الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاداة اليهود (2-4)

خالد أبو شرخ

2011 / 11 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


معـاداة اليهــــود

عصر التنوير وصعود الإمبريالية والصورة الجديدة عن اليهود

سادت العصور الوسطى في الغرب, صور ثابتة عن اليهود، منها أن اليهود شعب شاهد، ومنها أنهم مصاصو دماء، ومنها أنهم قتلة المسيح، وأنهم يدنِسون خبز القربان ويسمِمون الآبار, وغني عن القول أن معظم هذه الأفكار فقد كثيراً من البريق والشيوع، وحلت محله أفكار وصور أخرى, نستطيع إستكشافها من خلال علمنة الصور السابقة, وإعطائها أساساً علمياً مادياً.
وينطلق فكر عصر التنوير، وهو أهم ركائز الفكر الحديث في الغرب، من فكرة المساواة الكاملة بين البشر, ومن كفاية العقل للوصول إلى الحقيقة, دون حاجة إلى وحي إلهي, وهذه المساواة تشمل المسيحي واليهودي وكل البشر، ومن ثم دافع فلاسفة التنوير عن اليهود من منظور المساواة الكاملة, ومن منظور نفعهم, وإمكانية الاستفادة منهم, بعد إصلاحهم وتقويمهم, بما يتفـق مع المعايير العقلية الطبيعية الجديدة.
وعلينا أن نلاحظ أن مفهوم الدفاع عن أعضـاء الجماعات اليهودية, من منظـور نفعهم، يتضمن قدراً كبيراً من رفضهم, وعدم قبولهم, باعتبارهم بشراً لهم حقوقهم الإنسانية المطلقة, لأن العنصر النافع يجب التخلص منه إن فقد نفعه .
وكان ينظر إلى اليهود, الذين يؤثرون الحفاظ على خصوصيتهم الدينية أو الإثنية, باعتبارهم دولة داخل دولة، أو على أنهم جماعة قبلية, في مجتمع تسود فيه مثل الليبرالية والعلمانية والاستنارة, ويجب التنبه إلى أن دعاة الانعتاق كانوا يعادون اللهجات المحلية كافة، ومختلف الخصوصيات الإثنية، إذ أن فكر التنوير كان يحوي هجوماً على اليهود, بوصفهم جماعة لها هويتها، ويغطيه سطح مصقول من القبول العام لليهودي كإنسان طبيعي، وأي إنسان يتفق مع المواصفات القومية العلمانية الجديدة، فالتسامح هنا دعوة للتخلي عن الهوية وللقضاء عليها، وذلك باسم الهوية القومية الجديدة, التي تتجسد في الدولة القومية المركزية, وأدَى كل هذا في نهاية الأمر, إلى ظهور اليهودي غير اليهودي.
وفي صراع الكنيسة مع الفكر التنويري, وجد اليهود أنفسهم, وسط حلبة الصراع بين المسيحية والعلمانية، حيث كان العلمانيون يشيرون إلى اليهود, باعتبارهم ضحية عصور الظلام المسيحية الوسيطة، أي أن اليهود تحولوا من شعب شاهد على عظمة الكنيسة, إلى شعب شاهد على جبروتها وظلمها, وتحول اليهودي لذلك إلى بطل من أبطال العلمانية, وأصبح بعض العلمانيين ينظرون إلى اليهودية باعتبارها دين العقل ودين الفلاسفة, الذي يؤمن بالرب الواحد, دون حاجة إلى طقوس مركبة أو معجزات، أي أن اليهود واليهودية أصبحا مقولة مجردة, تستخدم لضرب المسيحية والكنيسة, وقد ولد هذا في نفوس المسيحيين صورة غير محببة لليهودي.
ولكن فريقاً آخر من دعاة التنوير, كان يتبع إستراتيجية مخالفة تماماً، إذ أنهم بدلاً من أن يضعوا اليهودي, مقابل الكنيسة, كانوا يحولون اليهودي إلى رمزا للدين، أي دين, أو إلى ممثل لما كانوا يسمونه "المسيحية البدائية", وبالتالي فإنهم بدلاً من الهجوم على الكنيسة والمسيحية بشكل مباشر، وهو أمر كانت تحفه المخاطر، كانوا يسددون سهامهم إلى اليهود واليهودية والعهد القديم, في هجوم مقنع على المسيحية, وكان هذا الفريق يشير إلى تخلف اليهود والخرافات, التي يؤمنون بها مثل تراث "القبالاه"، وإلى أن الدين اليهودي, دين معاد للإنسان, يشجع على العزلة وعلى عدم الولاء للدولة, في وقت كان المجتمع فيه, يتجه نحو العلمانية والتحرر.
وبهذا، نجد أن عصر التنوير, هو العصر الذي تم فيه وضع الأسس الفكرية لمعاداة اليهود (وللصهيونية في الوقت نفسه) في العصر الحديث، حيث نجد الأطروحات والصور الثابتة, التي تنسب إلى اليهود, قدراً كبيراً من الصفات المنفرة، وانطلاقاً من ذلك اقترح تهجيرهم إلى مكان آخر, حلا لهذا الوضع, أي أن الفكر الصهيوني إكتمل تبلوره في هذه المرحلة, ومن باب الهجوم المقنع على المسيحية، كان يُطرَح أن الكتاب المقدس وثيقة مزيفة، وأن أبطال العهد القديم أوغاد, لا أخلاق لهم, ومتعصبون ضيقوا الأفق, مارسوا الاضطهاد الديني, ضد الآخرين، وأن اليهود الذين أتوا بالعهد القديم, وهو أكثر أجزاء الكتاب المقدس توحشاً حسب رأيهم, شعب همجي؛ قاس وفاسد, وقام دعاة التنوير, ببعث أطروحات الكنيسة ضد اليهود, في محاولة ماكرة لاستخدام هذه الأطروحات لا ضد اليهودية وحسب, وإنما ضد المسيحية باعتبار أن اليهودية أم المسيحية, بل وضد كل الأديان الأخرى, ولهذا لم يكن الهجوم التنويري, يُشَن على السمات اليهودية في النسق الديني اليهودي وحسب، وإنما كان يُوجه كذلك و بالدرجة الأولى, إلى تلك السمات المشتركة بين اليهودية والأديان الأخرى .
وهكذا، نجد أن التيارين الأساسيين في الحضارة الغربية الحديثة, ينطويان على قدر كبير من العداء لليهود: يتمثل الأول في دعوة اليهود إلى الاندماج, بعد أن يفقدوا كل خصوصية وتميز، أما الثاني فيقرر ابتداءاً أنهم لا يمكنهم الاندماج, ورغم اختلاف التيارين ظاهرياً، فإنهما يتفقان على رفض اليهودي.

وعنصر آخرا في الفكر الاجتماعي الغربي, ساهم بدوره في صياغة الرؤية الغربية الحديثة لليهود، إذ كانت بعض العناصر البورجوازية الثورية, تنظر إلى اليهود باعتبارهم عنصراً مهماً لاستمرار الوجود الإقطاعي, وكان كبار مموِلي اليهود قريبين بالفعل من النخبة الحاكمة, يشكلون جماعة وظيفية وسيطة, تمد أعضاء هذه النخبة, بما يحتاجون إليه من أموال وبضائع، وهو ما كفل لهم شيئاً من الاستمرار, ويسر ضرب البورجوازيات الصاعدة .
ولكن الفريق الأكبر من المفكرين من اليمين واليسار, كان يرى أن اليهود, مرتبطون عضوياً بالبورجوازية والاقتصاد الجديد والليبرالية السياسية, وكانت عائلة "روتشيلد" تقدم دائماً دليـلاً عملياً محسـوساً, يوهم بصدق هذه النظريات, وبطبيعة الحال كانت قطاعات المجتمع المرتبطة اقتصادياً أو وجدانياً بالاقتصاد الزراعي القديم, تهاجم اليهود كتجار يحملون قيم التنافس والتجارة والعلمانية, وكان دعاة القومية السلافية المعروفة بعدائها للغرب المنحل ولأفكار الرأسماليين، يرون اليهود بتكالبهم المفترض على الثروة, وبتفككهم الاجتماعي والذي كان حقيقة مادية, بالنسبة لقطاعات كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية, في نهاية القرن التاسع عشر, شاهداً حياً على هذه النظره.
كما يجب أن نذكر أن فكر معاداة التنوير, أفرز مناخاً معادياً لفكر المساواة والمثل الليبرالية والثورة، فهو يمجد العصور الوسطى, وفكرة الجماعة العضوية المترابطة, مقابل الجماعة التعاقدية المفتتة، وهو التمييز الأساسي الكامن في الفكر الألماني الاجتماعي, وفي معظم الفكر الغربي الرجعي, وكان اليهود جماعة وظيفية وسيطة دينامية متحركة, مرتبطة بالتجارة والمال، وبالتالي بالبورجوازية الصاعدة وبالمجتمع الجديد, وقد تمت علمنة اليهود بسرعة مذهلة, ربما بسبب الأزمة التي كانت تجتازها اليهودية، كما أن أعداداً كبيرة من اليهود انخرطت بطبيعة الحال في الأحزاب الليبرالية والحركات الثورية، وهو ما جعل لليهود بروزاً غير عادي, في هذه الحركات وربط بين اليهود والليبرالية والثورة.
وإذا كان هذا هو رأي اليمين، فإن عينات كبيرة أيضاً من اليسار, ربطت بين اليهودي من جهة, والرأسمالية والبورجوازية من جهة أخرى, وكان العداء للرأسمالية، يأخذ في كثير من الأحيان شكل معاداة اليهود، وقد كتب "سومبارت" أطروحته المشهورة التي يبين فيها أن اليهود هم المسئولون عن ظهور الرأسمالية (وهذا في رأيه تعبير آخر عن فكرة الصراع بين الساميين والآريين). والساميون هنا (أي اليهود) هم التجار المتجولون، والآريون هم الفلاحون المنتجون المرتبطون عضوياً بالأرض. وكانت الأطروحة الاشتراكية تكتسب، أحياناً، بُعداً قومياً متعصباً بحيث نجد أن بعض الكتاب الألمان، بتوقهم الرومانسي إلى العصور الوسطى حيث الترابط العضوي بين أبناء المجتمع، كانوا يرون أن الرأسمالية ظاهرة غير ألمانية دخيلة, أدخلها العنصر التجاري اليهودي الغريب، وأخذوا يدعون إلى العودة إلى حياة أكثر ألمانية وبساطة .

لكن العنصر الأساسي, الذي ساهم في ترسيخ الصورة الكريهة عن اليهود، وفي تصاعد الهجمات ضدهم، كان صعود الإمبريالية, فقد كان القرن التاسع عشر, هو عصر التوسع الإمبريالي الغربي, الذي انتهى بالهيمنة على كل أنحاء الكرة الأرضية, ووضع الرؤية المعرفية الإمبريالية موضع التنفيذ على مستوى العالم, وصاحب هذه العملية ظهور مجموعة من الأفكار والنظريات العرقية, التي تحاول تسويغ سيطرة الإنسان الأبيض على بقية الأعراق ، فكان يتم تبرير إبادة الملايين في أمريكا, واستعبادهم في إفلايقيا, وإستغلالهم في أسيا, على أساس أن هذا جزء من مهام الرجل الأبيض وواجباته الحضارية، فهو يبيد الملايين ليؤسس مجتمعات متقدمة متحضرة, ولكن الرجل الأبيض هو أساساً الرجل الأقوى, الذي لا يكترث كثيراً بالخير أو الشر, ولم يكن من الممكن إدراك الواقع بطريقتين مختلفتين إحداهما ليبرالية خاصة بأوربا، والثانية إمبريالية عنصرية خاصة بالمناطق, التي تقع خارجها, فالعنصرية رؤية متكاملة للإله والطبيعة والتاريخ والإنسان, وكان محتماً أن تقع أكبر الأقليات في أوربا، وأكثرها انتشاراً وبروزاً ( الجماعات اليهودية)، ضحيةً لهذا التحول الإدراكي والاجتماعي.

أسباب تفجر موجات العداء لليهود

تتمثل الصفات الأساسية, في أدبيات معاداة اليهود في العصر الحديث, أن تنسب إلى اليهودي صفات خفية ثابتة لصيقة به, لا يمكنه التخلص منها إذا شاء, فبينما كان بوسع اليهودي في الماضي أن يتخلص من هويته تماماً, عن طريق التنصر, ودخول الكنيسة التي كانت تفتح له دائماً ذراعيها، فإن هذا البديل لم يعد مطروحاً في العصر الحديث، مع ظهور النظريات التي تفسر الكون, في إطار مجموعة من القوانين الحتمية التي تخضع لها الظاهرة, إذ أن سمات اليهودي وخصائصه, أصبحت خصائص وراثية وسمات بيولوجية, ذات جذور عرقية, ومن ثم لا يمكنه الفكاك منها, مهما بذل من جهود, بل إن اندماج اليهود، ورغبة بعضهم في الهرب من يهوديتهم تشبها بالأغلبية، هما في الواقع, حسب الرؤية الحديثة لمعاداة اليهود, مؤشرات على نجاحهم في التخفي والتمسك بالهوية.
ويمكننا القول أن ثمة أسباباً كثيرة أدَت مجتمعة, إلى تفجر موجات معاداة اليهود, في أواخر القرن التاسع عشر:

1: أدَت الثـورة الصـناعية والثـورة الليبرالية، وظهـور الـدولة القـومية، إلى فقـد اليهـود لدورهم التقلـيدي كجماعة وظيفية وسيطة، إذ ظهرت طبقات محلية, يمكنها أن تضطلع بهذا الدور, كما أن الدولة القومية استوعبت كثيراً من الوظائف, التي كان يقوم بها أعضاء الجماعة, وقد تحول معظم أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب, إلى طبقة وسطى في نهاية الأمر، ولكن الفجوة الزمنية بين الفترتين, أدَت إلى تفجر مشاعر الكراهية, ضد قطاع بشري لم يَعُد له أي نفع, ولم يكتسب وظائف جديدة بعد.
2: تكتسب الدولة القومية, شرعيتها من التاريخ المشترك والثقافة المشتركة, ويستند النقد الاجتماعي القومي الليبرالي, للمجتمع الإقطاعي والديني, إلى هذين العنصرين، ومن ثم يتحدد الانتماء, أو عدم الانتماء, بمقدار مشاركة المواطن في هذا التاريخ والثقافة, وقد كانت الجماعات اليهودية, عادة ذات هوية مستقلة نوعاً ما عن محيطها الثقافي، الأمر الذي كان يجعلها تقع معنوياً خارج دائرة العقد الاجتماعي, مع أنها كانت فعلياً داخل دائرة المجتمع، وهو ما ولد كثيراً من العداء, تجاه أعضاء الجماعات اليهودية.
3: تعثر التحديث في وسـط أوربا وشرقها في نهاية القرن التاسع عشـر.
4: وجود أغلبية يهود العالم في أوربا الشرقية (يهود اليديشية), في بلاد لم تَسد فيها المُثل القومية الليبرالية، وفي مناطق حدودية متنازع عليها، وفي روسيا البلد الذي كانت تحكمه بيروقراطية متخلفة, لم تستطع أن تتفهم وضع اليهود.
5: إرتباط اليهود بالحركات الثورية العلمانية اليمينية واليسارية, فقد كان اليهود رمزاً واضحاً للمجتمع الصناعي الرأسمالي الجديد، وبالتالي أصبحوا هدفاً للجماهير, التي اقتلعها الاقتصاد الجديد, وألقى بها في المدن والمصانع للعمل, تحت ظروف غير إنسانية, ومن ثم أصبح اليهودي بالنسبة إلى البورجوازيات الصغيرة الضعيفة، في كلٍ من ألمانيا وبولندا وروسيا، هو العائق الأساسي الذي يقف حجر عثرة في طريق نموها الاقتصادي .
6: مع الإنعتاق السياسي والاقتصادي لليهود، لم تعد الجماعة اليهودية جماعة وسيطة مغلقة, تعيش في مسام المجتمع داخل الجيتو, ويمكن التسامح معهما، بل خرج أعضاؤها إلى المجتمع ليلتحموا بالبناء الطبقي والاجتماعي والثقافي للمجتمع، وقد حققوا حراكاً اجتماعياً وطبقياً كبيراً، وانتشروا بأعداد كبيرة في أنحاء أوربا, بسبب الانفجار السكاني الضخم بينهم, وأدَى كل هذا إلى احتكاك واسع المدى بين أعضاء الجماعات اليهودية, وبين بعض قطاعات المجتمع, تحت ظروف لم تكن مواتية تماما, بسبب الثورة الصناعية التي حرمت الملايين, من الأمن التقليدي الذي كانوا يتمتعون به في المجتمع الزراعي.
7: إنتشر اليهود في المجتمعات الغربية, بعد أن ضعفت هويتهم وقيمهم الدينية، وبعد أن اقتلعوا من محيطهم الثقافي المألوف لهم, ولذا كانت تنتشر بينهم ظواهر مثل الغش والسرقة، الأمر الذي عزز من الصورة السلبية عنهم.
8: أصبح كثير من اليهود, ممن يمكن تسميتهم "يهود غير يهود"، أي يهود ليس فيهم من اليهودية سوى الاسم، فقد تآكلت هويتهم الدينية والإثنيـة تماماً، ومع هذا اسـتمرت المجتمـعات الغربية في تصنيفهم يهوداً, وهذا أمر جعل الناس يشعرون أن اليهود يوجدون في كل مكان وزمان.
9: هؤلاء اليهود غير اليهود كان لابد من إيجاد تعريف لهم, وقد تم ذلك بطريقة عرقية مجردة حيث كان التعريف الديني التقليدي غير ممكن, فالعنصر المشترك بين الشحاذ اليهودي من شرق أوربا, والموسيقار اليهودي من غربها والتاجر اليهودي من وسطها، لم يكن الدين أو حتى هوية قومية بعينها، فتم إختلاق خاصية مادية عرقية افتراضية كامنة, غير ظاهرة, ولا واضحة المعالم، وهي الخاصية البيولوجية اليهودية, التي كان الجميع يفترضون وجودها برغم عدم ظهورها.
10: ـمن المفارقات التي تستحق التسجيل, أنه مع تزايد الحقوق المعطاة لأعضاء أية أقلية, يزداد العداء لها؛ ذلك لأن الأقلية حينما يتم حصرها تلزم مكانها، وحينما تتم عملية القمع بموجب القانون, أو بحكم البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع، يقل العنف الفردي, إذ تتكفل المؤسسات بعملية العنف, ومن هنا لم تكن ثمة عمليات اختطاف وشنق للزنوج في جنوب أفريقيا, في حين كانت هذه الظاهرة منتشرة في الولايات المتحدة، ومن هنا أيضاً كان خلو إسرائيل من العنف الشخصي (على الأقل حتى نشوب الانتفاضة), وقد تزايد الكره الفردي الموجه لليهود, مع تزايد معدلات الإنعتاق والعلمنة, كما تزايد الهجوم عليهم, لأنه هجوم على خطر خفي غير ظاهر، إذ أن اليهودي المندمج لا يتصرف كما يتصرف اليهودي بشكل يسهل رصده، وإنما يتصرف بشكل طبيعي, باعتباره فرداً عادياً في المجتمع، الأمر الذي يجعل من رصده عملية مستحيلة.
11: صعود الإمبريالية الغربية، والنظريات العرقية التي صاحبتها، والتي جعلت من الصراع حقيقة أساسية في الوجود الإنساني, وقبلت القوة العضلية معياراً أساسياً.
12: من أهم أسباب تزايد مشاعر العداء لليهود, الانفجار السكاني بين يهود اليديشية, في شرق أوربا, وزاد الحديث عن وجود فائض سكاني, لابد من التخلص منه, وقد صدرت شرق أوربا ملايين اليهود إلى وسطها وغربها وإلى الولايات المتحدة, وكان يهود شرق أوربا كتلة متميزة متخلفة متحللة، وكان وصولهم يصعد مشاعر الكراهية ضدهم, وكان السكان لا يميزون بين اليهود الوافدين واليهود الأصليين, إذ أن الجميع مجرد "يهود", ولم يكن الوافدون يهوداً وحسـب، وإنما أجانب وغرباء أيضـاً, وكان اليهـود مرتبطين أحياناً بالعدو، كما هو الحال في فرنسا، وخصوصاً في الألزاس واللورين، فاليديشية التي كانوا يتحدثون بها, كانت رطانة ألمانية.
13: أدى ظهور وسائل الإعلام الحديثة, إلى وجود قنوات تنقل الفكر العنصري بسهولة, ويسر إلى ملايين الناس وتشيعه بينهم.
14: ـتزامن كل هذا مع الكساد الاقتصادي في أواخر القرن، الأمر الذي زاد من حدة التوتر الاجتماعي.
أَدت كل هذه الأسباب مجتمعه, إلى تحول كره اليهود, من مجرد عواطف إنسانية كامنة, إلى حركات سياسية .

تقسيم بلاد العالم الغربي من منظور معادة اليهود

ويمكن تقسيم بلاد العالم الغربي، من منظور معادة اليهود، إلى أربعة أقسام:
1: بلاد التحديث الحر : مثل إنجلترا، وهولندا، وبلجيكا، وفرنسا (إلى حد ما), وكلها بلاد لها مستعمرات, يصدر لها الفائض البشري والتوترات الاجتماعية، وفيها طبقة رأسمالية قوية, وحكومات ليبرالية منتخبة, وتتسم الجماعات اليهودية فيها بقلة عدد أعضائها, وهذه البلاد لا تظهر فيها ظاهرة معاداة اليهود بشكل حاد أو مستمر.
فمع هجرة يهود اليديشية إلى إنجلترا وحرب البوير 1899م, التي وقف ضدها كثير, من قطاعات الرأي العام في إنجلترا، شهدت إنجلترا موجة من العداء لليهود، وقيل إن المصالح المالية اليهودية, كانت وراء دخول إنجلترا هذه الحرب. وقد ازداد الحديث عن الخطر اليهودي, بشكل مبالغ فيه، وصدرت قوانين الغرباء عامي 1902م و1905م لمنع دخول الأجانب أي اليهود.
أما في فرنسا فقد كانت معاداة اليهود, سلاحاً مهماً في يد بعض العناصر الملكية, والكنسية المعادية للثورة الفرنسية وقيمها, وشهدت هذه الفترة نشر كتاب "درومون" "فرنسا اليهودية", وفي أواخر عام 1892م، وقعت فضيحة قناة بنما, التي لعب فيها بعض الممولين اليهود دوراً ملحوظاً, وشهد عام 1894م, حادثة "دريفوس" أحد ضباط الأركان العامة للجيش الفرنسي, والذي اُتهم بأنه خان بلاده, وسلم بعض المعلومات المتعلقة بأمنها إلى ألمانيا, وقد دافعت عنه القوى الليبرالية، في حين وقفت القوى المحافظة والمعادية لليهود ضده.
2: بلاد التحديث الشمولي (تحت رعاية الدولة) : مثل ألمانيا أساساً, وهي بلد لم تمتلك مستعمرات، إذ أُجهضت تجربتها الاستعمارية, وتحالفت الطبقة الرأسمالية فيها مع الطبقات الإقطاعية, لتضمن لنفسها النجاح, وبرغم قلة أعضاء الجماعات اليهودية، فقد كان لهم بروز واضح في المجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية, وظهر فيها العداء لليهود بشكل واضح وحاد ومستمر.
ويعود التاريخ الحديث لمعاداة اليهود في ألمانيا ووسط أوروبا, على أساس عرقي إلى عام 1873م، وذلك مع انهيار البورصة, التي كان لبعض الممولين اليهود ضلع فيها، ومع الصعوبات الاقتصادية, التي بدأت تطل برأسها, وقد أسس قس البلاط الألماني، "أدولف ستوكر"، حزباً مسيحياً اجتماعياً عام 1878م، وتوجه إلى البورجوازية الصغيرة, وكذلك إلى المهنيين, الذين كانوا يتصورون أنهم ضحية هيمنة الرأسمالية اليهودية, على الاقتصاد, وطرح الحزب مفهوماً عضوياَ للقومية, يستبعد اليهود ويراهم خطراً على الأمن, وفي عام 1880م، أُسست في برلين عصبة المعادين لليهود, وقدم المعادون لليهودية عريضة للحكومة الألمانية موقعة من 225 ألف شخص, تطلب إلى الحكومة أن توقف جميع أشكال الهجرة اليهودية, التي كانت تتدفق من الجيب البولندي, وأن تصدر تشريعات لاستبعاد اليهود, وقد عُقد أول مؤتمر دولي لمعاداة اليهود في عام 1882م وضم ثلاثة آلاف مندوب.
وفي عام 1893، حققت الأحزاب المعادية لليهود في ألمانيا أكبر نجاح انتخابي لها حين حصلت على ستة عشر مقعداً بعد أن نالت ربع مليون صوت. أما في النمسا، فقد شهد عام 1871 نشر كتاب عن التلمود من تأليف "أوجست رولنج"، ترك أثراً عميقاً في حركة معاداة اليهود.
وفي عام 1895، تم انتخاب "كارل ليوجر" زعيم أعداء اليهود, رئيساً للبلدية في فيينا, وقد حاول الإمبراطور أن يوقف تعيينه, ورفضت الحكومة المصادقة على التعيين، ولكنه تقلد منصبه في نهاية الأمر عام 1897م, بعد أن أعيد انتخابه ثلاث مرات. وظل العداء لليهود يتصاعد إلى أن وصل إلى ذروته مع انتخاب هتلر, ووصول النازيين إلى الحكم.
3: بلاد التحديث المتعثر : مثل روسـيا وبولنـدا وبعـض بلاد وسـط أوربا, وهي بلاد لم يكن لها مستعمرات، ولم يكن اقتصادها متقدماً، وكان القطاع الرأسمالي فيها ضعيفاً، كما كانت هذه البلاد تتسم بأنها تضم جماعات يهودية كبيرة, وقد تعثر التحديث في هذه البلاد، وتفشت فيها ظاهـرة عـداء اليهود, فقد شهدت روسيا أشكالاً مختلفة من معاداة اليهود، وبخاصة بعد اغتيال القيصر "الكسندر الثاني" عام 1881م, حيث صدرت قوانين مايو 1881م، وانتشرت موجة من المذابح من أشهرها مذبحة "كيشينيف" عام 1903م, وبعد عام 1905م، ظهرت جماعات بدعم خفي من الحكومة، وقامت بالهجوم على اليهود في عدة مدن .
أما في بولندا، فإن الطبقة الوسطى الصاعدة, ناصبت الجماعة اليهودية الوسيطة العداء, بسبب احتفاظها بهوية غربية مستقلة (يديشية), وبسبب تاريخ التحالف الطويل, بينها وبين النخبة الإقطاعية الحاكمة, وقد نظم البولنديون حركات مقاطعة ضد اليهود, في أعقاب الحرب العالمية الأولى, وكانت الحكومة تتفاوت في موقفها, من التأييد لحركات العداء أو محاولة وقفها, ثم قام النازيون بإبادة أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا, ضمن من أبادوا من ملايين أخرى.
ومع استئناف التحديث على النمط الاشتراكي، اختفت الظاهرة، واتجهت المؤسسات نحو دمج أعضاء الجماعات اليهودية, وكانت الدعاية الصهيونية تتهم الاتحاد السوفيتي بمعاداة اليهود, المتمثلة في محاولة دمج اليهود، بل وأُطلق على ذلك "هولوكوست الاندماج", ولكن معاداة اليهود تبدو دائماً في شكل النظر إلى اليهود, باعتبارهم عنصراً غريباً, لا يمكن دمجه، وبالتالي لابد من طرده, أو على الأقل تشـجيعه على الهجرة, أمـا في الاتحاد السوفيتي، فقد كان الوضع على عكس ذلك تماماً، إذ حاول المجتمع دمجهم فيه, بينما كانت القوى الصهيونية, هي التي تحاول إخراجهم منه .
4: المجتمعات الاستيطانية : مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا, وهذه مجتمعات لم يعرف معظمها ظاهرة العداء لليهود، ربما باستثناء أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا, وقد استقر اليهود في هذه البلاد, وواجهوا المصاعب التي تواجهها أية جماعة مهاجرة, ومن الطريف أنه برغم وجود عداء لليهود في صفوف الحزب الحاكم في جنوب أفريقيا (أثناء فترة التمييز العنصري)، فإن الحكومة لم تلجأ قط إلى تشجيع اليهود على الهجرة، كما يفعل المعادون لليهود عادة، وذلك لأن مجتمع جنوب أفريقيا مجتمع اسـتيطاني, في حاجة ماسة إلى العنـصر البشـري الأبيض, ومن ثم تعد الهجرة إلى إسرائيل أو إلى أي بلد آخر خيانة وطنية .
ويثير ظهور الدياسبورا الإسرائيلية (هجرة الإسرائيليين) إلى الولايات المتحدة, قضية مهمة تتصل بالعداء الموجه إليهم, من قبل المنظمات الصهيونية, التي ترفض مد يد المساعدة لهم, في عملية الهجرة والاستقرار هناك, والشيء نفسه ينطبق على من يطلق عليهم لقب المتساقطين، وهم المهاجرون الروس, الذين كانوا يهاجرون من الاتحاد السوفيتي, بحجة الذهاب إلى إسرائيل، ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة, بدلاً من ذلك .
فهل يُعتبَر العداء لمثل هؤلاء, وعدم مساعدتهم على الهجرة والاستيطان أينما شاءوا، بل وإغلاق أبواب الهجرة إلى ألمانيا والولايات المتحدة أمامهم، ضرباً من معاداة اليهود ؟!

ولا يمكن فصل تاريخ معاداة اليهود, عن تاريخ الصهيونية، فكلاهما ثمرة آليات وحركيات توجد داخل التشكيل الإمبريالي الغربي وتنبع منه, والواقع أن مفهوم الشعب العضوي المنبوذ, هو القاسم المشترك, الذي يصل بين الظاهرتين (معاداة اليهود, والصهيونية)، وكل ما هنالك هو أن عداء اليهود, الذي كان يهدف إلى تدمير اليهود, أصبح أكثر عقلانية ورشداً, وبعد ظهور مفهوم نفع اليهود، أصبح الهدف هو توظيفهم، فظهرت الصيغة الصهيونية، والتي تم تهويدها, حتى يتمـكن اليهـود من اعتناقها, وليـس من قبيل الصـدفة أن ألمانيا، مهد الفكر العضوي العرقي, والنظرية النازية, هي ذاتها مهد الفكر الصهيوني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر