الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التذوق الجمالي

ماجد محمد حسن

2004 / 12 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أن التجربة الأساسية في مجال الجمال هي التجربة الحسية، لذلك يرى البعض أن الإدراك الجمالي هو في جوهره حدس، وليس تصوراً، وتقوم طبيعة الحساسية على بعد الاستقبال، بمعنى أن الإدراك الجمالي يحدث نتيجة للأثر الواقع على الحواس من قبل الموضوعات المعطاة، ولهذا فإن تصور موضوع ما في شكله الخالص، هو أمر جميل لأنه من إنتاج التخيل. وهو تخيل جمالي مبدع، ذلك أنه ينشئ الجمال في التركيب الحر الذي يتميز به. وخلال التخيل الجمالي تصنع الحساسية المبادئ الصحيحة بصورة كلية لنظام موضوعي.

أن الجمال المعاصر يوجد في اتجاهين رئيسيين، الأول يميل الى دراسة جماليات الشكل الفني باعتباره العنصر الرئيسي في العمل الفني، ويطلق عليه الجمالية العلمية، لأنه يحاول البحث في تنقيات الشكل والتكنيك والأسلوب، والأدوات الوسيطة في الفن، مثل اللغة، ويمكن تمييزها داخل كل اهتمام بعنصر من العناصر السابقة اتجاها متميزاً، مثل السيموطيقيا التي تحلل الظاهرة الفنية باعتبارها نظاما من العاملات، يعبر عن الأفكار ومن مؤسسيه بيرس ودي سوسير. وهذه الاتجاهات اللغوية تأكد وجودها بعد تطور علم اللغة بشكل يتيح استحداث أدوات جديدة لباحث البنية اللغوية، يمكنه من تحليل الظاهرة الجمالية في الأدب.

ويوجد هناك اتجاهات أخرى مثل علم الاجتماع الجمالي، الذي يرجع علم الجمال كعلم وضعي نفسره من خلال السياق الثقافي والاجتماعي، ويمكنه استخدام مناهج العلوم الانسانية، مثل البنيوية من خلال دراستها لتكوين البنية. وتغالي بعض الاتجاهات الى الحد الذي تعتبر المبدع في بعض أشكال الفن، هو عالم الجمال الخاص به، لأنه هو وحده الذي يستطيع أن يبدأ بأثره الفني، غذ وضعت قواعده بشكل كلي. وهناك فينومينولوجيا علم الجمال التي تهتم بتجربة القارئ أو المتلقي، وتحاول تفسيرها وفق منهجها.

فالنظام الجمالي أو الانسجام يحدث نتيجة للنظام الذي يحكم لعب التخيل، والقوانين التي ينتظم من خلالها الموضوع الجمالي هي ذاتها حرة، لأنها ليست مفروضة من أعلى، وهي مرغمة على تحقيق أهداف معينة، وهي بالتالي الشكل الخالص للوجود ذاته، ولهذا فأن التطابق مع القانون الجمالي يربط بين الطبيعة والحرية، واللذة والأخلاق.

أما في مجال الجمال فيتم الاعتراف بحقيقة ذات معايير مختلفة تماماً، عن الواقع الذي يخضع لمبدأ المردود، حتى لو بدت هذه الحقيقة لا واقعية، لكن هذا الاعتراف لا يتم إلا من خلال الأصل الحسي، واللذة التي تعبر عن نفسها في الشكل الجمالي الخالص، وهذا التطابق بين الحواس والشكل يتم من خلال التخيل، الذي يتحول لواقعة وجودية، بتعالي الانسان ونفي الواقع الذي يعيشه الانسان المعاصر، المشدود الى دولاب العمل الرتيب ومهنته الجزئية، التي تجعل منه ظلا باهتاً لخبرته ومهنته، وتنفي عنه الطابع الانساني. والانسان يعتمد على غريزة الشكل لديه في إنشاء الحضارة المعاصرة، وهي غريزة حرة، تعتمد على اللعب،بمعنى النشاط الذي لا يبغي من ورائه منفعة مباشرة، لأن قصده هو الجمال، وهدفه الحرية هو الحرية.

يسعى الفن عبر صوره وأشكاله الجمالية للكفاح من أجل تحقيق الشكل الأعلى للحرية وهو الحياة بدون قلق، فالإنسان في حياته اليومية الواقعية، يساوره القلق بكل أشكاله وأنواعه على كل جانب من حياته، والفن هو الوحيد القادر على تحقيق هذه المخيلة، التي يختفي فيها القلق، فالعقل الجمالي، إذا صح هذا التعبير، هو الصورة الوحيدة للعقل التي يتعامل بها الواقع، وقد أنتقل هذا المبدأ الى المؤسسات طبقاً لمبدأ المردود، وتحول العقل بالتالي الى أداة للقمع وكبت الحرية، فالتقسيم الاجتماعي للعمل يهتم بمدى ما يقدمه هذا التقسيم من نفع للجهاز الإنتاجي القائم، أكثر مما هو لصالح الفرد، وأصبحت الإنتاجية غاية في ذاتها، رغم أنها بدأت كوسيلة لسد حاجات الإنسان، والتقليل من العوز.

يقول هربرت ماركيوز في كتابه ( الحب والحضارة)، " أن النهج الجمالي يقيم نظام الحساسية باعتباره مناقضاً لنظام العقل. وإنه في إدخاله هذا المفهوم الى فلسفة الحضارة، فإنه يتجه الى تحرير الحواس والتي بدلاً من أن تدمر الحضارة، فإنها تقدم لها قاعدة أشد إحكاماً وتزيد الى حد بعيد من ممكناتها. "

فما تدركه الحساسية، باعتباره حقيقياً تدركه على هذا النحو حتى حين يراه العقل ليس حقيقياً، وعلى هذا فأن مبادئ وحقائق الحساسية تؤلف مضمون الجمال، وهدف الجمال هو بلوغ كمال الإدراك الحسي، وهذا الكمال هو الجمال، وهنا تكون الخطوة قد أنجزت في تحويل الجمال من علم للخبرة الحسية الى علم الفن، ومن نظام للحساسية الى نظام للفن. أن الفن بوصفه ملكة التخيل يربط بين عالم الحساسية وعالم العقل. وحين يتخلى الفن عن التخيل، فإنه يتخلى عن الشكل الجمالي الذي يفصح به عن الاستقلال الذاتي للفن عن نفسه.

كما أن فرويد يشير الى المخيلة باعتبارها القيمة العقلية، التي لا تزال حرة الى حد بعيد تجاه مبدأ الواقع. فالمخيلة تلعب دوراً هاماً الى أقصى حد في البنية العقلية، فهي تربط أعمق طبقات اللاشعور بأعلى نتاجات الشعور بالفن، والحلم بالواقع، وهي تحرس نماذج النوع، والأفكار الخالدة، ولكن المكبوتة للذاكرة الفردية والجمعية والصور المكبوتة للحرية.لأن هذه الملكة مهمتها نسج التصورات الخيالية التي تبدأ من لعب الطفل، كنشاط حر وتستمر المراحل المتأخرة كحلم يقظة. لأن نظريات فرويد في اللاوعي سيطرت على الجو الثقافي الأوروبي، فحاول الرسامون أن يتغلغلوا في خبايا اللاوعي، فلجاؤا الى الرسم التلقائي بحيث تتحرك أيديهم دون إرادة منهم لكي يدفعها العقل الباطن كيف ما يشاء. وكما حاولوا أن يصوروا الأحلام يصوروا صوراً هي كالأحلام في جوها المليء بالرموز الغامضة، ول يهتموا الى جعل صورهم مفهومة. هل من أحد فهم الأحلام ؟ هل من أحد استطاع أن يشرح حلماً شرحاً وافياً ؟ وكانت هذه الأعمال تثير الدهشة الاستغراب وتوقظ مخيلة المتلقي لإيجاد تفسيراً لها.

يرى تيودور أدورنو في الجمال والفن دعوة لتفتح الحواس، ومن ثم فالأعمال الفنية الحقيقية تحوي عنفاً خطراً يهدد الشكل القائم للوجود، ذلك لأن الطابع الحسي للجمال يوحي بشكل مباشر بالحصول على السعادة من خلال الفعل وليس من خلال التأمل النظري للوجود، فالعمل الفني يفلت من أسر السلطة القائمة حين يوقظ الحس، دون أي شعور بالإثم أو العار، وإنما يعمق الشعور بالسعادة، فلم يعد الفن والجميل هو الشعور باللذة بلا غرض، وإنما هو جميل فذاته.* فأن التخلي عن الشكل الجمالي بمثابة التنازل عن المسؤولية، ويحرم الفن من الشكل الذي بواسطته يستطيع أن يخلق الواقع الآخر في داخل الواقع القائم، وهو عالم الأمل.

لذلك فقد أصبح الفن هو الأمل الذي يمكن من خلاله المحافظة على استقلال الفرد، من طغيان عقل السلطة والهيمنة الذي يطبع كل الأفراد بطابعه، ويتجاوز الفن هنا مع الثقافة والدين كآخر الدفاعات التي يمكن أن يحتمي بها الانسان ضد غزو الحياة الاستهلاكية، والتي تنذر بالقضاء على العقل. فالقصد من الفن بشكل عام هو مناهضة الواقع، وكشف المكبوت والمقموع فيه عن طريق إدخاله في علاقات جديدة، مختلفة عن تلك العلاقات التي يقوم عليها الواقع الفعلي. لأن الفن قوة الاحتجاج الإنساني ضد قمع السلطات التي تؤثر في الواقع. فالفن الذي نراه في الثقافة المعاصرة هو فن ممزق، ويعبر عن المجتمع الممزق، ولهذا فأن الفن الحقيقي غير مسموح له بالتواجد، لأن منظومة الحضارة الآن تعتمد على قيم التبادل، والذي لا يستطيع إدخاله في هذه المنظومة يبقى غير معترفاً به، من قبل السلطة التي تؤثر في الواقع.

يقول أرنولد هاوزر " العمل الفني ما هو إلا نوع من التحدي. وبهذا القصد نفهم المعنى النقدي والفلسفي لمحاولات إنشاء الفن، هذا الإنشاء الذي يعتمد على تحولات اجتماعية وإنسانية، ولكن دون الإخلال بالمبادئ الاساسية للجمال. أي هو بالتالي وقبل كل شيء، ضرورة من ضرورات الواقع في حركته، وبمعنى هو إلغاء كل استلاب هو نتاج استلاب واقعي، أو سعي الى تشذيب أو هدم هذا الاستلاب، أو هدم مكوناته وليس هذا إلا تنظير أيديولوجي، أما القصد من الفن بالمفهوم الإنساني (الجمالي) فهو ضرورة بدأت قبل بدء الصراع الطبقي وقبل بدء الحضارة بالمعنى المعروف وبالطبع لا نشير الى المفاهيم العامة المثالية بهذا إنما نركز على هذا المعنى كل جهودنا على اعتبار الجمال جزءا عظيماً من أداة الفنان النضالية والواقعية النقدية المعاصرة والجمال على أية حال لا ينفصل عن وجهات النظر المحددة بالزمان والمكان ولكنه يتجاوزهما لبدأ التاريخ الحقيقي للبشر.

أن الفن التشكيلي يسعى لتصوير ردة فعل عنيفة في نفس الفرد إزاء التطور السياسي، الذي أتجه في الحقبة الأخيرة نحو الكتل الجماعية، والقضاء على شخصية الفرد. لأن الفنان يمثل حالة مستقلة ويسعى دائما لتأكيد ذاته عبر الأساليب الفنية، التي يجد فيها حرية أكبر وأقدر في التعبير عن أفكاره من خلالها، ويستطيع عبرها أن يخلق ويبدع. لذلك فهو يقاوم أي ضغط واستلاب لشخصيته، مدافعاً عن حريته الذهنية والعاطفية.

والفن رغم كل تأطير وكل الأغراض الدعائية له يلتزم الجانب التقدمي في التطور غالباً والفنانون بهذا القصد ديمقراطيون في فنهم أولا وأن فنهم لا يشرح أو يفسر هذا القصد بل يدعم بكل الخبرة الجمالية والمثل العليا، والأهداف العامة التي توصل اليها الفن سابقاً، والأهداف التي لم يتوصل اليها كذلك. أن الفنانين لا ينكرون ارتباطهم الفكري والأسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكالاً تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية مميزة.لأن الفنان مهما يكن أسلوبه، يسعى أولاً استلهام جو بلاده، بخصائصه الطبيعية والاجتماعية. وهو يسعى ثانياً تصوير حياة الناس في شكل جديد.

ولكن عليه أن يتذكر أنه مهما أبتكر من أشكال جديدة، فأن في عمله استمراراً للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه الحضارات. فعليه أذن أن يمد جذوره في تربته وتاريخه وتراثه. ولكن من العبث أن يدعي الفنان بأنه يستطيع في إبداعه أن ينصرف عن التطور الأسلوبي والفكري في العالم. فالرسم بالزيت وقواعده التكنيكية، ومنظوره والإضاءة والتظليل فيه، كلها ابتكارات أوربية. وأياً كانت جنسية الفنان فهو يستعمل الألوان الزيتية واللوحة القماشة واسطة للتعبير عن نفسه، ليدرك أنه لن ينجو من تأثير الفن الأوروبي في جميع مراحل تطوره واختلاف أساليبه. لكن من الضروري على الفنان، بالرغم من تأثره وتواصله مع ما يحدث فنياً في العالم، ينبغي عليه أن يحقق ويبحث ويوجد طريقة أو أسلوب يتميز به كفنان في عمله عن غيره، مبدعاً فيه أعمالاً تمتزج فيها محليته وعالميته، كمنتج أنساني شمولي يجد كل متلقي فيه جزءاً من نفسه. يقول أهرنبورغ " أن الفنان يعرض الشيء الذي يثيره ويقلقه ويثير معاصريه، وإذا كان قادراً على النظر الى أعماق القلب الإنساني وليس فقط الى غلافه الخارجي، فهو سيخلق فناً يساعد الناس في معاناتهم الدورية ويهز في المستقبل أطفالهم وأحفادهم. "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينفذ هجوما جويا -بمسيّرات انقضاضية- على شمال إسرائي


.. متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يغلقون جسرا في سان فرانسيسكو




.. الرئيس الانتقالي في تشاد محمد إدريس ديبي: -لن أتولى أكثر من


.. رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما




.. ارتفاع ضحايا السيول في سلطنة عمان إلى 18 شخصا