الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليهود الحريديم

جعفر هادي حسن

2012 / 1 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



كان اليهود في أوربا قبل عصر النهضة ، وقبل صدور مايسمى بقوانين تحرير اليهود يعيشون في "غيتوات" (مفردها غيتو)، وهي أماكن معزولة عن الشعوب التي يعيشون بينها. ولكن بعد صدور القوانين التي حررتهم من القيود التي كانت مفروضة عليهم من الدول الأوربية ، خرج الكثير منهم من هذه "الغيتوات" وانفتحوا على عالم جديد لم يعهدوه ولم يعرفوه ، وكانت ردود فعلهم مختلفة. فبعضهم أخذ يدعو أبناء جلدته إلى الإستفادة من القوانين الجديدة ، ومن ثقافة البلد دون الإندماج فيه ، وسميت هذه الحركة الهسكلاه(حركة التنوير). ودعا البعض الآخر منهم ليس فقط إلى الإنفتاح على المجتمع ، بل وإلى الإندماج فيه ، وكان بعض الداعين إلى ذلك قد تحولوا إلى المسيحية.
ورأى البعض الآخر من اليهود أن تجرى إصلاحات على الديانة اليهودية حتى تكون ممارستها سهلة على اليهودي ، الذي دخل مجتمعا حديثا، حيث يصعب فيه عليه تطبيق اليهودية بحذافيرها ودون إصلاح ، وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت الفرقة الإصلاحية وما تلاها . ولكن أخرين من اليهود أصروا على الإلتزام بالطريقة القديمة ، وعدم تغييرها واطلق على هؤلاء اسم " الأرثودكس" (وتعني أصلا الطريق الصحيح) تميزا لهم عن غيرهم.
وبمرور الزمن أصبح اليهود الأرثودكس مجموعتين رئيستين ، أطلق على إحداها اسم "الأرثودكس المحدثون" ، وكان مؤسسها الحاخام الألماني سمسون رفائيل هرش(ت1888م) ، الذي دعا إلى قبول الجديد ، شرط أن لايتدخل في الدين ولايؤثر عليه.(1)
وأصبح هؤلاء مذهباً متميزاً قائماً بنفسه في الوقت الحاضر ، وهم اليوم يأخذون بالكثير مما أنتجته الحداثة. ويطلق على المجموعة الأخرى اليوم صفة "الحريديم" بعد أن ظل اسم الأرثودكس يطلق عليهم لفترة طويلة . واصبحت هذه الصفة اليوم مستعملة في كثير من لغات العالم ومنها العربية. ويعيش اليهود الحريديم في أماكن كثيرة من العالم ، وكثير منهم يعيشون في إسرائيل ، ووجودهم لايقتصر على فئة أثنية واحدة ، بل منهم غربيون ومنهم شرقيون.
وكلمة "حريديم" التي هي جمع للكلمة العبرية "حريد" مأخوذة من الجذر "حرد" الذي يعني "أشتد خوفه، وارتعب"(من الله) ، وقد استعيرت كلمة "حريديم" من كلمة وردت في التوراة في سفر أشعيا 66/5 " اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون (هاحريديم) من كلمته ". ويبدو لي أن اليهود الحريديم ، هم الذين أطلقوا هذا على أنفسهم ، بعد أن كان يطلق عليهم أرثودكس إيحاءا بتشددهم ، وتمييزا لأنفسهم عن "الأرثودكس المحدثون". وتطلق صفة "الحريديم" اليوم على مجموعة اليهود الذين هم متدينون متشددون جداً في تدينهم ، أكثر من الأرثودكس الآخرين ويتميزون عن غيرهم من اليهود بخصائص اختصوا بها ، كما سنذكر ذلك. وسنستعمل كلمة أرثودكس في هذا الكتاب للمتدينين عامة ، وسنخصص عندما يكون هناك ضرورة للتخصيص.
ومنذ بداية ظهورهم رفض الحريديم الإنفتاح على الحياة الحديثة ، إذ يعتبرون الانفتاح مخالفا للتوراة ، وأنه يعني تخلي اليهودي عن دينه ويهوديته. وهم يستشهدون على مايقولون بما ورد في سفر الأحبار 26/37-38 " ويعثر الرجل بأخيه كمَن يهرب من أمام السيف وليس له مطارد ، ولا تكون لكم مقاومة في وجوه أعدائكم ، وتهلكوا بين الأمم وتأكلكم أرض أعدائكم" .
وهم يعتبرون احتفاظهم بخصوصيتهم وتميزهم عن الآخرين، من الواجبات التي فرضها عليهم الرب ، وهم يستدلون على ذلك أيضاً بما ورد في سفر الأحبار 20/26 "...وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي ". ويرون أن الخطوة الأولى في التغيير لابد أن تتبعها خطوات أخرى ، وهذا سيؤدي إلى تدمير الحياة اليهودية التقليدية ، ولذلك فإنهم يسكنون في أماكن خاصة بهم معزولة عن غيرهم ومقتصرة عليهم.
وأخذ هؤلاء يتهمون اليهود من دعاة الانفتاح على الشعوب ، والاندماج فيها بالتخلي عن دينهم ومعتقداتهم ، فحرم الحاخامون التعامل معهم ، والاجتماع بهم كما شدّدوا على الالتزام بالمسائل الدينية بتفاصيلها الدقيقة ، وكذلك بالعادات والتقاليد واعتبروا أغلب مايمت إلى الحداثة بدعة. ومن أقوالهم في هذا الخصوص ما قاله الحاخام الشهير موسى سوفر (ت 1839م) " إن الجديد محرم بنص التوراة " ، كما يستشهدون بعبارة وردت في التلمود تقول "إذا أصبح سلوك اليهودي هدفاً للهجوم ، فإنه يحرم عليه أن يغير حتى لون الخيط الذي يشدّ به حذاءه ". (2)
وقد اتبع الحريديم في أوربا عدة طرق للإبقاء على معتقدهم ، والحفاظ على نمط حياتهم وتقاليدهم وطريقة سلوكهم. فهم في الشتات منعوا ابناءهم من تعلم لغة البلد الذي يعيشون فيه ، او لبس اللباس الحديث أو الدخول إلى الجامعات ، وظلت اللغة التي يستعملونها هي "اليدش"(خليط من العبرية والألمانية القديمة وبعض السلافية).
وكان من هذه الطرق التركيز على مناهج تربوية تضم فقط تدريس الكتب الدينية ، إلا ما كان ضرورياً للحياة مثل معرفة مبادئ الحساب، وهم يعتبرون المواد غير الدينية لا قيمة لها ، بل منعوا تدريسها. وكان الحاخام نفتالي زفي يهودا برلين (ت 1893م) قد قال " إنه من الضروري الفصل بين الدين والدنيوي ، إذ ليس فقط أن القضايا الدنيوية ، التي تدخل في الدينية تجعلها غير مقدسة ، بل إنها تحول الديني إلى غير ديني وتفسده.(3) " ويعتبر الحريديم التوراة الحالية توراة موحى بها ومعصومة عن الخطأ ، ولذلك فإنهم يؤمنون بكل ماورد فيها، كما أن للتلمود أيضا قدسية رفيعة عندهم ، وهم يطبقون واجبات وممنوعات ، هي اليوم عندهم ستمائة وثلاثة عشر.
ومن التقاليد التي التزم بها الحريديم وميزتهم عن غيرهم ، هو اللباس الخاص بهم فالرجال عادة يلبسون بدلة سوداء من قفطان أسود طويل سميك في كثير من الأحيان ، ويضعون على رؤوسهم قبعة سوداء عريضة وتحتها قلنسوة – سوداء عادة ( تسمى كباه) ويلتزم الحريديم بلبس هذا اللباس على الرغم من قدمه. وهم كانوا قد تبنوه من أوروبا الشرقية ، حبث حثهم حاخاموهم على الالتزام به . ومن أقوالهم " إن على اليهودي أن يكون حذراً جداً ، حتى لا يسلك سلوك غير اليهود ، ويجب عليه أن ينفصل عنهم في ملابسه وعاداته الأخرى ".(4).
وكانت الحكومات الأوروبية في السابق تطلب منهم تغيير لباسهم هذا ، إلا أنهم كانوا يرفضون ذلك ، حتى أن أحد حاخاميهم اسحق مئيرالتر (ت 1816م) سجن في بولندا لعدم إلتزامه بقرار الحكومة البولندية بتغيير لباسه.(5) ويستعمل اليهود الحريديم للباسهم الحرير الخالص ، أو الكتان الخالص أو القطن، ولم يكونوا يلبسون الصوف خوفاً من اختلاطه بالكتان ، والخلط بين هذين ــ الذي يسمى بالعبرية شعطنز ــ ممنوع بنص التوراة .(6) وقد ورد النهي عن لبس هذا الخليط في سفر الثنية 22/11 بالنص التالي: " لا تلبس ثوباً خليطاً (شعطنز) من صوف وكتان معاً ". وهذا النهي هو نهي عام في اليهودية ، يشمل الرجال والنساء.
ولأن التحريم جاء في نص التوراة ، فهم يلتزمون به التزاماً دقيقاً ، ومن أجل التأكد أن اللباس لا يحوي هذا الخليط ، أنشأوا بعض المختبرات لفحص الملابس . وفي المختبر يفتح الرداء بحذر واعتناء من الأطراف المخيطة ، وبعد التأكد من أن اللباس خال من مادة خليطة ، توضع عليه علامة تدل على فحصه من قبل المختبر وصلاحيته للبس، وهم يعلنون عن وجود هذه المختبرات لأتباعهم ، كما يوجد حاخام مؤهل يشرف على هذا المختبر.(7)(وبعض الحريديم في إسرائيل اليوم لايلتزمون باللباس القديم).
ويضع الحريدي على جسمه أثناء الصلاة (صلاة الصبح) قطعة قماش "شال" تسمى " طاليت" ، مسدولة على الجسم من الرأس او من الكتفين ، وهي عادة ما تكون مصنوعة من صوف أو حرير، ويكون لونها أبيض وفي حواشيها لون أزرق (ولونا العلم الإسرائيلي مأخوذان منها). ويضع الحريدي على جسمه ملبوسا من قماش في حواشيه أهداب تسمى "صيصت" ويطلق اليهود على الملبوس نفسه "طاليت قطن" (الطاليت الصغير)، وقد نصت التوراة على وجوب لبسه في سفر العدد 15/37-39 حيث جاء فيه " وخاطب الرب موسى قائلاً كلّم بني إسرائيل ، ومرهم أن يضعوا لهم أهداباً على أذيال ثيابهم مدى أجيالهم ويجعلوا على أهداب الذيل خيطاً أزرق ، فيكون لهم هدباً ترونه ، وتذكرون جميع وصايا الرب وتعملون بها ".
ولابد أن يكون لهذا الملبوس زوايا أربع ، وهم يجعلونه على شكل مستطيل تكون في وسطه فتحة يدخل الرأس منها ، ويكون جانباه القصيران على الكتفين. ويطلق عليه أيضاً اسم " أربع كنفوت " (أربع زوايا). والحريدي يضع هذا الملبوس في النهار وليس في الليل-لأن التوراة قالت ترونه- .
والصيصيت لا تضعه النساء بل هو محرم عليهنّ ، وقد نُص على ذلك في كتاب شلحان عاروخ ( وهو كتاب في الفقه اليهودي يعتمد عليه الحريديم كثيرا) " لا يجوز للمرأة أن تضع صيصيت ، لأنه لا يجوز لها أن تنافس زوجها.(8) وهو عادة ما يوضع تحت القميص ، وقلة منهم يضعه فوقه ،وهم يخرجون الخيوط (الأهداب) عندما يلبسونه من تحت ملابسهم ، فتكون مدلاة مرئية للناس ، وهو أيضا التزام بما نصت عليه التوراة بوجوب رؤيته. وتكون مادة الصيصيت في الغالب من القطن أو "البولستر".
ويضع الحريدي من عمر الثالثة عشرة في صلاته ( صلاة الصبح) "تفلين" على جبهته ، (وهي نصوص من التوراة موضوعة في صندوق أسود من الجلد عادة، يحتوي على عبارات من التوراة ، ويتصل الصندوق بسيور الى اليد اليسرى).وهذا العمل هو التزام بما ورد في التوراة في سفر التثنية6/6-9 "ولتكن الكلمات التي أن آمرك بها اليوم في قلبك.......واعقدها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك.."
واليهود الحريديم لا يحلقون لحاهم ، وهم يطيلون جانبي شعر رؤوسهم ويجعلونه مثل الضفائر ، وتسمى هذه بالعبرية " فئوت " مفردها "فئه". وهم يلتزمون بذلك طبقاً لما ورد في نص التوراة في سفر الأحبار(اللاويين) 19/27 "ولا تحلقوا رؤوسكم حلقا مستديرا، ولا تقصوا عارضي لحاكم ، وخدشاً من أجل ميت لا تضعوا في أبدانكم، وكتابة وشم لا تضعوا عليها، أنا الرب. " وقد أكدت كتب فقهم على أن هذه الضفائر يجب أن تبلغ شحمة الأذن على الأقل، وأحياناً يطيلونها ، فتصل إلى خصر الإنسان. وعندما كانت الحكومات في بعض الدول الأوروبية ، مثل روسيا وهنغاريا ، تطلب منهم قصها لم يكونو يقصونها ، وفضلوا دفع الغرامة على قصها.(9) وهم في الغالب يحلقون شعر الأطفال كاملاً ، عدا الضفائر كل سنة من سن الثالثة من العمر، وأحيانا يكون هذا عند أحد المراقد الدينية،مثل مرقد الحاخام شمعون بار يوحاي .
ومن الأمور المهمة عندهم والتي يتميزون بها عن بقية اليهود ، هو الفصل الكامل بين الذكور والإناث منذ الصغر، فالأطفال ينفصلون من مرحلة رياض الأطفال كما أن الأطفال الذكور يضعون الكباه من هذه المرحلة ، كذلك لا يختلط الرجال بالنساء في الأماكن العامة ، أو في الكنيس أو في الأعراس أوغيرها. وهم يجلسون في هذه كل عل انفراد حتى في وسائل النقل تجلس النساء منفصلات عن الرجال وأحيانا يفصل بستارة بين الجنسين ، بل هناك حافلات خاصة أحيانا بكل جنس منهم . ولاتعطى المرأة عادة مسؤولية في الحياة العامة ولا في الكنيس ( وقد بدأت بوادر بطيئة لتحسين حال النساء ، وقد تحدثنا عن هذا وعن نظرة الحاخامين إلى المرأة في دراسة عن الحركة النسوية اليهودية في كتابنا قضايا وشخصيات يهودية) . والزواج لايمهد له بتعارف الخطيبين بل يكون عادة بواسطة رجل يمتهن التوسط بين أهل العروسين ويسمى بالعبرية "شدخان"(وتعني الشخص الذي يتوسط) وهي عادة قديمة عند اليهود ، ويأخذ الشدخان أجورا على عمله ، وأحيانا تزداد الأجور بطول مسافة الطريق بين العائلتين.
وقد أكد حاخاموهم على أهمية الزواج ووجوبه، ومما قالوه في ذلك " إن اليهودي الذي ليس له زوجة ليس برجل، و لا يجوز للرجل أن يعيش دون زوجة ولا للمرأة أن تعيش دون زوج ".(10) .ويكون الزواج عادة في مقتبل العمر ، فالشاب يتزوج في كثير من الأحيان في حدود العشرين سنة من عمره بل أقل من ذلك. ويؤكد بعض حاخاميهم على أن يكون سن الزواج أقل من عشرين سنة حيث ورد عن أحدهم: " إن مَن يبلغ العشرين ولم يتزوج فإنه يقضي حياته في ذنوب ". والبنت تتزوج عادة قبل أن تبلغ العشرين ، وأصبح هذا ثقافة وتقليداً يلتزمون به، ومن النادر أن يكون بينهم رجل غير متزوج أو امرأة غير متزوجة ، بل أصبحت النظرة إلى مَن يكون / تكون كذلك نظرة دونية. وغالبا ما يكون للعائلة أولاد كثيرون ، وليس من النادر أن يكون للشخص ثلاثة عشر أو أربعة عشر طفلا، وهم يعتبرون هذا الإكثار واجباً مقدساً التزاماً بما ورد في التوراة في سفر التكوين 9/1 " انموا وأكثروا واملأوا الأرض "، وكان الحاخامون قد حثوا على ذلك وشجعوا عليه. ومن ذلك قول الحاخام والفيلسوف المعروف موسى بن ميمون (ت 1204م) " إن أحبارنا قد أوجبوا علينا أن لا نتوقف عن إنجاب الأولاد ما دمنا قادرين على ذلك ، وإن من أضاف حتى ولو مولودا واحدا إلى بني إسرائيل فكأنما بنى الدنيا كلها."(11) ، بل إنهم منعوا الشخص من أن يتزوج امرأة يعلم أنها عاقر.(12) وتثير كثرة الإنجاب عند هؤلاء حفيظة العلمانيين في إسرائيل وسخطهم ، لأن ذلك في رأيهم سيزيد من عدد أعضاء أحزابهم السياسية ، ويؤدي هذا في النهاية إلى منافسة الأحزاب العلمانية والتأثير على الحياة العامة ، والحصول على أموال أكثر لمؤسساتهم من الدولة ، إلى غير ذلك. واطفال الحريديم عادة لايشاهدون التلفزيون ولايستعملون لُعب الكومبيتر ، بل إن الحريديم ابتدعوا لعبا خاصة بالاطفال ، تتعلق بتقاليدهم واحكام الدين وبزعمائهم ، والفائز لايحصل على نقود وانما تجتمع له حسنات عندما يفوز كما يعتقدون.
وغالباً ما تحلق المرأة شعرها عندما تتزوج ، وبعضهن يقصِرنه بعد ذلك وبعضهن يحتفظن بالضفائر بعد قصهن للذكرى. والحريديم يشددون على تحريم رؤيته ، فكشف المرأة لشعرها يشبه تعريها من ملابسها كما يقولون ، ولذلك تضع على رأسها غطاء رأس. وغطاء الرأس هذا يختلف من مجموعة إلى أخرى ،فبعضهن يستعملن غطاء للرأس أسود دون غيره ، وبعضهن يستعملن غطاء ملونا
وبعضهن يضعن قبعة ، أو شعراً اصطناعياً ، وهو خاص بالمتزوجات، وبعضهن يلبسن قبعة فوق الشعر الإصطناعي ، وأحيانا يكون هذا الشعر مأخوذا من شعر طبيعي. ولكن بعض حاخاميهم يحذرون من ذلك بل ويمنعونه.( (13(لأنه يشبه الشعر الطبيعي). وتتميز المرأة الحريدية بلباسها المحتشم ، عندما تكون خارج البيت ، وبين فترة وأخرى يصدر حاخاموهم بيانات يؤكدون فيها على ضرورة الإحتشام في اللبس ، وعدم التهاون به. وحاخامو الحريديم لايحرمون على النساء لبس الزينة كالمجوهرات وغيرها.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن بعض نساء الحريديم اليوم في إسرائيل، أخذن يتجهن إلى وضع براقع على وجوههن ، ويقلن إن ذلك واجب في الشريعة اليهودية إذ لايجوز للرجل أن يرى وجه المرأة الأجنبية. وبعض هؤلاء النساء يلبسن أكثر من ثوب (ثلاثة أو أربعة أو أكثر) كي لاترى هيأة أجسامهن . وقد بدأ هذا الإتجاه بامرأة حريدية واحدة، ثم تاثرت بعض النساء بها حيث ازداد عددهن(وربما يصل عددهن إلى بضع مئات) وأخذ ذلك يثير كثيرا من التساؤل والنقد خاصة عند العلمانيين.
والكثير من نساء الحريديم يعملن ، خاصة في مجال التعليم ، ولكن في الفترة الأخيرة اصبحت المنافسة في هذه المهنة شديدة ، ولذلك بدأن يتجهن إلى أعمال أخرى. ولكن الحاخامين الكبار يحذرون النساء من العمل في مؤسسات غير حريدية.(14)
والحمام الشرعي(مقواه) جزء مهم في حياة الحريديم نساء ورجالا. فهو ضروري للمرأة وواجب عليها أن تذهب له لأداء الغسل فيه بعد انتهاء فترة دورتها الشهرية ، وكذلك تذهب بعد انتهاء فترة معينة من ولادة مولودها ، حيث يحرم عليها الإتصال بزوجها قبل أن تتطهر في الحالتين، وتذهب كذلك في بعض المناسبات الأخرى. ويكون غسل المرأة ارتماسا لكل جسمها ، ولايجوز أن يكون هناك مايمنع الماء من ملامسة الجلد حتى ولو شعرة من رأسها ، وللتأكد من ذلك تساعدها إمرأة مسؤولة تسمى"سيدة الحمام".(15)
أما بالنسبة إلى الرجال فهم عادة يغتسلون من أجل يوم السبت والمناسبات الدينية الأخرى وكذلك بسبب الإحتلام ، وبسبب مس الميت وغيره ممايعتبر غير طاهر ، أو بسبب أفكار خبيثة كما يسمونها تخطر على بال الإنسان. ويعتبر الحمام بالنسبة إلى الرجال مكانا إجتماعيا خاصة في ليلة السبت. ولأن الحمام الشرعي هو جزء مهم من حياتهم الدينية والإجتماعية ، فقد أنشأوا مؤسسة تعنى بالحمامات الشرعية. وفي هذه المؤسسة لجنة تشرف عليها ، وتتأكد من تحقق الشروط الشرعية بها، مثل طبيعة الماء وطهارته وكميته، وحجم الحمام ومقاسه إلى غير ذلك من أمور ذكرت في التلمود في قسم خاص يسمى "مقواءوت" الحمامات( الشرعية).
وتستعمل الحمامات أيضا لتطهير الأواني التي يشتريها اليهودي (من غير اليهودي) وهم يلتزمون بذلك طبقا لما ورد في التوراة في سفر العدد 31-22 ".. الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص أي كل شيئ يمكن أن يدخل النار فتمررونه في النار فيطهر غير أنه يتطهر بالرش وكل مالايدخل النار تمررونه في الماء". وقد وضع الحاخامون لهذا الطقس دعاء خاصا يقرؤه اليهودي عند غطس الأواني. وهو"مبارك أنت ايها الرب الهنا ملك الكون الذي قدسنا بفرائضه وأمرنا أن نطهر الآنية"، وهم يحذرون من استعمال الأواني قبل تطهيرها.
ومن عقائد الحريديم أن الإنسان ليس سيد نفسه ولاسلطة له على قدره ويرون بأن الله وحده هو الذي يسيطرعلى قدر الإنسان ومستقبله وهو الذي له السيادة عليه(16) وهم بهذا يؤمنون بجبرية القدر وأن الإنسان مسير لامخير.
ويعيش الحريديم في مناطق خاصة بهم معزولة عن غيرهم ، وهذا ينطلق من نظرتهم السلبية إلى العلمانيين ، وإلى عالمهم وأصبحت لهم اليوم في إسرائيل مدن خاصة بهم،وهناك صراع على بعض المدن بينهم وبين العلمانيين،وقد ذكرنا ذلك في دراسة سابقة . وفي الفترة الأخيرة أخذ الإسم حريدي لأومي (الحريدي القومي) يستعمل كثيراً للشخص الحريدي ويختصر أحياناً إلى "حردال" .

فئات الحريديم
وينقسم اليهود الأرثودكس –بصورة عامة- في نظرتهم إلى دولة إسرائيل إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى تساند الدولة وتباركها وتعتبرها بداية خلاص اليهود ، وهؤلاء يسمون المتدينون الصهيون ، وأهم جماعة فيهم في إسرائيل ، هم أعضاء حزب المفدال (الحزب الديني القومي الذي انقسم على نفسه أخيرا). وهؤلاء تأثروا بآراء رئيس الحاخامين في فلسطين في عشرينات القرن الماضي الحاخام إبراهام كوك (ت1935م) ، الذي يعتبر رائد الصهيونية الدينية. ومن رأيه أن كل مَن يعمل في إسرائيل من أجل الدولة ، سواء أكان علمانيا أم حريديا ، يعتبر مشاركا في عملية التهيئة لظهور المخلص اليهودي.
وتعتبر هذه المجموعة العصر الحالي بداية الخلاص لليهود ، وأن الدولة اليهودية الحالية هي مظهر من مظاهره. وهم يقولون بأنه على الرغم من وجود نقائض في الدولة اليهودية الحالية في تطبيق الشريعة ، فإنها تعتبر الدولة اليهودية الثالثة وهي استمرار شرعي للدولة اليهودية المستقلة في الماضي.
ويقول الحاخام ليب ميمون " إن الخلاص كان منذ هجرة اليهود إلى فلسطين (أي قبل إنشاء الدولة) ، والآن نحن عشنا ورأينا إحياء الدولة ، ونملك بلداً أكبر من ذلك الذي ملكه الملك سليمان ، ولذلك أنا أعتقد بأن هذا ليس فقط بداية الخلاص ، ولكنه جزء مهم منه ". ولأن هذه الدولة هي دولة شرعية في نظر هؤلاء ، فهم متفانون في الدفاع عنها والمحافظة على بقائها والمشاركة في الحكم فيها. وهم يقولون إنما يقومون بذلك من أجل أن يحققوا ما يمكن تحقيقه من تطبيق الشريعة اليهودية ، يؤكدون ذلك بالقول " نحن نريد التقليل من ارتباط الدولة بالعلمانية " ، وهم يدللون على ذلك بمعارضتهم لبعض القوانين العلمانية.(17) ولأن هذا العصر في رأيهم بداية لعصر الخلاص ، فهم لايجوزون إطلاقا إرجاع شيئ من الأرض إلى الفلسطينيين ، والكثير منهم يطالب بطرد الفلسطينيين ، بل والتنكيل بهم وقتلهم.
والفئة الثانية لا يرون في دولة إسرائيل دولة شرعية ، على الرغم من أنها حقيقة واقعة وواقع قائم ، و في الوقت نفسه لايتمنون زوالها. فهم لا يرون لوجودها أهمية دينية ، بل هم يعتبرونها دولة كبقية الدول، وكما قال أحد حاخاميهم أثناء الحرب العالمية الثانية وقبل إنشاء الدولة "إذا أنشئت الدولة فإن اليهود سيخالفون القسم الذي أقسموه(أمام الرب) ، بأنهم لايثورون ضد شعوب الأرض كما أنها ستكون شعبا بين شعوب الأرض ..وستكون دولة على أحسن الأحوال حكامها يهود ، وليست دولة يهودية".(18)
وبسبب هذه النظرة إلى إسرائيل فإنهم يتعاملون مع مؤسساتها في حدود الظروف والحالة التي يعيشونها ، على الرغم من أنهم لا يعترفون بها ، ولا بالصهيونية التي قامت عليها. فهي في نظرهم وسيلة إدارية وفنية لقضاء ما يحتاجون إليه من أعمال، وقد عبّر عن ذلك الحاخام إبراهام يشعياهو كالتزر بقوله: " إن هذه الدولة هي ليست نهاية عصر الظلام للشتات اليهودي ، وليست خلاصاً لهم ، بل إنها وسيلة فنية وإدارية ، كما أنها ليست ذات معنى أو أهمية، فهي ليست نجاحاً وليست كارثة وليس لها علاقة بالخلاص إطلاقاً ". وقال آخر " نحن نتلمس طريقنا في الظلام كالأعمى ، دون معرفة فيما إذا كان هذا العمل إيجابياً أو سلبياً. ويجب علينا أن نعترف بأننا لا نعرف طبيعة هذا الواقع ، وإلى أن نعرفه فنحن بحاجة إلى نبوة أو وحي إلهي".(19) .
وقال الحاخام إبراهام وينفيلد: " نحن أمام حقيقة وهي أن هؤلاء (الصهاينة) قد أنشأوا دولة ، وليس أمامنا حكم شرعي يجيز لنا أو ينهانا. وهذه المسألة قد حلت بالنسبة إلى الذين لا يؤمنون بالدين ، أما بالنسبة لنا فيجب علينا أن نكون على بينة من أمرنا نحو هذه الحقيقة التي واجهنا بها هؤلاء .. إذ أننا لا نجد في التوراة ولا في التلمود ولا الفسوقيم (علماء التوراة) وفتاواهم ما يبيّن لنا فيما إذا كان علينا أن نعترف بهذه الدولة أو لا ".
وهذه النظرة المحايدة مؤسسة على أن الدولة لم تنشأ على أساس ديني أي مقدس ولم تنشأ على أساس خبيث ، فوجودها ووضعها التاريخي لا يمثل عملية خلاص لليهود ولا يمثل كذلك عملية ضد الخلاص ، وهي في حقيقتها ظاهرة ليست من هذه أو تلك ، والناس هم الذين يختارون طريقها وقدرها ، أما الحكم الإلهي بالنسبة لها فهو متوقف. والفئة الثالثة هي الفئة التي تعارض وجود الدولة ، وتعتبرها دولة غير شرعية ، بل إنها تعوق وتؤخر ظهور المسيح المخلص. ويتمنى هؤلاء لو أن الدولة لم تظهر ولم تنشأ. وهذه الفئة مكونة من مجموعتين أساسيتين وهما "نطوري قارتا" (حراس المدينة) وبعض المجموعات الحسيدية وقد ذكرنا آراء هؤلاء في مكان آخر من هذا الكتاب.


فكرة النفي والإغتراب عند الحريديم
يعتبر الحريديم غير الصهيونيين أنفسهم في نفي ، حتى لو سكنوا في دولة إسرائيل على الرغم من الإنقاذ المادي ، وجمع الكثير من اليهود في هذه الدولة ، الذي صاحب ولادتها .
وكثيرا ماعبر الحاخام اليعازر مناحم شاخ الذي كان رئيس رؤساء اليشيفوت في إسرائيل عن ذلك فمما قاله في هذا الصدد: " إن الشعب اليهودي ما زال في نفي ، حتى قدوم المخلص " بل إن البعض منهم اعتبر نفيهم في إسرائيل نفيا استثنائيا ، وقدعبرعن ذلك الحاخام الحنان بونم ويسرمن بالقول: " إن الدولة اليهودية هي عبارة عن بداية نفي جديد لم يعرف مثله إنه نفي بين اليهود".
كما قال الحاخام موشيه بلاو: " إن النفي في أرض إسرائيل يفوق النفي في الدول الأجنبية فهو نفي مضاعف"، وإن عبارة سفر الأحبار (اللاويين) 26/33 "وأنتم ستتفرقون بين الشعوب" تبقى صحيحة وكذلك ما جاء في سفر التثنية 30ـ31" وسيأتي بكم من بين الشعوب " أيضا تبقى صحيحة ولكنها لم تتحقق" (20) .وهو يقصد هنا أن اليهود مازالوا في نفي على الرغم من جمع الكثير منهم في إسرائيل لأنهم لم يأتوا بعملية الخلاص. وقال الحاخام بنيامين مندلسون " إن ذنوبنا قادتنا لأن نكون في نفي في الأرض المقدسة ، في أيدي أناس غير متدينين " أما الحاخام فنحاس مناحم ألتر ، فهو يرى "أن أكثر أنواع النفي صعوبة هو النفي تحت حكم يهودي".
والنفي بالنسبة لهؤلاء ليس فقط نفيا جغرافيا ، بل هو يعني كذلك الغربة عن المجتمع الذي يحيط بالإنسان وسلوكه وثقافته ، وكذلك عن الحكومة ومؤسساتها العلمانية إذ أن الحكومة في إسرائيل لا تختلف في نظرهم عن أية حكومة غير يهودية.
ويقولون إن هذا النفي ليس شيئاً يشبه حالة جغرافية يمكن التغلب عليها بالهجرة والاستيطان وحده ، وهو ليس حالة سياسية يمكن التغلب عليها بالحصول على وطن قومي يتمتع بالاستقلال ، بل النفي هو حالة دينية وحالة ميتافيزيقية لأنه نفي الشكيناه (الحضور الإلهي) ، ولا ينتهي هذا إلا بعد أن يكون الوضع النهائي للبشر وللعالم وضعاً صحيحاً . فالنفي أولاً وأخيراً يمثل حالة عدم التخلص من الذنب بعد "فبسبب ذنوبنا نفينا من أرضنا، واليهود يغفر لهم فقط في حالة التوبة، فالمسؤولية التي تفرض على الشعب اليهودي ، هو التركيز على النشاط الديني والروحي فقط وليس على النشاط السياسي الدنيوي".
كما أن البعض منهم يأسى لوجود الدولة ، ويتمنى لو أن الشتات بقي مستمراً ولا تكون لليهود دولة ، إذ يرون فيه أمنا وضمانا لحياتهم أكثر من الدولة ، وهذا ما عبر عنه الحاخام اليعازر شاخ فقال: " إن الشتات هو أفضل لضمان اليهود من أن يجتمعوا في أرض واحدة . إن شتاتنا كان عدلاً (من الرب) ، وإن الله كان عادلاً مع اليهود حين فرقهم بين الشعوب، إذ يجب أن لا نكون في مكان واحد ، وبما أن المسيح لم يأت بعد ، فليس هناك ضمان (لنا) فنحن لا نعلم ماذا يحدث غداً. ويجب أن لا نقامر بحالة اختبرناها واطمأننا لها ، وإن التوراة وفرائضها هي التي أبقتنا لآلاف السنين .."
وهو يؤكد على أن الدولة (إسرائيل) لا علاقة لها بظهور المسيح ولا بالخلاص فهو يقول: "فالمسيح لم يأت وإن الواقع هو أن العالم يسير كالمعتاد ، وكل تعبيرات الخلاص والإشارة إلى الخلاص هي غير صحيحة قطعاً ، وهي خطرة على الشعب اليهودي . إن الواجب الأساسي على اليهود ، والضمان الوحيد لبقائهم هو التوراة ودراستها، فالتوراة سندنا في شتاتنا لألفي سنة دون أن تكون هناك دولة ، وهي كذلك كانت ضماناً للشعب اليهودي".(21)
واليهود الحريديم لايدعون لسلامة اسرائيل في كنسهم ، كما كانوا يدعون في الشتات للدولة التي يسكنون فيها ، ويقولون في سبب ذلك حتى لايفسر(مايقولونه) على انه تاييد للصهيونية .(22) كما انهم لايقفون عندما يعزف النشيد الرسمي للدولة(هاتكفا) وهم يقرأون صلاة بدل ذلك. وفي مؤتمراتهم الدولية في إسرائيل ، لايرفعون العلم الإسرائيلي وحده كما في مؤتمرات الصهيونيين ، بل يرفعون أعلام دول الوفود المشاركة على الحروف الهجائية.
بعلي تشوفاه(التائبون)
يطلق الاسم "بعلي تشوفاه" -وهويعني التائبين- على أولئك اليهود الذين يتركون حياتهم العلمانية السابقة ، ويتوبون عنها ويلتزمون بالدين التزاما متشددا ، ويصبحون من اليهود الحريديم. وأغلب هؤلاء التائبين ، هم من الشباب الذين اصبحوا جماعة متميزة بين اليهود معروفة عندهم. ويوجد أغلبهم اليوم في إسرائيل وإن كان منهم مجموعات في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما.
وقد بدأ هذه الحركة في نهاية الستينات من القرن الماضي-بعد حرب عام 1967- على يد حاخام أمريكي . وكانت بدايتها في إسرائيل ، حيث كان هذا الحاخام يركز في البداية على الشباب الذين يزورون إسرائيل ، وكان يذهب في القدس إلى أماكن تجمعهم عند حائط المبكى ، وعند مواقف الحافلات وغيرهما من الأماكن فيها ، فكان يتحدث معهم عن أهمية رجوع اليهودي إلى اليهودية ، والالتزام بها وممارستها. ثم بعد أن يقنعهم يأخذهم إلى اليشيفاه (مدرسة دينية) ، التي كانت قد زودته بها وزارة الأديان في حينها.(23). ويصبح الشاب طالباً من طلابها ، يعكف على دراسة الكتب اليهودية ويتعمق فيها. وكثر عدد اليشيفوت (المدارس الدينية) لهذه المجموعة فيما بعد ، وكانت في البداية مقتصرة على الذكورثم بعد ذلك أصبحت للإناث يشيفوت خاصة بهن. وقد تحول بعض الشخصيات المعروفة في إسرائيل إلى بعلي تشوفاه ، وربما كان أشهرهم في سبعينات القرن الماضي "أوري زهر" النجم التلفزيوني الإسرائيلي والمخرج السينمائي السابق ، الذي أصبح حاخاما فيما بعد ، وقد أعطى تحوله إلى الالتزام بالدين دفعا قويا لبعلي تشوفاه ، الذين كثر عددهم فيما بعد. ومن هؤلاء إيتي انقري ، التي هي من اصل تونسي ، ومن المغنيات الاسرائيليات المعروفات وهي اشهر بعلة تشوباه اليوم ، وكانت قد تحولت في عام 2001م .
وكان أكثر اليهود الذين يصبحون "بعلي تشوفاه" في إسرائيل ، من اليهود الشرقيين ، وغالباً ما يكونون من خلفيات فقيرة. وقد فسر هذا على انه رد فعل لما يعانون. فالتشوفاه (التوبة) لدى هؤلاء ، هي احتجاج على المجتمع العلماني الذي يمثله اليهود الأوروبيون ، واحتجاج على سيطرتهم على المجتمع الإسرائيلي. وأصبح الكثير من هؤلاء يتحول على يد حزب شاس ، وهو حزب ديني لليهود الشرقيين .(24)
وبعد أن يبدأ "بعلي تشوفاه " حياتهم الجديدة يأخذون بالتركيز على القضايا الدينية في حياتهم ، التي تملأ فراغهم وتشغل وقتهم وتسيطر على تفكيرهم ، كما يختارون العيش ضمن المجتمع الحريدي، وهذا يترك لهم قليلاً من الوقت للتفكير في أشياء أخرى تحول اهتمامهم عن هذا ، خصوصاً وان "اليشيفاه" ومناهجها تتطلب ساعات طويلة من الدراسة والقراءة. ومن القضايا التي لا يهتمون بها ، هي القضايا السياسية ، فهم ينظرون إلى السياسة على أنها موضوع غير أخلاقي ، وليس ذا معنى، ويقولون بأن الذي يهتم بالسياسة لا يمكن أن يخصص نفسه لدراسة الكتب الدينية. وهم يعتبرون أنفسهم نخبة المجتمع ، وعليهم مسؤولية تغييره وإرجاعه إلى اليهودية الحقيقية. ويعتقدون بأنهم أولى من غيرهم في هذا، حيث تأهيلهم أفضل وقدرتهم أكبر على إقناع اليهود بالتحول إلى الدين . إذ أنهم جربوا الحياة العلمانية وخاضوا غمارها وخبروا ظاهرها وباطنها ، فباتوا يفهمون عقلية الشخص العلماني وتفكيره ويعرفون كيف يقنعوه ويجلبوه إلى الحياة الحريدية.
بعلي تشوفاه واسرائيل والصهيونية
وعلى الرغم من أنهم لا يتدخلون في السياسة كثيرا ، ولا يشتركون فيها ولا ينشطون ، إلا أنهم لهم رأي في موضوع الصهيونية ، وفي إسرائيل كدولة. فالكثير منهم لايؤمنون بالصهيونية ، وقد عبروا عن احتقارهم لها والنفور منها. فبعضهم قال: " إن الصهيونية أبعدت اليهود عن دينهم ، وقامت على فكرة هي اليوم تنهار وخلفت دولة عفنة حتى العظم ، وهذه العفونة واضحة ، خصوصاً بين الشباب الذين رؤيتهم مضطربة ، وغير واضحة إذ لا يدرون لماذا ولدوا أو لماذا ولدوا يهوداً وما معنى اليهودية ".
وقال أحدهم: " اعتقادي بالصهيونية سلبي جداً ، لأنها قادت كثيراً من اليهود إلى العلمانية ، ولم تحقق ما وعدت به ". ومنهم مَن قال: " إن الصهيونية قادت إلى الانقطاع عن الله ، وهذا شيء مخيف ، كما وان العوائل التي عانت من مذابح النازية ، لابد وأنها كانت ضد الصهيونية ".
وقال آخرً: " إنّ الصهيونية تبعد اليهود عن جذورهم ، وتجعلهم ينسون اليهودية ويحرفون صورتها ". ومنهم من قال: " إن الصهيونية (حركة) ضد روح التوراة وهي تفسد الشعب اليهودي ".
وينظر هؤلاء إلى إسرائيل نظرة دونية تتسم بالاحتقار والرفض ، فهم لا يعترفون بها ولا يرونها دولة شرعية ، إذ في رأيهم ان الدولة العلمانية العلمانية اليهودية لايمكن أن تكون دولة شرعية ، حتى لو كانت في مرحلة انتقالية لتلك الدولة الشرعية. وهم لا يرون أملاً ورجاءً في تحول هذه الدولة العلمانية عن علمانيتها والرجوع عنها. وعلى اليهودي أن ينسحب منها تماماً ولا يشارك في نشاطاتها. وهم يعبرون عن خيبة أملهم فيها ،حين ينظرون إليها كدولة محطمة للحياة الدينية ومعادية لها ومجحفة بحقها. وأغلب هؤلاء لايخدمون في الجيش الإسرائيلي ، ويفضلون الدراسة على الدفاع عن الدولة.
ويعتقدون بأن الجيش الإسرائيلي يسيء إلى الشباب ويفسدهم ، ويجب أن تلغى الخدمة في الجيش ، لأن الجيش ليس هو الذي يحفظ اليهود ، بل إن الله هو الذي يحفظهم إذا استمروا بالدراسة الدينية. ولما كان "بعلي تشوفاه" يقومون بمهمة الدراسة التي ترضي الله ، فهم إذن نخبة المجتمع اليهودي وصفوته كما يقولون، وعلى المجتمع أن يعفيهم من الواجبات ، حتى تتوفر لهم حياة هادئة مقتصرة على الدراسة الدينية والتعمق فيها والاستزادة منها.
وهم في نقدهم للصهيونية ورفضهم لها ، إنما يقتدون بآراء شخص يهودي يعتبرونه نموذجاً لهم ، وهو ناثان بيرنباوم توفي عام 1937م وهو يهودي من فيينا ، كان يدعو إلى القومية اليهودية وأنشأ صحيفة أسماها "قدماه"( إلى الأمام) تدعو إلى هذه القومية.
وبيرنباوم هو الذي أوجد إسم "الصهيونية" قبل أن يؤسس هيرتزل الحركة الصهيونية بسنين ، وهو يعتبر أيضا من المؤسسين للأيدلوجية الصهيونية وللحركة القومية اليهودية. وكان قد انضم إلى ثيودورهرتزل ، بعد أن أعلن عن الحركة الصهيونية وأصبح سكرتيرها العام. ولكن بعد المؤتمر الثالث للحركة الصهيونية عام 1899م ، تحول عن فكرة الصهيونية السياسية إلى التركيز على الإستقلال الثقافي لليهود. وقادته هذه الفكرة بدورها إلى التركيز على مراكز الشتات اليهودي. وكان يدعو إلى شتات يتمتع بحكم ذاتي ، ورفض الدعوة إلى إقامة دولة لليهود
كما كان يريد أن تصبح "اليدش" لغة قوميه وليست العبرية. وكان يطوف على الجاليات اليهودية في أوروبا محاضراً ومتحدثاً. وطوال هذه الفترة لم يكن ملتزماً باليهودية كدين ، بل ولا بدين آخر أو اعتقاد آخر. وفي عام 1908م تحول إلى يهودي متدين ، وأصبح يؤمن بالدين اليهودي وتقاليده ، وانضم إلى جماعة "اغودات إسرائيل" الأرثودكسية ثم أصبح سكرتيراً لهذه المنظمة ومنظراً لها. وكان لا يكل من معارضة الصهيونية السياسية ونقدها ، واعتبرها فكرة تقضي على اليهود وتحطمهم، إلى جانب أنها ذات محتوى علماني لا رابطة له بالدين ولا واشجة له به كما قال.(25).
وهناك مجموعة أخرى من بعلي تشوفاه ، أقل عددا من التي ذكرناها ، فهي تؤمن بفكرة الصهيونية الدينية وليس السياسية. وأنشأت هذه المجموعة "يشيفوت" بعدما كثرت تلك التي هي غير صهيونية ، حين رأى بعض الحاخاميين ممّن يؤمن بالفكر الصهيوني الديني ضرورة انشاء يشيفوت تؤمن بهذه الفكر. فأخذوا ينشئونها على أساس من الفكر الصهيوني الديني. وكان قد أسس "اليشيفاه" الأولى التي تتبنى هذا الفكر حاخام اسمه دوف بيغون ، وهو اليوم حاخام مشهور ، وهي تسمى يشيفاه "ماخون مئير" ومقرها في القدس ، وهي تشجع الجنود على الدراسة فيها أثناء خدمتهم العسكرية. وكان دوف هذا من خريجي يشيفاه مركز هاراف (يشيفاه الحاخام أبراهام كوك) ، وهو يدّرس في مدرسته أفكار هذا الحاخام بشكل مكثف ، ويربطها بالتشوفاه ، وبمسألة الخلاص اليهودي ، وكذلك بقضية أرض الميعاد. وتؤكد اليشيفاه المذكورة على هذه الأفكار في منشوراتها وأدبياتها ، وعلى فكرة تميز اليهود ، وأنهم أناس اختارهم الله من بين البشر ، وعلى ضرورة الهجرة إلى أرض فلسطين، وأن هذه الهجرة تكون خطوة في طريق الخلاص . وهذا الحاخام نفسه يكتب وينشر هذه الأفكار، ويحث اليهود على الإعلان عن تفوقهم وأفضليتهم دون تردد ، وتوجد كتاباته هذه على الإنترنت. وتوسعت هذه اليشيفاه فأنشأت معهداً للبنات وبرامج خاصة للناطقين بالإنكليزية ، ولها فروع ستة على الأقل في إسرائيل في الوقت الحاضر ، وطلابها في ازدياد مستمر. وبمرور الزمن أسس آخرون عدداً من اليشيفوت على هذا النهج والنمط.
و" بعلي تشوفاه " الذين يؤمنون بالفكر الصهيوني ، لا ينظرون إلى الدولة كما ينظر اليها غير الصهاينة ، بل أنهم يعتبرونها دولة في مرحلة انتقال إلى الدولة الشرعية وهي تمثل عودة اليهود إلى وجود مستقل- وهو رأي الحاخام أبراهام كوك- ، ولذلك فأنهم يتعاملون مع بعض أوجه نشاطاتها. وهم كذلك يثمنون الجيش الإسرائيلي الذي يدافع عنها ، ولذلك نرى طلاب هذه "اليشيفوت" يخدمون فيه. ولما كانت إقامة المستوطنات اليهودية مهمة دينية في رأيهم ن فهم يشاركون في بنائها وإقامتها والتشجيع عليها.
وتقاليد الزواج عند " بعلي تشوفاه " هي نفسها التي عند اليهود الحريديم ، إذ أن الانفصال كامل بين الجنسين ، ولذلك فان الطريقة المتبعة في الزواج ، هي طريقة الزواج المرتب "الشدوخ" حيث يكون "الشدخان" هو الوسيط الذي ذكرناه سابقاً. وغالباً ما يتزوج "بعل تشوفاه" من "بعلة تشوفاه" ، إذ الخلفية واحدة والسلوك نفسه ويساعد على هذا الزواج في كثير من الأحيان رئيس "اليشيفاه" وزوجته ،
إذ هما يشرفان على التخطيط والترتيب. ويوجد برنامج عنوانه "على حدود النور" على راديو المتدينين اسمه القناة السابعة ، يتابع نشاطات بعلي تشوفاه ويذكر الأشخاص الجدد الذين ينضمون اليهم.(26)
وقد أصبح "بعلي تشوفاه" اليوم جماعة مميزة ، ذوي سلوك خاص يبعدهم عن اليهود الآخرين ويعزلهم عنهم. وظاهرة التشوفاه مازالت مستمرة اليوم ، ولكنها في الوقت نفسه تثير قلق اليهود وتخيفهم ، لأنها في رأيهم تحدث انقساماً في العائلة اليهودية وتفتيتاً لوحدتها ، إذ ما إن يتحول الشاب من كونه علمانيا إلى كونه حريديا ، حتى ينفصل عن عائلته ويبتعد عنها ويسبب إرباكا لها .

مدارس الحريديم الدينية(اليشيفوت)
يعتبر اليهود الحريديم الدراسة الدينية ضرورية للإنسان اليهودي وواجبا فرضته الشريعة ، ولذلك فهم يشجعون عددا من أبنائهم عليها ، ويوجد اليوم عشرات الآلاف من الطلاب ، الذين يدرسون في مدارس دينية يشرف عليها وينظمها اليهود الحريديم. وتوجد هذه المدارس اليوم داخل إسرائيل وخارجها ، كما أن هناك اختلافات في طبيعة هذه المدارس وبرامجها التدريسية وعدد طلابها. وهذه المؤسسات قديمة عند اليهود تعود في أصلها إلى ماقبل الإسلام ، حيث كان يوجد عدد منها في العراق وفي فلسطين. وكانت اليشيفوت في العراق ، تعد أكثر أهمية واعتبارا وتاثيرا من تلك التي في فلسطين ، حيث كان اليهود عامة يعتمدون على فتاوى رؤسائها. ثم أنشأ اليهود فيما بعد يشيفوت في أوربا ، وبعض ماهو موجود في إسرائيل هو امتداد لها. والطلاب في هذه اليشيفوت في الغالب لايؤدون الخدمة العسكرية ، أو يؤجلون منها في إسرائيل. وهي أحد مطالب الأحزاب الدينية في كل حكومة إسرائيلية تكون هذه الأحزاب جزءا منها، وأصبحت هذه من القضايا التي تثير الجدل والنقاش في الفترة الأخيرة بين يهود إسرائيل كما سنذكر .
ونحن هنا سنتحدث فقط عن يشيفوت اليهود الحريديم في إسرائيل. والمدارس التي يشرفون عليها هي عادة من ثلاثة مراحل
1- يشيفوت قطانوت (اليشيفوت الصغرى) وتبدأ دراسة الطلاب فيها بعد الثالثة عشرة من أعمارهم ، بعد أن يكون هؤلاء الطلاب قد درسوا شيئا بسيطا من الأساسيات غير الدينية قبل الدخول إلى هذه اليشيفوت. وتركز المناهج الدراسية في هذه اليشيفوت على التوراة وشرحها ، وكذلك يدرسون بعض الموضوعات المبسطة من التلمود ويستمر الطالب في دراسته هنا حوالي ثماني سنوات. وتكون هذه اليشيفوت تحضيراً لما هو أعلى منها. ولكن إذا اعتقد المشرف أن الطالب ليس له القابلية على الإستمرار حينئذ يوجهه إلى تعلم بعض المهن ، كأن يكون مساعد حاخام أو مشرفا دينيا أو يوجهه لتعلم بعض الحرف التي يتعلق بعضها بالدين أو يوجهه إلى التجارة. والذي له القدرة على الإستمرار فإنه يلتحق باليشيفوت الغدالوت (العليا أو الكبرى).
2- واليشيفوت الغدالوت يدخلها المتخرجون من الصغرى. وهؤلاء لا يدرسون غير المناهج الدينية بتوسعة وتفصيل خاصة الأدبيات التلمودية.
3- كولليم (وهي تعني حرفياً عام، مشترك) وهذه اليشيفوت خاصة بالطلاب المتزوجين وتقتصر عليهم. والدراسة فيها هي دراسة متقدمة كما في اليشيفوت الغدالوت وقد يستمر الطالب فيها لخمس عشرة سنة أو أكثر. والدوام في كل هذه المراحل هو دوام كامل، ولغة التدريس في هذه اليشيفوت هي غالباً ما تكون "اليدش". وأثناء دراسة هؤلاء تحصل الزوجة على عمل لمساعدة الزوج على الإستمرار في دراسته إذ كثيرا ماتكون المساعدة من الدولة وغيرها غير كافية. والطلاب في اليشيفوت المتقدمة ، لا يجلسون في فصول ، وإنما يجلسون عادة زوجاًَ زوجا في قاعات كبيرة يدرسون ويتناقشون بصوت عال ، وهم يقولون إن هذا الصياح واللغط يساعدهم على التعلم ولا يعيقهم. وهؤلاء الطلاب وإن كانوا عموماً يلبسون لباساً أسود إلا أن هناك اختلافات جزئية في الملابس بين الجماعات الحريدية التي تعود لها هذه اليشيفوت. وهذه الاختلافات باللباس تميز كل جماعة عن غيرها ، كالاختلاف في شكل القبعة مثلاً. ويكون معدل ساعات الدراسة 15 ساعة يومياً تبدأ في الغالب بعد صلاة الصبح. وبسبب هذه الساعات الطوال ، فإن هذه المدارس تعتبر مكانا لحياة إجتماعية مهمة لهم ، خاصة وأنه ممنوع عليهم ارتياد السينما والمسرح وغيرهما. والمسؤولون يفرضون على طلابها قيوداً كثيرة في سلوكهم، ومن أجل ضمان السلوك الذي يتفق ومعتقدهم ، فإنهم يعينون شخصاً مهمته الإشراف الروحي والأخلاقي ويسمى "مشجيح" وهي تعني "مفتش/ مشرف" ، وهو يلتقي طلاب اليشيفوت مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع ، يحثهم على الالتزام بالقضايا الأخلاقية ، وكثيراً ما تضم دروسه التي يلقيها عليهم نقولاً واستشهادات من التوراة والتلمود والكتب الأخرى.
3-وأشهر يشيفاه بين هذه اليشيفوت في إسرائيل هي تلك التي كان يرأسها الحاخام المشهور اليعازر شاخ وتسمى "بونفزه". وهي يشيفاه مشهورة في عالم اليهود ومقرها في مدينة "بني برق" وهي كانت سابقا في ليثوانيا، ومن يتخرج منها يعتبر متميزا ويصل عدد طلاب هذه اليشيفاه عادة أثناء الدراسة إلى مايقرب الف طالب. وبعض اليشيفوت تؤكد على أن يصحو الطالب من النوم فجراً لأداء شيء من العبادة ، وبعضها يشجع على الاغتسال في الحمام الشرعي كل صباح. والبعض الآخر يشجع طلابه على قضاء ساعات الفجر في التأمل على انفراد ، مثل اليشيفوت الخاصة بجماعة "براسلاف" الحسيديم، فهؤلاء تأخذهم الحافلة فجراً إلى خارج المدينة ، وتنزل كل واحد منهم في مكان لوحده في حقل من الحقول ، ثم تعود إليهم عند طلوع الشمس لتأخذهم إلى حيث يدرسون. وتتبع هذه الجماعة في هذه الممارسة تعاليم مؤسسها وزعيمها الروحي نحمان براسلاف (ت 1811م) بهذا الخصوص ، إذ نص في كتابه ليقوطي موهران " إن العزلة هي أعظم المنافع وأحسن الفضائل. ويجب أن يخصص لها الشخص ساعة أو أكثر، يكون لوحده في غرفة أو حقل يناجي ربه ويتضرع إليه ، ويتوسل به ليجعله قريباً منه ."(27)
وهذه اليشيفوت إضافة إلى أنها لا تدرس العلوم الحديثة ، فهي لا تدرس اللغة العبرية ولا الأدب العبري ، بل لا يدرَس فيها حتى التاريخ اليهودي. وهي تسير على النظام والنهج نفسه الذي كانت تسير عليه سابقاتها في أوروبا من دون تغيير كبير. وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية لسنوات أن تدخل في مناهج هذه اليشيفوت بعض الموضوعات الأساسية مثل الرياضيات والقواعد وبعض العلوم الأساسية ، ولكن المشرفين على هذه اليشيفوت يرفضون تدخل الحكومة في تغيير مناهجها على الرغم من أن الحكومة هي التي تمدها بالأموال وبدونها لايمكن لها أن تستمر. وكان الكنيست قد أقر قانونا عام 2008م يستثني المؤسسات التربوية ، التي لها تميز ثقافي من تطبيق المناهج الأساسية التي تطبق في المدارس الأخرى . وهذا القانون يحميها من تدخل الحكومة فيها مع استمرار المنح والمساعدات المالية لها وبعد صدورهذا القانون ، فإن أي تغيير في المناهج يحتاج إلى قانون آخر لأنها تعتبر متميزة ثقافيا. وقد أثيرت قضية المواضيع الأساسية مرة أخرى هذه السنة(2010م) بعدما قدم بعض الشخصيات السياسية والعلمية طلبا إلى المحكمة العليا بإيقاف مساعدة الدولة المالية للمدارس ، التي لاتدرس المواضيع الأساسية والمقصود بذلك هو اليشيفوت. وقال هؤلاء إن عدم تدريسهم هذه المواضيع هو مخالفة لحقهم المضمون لهم بالدستور ، إضافة إلى أنه يحرمهم من أساسيات حياتية ومن الإندماج في المجتمع، ولايوجد بلد ديمقراطي يدعم مثل هذه الحال ، حيث تكون مؤسسات تربوية كثيرة خارج إشراف الحكومة ، ولاتدرس المناهج التربوية الحكومية ، ومع ذلك ترفدها الحكومة بالمال وتمدها بالمساعدة.(28). . ومن هذه اليشيفوت يتخرج حاخامو هذه المجموعة وقضاة محاكم الحريديم والقصابون والخاتنون الشرعيون وكتّاب التوراة أو معلمين لمدارس الأطفال بعد تدريب خاص.

ولهذه اليشيفوت مجلس يجمعها يسمى"مجلس اليشيفوت الإسرائيلي" ، وهو مسؤول عنها أمام الحكومة ، وهي تقدم كشفا بعدد الطلاب ، كي تحصل على مساعدة الحكومة. وعلى الرغم من أن الحكومة تكتشف تزويرا بين فترة وأخرى في الأعداد التي يقدمها الحريديم ، كتقديم طلاب يدرسون بدوام كامل ، ولكن يتبين أنهم يعملمون بدوام جزئي ، او يدعون أنهم مرضى ولكنهم أصحاء ، فالحكومة مستمرة بتقديم المساعدة الكبيرة لهذه اليشيفوت. وهذه المساعدة هي المصدر الرئيس لهذه اليشيفوت ، وتمنح الحكومة هذه المدارس أموالاً كثيرة ، حيث تصرف إلى الطلاب رواتب معينة تصل أحيانا إلى 100% من ميزانيتها، وقدرت الموازنة لمؤسسات هؤلاء في السنتين الأخيرتين من حكم حزب الليكود في تسعينات القرن الماضي ببليون شيكل في السنة. يضاف إلى ذلك ، أن هناك بعض الأثرياء اليهودـ حريديم وغير حريديم ـ من أمريكا وكندا وغيرهما ، يتبرعون أو يقرضون أموالا دون أرباح لمؤسسات هؤلاء لإنفاقها على السكن ، أو على الزواج أو غيرهما. حتى قيل بأنه ليس هناك شخص من اليهود الحريديم في إسرائيل لا يحصل على مساعدة.
والدولة لاتنفق على من يعمل من هؤلاء ولكنها تجبر من تكتشف انه يعمل على الخدمة في الجيش .

طلاب المدارس الدينية والخدمة العسكرية
من القضايا التي تثير الجدل في إسرائيل ، هو إعفاء أو تاجيل الغالبية العظمى من طلاب اليشيفوت الحريدية من الخدمة العسكرية ، وكانت إسرائيل قد أقرت هذا منذ إنشائها. وكان رئيس الحاخامين آنئذ اسحق هرتزوغ – وهو والد هرتزوغ رئيس الدولة الأسبق - قد كتب رسالة إلى رئيس الوزراء جاء فيها " إن اليشيفوت تحتاج إلى عناية خاصة لأنها البقية الباقية من مؤسسات التوراة بعد مذبحة النازيين لليهود. إن روح الشعب اليهودي ذاتها متوقفة على بقاء هؤلاء الطلاب. فإذا انشغلوا ولو بتعبئة بسيطة فإن الاضطراب سيقع بينهم " وكان أول تأجيل لهؤلاء عام 1948م أثناء الحرب العربية الإسرائيلية ونص القرار على التالي "لقد صدر قرار بأن يستثنى طلاب اليشيفوت من الخدمة العسكرية. والطلاب القادرون يتدربون في أماكن دراستهم على الدفاع عن النفس ، وهذا القرار بأمر الكنيست وسيبقى نافذ المفعول حتى نهاية السنة" .وفي عام 1949 أصدر بن غوريون قرارا-بصفته وزيرا للدفاع إلى جانب كونه رئيسا للوزراء- بتمديد الإعفاء من الخدمة العسكرية .وفي عام 1951م أصدر قرارا آخر جاء فيه " قررت أن أعفي طلاب اليشيفوت من الخدمة العسكرية الإلزامية ، وهذا القرار ينطبق فقط على الطلاب المستمرين في دراسة التوراة في اليشيفوت"(29) .وهو مازال نافذ المفعول إلى اليوم ، على الرغم من كل المحاولات لإلغائه أو تغييره.
ولا يعرف على وجه التحديد سبب هذا الإعفاء ، ولكن الذي يبدو أن هذا الإتفاق كان في مصلحة الجانبين. إذ كان بن غوريون يحتاج الى تأييد الحريديم ، وكان هؤلاء لايريدون ان يخدم شبابهم في الجيش خوفا عليهم من الفساد. وكان بعض السياسيين العلمانيين وقتئذ – مثل إسرائيل يشعياهو اليمني الأصل – يعتقد بأن اليهود الحريديم سوف لا يكون لهم وجود خلال خمس وعشرين سنة ، وحتى بن غوريون كان يعتقد ذلك. لذلك كان الظن بان التأجيل سوف لن يثير مشكلة فيما بعد. وربما كان السبب لذلك هو أن طلاب هذه اليشيفوت كانوا في بداية وجود الدولة لا يزيد عددهم على بضع مئات، لكن بمرور الزمن وعلى عكس ما كان يظنه الآخرون ، فإن عدد هؤلاء الطلاب ازداد وتضخم حتى وصل إلى عشرات الالاف اليوم ، وهو في ازدياد مستمر. وتحدث اسحق شامير رئيس الوزراء الأسبق مرة حديثاً خاصاً ذكر فيه بأنه لا يمكن أن يتحمل نظام التأجيل لطلاب اليشيفوت من الجيش. وقال بأن هذه قضية مؤلمة ، ومؤلمة جداً "ومع ذلك فأنني لم أتمكن من تغييرها" وعندما قيل له بأن عدد الطلاب قد ازداد أيام رئاسته للحكومة قال " إنني لم أزد العدد وإنما هم يتكاثرون ".
وأصبحت قضية تأجيل طلاب اليشيفوت تثير الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، والناس معاً. فكثيراً ما تثار هذه القضية في الكنيست وتناقش نقاشاً حاداً. وقد كانت هناك محاولات في دورات الكنيست المختلفة لتأجيل هؤلاء الطلاب لفترة أربع سنوات فقط ،ولكن هذه المحاولات فشلت ، بسبب ضغط الأحزاب الدينية. ثم كانت هناك محاولات لإيقاف المساعدات للمؤسسات الدينية ، لكنها أيضاً كانت محاولات فاشلة. ومن هذه المحاولات ما أعلنه رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك بقوله" إن الوضع الذي يبقى فيه الحريدي لايخدم في الجيش ويتسلم أموالا من الحكومة ، هو وضع ليس فيه عدالة ويجب أن يغير".(30) ولكن إيهود باراك لم يتمكن من تغيير الوضع.
ومن جانب آخر فإن زعماء الحريديم ورؤساء اليشيفوت ، يهددون بالطرد كل من ينضم إلى الجيش من الطلاب. وهم يحتجون بان دراستهم الدينية ، هي أهم من الخدمة في الجيش ، بل هم يقولون إن مايصيب اليهود من اشياء مفيدة لهم ، انما هو بسبب هذه الدراسة ، وكذلك الذي يصيب سكان اسرائيل. وان مساندة الدارسين تعني مساندة الرب الذي جعل اسرائيل تنتصر بحروبها ، وهذا ياتي من نظرة الرب لليهود بعين الرحمة كما يقولون. ويعتقدون ايضا بان دراستهم الدينية هي أفضل من الصلاة والصدقة والأعمال الخيرية الأخرى. وانه بسبب هذه الدراسة يكون من الممكن للدارسين وعوائلهم ولليهود الآخرين أن يدخلوا الجنة. ويدعي الحريديم بأن الدراسة الدينية هي التي تمنع العدو من الإعتداء والإنتصارعلى إسرائيل ، وان طلاب الدراسة الدينية لا يختلفون كثيرا عن الدبابات والصواريخ. ويقولون ان كل من يدرس هذه الدراسة ليس عليه مسؤولية اجتماعية ، وليس عليه أن يعمل من أجل الحصول على الرزق.(31)
ويدافع الحريديم عن تأجيل طلاب اليشيفوت بقولهم أنه لا يمكن أخذ شاب عمره 18 سنة إلى الجيش ثم بعد ذلك تبقى عنده الممارسة الدينية نفسها. إذ أن الجيش يؤثر عليه فيجعله لا يصلي الصلاة نفسها ولا يقول البركات نفسها على الأكل ولا يكون عنده الوقت الكافي لدراسة التوراة. إن الغرض من الدراسة في اليشيفوت ليس غرضاً أكاديمياً ، وإنما الهدف النهائي للدراسة هو تخريج علماء توراة يخصصون حياتهم للدراسة الدينية ، والالتزام بالفرائض وتطبيقها. ولا يمكن أن يصبح عالم توراة إذا أخذ منه سنتان أو ثلاث من حياته، وأي إلهاء للطلاب بشيء آخر سوف يؤثر على التقدم في الدراسة والتقوى. واضافة إلى اعتقادهم هذا فانهم يعتقدون بان دخول أبنائهم إلى الجيش سيفسدهم ويقضي على التزامهم الديني.
ولذلك يرون أنه من الواجب على الدولة أن تنفق عليهم. بينما يقول العلمانيون إنه ليس من العدالة أن يقتل بعض الجنود في غزة ، أو في لبنان أو في الضفة الغربية ، بينما بعض الشباب جالس في اليشيفاه وراء نسخة من التلمود.
وقال الكاتب الإسرائيلي المعروف إبراهام يهوشوع مرة في ندوة للحوار الديني العلماني " إن الاختلاف بين العلمانيين والمتدينين اليهود يمكن تحمله لو أن المتدينين شاركوا في الخدمة العسكرية. ولو حصل هذا وأزيلت هذه العقبة ، فإنه بالإمكان أن يكون هناك حوار بين الجماعتين ". وقد كان لهذا الكلام رد فعل لدى المتدينين، وقالت صحيفة " هامحنه هاحريدي " الأسبوعية ، التي تصدرها إحدى الجماعات الحسيدية " إن هناك واجباً على طالب اليشيفاه أكثر من واجب الدراسة والتأجيل من الخدمة في الجيش ، وهو أن لا يختلط بالمرتدين الذين ينشرون جرائم الفساد التي تسمم الروح اليهودية ". وقالت كذلك " إن سماع مثل هذا الكلام من فم نجس يكون رد الفعل الأول له ، أنه لهذا السبب وحده يجب أن يبقى نظام التأجيل – من الخدمة العسكرية – حتى يمنع أي حوار أو تقارب مع أعداء مثل يهوشوع. وإن الوضع الحالي يجب أن يبقى كما هو من دون تغيير أو تعديل ". وذكرت مرة جريدة "يتدنئمان" عام 1988م، التي يشرف عليها الحاخام المعروف اليعازر شاخ "إن الذين يدعون لتجنيد طلاب اليشيفوت هم من أحفاد العماليق ويجب محاربتهم حرباً حقيقية بل يجب قتلهم"(والعماليق كما تذكر التوراة كانوا أعداء العبرانيين عندما كانوا في التيه يلاحقونهم ويعتدون عليهم). وقال أيضا عند مجيء حكومة رابين " إذا غيرت الحكومة نظام التأجيل لطلاب اليشيفوت فإنه سيطلب من طلابه الهجرة "
وقد زار اسحق شامير مرة وحدة "نحل" – التي يخدم طلابها في الجيش – فجاءت على لسانه عبارة قالها علناً وهي قوله: " إن اليشيفوت يجب أن تكون كلها مثل هذه ". ورحبت الصحف اليسارية واليمينية العلمانية بهذا الكلام. اما المتدينون فانهم غضبوا من هدا التصريح وانتقدوه فسحب الأخير تصريحه. كما رد الحاخام اليعازر شاخ على تصريح شامير بقوله: " في حال تمرير قرار ديكتاتوري ضد اليشيفوت ، فإنه سوف لا يبقى طالب واحد في هذا البلد. ومن دون دراسة التوراة سوف لا يكون هناك شعب يهودي. إنني شيخ يهودي وضعيف الجسم ، ولكني أقول إذا جاء اليوم وشرع قانون ضد عالم اليشيفوت فإني سأرفع يدي وأعلن " إذا نسيتك يا أورشليم فلتشل يدي اليمنى" إنّ ابناء التوراة (طلاب اليشيفوت) سوف لا ينسون أرض إسرائيل ، لكنهم سيهاجرون وينفون أنفسهم من أجل أن لا ينسى شعب إسرائيل التوراة".
ويعزى تذمر العلمانيين اليهود في الوقت الحاضر إلى أسباب عدة ، منها ازدياد عدد طلاب اليشيفوت وظهورهم أمام الناس بكثرة. والسبب الآخر هو زيادة المسؤولية على الجنود الاحتياط منذ حرب تشرين الأول (أكتوبروعزّز من هذا الأمر أحقاد الجنود الذين يخدمون في الجيش ضد أولئك الذين لا يشاركونهم في الواجبات من طلاب اليشيفوت. وأصبحت العبارة التي تقول بأن طلاب اليشيفوت ، إنما يضحون بأنفسهم من أجل تعلم التوراة مصدراً من مصادر التندر ، التي يتناولها الناس بالحديث بكثرة وموضوعا للمزاح بينهم ، خاصة بين العلمانيين منهم. ومن الأسباب التي تثير الناس كذلك ، الأموال المخصصة من خزينة الدولة للأحزاب الدينية ، التي تذهب حصة كبيرة منها للإنفاق على طلاب في هذه المدارس. ويقول المنتقدون لطلاب اليشيفوت كذلك أنهم يقبلون في هذه المدارس ، حتى لو كانوا في منتهى البلادة. إذ أن الواحد منهم إذا رفض من مدرسة يشيفاه جيدة ، فإنه يذهب إلى اقل منها ، وإذا رفض من هذه فإنه يذهب إلى أخرى أقل منها ، وهكذا إلى أن يُقبل في واحدة منها.
وقسم من هؤلاء الطلاب ليس لهم رغبة في الدراسة الدينية ، ولا يهتمون بها لكنهم يقبلون في هذه اليشيفوت إما لأنهم من عوائل غنية تساعد اليشيفاه مالياً، أو لأنهم من عوائل دينية لا يرد لها طلب من قبل اليشيفاه ، لأن الخيار الآخر لهؤلاء إذا لم يقبلوا هو الدخول في الجيش ، والخدمة فيه وهذا ما لا يريده لهم مسؤولو اليشيفوت، ولا يريده الطلاب كذلك.
ومما يزيد الطين بلة في نظر الناقدين أن طلاب اليشيفوت غير الصهيونية ، يربون على فكرة أن دولة إسرائيل ، هي دولة غير شرعية ، وأنها كبقية الدول الأجنبية بالنسبة إلى اليهودي ليس لها قدسية على الإطلاق. وان اليهود يعيشون فيها في نفي وشتات ، كما يعيشون في الدول الأخرى كما ذكرنا. وعندما سئل طلاب اليشيفوت عن سبب عدم الخدمة في الجيش أجاب 60% منهم بأنهم لا يخدمون لأنهم لا يعترفون بالدولة ، كما أن حاخاميهم الكبار، مثل الحاخام شاخ، لا يترددون في الإعلان عن هذا الرأي والإفصاح عنه ، بل أنهم ينتقدون أولئك الذين يعتبرون دولة إسرائيل دولة شرعية لليهود أو بداية دولة شرعية.
وقوانين الشريعة اليهودية (الهلخا) عند هؤلاء ، هي فوق قوانين الدولة ، بل وأهم منها ولذلك فإنهم لايعتبرون الخدمة العسكرية ملزمة لهم ، وقد عبّر عن هذه الفكرة أحد حاخاميهم حين قال: " إنني أنتمي إلى الدولة في كل شيء لا يتعارض مع الهلخا. فإذا تبنت الكنيست قانوناً يناقض الهلخا ، فإني اعتبر نفسي ملزماً بالهلخا وليس بقانون الكنيست. إذ أنني لا أخضع لقانون يشرع من قبل 120 عضواً في الكنيست. ولذلك فإن قانون الخدمة العسكرية ليس ملزماً لي باية صورة من الصور ، لأن الأولوية للهلخا التي وضعها عظماء التوراة ".
وقد انشأ العلمانيون منظمة باسم" هيتوريروت" (صحوة) ، هدفها الضغط على الحكومة لادخال الحريديم في الجيش ، وكان أول عمل قامت به، هو دعوة الناس إلى المساهمة في جمع مليون توقيع . وقد وضعوا على ورقة العريضة عبارة كفى استغلالا وتفرقة وابتزازا. كذلك هم يوزعون منشورات ، ويضعون طاولات في أماكن رئيسة يوقفون الناس عندها ويحدثونهم عن ضرورة خدمة الحريديم في الجيش. وكانوا يلصقون على الخلف من السيارات عبارة "شعب واحد وتجنيد واحد".
ومنذ العام الفين أخذ هؤلاء يقومون بالإضراب عن الطعام، بين فترة واخرى. كما أنهم كانوا يضعون خيمة للإحتجاج أمام رئاسة الوزراء.(32). ويبدو أن الحكومة بدأت ترضخ لمثل هذه المطالب والإحتجاجات من قبل العلمانيين. وشرع قانون سمي قانون "تال" ( على اسم زفي تال رئيس اللجنة) يكون نافذ المفعول لبضع سنوات ، وقام الجيش بحملة لإقناع بعض الشباب من خلفيات دينية وتكوين وحدات خاصة بهم أطلق عليها يشيفوت نحل(وكلمة "نحل" مختصر للاسم العبري "نُعرحلوصي لحم" (وتعني الشاب الرائد المقاتل). وهذه اليشيفوت إضافة إلى الدراسة الدينية ، فهي تدرس العلوم الزراعية إلى جانب التدريب العسكري ، وبالاتفاق مع الجيش فإن الطالب يدرس فيها خمس سنوات يتدرب خلالها على الجندية ، ويؤدي خدمة الاحتياط كذلك.ويكون الحريديم نسبة قليلة من هؤلاء المتدينين.
ويؤكد الجيش أن الشباب الحريديم ، الذين ينضمون إلى هذه الوحدة الخاصة ، هم ليسوا من الطلاب الدارسين وإنما هم عادة من الفاشلين في حياتهم لسبب من الأسباب ، وأن آباءهم هم الذين يحبذون إدخالهم في الجيش ، حيث تكون الفرصة الأخيرة لإصلاحهم. وبعض الحاخامين أيضا يشجعون على ذلك ، لأن بقاءهم على حالهم قد يقودهم إلى أن يكونوا مجرمين أو يتحولوا إلى علمانيين.
وكانت أول وحدة قد بدأت عام 1999م بثلاثين شابا ، وازداد عدد هؤلاء اليوم حتى تجاوز الألف. ويرى العلمانيون ، إن العدد الذي التحق بالجيش ، هو قليل جدا منذ تشريع القانون قبل سنوات. وقد مددت الحكومة القانون لسنوات أخرى ، ويحذر الحريديم ابناء جلدتهم من الانضمام الى هذه المجموعة. وتصف منشوراتهم التي يوزعونها في مدينة "بني برق" أن الإنضمام اليها ، هو هولوكست روحي ، وانه انتحار الى غير ذلك من عبارات التحذير(33) ، بل إن بعض الحريديم أخذوا يعتدون على هؤلاء الشباب.
ومن جانب آخر تقوم منظمة "منوف" التي تدافع عن الحريديم بنشر معلومات تردّ فيها على مايذكره العلمانيون وتكذّب اتهاماتهم للحريديم. حيث نشرت كراسا جمعت فيه أقوالا لسياسيين وصحافيين وعسكريين ، تؤكد نصوصه بأن طلاب اليشيفوت لا يحتاجهم الجيش ، منها مانقل عن اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بأنه قال "إن هناك بطالة مبطنة في الجيش وفيه كذلك فائض من الشباب". وكانت اللجنة التي عينها رابين للنظر في الأمر ، اقترحت أن يكون هناك تقليل لعدد الضباط ، وكذلك أيضا التقليل من الإحتياط. ويذكر الكراس ، أن هناك الكثير من العلمانيين الذين يتهربون من الجيش ، ولا يخدمون فيه طبقا للإحصائيات ، وهم لايقومون بشيئ مفيد كما يقوم بذلك الحريديم . ويقول الحريديم في الدفاع عن أنفسهم أيضا ، لوكنا ندعى لشيئ مفيد لقمنا به.(34)
ويقولون كذلك إن الحريديم لايؤذون أحدا في عدم خدمتهم في الجيش،وأن على العلمانيين قبل أن يتهموا الحريديم بذلك ، أن ينظروا إلى الإحصاءات التي تقول ، إن الشباب الذين يجب أن يخدموا في الجيش ، يتناقص عددهم بمرور الزمن ، وهم عندما يتخلفون لايقومون بعمل مفيد. وقد وجدت لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي في التسعينات من القرن الماضي بان ثلث من يدعى إلى الخدمة العسكرية يعفى منها بسبب الحالة الصحية ، أو لأسباب أخرى وأن ربع هؤلاء فقط هم من الحريديم .(35)
وفي استطلاع أجري عام 2002م وجد أن نسبة كبيرة من الذين تجب عليهم الخدمة العسكرية يتفادون الخدمة . وهذا يعطي انطباعا واضحا بأن نظرة الإسرائيليين إلى الجيش قد اختلفت عما كانت عليه إلى بضع سنوات سابقة ، وما يقوله الحريديم في هذا الخصوص فيه الكثير من الصحة. فقد اكتشفت الشرطة وبعد التحقيق ان عملية تزوير وتحايل يقوم بها الكثير من الإسرائيليين للتهرب من خدمة الإحتياط في الجيش . ويساعدهم على هذا التزوير أطباء في المستشفى المركزي في الجيش (تل هاشومر) مقابل أجور تتراوح بين مئات الدولارات إلى الآلاف ، طبقا لطول الفترة التي يريدها المتقدم. ويوقع الأطباء على وثائق إعفاء هؤلاء الناس من خدمة الإحتياط. والكثير منهم من الأثرياء والناجحين في حياتهم . وقد أطلقت الشرطة على ما قام به هؤلاء الأطباء بأنه "معمل" لتفادي الخدمة في الجيش. وقد كتبت الصحافة كثيراً عن هذا الموضوع والذي اعتبر فضيحة في حينها. ويرى بعض الباحثين ، أن الكثير من العلمانين يرى بأن تفادي الخدمة في الجيش ، هو شيء ضروري ، وكان أحد نجوم الأغنية الإسرائيلين الشباب –أفيف غفن- قد نصح الشباب ، بأن ترك البلد أفضل لهم من الخدمة في الجيش.(36)
وقد قام المدعي العام الإسرائيلي في عام2008م بالتحقيق حول ماذكر بأن منظمة اسمها "نيو بروفايل" ، تشجع الشباب على تفادي الخدمة في الجيش ن كما أن قاضيا عسكريا قدم شكوى إلى المدعي العام ضد هذه المنظمة ، فطلب المدعي العام من الشرطة أن تقوم بالتحقيق. وقال نائبه إن ماتقوم به هذه المنظمة ، هو خرق للقانون ولكن المنظمة تقول إنها تشجع أولئك الذين لايريدون أن يشاركوا في القتل.
وعدا عن اليشيفوت التي ذكرناها ، هناك يشيفوت يخدم طلابها في الجيش تسمى "توراه وملأخاه" (التوراة والعمل)، وهي تخلط الدراسة الدينية مع التدريب على الحرف. وطلاب هذه اليشيفوت ينضمون إلى الجيش ، ويخدمون فيه ويستفيدون مما تعلموه في اليشيفوت ، ومنها يشيفوت هسدر (تعني تنظيم/ ترتيب) ، وهي كانت قد بدأت هذه في الستينات من القرن الماضي. ولابد أن يوقع الطلاب فيها على البقاء خمس سنوات ، يقضون منها سنتين في الجيش. وهم عادة يخدمون في الجيش سوية ، وتكون لهم وحدات خاصة بهم ، ليتمكنوا من أداء واجباتهم الدينية.
وهناك بعض اليشيفوت مثل "مركز هاراب" وهي يشيفاه شهيرة أنشأها الحاخام إبراهام كوك ، وهي تفرق بين الطالب الذي يريد أن يصبح عالم تلمود والطالب الأقل جدية. فالثاني – بالاتفاق مع المؤسسة العسكرية – يؤدي تسعة أشهر خدمة إلزامية في الجيش وكذلك خدمة الاحتياط. وقد عرض الجيش على الحاخام اليعازر شاخ العرض نفسه ليطبقه على اليشيفاه التي يرأسها لكنه رفض قائلاً " إذا وافقت الآن على تسعة أشهر فإنه سيطلب مني بعد ذلك مدة أطول" . ونسب إليه القول أنه لا يريد أن يفتح علبة ديدان. ورفض اقتراحاً سابقاً كذلك ، وهو أن يعطى لهؤلاء الطلاب مهمات بسيطة في الجيش ، وأن لا يجندوا في وحدات قتالية. وقد ذكرنا سابقا أن بعض يشيفوت "بعلي تشوفاه" يخدم طلابها في الجيش أيضا. والغالبية العظمى من هذه اليشيفوت تدرس الفكر الديني الصهيوني ، ويتخرج منها عادة أعضاء حركة "غوش أمونيم" – وهي جماعة صهيونية دينية – وقد أنشأت كثيرا من المستوطنات في الضفة الغربية كما هو معروف، وأكثر حاخامي هذه المستوطنات هم خريجو هذه اليشيفوت. وهؤلاء معروفون بعدائهم للفلسطينيين بل ويدعون إلى طردهم والتنكيل بهم ، وحتى قتلهم وهم لايخفون ذلك ، ولايخشون أحدا من التصريح به والإعلان عنه . وقد أصدر حاخام اسمه يسحق شبيرا ,وهو رئيس يشيفاه في مستوطنة يزحار ، مع زميل له كتابا بعنوان "توراة هملخ" (توراة الملك) عام2009م يستدل فيه على أن وصية " لاتقتل" تنطبق على قتل اليهودي لليهودي فقط ، ولذلك يجوز قتل غير اليهود ، حتى الأطفال والرضع إذا اعتقد أنهم سيؤذون الإسرائيليين. وقد أيد ماجاء في الكتاب بعض الحاخامين المعروفين في إسرائيل.

ومما يذكر هنا أيضاً أن مسألة خدمة البنات في الجيش كانت قد أثارت غضب اليهود الحريديم أيضاً في بداية ظهور إسرائيل. وكان حاخاموهم قد حاولوا إقناع بن غوريون أن يعطي البنات استثناء من الخدمة العسكرية ، ولكنه لم يستجب لهم وأعطى خيار الخدمة العامة للبنات المتدينات .(37) وطلب حاخامو هذه الجماعة من البنات أن لا ينضممن إلى الجيش ولا يخدمن فيه، وأن يحاربن ذلك حتى الموت. واستمر الصراع بين هؤلاء والحكومة سنوات عدة ، إلى أن استقر الأمر على موافقة الحكومة على عدم خدمتهن في الجيش ، على أن يذهبن إلى المحكمة الدينية ، ويعلن أمام قضاتها بأن سبب عدم الخدمة هو ديني. ونسبة عالية من البنات اللاتي لا يخدمن في الجيش ، هن من البنات المتدينات.


هوامش:
(1) H.Samual , Defenders of the Faith, p.19
(2) Ibid, pp18-20
(3) Ibid,p19

(4) A. Wertheim, Law and Custom in Hasidism p.297

راجع كتابنا اليهود الحسيديم ص (5) 192
(6) Ph.Birnbaum, Encyclopedia of jewish Concepts, p622

راجع ،اليهود الحسيديم(7)290
(8) B. Greenberg,How to run A Traditional Jewish Household pp191 -2

(9) A. Wertheim, op. cit. p301

(10) H.Samual,op.cit.p278

(11) Ibid.,p317

(12) Ibid., p.279

(13) Ibid.,p121

(14) D. Landau, Piety and Power in Israel,pp282-4

(15) H.Samual, op. cit p 30

(16) N.D.Lang Modern Judaism,p101

(17) S.Z. Abranov,Perpetual Dilemma: Jewish Religion in the Jewish State p.163

(18) P.Y. Medding(ed.) Israel State and Society,1948-1988,P.100

(19) Ibid., p.99

(20) Ibid., pp.91-92


(21) B.Kemmirling (ed.) The Israeli State and Soceity,Boundry and Frontier,p.209
(22) P.Y, Medding, op. cit. p.100

(23) W. Frankel, Israel Observed, p.215

(24) E. Etzion-Halevy, The Divided People,Can Israel’s Break up Be Stopped?p.45

(25) Encyclopedia Judaica,Nathan Birnbaum

(26)E. Etziony-Halevy,The Divided People:Can Israel’s Breakup
Be Stopped,p.30
(27)
حسن،جعفر هادي، اليهود الحسيديم ص151
(28)The Jewish Chronical newspaper,21-5-2010

(29) N.J. Efron,, Real Jews,p.64

(30)H. Samuel,Defenders of Faith,p.84

(31)I. Shahak & N. Mezvinsky,Jewish Fundamentalism in Israel pp.26-27

(32) N.J.Efron, op. cit.p.63

(33) Ibid, pp.80-81

(34) Ibid, pp.70-71

(35)Ibid,p.71

(36)Ibid,p.85

(37)N.J.Efron,op.cit.,p49








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد