الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ غير المرئي للثورة المستمرة

حسان خالد شاتيلا

2011 / 12 / 5
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011


حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها، بمناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس مؤسسة "الحوار المتمدن":

قبل الإجابة على هذا السؤال بصورة مباشرة، لا بد من التنويه أن الماركسية أو الشيوعية، هي بصورة عامة، وحدها التي تجيب على أسئلة العصر، مشكلاته الاقتصادية، ونزاعاته المسلحة. الماركسية وحدها هي التي تَفهم الثورات في كل زمان ومكان، وبوجه خاص في عالم الأزمة المالية التي تسيطر على الرأسمالية اليوم، من جهة، وحيال الثورات التي تجتاح جميع القارات، وبوجه خاص ثورات تونس ومصر وسورية، وحركات المحتجين بمدريد ووال ستريت بنيويورك، من جهة ثانية. الماركسية، بهذا المعنى، أيا كانت حالة اليسار ومدى تأثيرها في ثوراتنا، تتضمن أجوبة حيال المعاصرة والحداثة، وترسم أمام الشعوب والجماهير طرقا تقود إليهما. فالماركسية أو الشيوعية أثَّرت تأثيرا مباشرا وتركت علامات قوية لدى كل حركات التحرر الوطني والمجتمعي، والتيارات الديمقراطية، الدينية منها والعلمانية، بما في ذلك الاخوان المسلمين والمقاومة بجميع أشكالها. إنها الغلاف السياسي العام لجميع هذه الحركات، حتى وإن كانت بعض الحركات تتنكر علانية للماركسية والشيوعية، إلا أن مفرداتها المعادية للقوى الدولية التي تسيطر على العالم، ودفاعها عن العدالة والمساواة، يخون مزاعمها التي تدَّعي أنها معادية للماركسيين والشيوعيين. الماركسية، شيوعيون ويساريون، شقت طريقا للسياسة في عالم من الخرافات والأساطير والميتافيزيقا والدين والوضعية المجتمعية والمنطقية، وأدَّت إلى التناحر ما بين السياسة والدين في نزاعهما للاستيلاء على الأولوية في سلم الأسباب وراء الظواهر التاريخية. أيهما يعلو على الأخر ويؤثر فيه. هل الدين يتبع السياسة أم العكس. الماركسية، والشيوعيون أيا كان حصاد أعمالهم في مجتمعاتنا، هي التي مدَّت خلال النصف القرن الماضي حركات التحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية بالسلاح النظري. إن السياسة المادية، من حيث هي الصراع الطبقي، ونمط الإنتاج، والتكوين الاقتصادي المجتمعي، والتشكيلة السياسية، والهيمنة الإيديولوجية، شقَّت طريقها إلى مجتمعاتنا، وإن لم تُحرز على صعيد التنظيم السياسي ما قُدِّر لها من نجاح على صعيد الثقافة السياسية.
الماركسية من هذه الجهة أيضا أزاحت الوضعية المجتمعية جانبا، ما دام الدين انتصر على الوضعية ونجح في مقاومتها، إلا أنه لم ينتصر على السياسة المادية. فكانت الماركسية وما تزال في عالمنا اليوم المرجع الوحيد لتفسير ونقد السياسة من وجهة نظر واقعية ومادية. إن الماركسية هي الممارسة المعرفية السياسية في عالمنا، و"إن كل معادٍ للشيوعية – على حد قول جان بول سارتر- كلب". فلننظر إلى كافة أحزابنا الشعبية الأكثر منها تمثيلا لعامة الناس، إن ما يظهر للعيان، بالرغم من أن الشرائح الثرية من الطبقة الوسطى هي التي تقودها، أن "أفكار التقدم والتحرر والانتاج الاقتصادي" قد تسرَّبت إليها دون دراية منها. بل، وإن الليبرالية، وإن كانت تشق في الوقت الراهن طريقها بيسر في بلداننا، فإنها تدخلها من باب البرلمانات والحريات، لكنها تعجز حتى هذه الساعة عن مزاحمة الخطاب اليساري المجتمعي الذي يدافع عن الأحوال المعيشية والحياتية لعامة الناس، أي أصحاب الدخل المحدود وحلفاءَهم من فلاحين فقراء وعمال وجنود وصغار الباعة، والانتصار عليه.
الماركسية بهذا المعنى هي المفتاح لفهم العصر. من ثورة 23 يونيو بمصر، إلى ثورة الخامس عشر من آذار في سورية، مرورا بالحركات الدينية المناهضة لإسرائيل الصهيونية وحلفائها والمعادية للاستبداد السياسي، تأثَّرت كلها، إلى هذا الحد أو ذاك، بالماركسية. من مصطفى السباعي إلى حامد أبو زيد وطارق رمضان. حتى الليبراليين المُحْدَثين، وفي سورية بوجه خاص، ممن يؤكِّدون اليوم في أدبيات أحزابهم ومنظماتهم، أن سورية مقبلة على مرحلة الديمقراطية الليبرالية، فإنهم لا يتوانون عن التذكير بأن موضوعات الصراع الطبقي ونمط الإنتاج الرأسمالي ومناهضة الإمبريالية، مؤجَّلة إلى ما بعد انتصار ثورة الخامس عشر من آذار !!
لكن الصراع الطبقي لا يَعرف التأجيل، طالما يتجدد في كل معركة سياسية. إنما الليبراليون المُحْدَثون هم المتأخرون وراء.. وراء المعاصرة والحداثة التاريخية. إن ثورتي تونس ومصر تفنِّدان، من الآن وبقوة، مزاعم الليبراليين المحدثين، والسوريين منهم بوجه خاص، طالما ينفتح التاريخ أمامنا في هذين البلدين عن ثورة مستمرة. إنها مستمرة طالما تُدرٍك اليوم القوى الشعبية التي ثارت وقادت هاتين الثورتين، أن الدولة ليست ملكا للطبقات المسيطرة يسيرونها وفق مصالحهم الطبقية والاقتصادية، وأن النظام السابق لم يسقط، وأن الدولة الطارئة لن تستجيب إلى مطالبهم المعيشية والحياتية، وأن الثورة مستمرة. هاتان الثورتان تعلنان اليوم بصريح العبارة وبصوت عالٍ أن الليبراليين المُحدَثين في سورية سيخسرون رهانهم على الدولة الديمقراطية الليبرالية، ويخونون الصراع الطبقي وأصحاب الأجر المحدود في وقت واحد.
في ضوء ما تقدَّم، وللإجابة على السؤال المحوري ل"الحوار المتمدن" بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيسها، فإن التنظيمات اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية، وإن كانت النقابات العمالية في تونس ومصر احتلت مواقع على جبهة القتال ضد السلطة السابقة واللاحقة، فإنها، وإن لم تمارس دورا قياديا في توجيه الثورات، وكانت في الوقت نفسه تفتقد للاستراتيجية الثورية عهدها عهد ستالين، إلا أن الثورة العفوية استفادت من الثقافة اليسارية ذات الجذور الماركسية، والتي تنتشر في أجواء المجتمعات الثائرة، ما فتح حيزا من المكان أمام أحزاب اليسار لتشارك، إلى هذا الحد أو ذاك، في حركة الثورة وأسقاط بن علي ومبارك وعدداُ من الموالين لهما.
وللإجابة أيضا على هذا السؤال، فلنلاحظ أن الدول الرأسمالية التي تجتاز أزمة مالية خانقة، لا تعدم من الناحيتين المجتمعية والسياسية، وبصورة ضمنية، من حالات ثورية اشتراكية. إلا أن الثورات إذا ما ظهرت في وقت قريب، هنا وهناك، فإنها ستكون أشبه بميدانية القاهرة والثورة البوعزيزية اليسارية في تونس، منها إلى ثورة أكتوبر البلشفية، أو الثورة الألمانية بقيادة روزا لوكسمبورغ. إن أية ثورة يسارية تظهر اليوم في باريس، او مدريد، لن تختلف كثير الاختلاف عن الثورة في درعا ودير الزور، ما دامت أحوال اليسار الاشتراكي الثوري في البلدان الرأسمالية ليست أفضل من الناحية التنظيمية، ومن حيث الممارسة المعرفية، مما هي عليه في القاهرة وتونس ودمشق.
يعود السبب الأساس وراء ظاهرة الثورات بلا أحزاب ونقابات أو منظمات اشتراكية ثورية، في بلداننا كما في بلدان الدول الرأسمالية، إلى أن اليسار الماركسي، ومنه الشيوعي بمختلف تياراته، لم يتخلّص من الستالينية والتيارات الشيوعية المناهضة للستالينية، إلا ما بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، طالما استمرت الستالينية، ومن مكوِّناتها الأقل تعقيدا وخطرا تبعية الأحزاب الشيوعية في العالم للحزب الشيوعي السوفييتي، إلى ما بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، ما دامت الدولة في موسكو حافظت على فلسفة الدولة الستالينية، أي الماركسية-اللينينية، ولم تقوض من الستالينية مع ظهور خروتشيف إلا ما هو شكلي، فيما استمرت الدولة والحزب في أدائهما السياسي والنظري على حاله في عهد ستالين، وحتى غاية سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي.
ما بعد سقوط دولة الاشتراكية الواقعية بدأت الأحزاب الشيوعية في الدول الرأسمالية تتخلص من الستالينية، كل منها على حدا وبصورة غير منظَّمة، إلا أنها لم تعثر على الخصوصية الثورية لماديتها التاريخية, بل، وخيل إليها أنها عثرت على طريقها عبر "الشيوعية الأوروبية" التي لم تلبث أحزابها أن تخلت عنها خلال سنوات قليلة، أو في حركات التجديد التي اجتازت كل الأحزاب الشيوعية، ومنها ،على سبيل المثال، الحزب الشيوعي الإيطالي. ما أدى إلى تمزقها، وتشتتها، وانقسامها إلى أحزاب. لكن الأسوأ من ذلك كله، أنها لم تخرج من الستالينية إلا لتقع بمعظمها أسيرة للإيديولوجية الدستورية للدول البورجوازية، فتحولت إلى أجهزة من أجهزة النظام أو الدولة، أداة من أدوات الإيديولوجية البورجوازية. وما زاد من تدهور أحوال الشيوعيين في أوروبا أن الاشتراكيين الديمقراطيين، الخونة التاريخيين للطبقة العاملة، منذ عهد الأممية الثانية، أزاحوا الأحزاب الشيوعية جانبا بعدما كانت تحظى بأكثرية ملموسة في البرلمانات، واحتلوا مكانها. ناهيكم، وها هنا تكمن المصيبة العظمي، أن الأحزاب الشيوعية تخلصت ابتداءً من التسعينات من القرن الماضي من الستالينية، إلا أنها لم ترسم حتى مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، أية استراتيجية ثورية في أي بلد من بلدان الرأسمالية الغربية، كما في البلدان الواقعة اقتصاديا أسيرة في محيطها . إنها ما تزال تأخذ في بلدان الرأسمالية بالطريق الديمقراطي إلى الاشتراكية العلمية، في ما سَكَنت أحزاب اليسار، ومنها الشيوعية، في البلدان الواقعة في مدار الرأسمالية العالمية، إلى الإصلاحية التدريجية. إن الديمقراطية البورجوازية في المركز الرأسمالي ومحيطه، والإصلاحية التدريجية في البلدان المدارية، هي الملجأ الذي يختبئ فيه الشيوعيون عندما يفتقدون إلى الاستراتيجية الثورية. الأمر الذي يوضِّح الظروف التي تحيط بغياب الثورة الاشتراكية في بلدان المركز الرأسمالي العالمي وفي البلدان المدارية، على حدِ سواء.
النتيجة، أن الأحزاب الشيوعية أو أحزاب الاشتراكية الثورية، والنقابات والمنظمات الجماهيرية اتباعية لأحزابها، ليست من حيث تاريخها والتاريخ السياسي للعالم، موضعا للتأنيب أو الجلد بدعوى أنها "متَّهَمة" بالتقصير في ما يتعلق بالاستراتيجية الثورية، وإنما هي في أغلبيتها تائهة عن طريقها الثوري بمعارك السياسة اليومية، وليست، بالتالي، مستعدة لقيادة الثورة العفوية. إنها ما تزال، من جهة، تعيش تحت تأثير الماركسية الأكاديمية والجامعية، ولم تَسْتعَد المادية التاريخية في واقعيتها الخصوصية، بحيث تَنجَح في رسم استراتيجية ثورية قوامها خصوصية الحالات الوطنية والعالمية للصراع الطبقي، ونمط الانتاج الاقتصادي، والتكوين الاقتصادي المجتمعي، والتشكيلة السياسية، وهيمنة الإيديولوجية السائدة. إن أحزابنا كأحزابهم في الغرب الرأسمالي تعتقد، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، أن إنجاز الثورة وقف عليها وحدها لا غير، وأن الثورة ليست مدرجة في البرنامج السياسي للحزب ما لم تجتمع أدواتها وعتادها ومؤونتها. إلا أن الواقع يدلِّل كل يوم أن الثورة عفوية من حيث بدايتها، وتتخطى شرارتها الأولى، خلال المرحلة الأولى من تاريخها، الحزب الشيوعي أو أي حزب ثوري. بيد أن نجاح الثورة أو فشلها لا يقاس بمدى استعداد الحزب الشيوعي أو الجبهة الثورية على إشعالها وقيادتها. بل يقاس بمقياس استمرار الثورة، وتطورها، وتجاوزها للمصاعب، وتخطي تناقضاتها الذاتية بين قواها. فضلا عن ذلك، فإن نجاح الثورة لا يقاس بمقدرة الحزب أو الجبهة على قيادتها من البدء وحتى غاية النهاية، وإنما يقاس نجاحها بما تحمله من ابتكار وتجديد في الممارسة المعرفية، ومدى قابلية الحزب الشيوعي أو الجبهة الثورية على الاستجابة إلى تغييرات نوعية وجذرية عبر الصراع الداخلي في المنظمة الحزبية كما في المجتمع الثائر.
أمام الحزب الثوري أو الجبهة اليسارية مهام استراتيجية، وهي أن ينتظر الحزب الثوري اندلاع العفوية الثورية للجماهير، وأن يهيء لها ما أمكنه ذلك من عتاد، وأن يكون مستعدا لمواكبتها كي تنتقل من العفوية الثورية إلى الممارسة المعرفية المادية، بما يضمن لها الاستمرار حتى غاية الانتصار على أعداء الثورة، والدخول في المرحلة الانتقالية التي تفرض على الحزب إعداد القوى الثورية لاستلام السلطة. بتعبير آخر، فإن مهمة الحزب الثوري، من حيث هو قائد للثورة، ليست بناء الثورة من الألف إلى الياء، وتقديمها إلى الجماهير الثورية من حيث هي خارطة طريق مأمون لا يعتريه خطر أو تغيير، وإنما هي توفير الظروف التنظيمية والإيديولوجية للانتقال بالثورة، عبر حالات كثرٍ من الصراع، من العفوية إلى الممارسة المعرفية المادية. إن الثورة الجماهيرية، بهذا المعنى، هي، حتى في حالتها العفوية، حاملة الاستراتيجية الثورية التي تصدر عنها، وإن كانت لا تنتقل من العفوية إلى الممارسة المعرفية مالم تترجمها القيادة الثورية إلى برنامج سياسي قابل للتعديل والتغيير، واستراتيجية ثورية متطورة ترافق ما يلحق بالثورة من متغيرات. وقد تكون القيادة الثورية حزبا أو جبهة. الأمر سيان، طالما أن مفهوم القيادة الثورية تغيَّر من حيث الشكل وإن كان الجوهر بقي ثابتا. فالقيادة الثورية ما فتئت ضرورية لضمان البقاء للثورة، إلا أن أداتها لم تعد وقفا على الحزب الثوري وحده، وإنما اتسعت وتعمَّقت لتشمل الجماهير الثورية، وما تحمله معها الثورة، سواء في حالتها العفوية أم في حالتها المتقدمة عندما تبلغ إلى الممارسة المعرفية المادية، من أشكال قيادية جديدة، وكانت مجهولة ما قبل الثورة. أين ميدانية القاهرة، والتنسيقيات في سورية، في يومنا هذا، من الدور القيادي للحزب الثوري الذي يملك وحده الحقيقة. ما استجد على هذا الصعيد أن الحقيقة لا يملكها الحزب ويحتكرها لنفسه، طالما لا يملكها بصورة مطلقة ومسبقة على الواقع والزمان، وإنما تأتيه من الثورة وما تحمله معها من متغيرات على صعيد الممارسة المعرفية أو التنظيم.
إن مستقبل الثورة في بلداننا، كما في بلدان الدول الرأسمالية الكبرى، يتوقف في عصرنا على ولادة يسار ثوري من رحم الثورة، لأن الثورة هي التي تمد الحزب أو الجبهة بأسباب القيادة، ليس لأن الأحزاب الشيوعية واليسارية خسرت كل معاركها الطبقية والوطنية، ولم تجدِّد ممارساتها المعرفية، وإنما لأن الثورة هي التي تُنتِج الحزب الثوري الذي يقودها على مسار من الثورة المستمرة، وهي التي تقضي على الحزب الثوري أو تطوره وتغنيه بما يحمله التاريخ في تطوره من متغيرات كانت ما قبل الثورة مجهولة، ثم أصبحت ما بعد الثورة ممارسة معرفية متطورة ومؤهلة لخوض كل المعارك على طريق الثورة المستمرة. أي أن الثورة هي مصدر للحزب الثوري أو الجبهة الثورية. بيد أن استمرارها وديمومتها وقف على ما تفرزه من قيادات مؤهلة لاستشفاف التكوين الاقتصادي المجتمعي للثورة في مجتمع بعينه. قيادات خاضعة للثورة وإن كانت ترسم أمام القوى الشعبية الطريق نحو الاستمرار بالثورة. الأمر الذي يتوقف بدوره على شرط رئيس، وهو أن يكون الحزب الثوري ثوريا، أي أن يتقبَّل ما تأتي به الثورة من تغيير في الممارسة المعرفية المادية للحزب. متغيرات متطورة على الدوام طالما بقي الصراع الطبقي هو المحرِّك الرئيس وراء كل سياسة.
لقد انتهى العهد الذي كان يُعْتَبَر فيه الحزب الاشتراكي الثوري قائدا للثورة من ألفها إلى يائها، بعدما دلَّلت الثورات أنها هي التي تأتي بكل ما هو جديد من أجل تغيير العالم، وأن الثورة هي التي تحمل التغيير إلى الحزب الذي يترجم عفوية الثورة الجماهيرية، عندما ينتقل بها بصورة ثورية مستديمة من ممارسة معرفية عفوية إلى ممارسة معرفية ثورية، بقدر ما هي متجدِّدة، بقدر ما تكون مواكبة لما تأتي به الثورات من متغيِّرات كانت مجهولة ما قبل أن تكشف عنها الثورة. إن الممارسة المعرفية للحزب الثوري، برنامجه السياسي واستراتيجيته الثورية، تُغيِّر العالم، إلا أنها تتغيَّر أيضا في ما هي تغيِّر العالم. شأنها في ذلك شأن المادية التاريخية من حيث هي نظرية تغتني ممارستها المعرفية وتتغير في ما هي تمارس الثورة الطبقية.
ميدانية القاهرة وبوعزيزية تونس والتنسيقيات الثورية تكتشف يوما بعد يوم أن الثورة لم تنته، مادام الطاغية سقط ، في ما بقي نظام الاستغلال والقهر والسيطرة والهيمنة على كل ما يُنتجه المجتمع، بأيدي الطبقة الحاكمة المتربعة على رأس السلطة. واستمرار الميدانية وغيرها كفيل بتغيير الممارسة المعرفية والقيادات الثورية، لاسيما وأن الطبقة العاملة وأصحاب الدخل المحدود في البلدان الرأسمالية دخلوا بدورهم إلى حيِّز الثورة الجماهيرية العفوية. ما يُرغم كل الثوار الأحرار في العالم في عهد الأممية الجديدة على تغيير العالم والتغيُر في الوقت نفسه في ما هم يثورون من أجل كسر نمط الانتاج الرأسمالي والانتقال إلى نمط الانتاج الاشتراكي.
إن الذكرى العاشرة لتأسيس مؤسسة "الحوار المتمدن"، والتي نحتفل بها اليوم، تحظى بأهمية متميزة، ما دامت نشرتها اليومية واكبت طوال السنوات الماضية ما كان يتأهب، بصورة غير مرئية، في الأنفاق الجوفية لمجتمعاتنا ، للظهور على الملأ بصورة مفاجئة ومتتابعة بهيئة ثورات طويلة الأمد، ومؤهلة عبر ديمومتها لتجديد الممارسات المعرفية الثورية والمادية. وكما احتضنت "الحوار المتمدن" هذه الثورات المخفية، وفتحت أمامها حيزا للممارسة والمعرفة الثوريتين، فإنها تواكب اليوم وغدا هذه الثورات لتنقل إلى الثوار الأحرار ما تأتي به ثوراتهم من ابتكار وتجديد للنظرية والممارسة. إن "الحوار المتمدن" فضاء يتسع لكل ما هو ثوري في السياسة والثقافة السياسية. لقد كان تأسيسها ما قبل عشر سنوات ضرورة ملحة للثوريين، وإن استمرارها وازدهارها اليوم وغدا ضرورة ذات أهمية قصوى لتوفير الظروف المؤاتية أمام انتشار السياسة الثورية والفكر المادي. إنها بإيجاز شديد حارسة الماركسية وحامية الشيوعية لكل الناطقين بالعربية والكردية والأمازيغية. عساها تتطور وتتسع، بحيث تصبح مركزا مشعا للثورة عبر محطة إذاعية ودار للنشر تحمل اسم "الحوار المتمدن"، بما يساعدها على نشر الفكر المادي، العلماني والديمقراطي، بصورة أوسع وأقوى.

حسان خالد شاتيلا
الأحد 4 كانون الأول/ ديسمبر 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء