الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات / طين للتمدن .. وآخر للتخلف !

رضا الظاهر

2011 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية



تأملات

طين للتمدن .. وآخر للتخلف !

رضا الظاهر

ليل أمية طويل .. ومناهج متخلفة .. وأفق غائم .. في بلاد بات عنوان مأساتها في التعليم: مدارس الطين ! وهذه المدارس يزيد عددها على الألف حسب إحصائية لوزارة التربية في العام الحالي. أما تقارير المسؤولين عن "إنجازات" في مجال التعليم فليست سوى معلومات ملفقة غالباً تسعى الى تغطية الفشل وطمس الحقائق كما هو حال "الانجازات" المزعومة في كثير من ميادين الحياة في هذه البلاد المبتلية بالتضليل، والتي تبدو مستكينة له أو صامتة عنه وعن عواقبه الوخيمة.
يروي مشرف تربوي جانباً من المأساة فيقول إن "موظف الخدمة في مدرسة من المدارس التي زرتها جلب لي بساطاً من بيته القريب لأجلس عليه في إدارة المدرسة، التي هي غرفة صغيرة من الطين فيها (بارية) واحدة، ومن سقفها تتدلى خيوط البردي وأوراق القصب القديم .. هذه الغرفة، التي تمثل إدارة المدرسة في بلاد الرافدين، ليس فيها كرسي واحد يجلس عليه المدير ولا منضدة ولا دولاب .. أما غرف المدرسة فبلا أبواب ولا نوافذ ...".
ها نحن، في الجانب الآخر من المأساة، نقف أمام بناية مدرسة يداوم فيها أكثر من ألف تلميذة وتلميذ دواماً ثلاثياً، وهي بدون مرافق صحية، ولكم أن تتخيلوا حال البلاد التي أرادها "المحررون" نموذجاً.
أما المقاولون، الممتدون في حلقات، وكل يبيع حصته من مقاولته الى سواه ليتلقى أرباحه في "وساطة طفيلية"، فلا يعتبرون المرافق الصحية ضرورية للمدرسة.
وأما "ممثلو الشعب" ممن يختفون، معزولين عن الناس، وراء زجاج مصفحاتهم المظلل، وبنادق حماياتهم، ففي شغل عن مدارس الطين، ذلك أن قصورهم التي يرفلون بنعيمها تحميهم وراء أسوارها العالية ..
ويظل أبناء المحرومين في مدارس الطين، بينما يرفل أبناء "المتنفذين" بالحرير، وهم يدرسون في جامعات لندن وسائر عواصم "بلاد الكفر"، حيث القصور والعقارات التي اشتراها الآباء المتنفذون من مال الشعب ليكنزوا فيها الذهب والفضة قبل أن تضيع فرص النهب.
وليذهب الى الجحيم ذلك المعلم المسكين الذي يضطره راتبه الشهري البائس الى أن يقف، شأن جياع آخرين، على الرصيف ليمارس مهنة أخرى لا تليق بهذا الذي كنا نقف له تبجيلاً حتى كاد أن يكون رسولا.
وحتى لو أننا عدنا من مدارس الطين البائسة الى المدارس "المرفهة" فسنجدها تعاني من الافتقار الى الشروط الصحية والخدمات الأساسية المنتظمة مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي، وتقادم البنايات، والدوام المزدوج، وازدحام الصفوف الدراسية حيث يبلغ عدد طلاب الصف الواحد خمسين طالباً أو يزيد. هذا ناهيكم عن غياب أساليب التعليم الحديثة ونقص وسائله، واضطرار معلمين الى الغياب عن مدارس ريفية بسبب انقطاع الطرق الترابية جراء الأمطار.
وهناك مشكلات أخرى من قبيل نقص أعداد المعلمين يقابله جيش من العاطلين عن العمل. ويكشف هذا الحال عن غياب الخطط التربوية المدروسة. بل إن بعض الخريجين يسعون، دون جدوى، الى القيام بعمل طوعي في المدارس على أمل تقريب فرصة الحصول على توظيف.
أما المدارس التي تم تحديثها فقد أسندت مهمة إعادة بنائها الى مقاولين فاسدين لا يمتلكون خبرة بوساطات وصفقات مع مسؤولين. وتشير تقارير موثقة الى أن المقاولين لم يستثمروا أكثر من 10 في المائة من المبالغ المرصودة أما الباقي فقد جرى نهبه وتقاسمه بين المقاولين والمتواطئين. ولا يندر في مثل هذه المدارس، التي أعيد بناؤها زعماً، أن تنهار أسيجة أو حتى سقوف بعد فترة قصيرة من التأهيل الذي قد لا يتجاوز في حالات معينة طلاء الجدران بأصباغ من أرخص وأسوأ الأنواع في عملية تزويق بألوان فاقعة تكشف عن ممارسات الفساد التي ترافق هذا التزويق وغياب الرقابة على التنفيذ.
وفي بلاد تحتل الآن مكانة متقدمة في قائمة الدول الأكثر تخلفاً في مجال التعليم، بعد أن كانت من الدول المتقدمة باعتراف وتقييم اليونيسكو، لا غرابة أن يرى خبراء مستقبل التعليم فيها "مظلماً".
ومن الطبيعي أنه لا يمكن النظر الى أزمة التعليم في عراقنا إلا باعتبارها تجلياً للأزمة الاجتماعية العميقة التي تعصف بالبلاد. وهي مرتبطة بغياب التوزيع العادل والمثمر لمخصصات الميزانية السنوية وحرمان التعليم، وهو من أساسيات الحياة وبناء المجتمع، مما يستحقه.
* * *
في أوروك ذاتها التي شهدت ميلاد الأبجدية الأولى يرخي ليل العراق "الجديد" سدول ظلام الأمية ..
وهذا الطين الذي نقشت على رقمه قبل آلاف من السنين أعظم الملاحم هو نفسه الذي تشيد منه مدارس الطين في القرن الحادي والعشرين في بلاد الذهب الأسود ..
هل قدّر للطين الذي نطقت عليه آمال جلجامش وآلامه وحيرته الوجودية أن يتحول من طين للتمدن الى طين للتخلف !؟
ما الذي حل بهذه البلاد حتى تبدو وكأنها أضاعت طريقها الى ذلك النور الذي منها انبثق وشع على الأماكن ؟ أيعقل أن يتخذ التاريخ مثل هذا السبيل الشائك والموجع فيتحول في بلاد ما بين النهرين الى تراجيديا نادرة المثال !؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية للأستاذ رضا الظاهر ..
مريم نجمه ( 2011 / 11 / 21 - 22:15 )
مسكينة شعوبنا بقياداتها ومسؤوليها القدامى والجدد .. لا أحد يتعلم !؟ لأنهم بعيدون كل البعد عن معنى الحياة وحقوق وقيمة الإنسان وما معنى الوطن والوطنية ..!
أي تلزمهم أن يعاد تعليمهم من صفوف الروضة والإبتدائي قبل أن يستلموا وظيفة ويسموا رئيس ووزير ونائب ومدير ..
أشكرك أستاذ الكريم رضا على مقالك ( صفعة في وجه الحكومة أو تعرية للسياسة المهزلة ) .... محبة


2 - تحية للكاتبة مريم نجمة
رضا الظاهر ( 2011 / 11 / 22 - 19:28 )
شكراً عزيزتي الكاتبة مريم نجمة على لطفك في التعليق على التأملات .. لا ريب أنك تعرفين أن التعلم يحتاج، من بين شروط أخرى، الى حساسية ورغبة واستعداد وثقافة، وهذا ما يفتقر اليه سياسيونا التقليديون. قداماهم وجددهم. وهذه من بين المحن التي نعاني منها في مجتمعاتنا المتخلفة .. امتناني ومودتي

اخر الافلام

.. تونس.. زراعة الحبوب القديمة للتكيف مع الجفاف والتغير المناخي


.. احتجاجات متزايدة مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية




.. المسافرون يتنقسون الصعداء.. عدول المراقبين الجويين في فرنسا


.. اجتياح رفح يقترب.. والعمليات العسكرية تعود إلى شمالي قطاع غز




.. الأردن يتعهد بالتصدي لأي محاولات تسعى إلى النيل من أمنه واست