبن والإحباط في المستقبل الناتج عن أوضاع التخلف المزري الذي استفحل انتشاره بقوة على عدة مستويات، سواء مننه التخلف الفكري والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛
• متاهات الشباب أمام ما أصبح يعرف اليوم ويروج له بصدام أو صراع الحضارات التي نتجت وتولدت عن الصراع والالتقاء الحضاري، وأصبح معه من الصعوبة بمكان خروجهم من هذه الدوامة، وما لازمهم في ذلك من ضياع أو فقدان لهويتهم؛
• صدمة الشباب بالمستقبل المفقود مع تزايد وارتفاع وثيرة مخاطر الغزو الثقافي الخارجي والتقني نتيجة للثورة الإعلامية التي تزرع أفكار وقيم غريبة ودخيلة تشجع ثقافة الاستهلاك؛
• مواجهتهم لمعضلة المنظومة التربوية والتعليمية، التي لا تقدم لهم الفرص الحقيقية في التنمية الفكرية المؤهلة للإبداع والخلق والابتكار والإنتاج، وبالتالي الاندماج الكلي في ميدان الشغل والحياة العامة، الأمر الذي يساعد في الانتقال إلى التنمية؛
• معاناتهم مع مناخ الأنوميا Anomie، والمقصود بها كما جاء عند إميل دوركهايم بخلل المعايير والقيم، أو عند ماكس فيبر بتعدد أو بصراع الآلهة Polytésme وذلك في الصراع بين الرؤى والقيم المختلفة، هذا المناخ الذي يسود في أوساط الشباب بدخول قيم جديدة، وتضاؤل أهمية الأصول والمنحدرات، وتوسع حقل الاختيارات أمام الأفراد، وذلك كالمردودية والنجاعة، والكفاءة، وتضاؤل أهمية الأصول والمنحدرات، وتوسع حقل الاختيارات أمام الأفراد، وانتشار فكرة المساواة، شيوع وقيم التحرر: تحرر الأفراد والفئات الاجتماعية (المرأة الطفل)، وذلك مقابل القيم القديمة القائمة على تراتبية قوامها أهمية رأس المال الرمزي، والشرف في تحديد المكانة الاجتماعية للأشخاص، وأولوية علاقات القرابة، وأخلاقيات الضمير، والطاعة، والولاء، والاتكال على الأقدار، مع ما يلازم ذلك من اختلاط واضح في سلم القيم، نتيجة تداخلها وتــعارضها أحيانا، بحيث تستفحل تناقضات أنساق هذه القيم بين الأجيال، أدى إلى افتقار الحياة الاجتماعية التي يعيشها إلى الإحساس بعد القدرة على الفعل Action، وبالتالي أفقده الإحساس بالانتماء إلى الجماعة، مما يحول دون الاتفاق على ما هو مشترك فيه مع الآخر التزاما منهم أمام المجتمع؛
الشباب والمجتمع المدني:
الشباب هم طليعة كل مجتمع، فهم عموده الفقري، وقوته النشيطة والفاعلة، فأهمية هذه الشريحة المجتمعية باعتبارها مورد وطاقة بشرية ينبغي الاهتمام بتنميتها وتأهيلها في أفق استغلالها في مجالات متعددة ومختلفة للنهوض بالمجتمع، في ظل التحدي للتحولات والتغيرات القائمة اليوم، ومن أجل المساهمة، بل والمشاركة في البناء الحضاري والتقدم البشري الذي هو غاية وهدف كل شعوب المجتمعات بجميع مكوناتها الفردية والجماعية، وتنظيماتها ومؤسساتها وقطاعاتها الحيوية، من بينها تنظيمات المجتمع المدني الذي يهمنا الآن، والمقصود بها كل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات على اختلاف تنوعها ومجالاتها التي أنشئت من أجلها بشكل إرادي تطوعي بين مؤسسيها ومنخرطيها دون تحقيق الغاية الربحية المادية، واضعة على عاتقها أدوار ووظائف تقدمها لفائدة المجتمع في علاقاتها بمتدخلين آخرين وعلى رأسها الدولة؛
إن الدور الأساسي لتنظيمات المجتمع المدني واضح لأنه مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الدولة، فهو يتميز بالاستقلالية والتنظيم التلقائي وروح المبادرة الفردية والجماعية والعمل (التطوعي، والمحاسبة من أجل خدمة المصلحة العامة، والدفاع عن حقوق الفئات المستضعفة والمعوزة...)، مجال يرفض تفشي انتشار المحسوبية والزبونية والعلاقات العائلية والمصلحية الضيقة لإيمانه الراسخ بالفعل والممارسة للذات الجمعوية الفاعلة فيه، التي تتجلى في العمل والاجتهاد بما تملكه من قدرات بشرية و مادية، وما يمكن أن تقدمه وتسديه في تأهيل الشباب لتحمل المسؤولية، وتمكينهم من الأرضية الصلبة التي تحميهم من الفراغ الإيديولوجي، لتفعيل دورهم في النهوض بمكانة المجتمع في العصر الحالي..
بالإضافة إلى تعقّد ظروف وشروط الحياة، تزايدت احتياجاتهم المتنوعة، وأصبحت في تطور مستمر، لذا فإن المجتمع المدني من خلال تنظيماته وجمعياته يساهم في إبراز أسلوب جديد للحياة في المجتمع وتنظيم العلاقات فيه، بما يضمن حل الصراعات بشكل سلمي في إطار الحوار تجنبا لكل مظاهر العنف، وذلك بناء على مجموعة من المعايير تتم ترجمتها إلي قيم ومعتقدات وسلوكات يومية، تشكل ثقافة الإنسان ونظرته إلي هذه القضية أو تلك، ومواقفه العملية فيها؛ وهذا يعني أن الفرد ملزم بالمشاركة الاجتماعية، والمساواة فيها؛
ويعتبر دور المنظمات رائدا في معالجة بعض القضايا ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأصبح هذا الدور يضع خططا و برامج تنموية واضحة، أصبح الاختيار معها الآن رغبة ملحة وأكيدة من المجتمع ذاته على جميع الواجهات في إحداث التغيير والمشاركة في تحقيق التنمية؛
تتسم أبعاد العمل الجماعي والثقافي من داخل مكونات المجتمع المدني بأهمية بالغة في تنمية المجتمعات وتنمية قدرات الأفراد، على أساس أنه يمثل الفضاء الرحب لممارسة الولاء والانتماء للمجتمع، لأنه يمثل مجالا مهما لصقل مهارات الشباب و بناء قدراتهم بناء على استيعاب وفهم احتياجات المجتمع؛
إن الشباب هو العنصر الأساسي في عملية البناء والمستقبل؛ إذن لابد من تفعيل دورهم في بناء المستقبل الذي تتحقق فيه القيم الإنسانية وتحقيق الذات التي هي جوهر الديمقراطية؛ والاهتمام بالشباب هو مقياس المجتمع الفاعل؛ فالشباب هم الطاقة والإرادة والقوة، لذا يجب أن يكون على دراية ووعي بحقوقهم وحقوق المجتمع وواجباته.
إن التركيبة الديمغرافية للمجتمع تتميز بارتفاع التزايد السكان، وبالتالي ارتفاع حجم الشريحة الشبابية وزيادة معدلات النمو السكانية؛ وأن هذه النسبة العالية تشكل قويا عاملا في ترسيخ المجتمع المدني القائم على أساس التعددية والاختلاف؛
إن التمييز والظلم والاستبداد والفقر والتهميش والفساد والنهب المنظم لثروات البلاد والجمود الثقافي وتهميش الشباب وتشجيع انتشار الأمية والجهل، والمخدرات والدعارة، وارتفاع نسب البطالة وزرع ثقافة العنصرية والانغلاق على الذات وإقصاء الأخر وتوسيع هامش الخطابات الفاشلة وتعزيز نشر الثقافة التقليدية الرجعية للكبار وفرضها على الشباب، وخلق الصعوبات والأزمات الخانقة وتكريس عقلية رجعية عنصرية توصل إلى كارثة حقيقية مما لا يتناسب مع طموحات وأفكار شباب اليوم، وتضع الحواجز لكبح جماح رغباتهم وطموحهم نتيجة الموروث الثقافي التقليدي القبلي والعشائري والبيروقراطي المستشري في أوساط الماسكين بزمام السلط والأحزاب، التي تحد من مشاركة الشباب إذا لم يكن حسب منطقهم وسلوكهم حيث هناك خلط بين تطوعية العمل المدني والتطوعية الضيقة حسب الفهم الحزبي التي تدل على نظرة أحادية الجانب وعدم قبول الاختلاف والتعددية، لذا يحدث إهمال الإبداع والتبخيس منه، والتيئيس لكل مبادرة، والتهميش والمحاربة بكل الأشكال والأساليب المتاحة؛
لذا إن أي مجتمع لا يمكنه أن ينهض وأن يتطور ويتقدم، إلا على وعي أفراده في ديناميته وتنوعه واختلافه، على كافة الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هنا تأتي الضرورة لاندماج الشباب في تنظيمات المجتمع المدني، وفتح المجال لخلق أشكال جديدة من الفعاليات الحرة تعبيرا عن طاقاتهم وقدراتهم لبلورة مجتمع مدني قادر بالشكل المطلوب على تلبية احتياجات شريحة الشباب؛
وإذا كان الشباب هم الشريحة الأكبر في مجتمعنا اليوم، مما يؤكد على الدور الأساسي لهذا القطاع الاجتماعي في عصر الدينامية والتغيير والتطور والتنمية؛ ويعانون من التمييز والتهميش ومن مشاكل وعقبات تحول دون تحقيق طموحاتهم وطموحات المجتمع في العمل وتطوير النسيج الاجتماعي والبناء بغاية تحقيق التنمية المفتقدة؛ فالمجتمع المدني يفتح المجال والفرص أمام الشباب في اكتسابهم للمعارف وللقدرات الفكرية لتلبية احتياجات المجتمع؛
إذن تقع على الشباب مهام ومسؤوليات كبيرة خاصة في أخذ المبادرة في الإصلاحات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وتفعيل العمل المدني التطوعي بجد وإخلاص، لتوعية المجتمع من خلال بناء تنظيمات جمعوية قوية ضمن نسيج المجتمع المدني التطوعي المشارك باختلافه وتنوعه؛ فمن داخل هذه التنظيمات يبرز دور الشباب بالوعي الثقافي والاجتماعي ومحاربة الفساد والاهتمام بالعلم والمعرفة والمشاركة التطوعية القائمة على التواصل والتكامل والتسامح والتنسيق في ظل ما يتعرض له مجتمعنا من ظلم وقسوة؛
والعمل الجاد يتطلب ترسيخ مبادئ الديمقراطية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان وتوعية الناس وتعريفهم بسمو مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة، والترويج لصيانة سيادة القانون وترسيخه واستقلال القضاء، من خلال توعية ثقافية مجتمعية مدنية، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني، والدعوة في التكثيف المشاركة في العمل المدني التطوعي المبني على روح المبادرة والعمل التطوعي في المجتمع، لأن المجتمع المدني هو حركة تجديدية دينامية كما هو الشأن بالنسبة للشباب؛
ولكي يؤثر الشباب في مرحلة البناء والعمل وتطوير النسيج الاجتماعي المدني، لابد من امتلاكهم واكتسابهم المعارف والمهارات والقدرات الفكرية والفرص لتلبية احتياجاتهم واحتياجات المجتمع، حيث تبرز أهمية استقلالية الشباب ومسؤولياتهم في معرفة حقوق الإنسان وقواعد القانون والانفتاح والتوسع وتشجيع الحوار بين الثقافات والوصول إلى القيم الإنسانية والنزعة الإنسانية، على اعتبار أن الإنسان هو مصدر المعرفة لإلغاء سلطة الظلم والاستبداد والتمييز والعنصرية بأساليب حضارية وسلمية ومدنية وإنسانية، تنبني على ثقافة التسامح ولغة الحوار، وما انجذاب الشباب إلى العمل من داخل تنظيمات المجتمع المدني، واهتمامهم بالفعل المؤسساتي المجتمعي، إنما هو إيمانهم بدورها القوي والمؤثر في إحداث التغيير والإصلاح لتحقيق حرية وكرامة الإنسان وتطوير المجتمع وتنمينه؛
إذن، لتوفير ظروف وشروط أفضل للممارسة والفعل من داخل هذه التنظيمات، ينبغي:
تعزيز انتماء ومشاركة الشباب في مجتمعهم وهمومه وقضاياه؛
تنمية قدراتهم ومهاراتهم الشخصية والعلمية والعملية، مما يتيح لهم التعرف على الثغرات التي تشوب نظام الخدمات في المجتمع؛
تمكينهم من التعبير عن آرائهم و أفكارهم في القضايا العامة التي تهم المجتمع؛
توفير الفضاء والفرص المتاحة في أداء الخدمات والاهتمام بمشاكلهم ومشاكل المجتمع بأنفسهم؛
منحهم فرصة المشاركة في تحديد الأولويات التي تحتاجها البلاد، و المشاركة في اتخاذ القرارات؛
ففي ظل توفير هذه الشروط، أمكن الحديث عن وجود مجتمع مدني قوي ومستقل ومهني، يكمن في النأي بنفسه عن كل الاصطفافات والانحيازات الإيديولوجية والسياسية الضيقة، وتشبثه بأطروحاته المهنية والحقوقية، ليضع بينه وبين السلطة ومواليها ومعارضيها بونا يحول دون المنافسة لها، كي يضمن لنفسه هامشا من الحرية في أداء مهامه والقيام بالوظائف المنوطة به، دون أن يعني اتخاذه موقفا حياديا إزاء الحقوق والحريات، طمأنة لجميع الفرقاء، لاسيما السياسيين منهم، بأن المجتمع المدني ورموزه لا يشكلون خطرا عليهم أو على السياسة بإقحام أنفسهم للحصول على بعض المكاسب أو المناصب؛ وبذلك يكون المجتمع المدني قد حقق تمسكه بوظيفته في الرصد والمراقبة والاحتجاج والاعتراض والاقتراح لبدائل عما هو قائم، يساعد ذلك في إنتاج مواقفه المستقلة والناقدة تجعل منه شريكا وضامنا في الآن ذاته لديمومة عملية التغيير، على الرغم من الالتباس في هذا الدور وصعوبته؛
من أجل مجتمع مدني قوي ودينامي:
دخل المغرب منذ مطلع القرن العشرين في مخاض تحولات توعية شاملة، متلاحقة، ومتسارعة تراوحت بين العنف اللطيف والعنف الحاد، تحولات كانت تأثيراتها العنيفة تتزايد كلما تعلق الأمر بتفكك للبنيات التقليدية: التنظيم القبلي، وبنيات القرابة، والبنيات العقارية، وأنماط الملكية، والتراتبية الاجتماعية التقليدية القائمة على الحظوة والشرف، وكذا البنيات السلوكية والذهنية والإدراكية ومنظومة القيم المحايثة لها؛
للخروج من سيطرة السلطة على الموارد وإلغاء أدوار ووظائف المجتمع المدني، وكل الأشكال المرتبطة بأهواء التحكم المستبد في أدائه لخطابه وممارساته تحاول السلطة فيه أن تخضع جميع المؤسسات لسيطرتها وتشويه المجتمع المدني وتفكيكه واستمرار التدمير المنهجي لركائزه؛
إن البناء لثقافة مدنية هي ركيزة أساس لحل الأزمات المجتمعية في انسجام وملاءمة مع المواثيق والمعاهدات الدولية؛ لأجل ثقافة تقوم على توجيه وتأهيل الشباب الذين هم أجيال المستقبل وطليعة المجتمع وعموده الفقري وقوته النشيطة والفعالة والقادرة على تعميق التعددية والتفاعل وبعث روح المبادرة والمشاركة الطوعية بغية ترسيخ مؤسسات وتنظيمات مدنية عصرية ومتحررة من قمع السلطة وكل من يدور في فلكها، بالرفع من مستوى الوعي والمسؤولية والجدية والتفاني في العمل من داخلها، وجعلها قوة نشيطة وحيوية مؤثرة وقادرة على مواجهة التحديات وتذليل الصعاب تسمح بالرقي والتطور.
إن الانخراط والانتماء إليه يساعد على حرية اكتساب الرأي والرأي الآخر وقبول الاختلاف، والانتقال من الفردانية والشخصانية والمركزية للرأي وللقرار إلى الاندماج في الجماعة ما يساعد على بلورة التعددية بواسطة ثقافة الحوار والتسامح والاحترام كأساس مركزي في ثقافة المجتمع المدني، التي تدعم وترسخ البناء الفكري للشباب في وجه كل تحديات والتحولات والتغيرات الحاصلة، مما يضاعف المسؤولية المجتمعية المنوطة بتنظيماته الجمعوية تجاه الشباب ليلعب دورا أساسيا تكامليا مع أدوار أجهزة الدولة وغيرها.
وكما يقول الدكتور سعيد بنسعيد العلوي: والحال أن الصورة التي يستوجبها المستقبل القريب، في الغد المنظور، (..) تستوجب انخراطا (..) وانشغالا (..) على أسس من العقلانية والواقعية، إن لم نقل لدواعي براجماتية مقبولة في الوجود الاجتماعي للبشر. (..) من حيث هي أولا وأساسا اهتمام بالشأن العام وجعل له في بؤرة الشعور وفي صدارة الاجتماع ابشري.
يلاحظ وجود حيوية في المجتمع المدني وتنظيماته تستحق التنويه أحيانا غير قليلة، كما يتجلى ذلك في المناسبات التي تستوجب التضامن واللحمة الاجتماعية. تحمل الظاهرة تلك على طرح سؤالين اثنين أو، بالأحرى، سؤال له شقين: هل تمكن الاستعاضة بالمجتمع المدني عن المجتمع السياسي في العالم المعاصر وفي الوجود السياسي السليم؟ وهل يمكن للمجتمع المدني، من حيث هو كذلك، أن ينهض بالشأن السياسي؟ نقول، في عبارة أخرى، هل في الإمكان الحديث عن نظام ديمقراطي والنظام يتطلع إلى إقرار الحياة الديمقراطية الطبيعية؟؛ نحسب أن خير إجابة عن الأسئلة السالفة، أو بالأحرى السؤال الواحد في صيغه المختلفة، ومجموع التجارب التي عاشها العالم العربي منذ مستهل خمسينات القرن المنصرم أو التي لا يزال يعيشها في مناطق منه بكيفيات متنوعة في الظاهر متماثلة في العمق؛ (..) إن في وسع المجتمع المدني أن يحل محل المجتمع السياسي وينوب عنه أو ينوب منابه كما يقول علماء الكلام المسلمون.
المجتمع المدني والتغيير:
إن وظائف المجتمع المدني تشكل منظومة حركية دينامية تواصلية، في إطار فلسفة استراتيجية واضحة في أساليب العمل والوسائل لتحقيق أهدافه، يمكن استبدالها وتغييرها تبعا لكل حالة، إضافة إلى المواقف الرسمية ذاتها ومدى استجابتها لمطالب المجتمع المدني وحقوق مكوناته المختلفة؛ لكن في كل الأحوال والظروف فإن حل التناقض بين الدولة والمجتمع المدني سيكون عبر التدخل السلمي، المدني، ومن خلال التراكم والتطور التدريجي، وصولا إلى استكمال الشرط التاريخي لعملية التغيير موضوعيا وذاتيا؛ فلكل عملية تغيير أسس ثقافية تسهم من خلال التراكم والتطور التدريجي،
للمجتمع المدني دور مهم في عملية التغيير، يتأتى له ذلك في تماسكه من خلال الحفاظ على التمسك الشديد باحترام روح القوانين والحقوق ورعايتها بعد التغيير، وهو أمر في غاية الأهمية، لاسيما وأن الكثير من الثورات ولأسباب موضوعية، بددت وقتا وجهودا جبارة ضيعت إمكانات هائلة بسبب انفلاتات أعقبتها وأعمال عنف لازمتها، مما ينبغي عليه أن يواصل هذا الدور من دون الاستغراق في الحصول على بعض مكاسب التغيير، مثلما قام به من أدوار تحسيسية وتوعوية وتنويرية في شأن نشر الوعي الحقوقي والقانوني وثقافة اللاعنف؛ لأن ذلك سيقلص من وظيفته ويجعلها تصنف في العمل السياسي، في حين أنها مدنية حقوقية، مهنية، لأنه لا يسعى للوصول إلى السلطة أو إقصاء الآخر وإلغائه، وإلا بماذا سيختلف عن دور الأحزاب والتنظيمات السياسية الطامعة في الوصول إلى السلطة وتحقيق برامجها؛
وبقاء المجتمع المدني وفاعليه يرتهن ببعده عن السلطة وأذنابها، الأمر الذي يمكن أن يفتح بابا لدخول شركاء جدد في الحياة العامة؛
واعتقادا أن الشباب الطامحين إلى التغيير والحرية والعدالة، وقبل كل شيء إلى الكرامة سيكونون متفهمين لمثل هذا الدور، حيث سيمثل لهم المعين والمساعد والداعم في قيامهم بمهامهم الكبرى وتحقيق طموحاتهم بغية الوصول لتحقيق التغيير المنشود من خلال البناء، الذي يعد الركيزة الأساس في عملية التغيير، بل هو جوهر التغيير ومضمونه، من أجل كسب الرهان المجتمعي في بناء مغرب المساواة والشفافية..بتخليق الحياة العامة، ومحاربة كل مظاهر الفساد، وترسيخ قيم الشفافية وتعميق التربية على المواطنة وحقوق الإنسان والحرية وقيم الاختلاف، وبربط المسؤولية بالمحاسبة والجدية والصرامة في تطبيق روح القانون، وتوظيف منتديات الحوار في بناء مغرب الغد، مغرب الديمقراطية والحداثة.
ومما لا يدع مجالا للشك، أن بعض الحكومات كانت تتصرف بذكاء أحيانا مع بعض الفاعلين في المجتمع المدني حين تشعر بالاطمئنان من أن المجتمع المدني لا يريد إزاحتها أو إلغاء دورها والحلول محلها، فتصفق لهم بحرارة حتى وإن كانت تختلف معها، وفي حالة ما إذا تجاوزنا هذا المفهوم الذاتي، فهناك تصورات موضوعية يتعلق بعضها في الوصول إلى فهم مشترك بين الحكومات والمجتمع المدني، وإن كان لم يتبلور بعد، لاسيما في بلداننا، من أن المجتمع المدني هو موجه في إطار ما هو قائم ولا يريد التدخل بالسياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، ولهذا تحاول الدولة وأجهزتها تطويعه أو تدجينه أو إغراء بعض فاعليه لإضعاف قوته المؤثرة في الفعل وتشويه دوره، الأمر الذي يستوجب إظهار الجانب الآخر من خلال تأكيد حرصه وإصراره على الإصلاح والتغيير بما يؤدي إلى احترام الحقوق والحريات، لاسيما من خلال فضاء الحوار والعلاقة مع الآخر.
يمكن القول أن غياب تنظيمات المجتمع المدني أو تغييبها أمر يرادف تمركز السلطات، والعكس صحيح جدا، فكلما قام النظام السياسي على التعددية والديمقراطية وفصل السلطات، كلما كان المجتمع المدني مستقلا وقوة مؤثرة وفاعلة وتلعب أدوارا نشيطة في الرقابة والشراكة، لأنها جزء من الدولة وكياناتها وسيرورتها.
على سبيل الختم:
وما يمكن الختم به هو القول الآن، يقع على عاتق الشباب مسؤولية كبيرة للنهوض بأنفسهم أولا ومن بعد مجتمعاتهم.. ولا نريد أن نلقي بأخطائنا وإخفاقاتنا على المجتمع ومؤسساته .. لا بل تحميل الشباب نداء واجب الانتماء للوطن والنهوض به نحو الحرية والتقدم والتنمية الحقيقية، وليأخذوا مشعل المبادرة اليوم بصناعة الوعي الفكري وتحطيم كل الأوثان والأصنام التي صنعتها الأنظمة وجعلتها في مقام المقدس من أجل قتل إرادة الإنسان وإجهاض أحلامه واستنزاف مستقبله، وبهدم كل الأسس الميتافيزيقية التي تسيج بها الأنظمة نفسها والتي يساندها علماء السلطان وتحميها النخب الوصولية والانتهازية، وعدم انتظار مبادرات الغير، من أجل الحقوق المهضومة والكرامة المستلبة.
مصادر ومراجع:
• عبد الحسين شعبان، "أي دور للمجتمع المدني بعد انتفاضات الشباب!"، جريدة الناس، بغداد، 11/05/2011 (بتصرف).
• أمين عثمان، "الشباب والمجتمع المدني"، موقع المجلس الوطني الكردستاني-سوريا، (بتصرف).
• د.سعيد بنسعيد العلوي، "المصالحة مع السياسة في المغرب" جريدة الشرق الأوسط: موقع مغارب.كم، 29شتنبر 2011.
• عبد الغفار شكر، "المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية"، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، ط:1 دمشق 2003.
• د.محمد سبيلا، "الفلسفة وتحولات المجتمع المغربي"، نص الدرس الافتتاحي الذي ألقي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس يوم 07 /11/2006 بمناسبة افتتاح مسلك الفلسفة بها، منشور بالموقع الإلكتروني للدكتور محمد سبيلا.
• فهيمه خليل أحمد العيد، الأدوار التكاملية لمختلف هيئات المجتمع المدني، مؤتمر التوافق السنوي الثالث: "هيئات المجتمع المدني والتنمية الوطنية"، (بتصرف).
• عبد الله الذيفاني، الشباب العربي والمعاصرة من منظور فكري تربوي.
• د.عزت الحجازي، الشباب العربي ومشكلاته، (بتصرف).
• نورالدين بوصباع، فلسفة الثورة وحكمة التغيير، هسبريس، 7 يونيو 2011، (بتصرف).
• Glossaire-société civile, (http//www.wolton.cnrs.fr/glossaire/fr).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة


.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي




.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين




.. رياض أطفال بمبادرات شخصية بمدينة رفح تسعى لإنقاذ صغار النازح