الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحركة الطلابية الثورية النظرية والممارسة - إرنست ماندل

بشير السباعي

2021 / 6 / 23
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


إرنست ماندل
الحركة الطلابية الثورية النظرية والممارسة

ترجمة: بشير السباعي
المحتويات

تمهيد
I. الحركة الطلابية الثورية: النظرية والممارسة
II. أسئلة من الحاضرين
III. الدور المتغير للجامعة البورجوازية
إشارات

تمهيد
في عام 1968، تحدث إرنست ماندل، الماركسي البلجيكي البارز، في ثلاث وثلاثين كلية وجامعة في الولايات المتحدة وكندا، من هارفارد إلى بيركلي ومن مونتريال إلى فانكوفر. وقد ملأ أكثر من 600 شخص قاعة التعليم في جامعة نيويورك في 21 سبتمبر/ أيلول 1968، بمناسبة اللقاء العالمي للحركات الطلابية الثورية. وقد اعتبر حديث ماندل هناك أبرز حدث للِّقاء وإحدى ذرى جولته كلها. ويظهر حديثه ومقتطفات رئيسية من المناقشة التي تلته كقسمين أولين لهذا الكراس.
كان حديث ماندل سجالاً قويًّا ضد اتجاهات "النشاطية" و "العفوية" الخالصة التي انبثقت مؤخرًا بين بعض الراديكاليين في الغرب. لقد تحدث مدافعًا عن المفهوم الماركسي حول الوحدة التي لاغنى عنها بين النظرية والممارسة. وخلال فترة النقاش، أجاب ماندل باستفاضة على عدد من المسائل الخلافية في الأوساط الراديكالية اليوم. ومن بينها الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية للاتحاد السوفييتي و "الثورة الثقافية" في الصين، وضرورة حزب لينيني، والحوافز المعنوية إزاء الحوافز المادية، ومسائل أخرى عديدة.
أما القسم الثالث من هذا الكراس فهو حديث ألقاه ماندل في ندوة العلم والصالح العام بمناسبة الذكرى التاسعة والسبعين لجامعة ريجيكس في لايدن، بهولندا في عام 1970. ويحاول ماندل التدليل على أن حاجة الرأسمالية الحاضرة إلى قوة عمل واسعة عالية التدريب قد حفزت التوسع السريع للجامعات وأنتجت "بلترة" للعمل الثقافي، أي، إخضاعه لمتطلبات رأسمالية لا تتماشى مع المواهب الخاصة لفرد ما أو مع الاحتياجات الإنسانية.
وقد أدى هذا الاغتراب المتزايد للعمل الثقافى إلى توليد جزء كبير من التمرد الطلابي الحالي الذي، وإن كان لايمكنه أن يكون في حد ذاته بديلاً عن طليعة عمالية، يمكنه بدء تفجرات داخل شرائح أوسع من المجتمع. وهو يحاول التدليل على أن على الطلبة أن يترجموا معرفتهم النظرية، المكتسبة في الجامعة، إلى نقد جذريٍّ للمجتمع القائم له حالية بالنسبة للأغلبية. إن على الطلبة أن يناضلوا داخل الجامعة وخارجها من أجل مجتمع يضع تعليم الناس قبل مراكمة الأشياء.

I. الحركة الطلابية الثورية: النظرية والممارسة

إن رودي دوتيشكه، قائد طلبة برلين، وعديد من الشخصيات الطلابية النموذجية في أوروبا، قد طرحوا كفكرة مركزية لنشاطهم مفهوم وحدة النظرية والفعل، وحدة النظرية الثورية والفعل الثورى. إن هذا الخيار ليس اعتباطيًّا. فوحدة النظرية والفعل يمكن اعتبارها أهم درس للخبرة التاريخية يستخلص من الثورات السابقة في أوروبا وأمريكا وأجزاء أخرى من المعمورة.
إن التقاليد التاريخية التي تجسد هذه الفكرة إنما تمتد من بابيف عبر هيجل إلى ماركس. وهذا المكتسب الإيديولوجى يعني أن الحركة التحررية العظيمة للبشرية ينبغي أن يوجهها جهد واع من أجل إعادة بناء المجتمع، من أجل التغلب على وضع تتحكم فيه القوى الغاشمة لاقتصاد السوق في الإنسان ويبدأ فيه أخذ مصيره بين يديه. وهذا الفعل التحرريّ الواعي لا يمكن القيام به بفعالية، ولا يمكن الوصول به إلى منتهاه، بالتأكيد، مالم يعِ الإنسان البيئة الإجتماعية التي يحيا فيها، مالم يعِ القوى الإجتماعية التي يتعين عليه مواجهتها والشروط الاجتماعية والاقتصادية العامة لهذه الحركة التحررية. وكما أن وحدة النظرية والفعل مرشد أساسي لأي حركة تحررية اليوم، فإن الماركسية تعلم أن الثورة، الثورة الواعية، لا يمكنها أن تنجح ما لم يفهم الإنسان أولاً طبيعة المجتمع الذي يحيا فيه، ما لم يفهم القوى المحركة وراء التطور الاجتماعي والاقتصادي في ذلك المجتمع. وبعبارة أخرى، فإنه إن لم يفهم القوى التي تقود الثورة الاجتماعية، فإنه لن يتمكن من تحويل هذا التطور إلى ثورة. ذلك هو المفهوم الرئيسي الذى يدخله الوعي الماركسي إلى الحركة الطلابية الثورية في أوروبا.
وسوف نحاول تبيان أن هذين المفهومين، وحدة النظرية والفعل، والفهم الماركسي لتناقضات المجتمع الموضوعية، اللذين وجدا قبل انبثاق الحركة الطلابية في أوروبا بوقت طويل، قد أعيد اكتشافهما وأعيد إدماجهما في النضال العملي على يد الحركة الطلابية الأوروبية كنتيجة لخبراتها الخاصة. إن الحركة الطلابية تنبثق في كل مكان –وليس الأمر مختلفًا في الولايات المتحدة- كتمرد ضد الشروط المباشرة التي يواجهها الطلبة في مؤسساتهم الأكاديمية، في الجامعات والمدارس العليا. وهذا الجانب واضح في الغرب حيث نحيا، وإن كان الوضع مختلفًا تمامًا في البلدان النامية. هناك تدفع قوى وظروف أخرى عديدة الشبيبة الجامعية أو غير الجامعية إلى التمرد. بيد أنه على امتداد العقدين الماضيين، فإن نوعية الشبيبة التي تذهب إلى الجامعة فى الغرب لاتجد عمومًا فى بيوتها، شروطها العائلية، أو في البيئات المحلية، أسبابًا ملحة لتمردات اجتماعية.
هناك، بالطبع، استثناءات. والجماعة البشرية السوداء في الولايات المتحدة هي استثناء كهذا؛ ويمثل العمال المهاجرون الذين لا يحصلون على أجور أقل في أوروبا الغربية استثناءً آخر. لكن الطلبة الذين يجيئون من هذا الوسط البروليتاري الأفقر لايزالون، في معظم البلدان الغربية، أقلية ضئيلة. إن الغالبية الساحقة من الطلبة إنما تجيء إما من وسط بورجوازي صغير أو بورجوازي متوسط أو من الشرائح الأعلى دخلاً بين الذين يحصلون على رواتب أو الذين يحصلون على أجور. وهم عندما يصلون إلى الجامعة فإنهم يجدون أنفسهم على وجه العموم غير مهيئين عن طريق نوع الحياة الذى عاشوه حتى ذلك الحين لتفهم دواعى التمرد الاجتماعي تفهمًا شديد الوضوح أو تامًّا. فهم يتوصلون لأول مرة إلى فهم ذلك ضمن إطار الجامعة. وأنا لا أشير إلى الأقليات الاستثنائية الصغيرة المتمثلة في العناصر الواعية سياسيًّا، بل إلى جمهور الطلاب الواسع الذى يجد نفسه في مواجهة عدد معين من الظروف التي تقوده إلى طريق التمرد.
وباختصار، فإن هذه الظروف تشمل قصور تنظيم الجامعة وهيكلها وبرنامجها إلى جانب سلسلة كاملة من الوقائع المادية والاجتماعية والسياسية للتجربة ضمن إطار تلك الجامعة البورجوازية التي تصبح عسيرة الاحتمال بالنسبة لجزء متزايد الاتساع من الطلاب. ومن المفيد الإشارة إلى أن المنظرين والمربين البورجوازيين الذين يريدون فهم أسباب التمرد الطلابي قد اضطروا إلى أن يدخلوا من جديد في تحليلهم للوسط الطلابي أفكارًا معينة كانوا قد استبعدوها منذ وقت بعيد في تحليلهم العام للمجتمع.
فمنذ أيام قليلة، عندما كنت في تورونتو، ألقى أحد المربين الكنديين البارزين محاضرة عامة حول أسباب التمرد الطلابي. وقد قال إن هذه الأسباب "هي من حيث الجوهر أسباب مادية. ليس الأمر أن ظروفهم المعيشية غير مرضية، ليس الأمر أنهم يعاملون معاملة سيئة كعمال القرن التاسع عشر. لكننا من الناحية الاجتماعية قد خلقنا نوعًا من البروليتاريا في الجامعات لا حق له في المشاركة في تحديد البرامج، لا حق له ولو في المشاركة في تحديد حياته الخاصة خلال السنوات الأربع أو الخمس أو الست التي يقضيها في الجامعة".
ومع أنني لا أستطيع قبول هذا التعريف غير الماركسى للبروليتاريا، فإنني أعتقد أن هذا المربي البورجوازي قد كشف جزئيًّا أحد جذور التمرد الطلابي المعمم. إن هيكل الجامعات البورجوازية هو مجرد انعكاس للهيكل الهرمي العام للمجتمع البورجوازي؛ وكل منهما يصبح غير مقبول لدى الطلاب، حتى مع مستوى وعيهم الاجتماعي البسيط الحالي. ومن شأن البحث في الجذور السيكولوجية والمعنوية الأعمق لهذه الظاهرة أن يجرنا إلى بعيد جدًّا. بيد أنه في بعض البلدان الأوروبية، والولايات المتحدة أيضًا على الأرجح، فإننا نجد أن المجتمع البورجوازي على نحو ما سار عليه خلال الجيل الأخير على امتداد السنوات الخمس والعشرين الماضية قد أفرز تحللاً واسع الانتشار للعائلة البورجوازية الكلاسيكية. والحال أن الطلاب المتمردين، بوصفهم شبيبة، قد تعلموا أولاً وقبل كل شيء عبر تجربتهم الشك في كل سلطة، بدءً بسلطة آبائهم.
وهذا صارخ للغاية في بلد كألمانيا. وإذا كنتم اليوم تعرفون شيئًا ما عن الحياة الألمانية أو تدرسون انعكاساتها في الأدب الألماني، فسوف تعرفون أنه، حتى الحرب العالمية الثانية، كانت السلطة الأبوية أقل عرضة للشك في ذلك البلد. لقد كان خضوع الأبناء لآبائهم محفورًا بعمق شديد في نسيج المجتمع. ثم مرت الشبيبة الألمانية عبر سلسلة من التجارب المريرة بدءًا بجيل من الآباء الألمان أيد النازية تأييدًا واسعًا، ومضى يعانق الحرب الباردة وركن مرتاحًا إلى افتراض أن ما تسمى بـ "الرأسمالية الشعبية" (المسماة بـ "اقتصاد السوق الاجتماعي") لن تعرف فترات ركود ولا أزمات ولا مشكلات اجتماعية. إن الإخفاقات المتتالية لهذين الجيلين أو الأجيال الثلاثة من الآباء قد خلفت اليوم بين الشباب شعورًا عميقًا بالاحتقار لسلطة من يكبرونهم وهيأتهم، عند دخولهم الجامعة، لعدم قبول أي شكل من أشكال السلطة دون تحد أو دون تحفظات جادة.
وهم يجدون أنفسهم مواجهين في المقام الأول بسلطة أساتذتهم والمؤسسات الجامعية التي من الواضح أنها، في حقل العلوم الاجتماعية على الأقل، بعيدة عن ملامسة الواقع. إن الدروس التي يتلقونها لا تسمح بأي تحليل علميٍّ موضوعيٍّ لما يجري في العالم أو في البلدان الأوروبية المختلفة. وسرعان ما يصبح هذا التحدي للسلطة الأكاديمية كمؤسسة تحديًا لمضامين التعليم.
وبالإضافة إلى ذلك، فإننا في أوروبا، بأكثر بكثير مما في الولايات المتحدة على الأرجح، نقابل شروطًا مادية شديدة القصور في الجامعات. إنها مزدحمة. ويضطر آلاف الطلبة إلى الاستماع لأساتذتهم عن طريق الشبكات الصوتية. وهم لا يسعهم التحدث مع أساتذتهم أو إجراء أي اتصال أو تبادل عادي للآراء أو حوار. كما أن شروط الإسكان والتغذية سيئة. وتساعد بعض العوامل الإضافية على توسيع قوى التمرد الطلابي. بيد أنه ينبغي لي التأكيد على أن معين التمرد سوف يستمر حتى لو جرى تصحيح هذه الشروط المادية. فالهيكل الاستبدادي للجامعة، والجوهر القاصر للتعليم الذي يتلقاه الطلبة، على الأقل في حقل العلم الاجتماعي، يولدان سخطًا أشد من ذلك الذي تولده هذه الشروط المادية.
وهذا هو السبب في أن محاولات إصلاح الجامعة التي تحفزها الأجنحة الأكثر ليبرالية لمختلف المؤسسات في المجتمع الرأسمالي الغربي الأحدث سوف تفشل على الأرجح. فهذه الإصلاحات لن تحقق هدفها لأنها لا تأخذ في حسابها المصادر الفعلية للتمرد الطلابي. فهي ليست غير ميالة وحسب إلى القضاء على أسباب اغتراب الطلاب، بل إن من شأنها، إذا ما طبقت على نطاق واسع، أن تزيد من تفاقم هذا الاغتراب.
ما هو هدف الإصلاح الجامعي على نحو ما يعرضه الإصلاحيون الليبراليون في العالم الغربي؟ إنه فى الواقع محاولة لإعادة تنظيم الجامعة بحيث تتماشى مع متطلبات الاقتصاد النيو رأسمالي والمجتمع النيو رأسمالي. إن هؤلاء السادة يقولون: طبيعي أنه لأمر شديد السوء أن توجد بروليتاريا أكاديمية، أنه لأمر شديد السوء أن يتخرج طلاب عديدون من الجامعات ولا يتسنى لهم العثور على وظائف. فهذا يقود إلى توتر اجتماعي وانفجار اجتماعي.
فكيف نحل هذه المشكلة؟ إننا سوف نحلها بإعادة تنظيم الجامعات وتوزيع عدد الأماكن المتاحة وفقًا لمتطلبات الاقتصاد النيو الرأسمالي. ففى بلد يحتاج إلى 100000 مهندس سوف نعمل على تخريج 100000 مهندس بدلاً من 50000 عالم اجتماعي أو 20000 مشتغلٍ بالفلسفة لا يمكنهم العثور على عمل. وسوف يؤدى ذلك إلى إزالة الأسباب الرئيسية للتمرد الطلابي.
هنا نجد أنفسنا إزاء محاولة تستهدف إخضاع وظائف الجامعة، بشكل أشد مما فى السابق بكثير، للحاجات المباشرة للاقتصاد والمجتمع الرأسماليين الأحدث. ومن شأن هذه المحاولة أن تولد درجة أعلى بكثير من درجات الاغتراب الطلابي. ولو طبقت هذه الإصلاحات، فإن الطلبة لن يتمتعوا بهيكل وتعليم جامعيين يتماشيان مع رغباتهم. إنهم لن يسمح لهم ولو باختيار العمل وميدان التعليم والتخصصات التي يريدون والتي تتماشى مع مواهبهم وحاجاتهم في التحقيق الذاتي لشخصياتهم. إنهم سوف يجبرون على قبول الأعمال والتخصصات وميادين التعليم التي تستجيب لمصالح حكام المجتمع الرأسمالي، وليس لحاجاتهم الخاصة ككائنات بشرية. وهكذا سيتم فرض مستوى أعلى من الاغتراب عبر إصلاح الجامعات.
وأنا لا أقول إننا يجب أن نتخذ موقف اللامبالاة إزاء أي نوع من الإصلاحات الجامعية. فمن الضروري العثور على بعض الشعارات الانتقالية للمشكلات الجامعية تمامًا كما حاول الماركسيون العثور على شعارات انتقالية لحركات اجتماعية أخرى في أي قطاع تنبثق فيه إلى الوجود.
وعلى سبيل المثال، فإنني لا أرى سببًا لعدم طرح شعار "السلطة الطلابية" ضمن إطار الجامعة. فهو لا يصلح بالنسبة للمجتمع كله، لأن هذا معناه أن تحتكر أقلية صغيرة لنفسها حق حكم الأغلبية الساحقة من المجتمع. أما ضمن الجامعة، فإن شعار "السلطة الطلابية" أو أي شعار يترسم مبادئ التسيير الذاتي نفسها من جانب جمهورالطلاب، يتمتع بصلاحية معينة.
وحتى في الجامعة، فإنني أؤثر التحفظ نوعًا ما لأن هناك مشكلات عديدة تجعل الجامعة مختلفة عن المصنع أو عن جماعة منتجة. فليس من الصواب القول، كما يفعل بعض منظري الـ SDS الأمريكي، إن الطلبة هم عمال بالفعل. إن غالبية الطلاب سوف يصبحون في المستقبل عمالاً أو عمالاً جزئيين. ويمكن مقارنتهم بالفتيان المتمهنين في مصنع لأنهم من زاوية العمل الثقافى في موقف مماثل كالفتيان المتمهنين من زاوية العمل اليدوي. إن لهم دورهم الاجتماعي ومكانتهم الانتقالية الخاصة في المجتمع. ولذلك ينبغي لنا أن نكون حذرين عند صوغ مثل هذا الشعار الانتقالي.
بيد أنه لا داعى للاستفاضة في هذا النقاش الآن. دعونا نقبل الآن فكرة "السلطة الطلابية" أو "الرقابة الطلابية" كشعار انتقالي مقبول ضمن إطار الجامعة البورجوازية. غير أنه من الواضح بصورة مطلقة أن تحقيق مثل هذا الشعار نفسه، وهو أمر مستحيل في حد ذاته لأي فترة طويلة، لن يغير جذور اغتراب الطلاب لأن هذه الجذور لا تكمن في الجامعة نفسها وإنما في المجتمع برمته. ولا يمكنكم تغيير قطاع صغير من المجتمع البورجوازي، هو الجامعة البورجوازية في الحالة التي نتحدث عنها، ثم تتخيلون أن بالإمكان حل المشكلات الاجتماعية ضمن هذا الجزء الصغير، مادامت مشكلة تغيير المجتمع برمته لم تحل بعد.
فما دامت الرأسمالية قائمة، سيظل هناك عمل مُغَرَّب، عمل يدوي مُغَرَّب وبالقطع أيضًا عمل ثقافى مُغَرَّب، ومن ثم طلبة مُغَرَّبون، مهما كانت التغيرات التي يتسنى للفعل المباشر تحقيقها ضمن إطار الجامعة.
وهنا أيضًا، فإن هذا الكلام ليس ملاحظة نظرية مُستلهَمة من السماء. إنه درس الخبرة العملية. فالحركة الطلابية الأوروبية، على الأقل جناحها الثورى، قد مرت عبر تجربة مماثلة فى البلدان الأوروبية الغربية كلها تقريبًا. وإذا اقتصرنا على الخطوط العريضة في حديثنا، فقد بدأت الحركة الطلابية بمسائل جامعية داخلية ثم تجاوزت حدود الجامعة بسرعة. وأخذت تطرح سلسلة من المشكلات الاجتماعية والسياسية العامة التي لم تكن مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بما كان يجري داخل الجامعة. إن ما حدث في جامعة كولومبيا عندما طرح الطلاب المتمردون مسألة اضطهاد السود مماثل لما حدث في الحركة الطلابية الأوروبية الغربية، على الأقل بين العناصر الأكثر تقدمًا، الأشد تحمسًا لمشكلات الأجزاء الأشد عرضة للاستغلال في النظام الرأسمالي العالمي.
لقد انخرطوا في أعمال تضامن مختلفة مع النضال التحرري الثوري للشعوب في البلدان النامية، مع كوبا وفيتنام والأجزاء المضطهدة الأخرى من العالم الثالث. إن تماهي الأقسام الأكثر وعيًا من الحركة الطلابية الفرنسية مع الثورة الجزائرية، مع نضال الجزائريين التحرري ضد الإمبريالية الفرنسية، قد لعب دورًا عظيمًا للغاية. ولعل هذا هو الإطار الأول الذى حدث ضمنه تمايز سياسي فعلي على يسار الحركة الطلابية. وقد لعب هؤلاء الطلاب أنفسهم فيما بعد دورًا طليعيًّا في النضال من أجل الدفاع عن الثورة الفيتنامية ضد حرب العدوان التى تخوضها الإمبريالية الأمريكية.
وفي ألمانيا، كانت لهذا التعاطف مع الشعوب الكولونيالية نقطة انطلاق فريدة. لقد تفجر التمرد الطلابى الضخم بواسطة عمل تضامني مع عمال وفلاحين وطلاب بلد آخر من بلدان مايسمى بالعالم الثالث، وهو إيران، بمناسبة زيارة شاه إيران لبرلين.
إن الطليعة الطلابية لا تتماهى فقط مع النضالات الخاصة في الجزائر وكوبا وفيتنام؛ إنها تتعاطف مع التحرر الثوري لما يسمى بالعالم الثالث برمته. وقد بدأ التطور من هناك. ففي فرنسا وألمانيا وإيطاليا – والعملية نفسها تحدث الآن في بريطانيا - لم يكن ممكنًا بدء عمل تضامني ثوري مع شعوب العالم الثالث دون تحليل نظري لطبيعة الإمبريالية والاستعمار والقوى المحركة المسؤولة من ناحية عن استغلال العالم الثالث من قبل الإمبريالية والمسؤولة من ناحية أخرى عن حركة التحرر الذاتي للجماهير الثورية في هذه البلدان ضد الإمبريالية.
وعبر منعطف تحليل الاستعمار والإمبريالية فإن القوى الأكثر وعيًا وتنظيمًا في الحركة الطلابية الأوروبية قد أعيدت إلى النقطة التي تبدأ منها الماركسية، أي، إلى تحليل المجتمع الرأسمالي والنظام الرأسمالي العالمي الذى نحيا فيه. إننا إن لم نفهم هذا النظام، فلن نفهم أسباب الحروب الكولونيالية أو الحركات التحررية الكولونيالية. كما أننا لن نفهم لماذا ينبغي لنا أن نتضامن مع هذه القوى على صعيد عالمي.
وفى حالة ألمانيا، لم يأخذ انطلاق هذه العملية غير أقل من ستة أشهر. لقد بدأت الحركة الطلابية بالشك فقط في الهيكل الاستبدادي للجامعة، ومضت إلى مسألة الإمبريالية والبؤس في العالم الثالث، ثم بتضامنها مع حركاته التحررية توصلت إلى ضرورة إعادة تحليل النيو رأسمالية على صعيد عالمي وفي البلد نفسه الذى كان الطلبة الألمان نشطين فيه. وكان يتعين عليهم العودة إلى نقطة انطلاق التحليل الماركسي للمجتمع الذي نحيا فيه لكي يفهموا الأسباب الموضوعية الأعمق للبؤس الاجتماعي وللتمرد الاجتماعي.

وحدة النظرية والفعل
في السيرورة الكلية لوحدة النظرية والفعل الدينامية، أحيانًا ما تكون النظرية في مقدمة الفعل وأحيانًا ما يتقدم الفعل النظرية. بيد أن ضرورات النضال في كل مرحلة تجبر المشاركين فيه على استعادة تلك الوحدة على مستوى أعلى باستمرار.
ولكي نفهم هذه السيرورة الدينامية ينبغي الاعتراف بأن خلق أي تعارض بين الفعل المباشر والدراسة طويلة المدى هو منهج خاطئ. لقد فوجئت خلال مؤتمر الباحثين الاشتراكيين وفي اجتماعات أخرى مختلفة حضرتها في الولايات المتحدة خلال الأسبوعين الأخيرين بالطريقة المنتظمة التي جرى بها الدفاع عن هذا التقسيم على نحو أو آخر. لقد كان الأمر أشبه بمناقشة بين جماعة من الصم يقول فيها جزء من الحاضرين "من الضروري فقط بدء الفعل، الفعل المباشر، فكل ما عداه لا فائدة منه"، بينما يقول الجزء الآخر، "كلا، قبل أن تفعل ، ينبغي لك أن تعرف ما الذي ينبغي لك عمله، ولذا فلا تفعل الآن، اجلس، ادرس، اكتب كتبًا" (تصفيق).
إن الدرس الواضح المكتسب من الخبرة التاريخية، ليس للفترة الماركسية فقط، بل وللفترة السابقة على الماركسية في الحركة الثورية، هو أنك لا يمكنك تحقيق أيهما دون الآخر. (تصفيق). فالفعل الذي لا يسترشد بنظرية لن يكون فعالاً أو ذا طبيعة تحررية عميقة لأنه، كما قلت سلفًا، لا يمكن تحرير البشرية دون وعي. ومن ناحية أخرى، فإن النظرية المنفصلة عن الفعل لن تكون علمية حقًّا إذ لا سبيل إلى امتحان النظرية سوى عن طريق الفعل.
وأي نظرية لا تمتحن عن طريق الفعل ليست نظرية مناسبة، إنها نظرية عديمة الفائدة فيما يتصل بتحرير البشرية (تصفيق). وإنه لعن طريق سعي متصل إلى تحقيق الاثنين في وقت واحد، بشكل متزامن، ودون تقسيم للعمل، يمكن استعادة وحدة النظرية والفعل على مستوى أعلى بشكل متصاعد بحيث يتسنى لأي حركة ثورية، أيًّا كانت أصولها وأهدافها التقدمية من الناحية الاجتماعية، بلوغ غاياتها فعلاً.
وفي صدد تقسيم العمل، فقد طُرِحت فكرة أخرى صدمني ما في طرحها من شذوذ بالغ أمام اجتماعٍ لاشتراكيين. إن هذا التقسيم السائد بين النظرية والفعل، والذى هو سيء للغاية في حد ذاته، يُخْلَعُ عليه بُعْدٌ جديد في الحركة الاشتراكية عندما يقال: إن النشطاء، الناس البسطاء الذين يقومون بالأعمال القذرة، يقعون في فئة. وفي فئة أخرى تقع الصفوة التي يتمثل دورها في التفكير. فإذا انخرطت هذه الصفوة في المفارز، فإنها لن تجد وقتًا للتفكير أو كتابة الكتب، وفي هذه الحالة سيُهْدَرُ عنصر ثمين من عناصر النضال التحرري.
ينبغي لي القول إن فكرة العودة إلى إدخال التقسيم الأساسي للعمل بين العمل اليدوي والعمل الثقافي، بين الأغلبية التي تقوم بالعمل القذر والصفوة التي تقوم بالتفكير – إلى الحركة الثورية - هي فكرة غير اشتراكية تمامًا. إنها تتعارض مع أحد الأهداف الرئيسية للحركة الاشتراكية، هو على وجه التحديد تحقيق تلاشي التقسيم أو التمييز بين العمل اليدوي والعمل الثقافي (تصفيق) ليس فقط داخل المنظمات، وإنما، وهذا هو الأهم بكثير، على صعيد المجتمع برمته. ولم يكن بوسع الاشتراكيين الثوريين منذ خمسين أو مائة سنة خلت استيعاب ذلك بوضوح كذلك الوضوح الذى نمتلكه حيث تتوافر الإمكانيات الموضوعية لتحقيق هذا الهدف. لقد دخلنا بالفعل سيرورة تكنولوجيا وتعليم موضوعية تعمل في اتجاه هذه الغاية.
إن أحد الدروس الرئيسية التي ينبغي استخلاصها من انحطاط الثورة الروسية هو أنه إذا ما جرت المحافظة على هذا التقسيم بين العمل اليدوي والعمل الثقافي في أي مجتمع يجتاز عهد انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية بوصفه مؤسسة دائمة، فإنه لا يمكنه إلا أن يفرخ البيروقراطية وتفاوتات جديدة وأشكالاً جديدة للاضطهاد الإنساني تتعارض مع مجتمع اشتراكي (تصفيق).
لذا ينبغي لنا أن نبدأ بأن نزيل قدر المستطاع أي فكرة عن تقسيم كهذا للعمل في الحركة الثورية نفسها. ينبغي لنا أن نحدد كقاعدة عامة أنه لا يمكن أن يكون هناك منظرون جيدون إن لم يكونوا قادرين على المشاركة في الفعل، وأنه لا يمكن أن يكون هناك نشطاء جيدون إن لم يكونوا قادرين على استيعاب النظرية وتدعيمها وتطويرها (تصفيق).
لقد حاولت الحركة الطلابية الأوروبية تحقيق ذلك إلى حد معين وببعض النجاح في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. لقد انبثق نمط قائد طلابي هو محرض، ويمكنه حتى، إذا دعت الضرورة، إقامة متراس والقتال من ورائه، لكنه قادر، في الوقت نفسه، على كتابة مقال نظري، بل وكتاب، وعلى مناقشة علماء الاجتماع وعلماء السياسة والاقتصاديين البارزين في بلاده وإلحاق الهزيمة بهم في حقل تخصصاتهم (تصفيق). وقد جَعَلَنا ذلك واثقين ليس فقط فى مستقبل الحركة الطلابية وإنما أيضًا في الوقت الذي لن يعود فيه هؤلاء الطلاب طلبة بل سوف يتعين عليهم القيام بأعمال مختلفة في المجتمع.

الحاجة إلى تنظيم ثوري
هنا أود تناول جانب آخر لوحدة النظرية والفعل يعد محل نقاش في الحركات الطلابية الأوروبية والأمريكية الشمالية. إنني شخصيًّا على ثقة من أنه دون تنظيم ثوري فعلي، لا أعني به تشكيلاً رخوًا بل منظمة جادة ودائمة، فإنه لا يمكن تحقيق مثل هذه الوحدة بين النظرية والممارسة في الأمد الطويل (تصفيق).
سوف أقدم سببين لذلك: أحدهما يرتبط بطبيعة الطالب عينها. فوضع الطالب، خلافًا لوضع العامل، هو بطبيعته نفسها قصير الأمد. إنه يمكث في الجامعة أربع أو خمس أو ست سنوات، ولا يمكن لأحد التنبؤ بما سوف يحدث له فيما بعد عندما يترك الجامعة. وهنا أريد الرد مباشرة على إحدى أكثر الحجج ديماجوجية التي يستخدمها بعض قادة الأحزاب الشيوعية الأوروبية ضد الطلاب المتمردين. إنهم يقولون بازدراء "من هم هؤلاء الطلبة؟ إنهم يتمردون اليوم، وغدًا سوف يغدون أرباب عمل لنا يستغلوننا، لذا دعونا لا نأخذ أعمالهم مأخذ الجد".
هذه محاكمة غبية لأنها لا تأخذ فى الحسبان التحول الثوري لدور خريجي الجامعات في المجتمع الحاضر. إنهم لو رجعوا إلى الإحصاءات لعلموا أن أقلية ضئيلة فقط من الخريجين اليوم هم الذين يصبحون أرباب عمل أو وكلاء مباشرين لأرباب العمل ككبار مديرين. ربما كانت تلك هي الحال عندما لم يكن يتخرج سنويًّا أكثر من 10000 أو 15000 أو 20000 طالب، لكنه عندما يوجد مليون، أربعة ملايين، خمسة ملايين طالب، فإنه ليس ممكنًا لغالبية هؤلاء أن يصبحوا رأسماليين أو قادة إداريين لأنه لا يوجد مثل هذا العدد من الرأسماليين ولا يوجد مثل هذا العدد من المناصب الإدارية.
إن حبة الحقيقة في هذه المحاكمة الديماجوجية هي أن الابتعاد عن البيئة الأكاديمية يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على مستوى الوعي الاجتماعي والنشاط السياسي للخريج. فطوال وجود الطالب في الجامعة، يناسب هذا الوسط النشاط السياسي. وعندما يترك الطالب الجامعة، يكف هذا المناخ عن الإحاطة به ويغدو أكثر عرضة لضغوط الإيديولوجية والشواغل البورجوازية والبورجوازية الصغيرة. وهناك خطر كبير في اندماجه ضمن هذا الوسط الاجتماعي الجديد، أيًّا كان. وستبدأ سيرورة نكوص إلى مواقف فكرية إصلاحية وليبرالية – يسارية لا تتضمن نشاطًا ثوريًّا.
ومن المفيد دراسة تاريخ الـ SDS الألماني، أقدم الحركات الطلابية الثورية الحالية في أوروبا، على هذا الضوء. فمنذ طرده من الاشتراكية الديموقراطية الألمانية منذ تسع سنوات، ترك جيل كامل من مناضلي الـ SDS الجامعة. وبعد سنوات عديدة، في غياب تنظيم ثوري، فإن الغالبية الساحقة من هؤلاء المناضلين، أيًّا كانت رغباتهم الفردية في أن يصبحوا اشتراكيين راسخي العقيدة وفاعلين، قد كفوا عن أن يكونوا فاعلين سياسيًّا من زاوية ثورية. ولذا، فللحفاظ على استمرارية النشاط الثوري الزمنية، لا بد لكم من منظمة أوسع من منظمة طلابية خالصة، منظمة يمكن للطلبة وغير الطلبة العمل فيها معًا.
وهناك سبب آخر أهم بكثير لضرورة وجود تنظيم حزبى كهذا. فدونه لا يمكن تحقيق وحدة دائمة للفعل مع الطبقة العاملة بأوسع معنى للكلمة. وأنا، بصفتي ماركسيًّا، مازلت على يقين من أنه دون فعل الطبقة العاملة، فمن غير الممكن الإطاحة بالمجتمع البورجوازي وبناء مجتمع اشتراكي (تصفيق).
وهنا أيضًا، على نحو ملفت، نرى كيف تسنى لخبرات الحركات الطلابية في ألمانيا أولاً، ثم فى فرنسا وإيطاليا، التوصل في الممارسة العملية إلى ذلك الاستنتاج النظري. إن تلك النقاشات التي تدور اليوم في الولايات المتحدة حول صلاحية أو عدم صلاحية الطبقة العاملة الصناعية للفعل الثوري، قد دارت منذ سنة أو حتى ستة أشهر فى بلدان كألمانيا وإيطاليا.
هذه المسألة حُسمت في الممارسة العملية ليس فقط عبر أحداث مايو/ أيار – نوفمبر/ تشرين الثاني 1968 الثورية في فرنسا وإنما أيضًا عبر العمل المشترك لطلبة تورينو مع عمال شركة فيات في إيطاليا. كما وضحتها المحاولات الواعية للـ SDS الألماني في إشراك أجزاء من الطبقة العاملة في تحريضه خارج الجامعة ضد مجمع شبرنجر الطباعي وفي حملته الرامية إلى منع سن قوانين استثنائية مقيدة للحريات.
ومثل هذه الخبرات قد علمت الحركة الطلابية في أوروبا الغربية أن مما لاغنى عنه إطلاقًا العثور على جسر إلى الطبقة العاملة الصناعية. وهذه المسألة لها جوانب مختلفة على أصعدة مختلفة. إن لها جانبًا برنامجيًّا لايمكنني الخوض فيه الآن. وهي تطرح مسألة كيف يمكن للطلبة التعامل مع الطبقة العاملة الصناعية، ليس كمعلمين، لأن العمال عندئذ سوف يبعدونهم بسرعة، بل ضمن مجال مشترك للاهتمام والسعي الاجتماعي.
إنها تطرح قبل أي شيء آخر مشكلة التنظيم الحزبي. وإلا فإن سلسلة من التجارب المقوضة للذات في بناء تعاون على مستوى منخفض للفعل المباشر بين عدد صغير من الطلبة وعدد صغير من العمال سوف تتهاوى، بعد ثلاثة إلى ثمانية أشهر، ولا تسفر عن شيء. وحتى إذا ما بدأتم التجربة من جديد، فإنه، عند حساب النتائج بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، سوف يتيبن أنه لم يبق إلا أقل القليل.
إن وظيفة منظمة ثورية دائمة هي تسهيل الاندماج المتبادل للنضالات الطلابية والعمالية عن طريق طلائعها على نحو متصل. وليس هناك مجرد امتداد في الزمن وإنما هناك أيضًا، إذا جاز القول، امتداد في المكان على شكل استمراريةٍ بين مختلف الجماعات الاجتماعية التى تملك الهدف الثوري الاشتراكي نفسه.
وينبغي لنا أن نتتساءل ما إذا كان مثل هذا الاندماج ممكنًا من الناحية الموضوعية. ومن الأسهل الإجابة بالإيجاب بعد الخبرات في فرنسا وإيطاليا وبعض البلدان الأوروبية الغربية والدفاع عن هذا الخط بالنسبة لأوروبا الغربية أكثر مما بالنسبة للولايات المتحدة. فلأسباب تاريخية لا يمكننى الخوض فيها الآن، يوجد موقف خاص فى الولايات المتحدة ليست غالبية الطبقة العاملة، الطبقة العاملة البيضاء، مستعدة فيه بعد لتقبل الأفكار الاشتراكية للفعل الثوري. هذه حقيقة لاجدال فيها.
وطبيعي أن هذا يمكن أن يتغير بسرعة. لقد قال بعض الناس الشيء نفسه عن فرنسا قبل أسابيع قليلة فقط من 10 مايو/ أيار 1968. إلا أنه حتى في الولايات المتحدة، هناك أقلية مهمة من الطبقة العاملة، العمال السود، لايمكن لأحد أن يقول عنهم بعد تجربة السنتين الماضيتين إنهم ليسوا على استعداد لتقبل الأفكار الاشتراكية أو إنهم عاجزون عن الفعل الثوري. وهنا على الأقل إمكانية مباشرة لوحدة النظرية والممارسة مع جزء من الطبقة العاملة.
وبالإضافة إلى ذلك، فمن الضرورى تحليل التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي سوف تؤدي في الأمد الطويل إلى زعزعة اللامبالاة السياسية والنزعة المحافظة السائدة بين الطبقة العاملة البيضاء. إن مثال ألمانيا في ظل ظروف مماثلة للغاية يبين أن ذلك يمكنه الحدوث. فمنذ سنوات قليلة خلت، كانت الطبقة العاملة الألمانية غارقة في الاستقرار نفسه والنزعة المحافظة نفسها والاندماج نفسه الذي لا يتزعزع في المجتمع الرأسمالي الذي يصور عديدون الطبقة العاملة الأمريكية الشمالية على أنها غارقة فيه اليوم. لقد بدأ ذلك في التغير بالفعل. وهذه الحالة تبين كيف يمكن لانعطاف طفيف في ميزان القوى، لتراجع بسيط للاقتصاد، لهجوم من جانب أرباب العمل على الهياكل والحقوق النقابية التقليدية، أن يخلق توترات اجتماعية يمكنها تغيير الكثير في هذا المجال.
على أي حال، لا يتمثل واجبي في إطلاعكم على مشكلات نضالكم الطبقى الخاص بأكثر مما يتمثل واجبكم في وعظ العمال. إنني أريد بالأحرى الإشارة إلى إحدى القنوات الرئيسية التي يمكن عبرها نقل الوعي الاشتراكي والنشاط الثوري بين الطلبة والعمال، على نحو ما أشارت إليه لا أوروبا الغربية فقط وإنما اليابان أيضًا. هذا الحزام الموصل الخاص هو الشبيبة العمالية. فنتيجة للتغيرات التكنولوجية على امتداد السنوات الماضية والتي مست هيكل الطبقة العاملة، فإن النظام التعليمي البورجوازي غير ملائم لإعداد العمال الشباب، أو جزء من العمال الشباب، للعب الدور الجديد فى هذه التكنولوجيا المتغيرة والذي ينبغي لهم لعبه حتى من وجهة نظر الرأسماليين أنفسهم. إن الولايات المتحدة تقدم مثالاً صارخًا للغاية على ذلك في الانهيار التام للتعليم بالنسبة للعمال السود الشباب الذين يصل معدل البطالة بينهم إلى المعدل نفسه الذي كانت البطالة عليه خلال الكساد الكبير بالنسبة للطبقة العاملة الأمريكية الكلية. وهذه الحقيقة تفسر الكثير مما يجري بين صفوف الشبيبة السوداء في هذا البلد.
إن هذا مجرد مظهر واحد لاتجاه أكثر عمومية يفرض حساسية بالغة إزاء كل مايدور بين صفوف الشبيبة. وليست هناك علامة أشد شؤمًا على تداعي وتحلل نظام اجتماعي من واقع أنه لابد له من الحكم بالهلاك على شبيبته ونبذها بالكامل. إن الحكام الفرنسيين خلال أحداث مايو/ أيار لم يحاولوا فقط استغلال أي تمايزات بين الطلبة الشبان والموظفين الشبان والعمال الشبان وإنما اعتبروا الشبيبة كشبيبة عدوًّا.
والحادث الذي وقع في فلانس خلال الإضراب العام هو مثال ملموس على ذلك. فبعد مصرع أحد طلبة المدارس الثانوية الشبان على يد البوليس حدث صخب هائل. وجاء البوليس وبدأ في استيقاف المتظاهرين، طالبًا من الناس إبراز بطاقاتهم الشخصية. وقبض على كل شخص تحت الثلاثين لأنه كان يعتبر مشروع متمرد، مشروع إنسان سوف يقاتل ضد البوليس (تصفيق).
وإذا ما درستم بعناية الأدب المعاصر والسينما والأشكال الأخرى لانعكاس الواقع الاجتماعي في البنية الفوقية الثقافية خلال السنوات الخمس أو العشر الأخيرة فسوف تجدون أن البورجوازية، تحت الستار شديد النفاق، ستار الحديث عن جنوح الأحداث، قد رسمت في الواقع صورة لنمط الشباب الذى ينتجه نظامها والروح المتمردة لهذا الشباب أيضًا. وهذا لا يقتصر بالمرة على الطلاب أو على أقليات كالشبيبة السوداء في الولايات المتحدة. إنه ينطبق على العمال الشبان أيضًا.
من الضروري دراسة كل مايجري في وسط العمال الشبان لأن النضال من أجل كسب هؤلاء العمال الشبان إلى وعي اشتراكي، إلى أفكار الثورة الاشتراكية، من المرجح أنه سوف يكون حاسمًا بالنسبة لمصير معظم البلدان الغربية على امتداد السنوات العشر أو الخمس عشرة القادمة. وإذا نجحنا في تحويل خيرة هؤلاء الشبان إلى ثوريين اشتراكيين، وهو ما أعتقد أنه قد تحقق إلى حد بعيد في أوروبا الغربية، فيمكننا الثقة في مستقبل حركتنا. أما إذا ما ضيعت هذه الإمكانية وانحرف جزء كبير من هذه االشبيبة إلى أقصى اليمين، فإننا نكون بذلك قد خسرنا نضالاً حاسمًا وسنجد أنفسنا في محنة خطيرة مماثلة لتلك التى اضطرت الحركة الاشتراكية والثورية الأوروبية إلى مواجهتها في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين.
إن وحدة النظرية والفعل في الممارسة العملية تعنى أيضًا أن سلسلة كاملة من الأفكار الأساسية للحركة الاشتراكية القديمة والتقاليد الثورية تجري إعادة اكتشافها اليوم. أنا أعرف أن جزءً من الحركة الطلابية في الولايات المتحدة يريد خلق شيء جديد تمامًا. وأنا أوافق من صميم قلبي على أي اقتراح لجعل الأمور أحسن لأن حصاد مانجحت الأجيال السابقة في تحقيقه من زاوية بناء مجتمع اشتراكي ليس مقنعًا جدًّا. بيد أنه لابد هنا من كلمة تحذير. ففى 99 حالة من 100 حالة، عندما يدور بخلدكم أنكم تخلقون أو تكتشفون أشياء جديدة، فإن ما تفعلونه في الواقع هو العودة إلى ماضٍ أبعد بكثير حتى من ماضي الماركسية.
إن الأفكار الجديدة التي قدمت في الحركة الطلابية في أوروبا على امتداد السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة والتي تروج الآن في الولايات المتحدة، تكاد تكون كلها جد قديمة إلى حد بعيد. وذلك لسبب جد بسيط كامن في تاريخ الأفكار. إن التيارات المنطقية للتطور الاجتماعي وتيارات النقد الاجتماعي الرئيسية المطروحة قد طورت خطوطها العامة من قبل المفكرين العظام للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وإذا شئتم ذلك أم أبيتم، فإنها لاتزال صحيحة بالنسبة للعلوم الاجتماعية كما بالنسبة للعلوم الطبيعية حيث وضعت سلسلة القوانين الأساسية في الماضي. وإذا أردتم تطوير تيارات جديدة، فعليكم الانطلاق من الأساس الذي خلقه خير ما تمكنت الأجيال السابقة من تحقيقه.
إن هذا البحث المستميت عن شيء جديد تمامًا ليس غير جانب عرضي للمرحلة الأولية للراديكالية الطلابية. وعندما تصبح الحركة أوسع وتعبئ جماهير واسعة فعندئذ، على نحو مفارق، يظهر العكس، كما أكد ذلك سوسيولوجيون فرنسيون بدهشة عظيمة إزاء أحداث مايو/ أيار. عندئذ تسعى الجماهير الطلابية الثورية الواسعة إلى إعادة اكتتشاف تقاليدها التاريخية وجذورها التاريخية.
لا بد لهم أن يدركوا إدراكًا غريزيًّا أنهم أقوى بكثير إذا كان بوسعهم القول: إننا نناضل مواصلةً لنضال في سبيل الحرية بدأ منذ 150 سنة خلت، أو حتى منذ 2000 سنة خلت عندما انتفض العبيد الأوائل. فهذا أكثر إقناعًا من القول: إننا نقوم بشئ جديد تمامًا مقطوع الصلة بالتاريخ ومنفصل عن الماضي برمته وكأن ذلك الماضي لا يعلمنا شيئًا ولا يمكننا أن نتعلم منه شيئًا (تصفيق).
إن هذا السعي سوف يعيد المتمردين الطلبة في نهاية المطاف إلى مفاهيم تاريخية قليلة لكنها أساسية للغاية في الاشتراكية والماركسية. وقد شهدنا كيف عادت الحركات الطلابية الفرنسية والألمانية والإيطالية والآن البريطانية إلى أفكار الثورة الاشتراكية والديموقراطية العمالية. وبالنسبة لأحد رفاقي في الفكر، كان مصدر فرح كبير أن يرى بأي حرص غيور تدافع الحركة الثورية الفرنسية عن حق كل اتجاه في حرية التعبير، مرتبطة بذلك بأحسن تقاليد الاشتراكية. ولقاؤكم نفسه إنما يجدد الروابط مع التقاليد الاشتراكية والماركسية القديمة في الروح الأممية عندما تقولون إن التمرد الطلابي تمرد عالمي وإن الحركة الطلابية حركة عالمية.
والحال أن هذه الروح الأممية من النمط نفسه، ولها الجذور نفسها والهدف نفسه كأممية الاشتراكية، كأممية الطبقة العاملة. إن المشكلات الأممية الإلزامية التى يواجهها الطلاب هي مشكلات التضامن مع رفاقنا في المكسيك والأرجنتين والبرازيل الذين يقودون نضالات ضخمة تدفع الثورة الأمريكية اللاتينية إلى مرحلة جديدة وأعلى بعد الهزائم التي فرضتها عليها القيادة القاصرة والرجعية الداخلية والقمع الإمبريالى على امتداد السنوات الأخيرة. وينبغى لنا أن نحيِّي، أولاً وقبل كل شيء، شجاعة وجسارة الطلاب المكسيكيين (تصفيق). ففي غضون أيام قليلة غيروا بشكل أساسي الموقف السياسي في ذلك البلد ومزقوا قناع الديموقراطية الزائفة الذي تسترت به الحكومة المكسيكية لكي تستقبل ملايين الزوار خلال الألعاب الأوليمبية. والحال أن كل من يذهب إلى هذه الألعاب الأوليمبية سيعرف أنه يذهب إلى مكان تم فيه حبس قادة نقابة عمال السكك الحديدية سنوات طويلة بعد انقضاء مدد حبسهم وسُجِنَ فيه قادة سياسيون يساريون عديدون دون محاكمة وحُبِسَ فيه قادة طلابيون وألف مناضل طلابي دون أي سند من القانون. إن احتجاجاتهم البطولية سوف تكون لها نتائج ضخمة بالنسبة لمستقبل السياسات المكسيكية والنضال الطبقي المكسيكي(تصفيق).
ومن الضروري أيضًا قول كلمات قليلة عن الطلاب المضطهدين في بلدان شبه كولونيالية أخرى لايتحدث عنهم أحد، كقادة طلاب الكونجو المحتجزين في السجن منذ حوالي سنة لتنظيمهم تظاهرة صغيرة ضد الحرب الفيتنامية عندما ذهب همفري، نائب الرئيس، إلى بلادهم. ولا ينبغي أن ننسى قادة الطلبة التونسيين الذين حكم عليهم بالسجن لمدة 12 سنة للسبب نفسه، لمجرد قيادة تظاهرة. 12 عامًا في السجن !! ينبغي أن ننبه الرأي العام حتى لا تُنسى جرائم القمع هذه.
وينبغي لنا أيضًا أن نفكر في رفاقنا في يوغسلافيا وفي تشيكسلوفاكيا (تصفيق) الذين قادوا نضالات عظيمة هذا العام. لقد أثبتوا أن نضالهم من أجل إدخال وتوطيد الديموقراطية الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية هو نضال يوازي نضالنا ضد الرأسمالية والإمبريالية في الغرب. إننا لن نسمح لا للرجعية الستالينية ولا للرجعية الإمبريالية بتشويه طبيعة هذا النضال وتصويره على أنه في مصلحة الإمبريالية أو في مصلحة البورجوازية، خلافًا لما هو عليه فى الواقع تمامًا (تصفيق).
وأخيرًا، ينبغي لنا ألا ننسى، كما يمكن أن يحدث مع البعض لأن الموضوع قد لايكون في صدر صفحات الصحف، النضال ضد التدخل الأمريكي في فيتنام الذي ما زال هو النضال الرئيسي في العالم اليوم. إن كون المفاوضات قد بدأت في باريس لا يعني أنه ليس أمامنا بعد ما نفعله لمساعدة نضال رفاقنا الفيتناميين. لذا فإنني أدعوكم إلى المشاركة في العمل العالمي الذي أيدته الحركة الطلابية اليابانية، زينجاكورين، واتحاد الطلبة الثوريين البريطانيين جنبًا إلى جنب حملة التضامن مع فيتنام هناك ولجنة التعبئة الطلابية في هذا البلد. هذا الأسبوع هو أسبوع التضامن مع الثورة الفيتنامية من 21 إلى 27 أكتوبر/ تشرين الأول. وفي هذا الأسبوع سيخرج مئات الآلاف من الطلاب والعمال الشبان والثوريين الشبان في لحظة واحدة في عمل عالمي مشترك من أجل الهدف الملموس الذى يقول الرفاق الفيتناميون أنفسهم لنا إنه الأهم اليوم بالنسبة لهم! فلتثبتوا للعالم أن مئات الآلاف من الناس فى الولايات المتحدة مع الانسحاب الفورى للقوات الأمريكية من فيتنام. وسوف يكون ذلك إنجازًا عظيمًا (تصفيق متكرر خلال هذه الفقرة).


II. أسئلة من الحاضرين
س: هل يعتقد السيد ماندل أن الهيكل الحزبي اللينيني ضروري لكسب نضال من النوع الذي يعرضه؟
ج: الجواب نعم. بيد أنه لكى يكون هذا الجواب متصلاً بالمناقشة، دعوني أحدد بادئ ذي بدء ما الذي يعنيه الهيكل الحزبي اللينيني في واقع الأمر. وسوف أطبق طريقة الفيلسوف البولندي ليزيك كواكوفسكي وأبين أولاً ما لا يعنيه.
إن الهيكل الحزبي اللينيني لا يعني النضال من أجل نظام الحزب الواحد لأن نظام الحزب الواحد لم يكن قط جزءً من التعاليم اللينينية. وأنتم لن تجدوا سطرًا واحدًا فى أي من كتابات لينين يقول فيه إنه لأجل قدوم ثورة اشتراكية أو دولة عمالية لابد من نظام حزب واحد.
إن الهيكل الحزبي اللينيني لا يعني شكلاً جديدًا للتنظيم السياسي يتمتع فيه الحزب باحتكار للسلطة. إنه يعني شكلاً جديدًا للتنظيم الاجتماعي تتمتع فيه الجمهرة المنظمة من المنتجين، المنظمين في مجالس عمالية، بالسلطة. وضمن إطار هذه المجالس العمالية المنظمة وحدها يناضل الحزب الطليعي اللينيني من أجل هيمنته بوسائل إيديولوجية وسياسية، وليس عن طريق كبت الاتجاهات الأخرى، للهم إلا عندما يبدأ أحد هذه الاتجاهات الأخرى بإطلاق الرصاص عليكم. وإذا بدأت الاتجاهات الأخرى بإطلاق الرصاص عليكم فليس أمامكم من سبيل سوى الدفاع عن أنفسكم (تصفيق).
ذلك، بالمناسبة، هو ما حدث فى روسيا بعد 1917. وذلك هو الذى أدى إلى هذه الوفرة من الأمور السيئة. إنها لم تنجم، كما يتصور كثيرون، من الهيكل الحزبي اللينيني. لقد نجمت من واقع أن الأحزاب السوفييتية الأخرى لم تعترف بقرارِ أغلبيةٍ واضحةٍ في المؤتمر الثاني للسوفييتيات صَوَّتَتْ إلى جانب تسليم السلطة الكامل للسوفييتات، ليس للحزب البولشفي وإنما للسوفييتات. ولو كانت الأحزاب السوفييتية الأخرى قبلت تصويت الأغلبية ولم تبدأ حربًا أهلية ضد الحكومة التي انتخبتها السلطة السوفييتية انتخابًا شرعيًّا، لكان من المرجح ألا تحدث أشياء أخرى عديدة في الاتحاد السوفييتي لا نقبلها كلنا.
ثالثًا، لايعنى الهيكل الحزبي اللينيني غياب حرية النشر وحرية التعبير وحرية التنظيم لجميع الاتجاهات التي تقف على أرضية الاشتراكية وضد إعادة إدخال الملكية الرأسمالية. وقد قال لينين على المكشوف إنه حتى بالنسبة لاتجاهات مؤيدة للبورجوازية، فإن حرمانها من حق الدعوة لأفكارها ليس مسألة مبدأ بل مسألة علاقة محددة بين القوى. إن القادة السوفييت الذين يدافعون عن تدخلهم في تشيكوسلوفاكيا اليوم بقولهم إن بعض الناس كتبوا مقالات مؤيدة للبورجوازية بعد عشرين سنة من إطاحة ظافرة بالرأسمالية، إنما ينسون أن لينين قد قال إن حرمان البورجوازية من حقوقها السياسية أو عدمه ليس مسألة مبدأ. ولا يمكن لعدد ضئيل من الأشخاص في القمة أن يقرروا ما إذا كانت العلاقة تسمح بحرية النشر للرأسماليين. فهذا القرار يخص جمهور العمال المنظمين في مجالسهم العمالية. وهؤلاء العمال يؤلفون 80 أو 85 في المائة من السكان في أي مجتمع غربى.
رابعًا، لا يعنى الهيكل الحزبى اللينينى حزبًا تُملي فيه اللجنة المركزية أو المكتب السياسي أو أي جهاز آخر على الأعضاء ما ينبغي عليهم اعتقاده. إن الهيكل الحزبي اللينيني ينبغي أن يكون حزبًا يتمتع فيه كل عضو بحرية ممارسة تفكيره النقدي ودراسة المشكلات السياسية على أساس فهمه مسلحًا بنظريته هو وخبرته هو. وعندما يتوصل إلى استنتاجات مختلفة عن استنتاجات القيادة، فإن له ولرفاقه في التفكير حق التعبير عنها في أطروحات سياسية.
وخلال حياة لينين، كان كل مؤتمر حزبي للحزب البولشفي يشهد أقليات منظمة لها الحق في تقديم أطروحات معبرة عن اتجاهاتها إلى المؤتمرات تستدعي تصويتًا إلى جانبها أو ضدها. أما المؤتمرات الإجماعية فهي من اختراع الستالينية، وليست نتاجًا للينينية، التي تملك ممارسة مختلفة كل الاختلاف. إن قادة الاتحاد السوفييتي اليوم يتهمون الحزب الشيوعي التشيكي بأنهم يدخلون في لائحتهم من جديد حق الأقليات في تنظيم نفسها وتسجيل أطروحاتها وتقديم أرائها إلى المؤتمرات الحزبية والتمسك بآرائها داخليًّا في ذلك الحزب. وحتى إذا ما هزمت في مؤتمر فإن بوسعها تقديمها مرة أخرى في المؤتمر التالي. وهذه الخطوات على طريق العودة إلى التقاليد اللينينة هي شيء لايمكن للغزاة الموسكوفيين السكوت عليه.
ومما قلته لتوي عما لايعنيه الهيكل الحزبي اللينيني، يمكنكم استخلاص ما يعنيه. إنه ببساطة أن أولئك المؤمنين بأفكار الماركسية الثورية، بأفكار الاشتراكية الثورية، بدلاً من أن يتصرفوا بشكل مبعثر وغير منظم وغير متصل، ينبغي أن يتصرفوا بشكل منظم ومتماسك، مع أتم ديموقراطية ممكنة ومع التماسك والتمركز الضروريين اللذيْن يجعلان تصرفهم فعَّالاً. إنه لايعني شيئًا آخر غير ذلك وأنا مع ذلك مائة في المائة (تصفيق).
س: إذا كان الحزب الشيوعي السوفييتي، في رأيكم على ما يخيل إليّ، ليس حزبًا لينينيًّا، فأين يوجد مثل هذا الحزب؟
ج: ينبغى أن نقيم هنا تمييزًا آخر. إذا كنت تقدم تعريفًا نظريًّا خالصًا للحزب الذي ليس مجرد مجموعة من أشخاص يتبنون عددًا معينًا من الأفكار إلى جانب وجود برنامج وهيكل ولائحة وما إلى ذلك، بل الذى يتمتع أيضاً بنفوذ ملموس معين على طبقته وعلى مجمل المجتمع، فإنه يتعين عليَّ أن أجيب بأن الماركسيين الثوريين لم يحققوا بالفعل في أي مكان مثل هذا النفوذ. أعني أنهم ليس بوسعهم بعد أن يعبئوا تحت رايتهم قسمًا مهمًّا من طبقتهم.
إن ما هو لدينا اليوم هو نواة لمثل هذه الأحزاب في مختلف البلدان في كل القارات. وهناك جماعات تسعى بهذه الدرجة أو تلك من التوفيق إلى بناء مثل هذه الأحزاب، على أساس برنامج سياسي صحيح وهيكل تنظيمي يتماشى مع المبادئ التي شرحتها منذ دقائق قليلة. وأنا شخصيًّا أعتقد أن مثل هذه المنظمات تنتمي إلى الأممية الرابعة على صعيد عالمي. وحزب العمال الاشتراكي في الولايات المتحدة منظمة من هذا النوع وإن كانت، كما تعلمون، ممنوعة من الانتماء إلى الأممية الرابعة بسبب التشريعات الرجعية.
س: إذا كانت المجالس العمالية سوف تقرر كل المسائل الحيوية في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وإذا كنتم تقولون في الوقت نفسه إن للأحزاب السياسية أدوارًا إيديولوجية منفصلة عن هذه المجالس العمالية، فما هو إذًا الفاصل بين المجالس العمالية وهذه الأحزاب في الممارسة والنظرية؟
ج: إن طريقة طرح السؤال تظهر تماثلاً هائلاً وخطيرًا مع نوع الحجج التي يدافع بها الإيديولوجيون الحاكمون مُمَثِّلو البيروقراطية السوفييتية عن نظامهم وحيد الحزب. إنهم يقولون: عندما تكون لديكم طبقة حاكمة واحدة، فلا حاجة بكم إلى تعدد للأحزاب.
إن موقفي هو أنه إذا كانت لديكم طبقة واحدة وإذا كنتم تريدون ديموقراطية حقيقية، فينبغي أن تكون لديكم تيارات مختلفة، الأمر الذي يعني على الأقل حق وجود أحزاب مختلفة. وسأحاول أولاً شرح النقطة الأخيرة. إذا كنتم لا تتمتعون بالحق في وجود أحزاب مختلفة، فإن كل معارضة، كل اتجاهٍ ناقدٍ، يمكن كبته بحجة أنه سيقود إلى تشكيل حزب جديد. وهذا صحيح. فأي شكل من أشكال المعارضة، وإن كان غير منظم، (لقد استخدم لينين ذات مرة الصيغة القائلة بأن العفوية ليست غير الشكل الجنيني للتنظيم) يمكن لأعدائه شجبه بوصفه نواة، نقطة بدء لتنظيم مضاد.
لذلك فإنكم إذا لم تقبلوا ولو مبدأ – ناهيك عن مرغوبِية - حق تشكيل أحزاب عديدة، فسوف تجدون منذ البداية قوة لا تكاد تقاوم تقف في وجه أى شكل من أشكال النقاش الحر والتحليل الناقد وتباين الآراء وما إلى ذلك.
ثانيًا، يقال في معرض تبرير الدولة ذات الوحدة الصخرية المتجانسة ووحيدة الحزب إن الطبقة العاملة لا يمكنها أن تحكم بالطريقة نفسِها التى حكمت بها الطبقة الرأسمالية. بيد أن هناك فارقًا هائلاً بين طابع طبقة من الطبقات والمطابقة الكاملة بين مصالحها والحزب والسلطة الحاكمين في كل لحظة. وقد واجه الرأسماليون أيضًا هذه المشلكة. لقد حاول الرأسماليون الأمريكيون إقامة تقسيم ثلاثي للسلطات ضمن الدستور كإطار عمل مؤسساتي من أجل الحيلولة دون أن تؤدي خلافاتهم إلى كبت الحقوق السياسية لغالبية الطبقة الرأسمالية.
وقد بينت التجربة أنه حتى عندما تكون الطبقة الرأسمالية سائدة عبر ملكيتها الخاصة، فإن من الممكن أن تتعرض حقوقها للكبت. وقد أقام المجتمع البورجوازي في تاريخه نظماً ديكتاتورية وملكية مختلفة لم تكن الطبقة السائدة اقتصاديًّا تتمتع فيها بأي حقوق سياسية أو كانت تتمتع بقليل جداً من هذه الحقوق، على الأقل فى غالبيتها الواسعة.
ولفهم الطبيعة الوظيفية للأحزاب لابد من إدراك أنه لا ضرورة هناك لوجود تطابق كامل ومباشر بين ممارسة السلطة الإقتصادية والقدرة على التعبير في اللحظة نفسها عن المصالح الجماعية لكل أجزاء تلك الطبقة. وبالنسبة للطبقة العاملة، فإن الأحزاب هي أدوات لتحقيق مستوى أعلى من الوعي بالذات، مستوى أعلى من النشاط الذاتي. وإذا انطلقتم من الاعتراف بواقع أن كافة أفراد الطبقة ليست لديهم الخبرة الواحدة، الماضى الواحد، الجذور الواحدة، الأفكار الواحدة، الفهم الواحد، فلا بد لكم عندئذ من العثور على إطار عمل مؤسسي معين لمنع نشوء وضع يمكن فيه لأقليات، أو حتى لديماجوجيين، انتزاع السلطة أو فرض توجهات سياسية تتعارض مع مصالح غالبية الطبقة.
ثالثًا، إن التمييز بين جمهور الطبقة وأحزابها السياسية ليس تمييزًا بين الممارسة والنظرية؛ بل هو الإقرار بالتنوع الإيديولوجي للطبقة. فكل طبقة في المجتمع متنوعة إيديولوجيًّا. ولم توجد قط طبقة اجتماعية يفكر كل فرد فيها بطريقةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحد. هل يمكنكم أن تقدموا مثالاً واحدًا على تجانس كهذا؟ إذاً لماذا تعتقدون أن مثل هذا التجانس موجود بين صفوف الطبقة العاملة؟
وإذا كنتم لا تعتقدون في وجوده، فلماذا تمنعون الأشخاص الذين يحملون أفكارًا متباينة بين تلك الطبقة من تنظيم أنفسهم من أجل تحقيق أفكارهم؟ إن ما يتعين عليكم بالأحرى منعه هو أي إطار عمل مؤسسي يمكن فيه لأقلية فرض حكمها على الغالبية. لماذا تنكرون على الأقليات حق تنظيم نفسها، وطرح أفكارها، وتعميق تحليلها، والمناقشة، والسجال؟ لماذا تؤثرون السجال غير المنظم، لأن هذا هو ماتؤول إليه الأمور في الواقع. وخلافًا للمناقشة المنظمة المفتوحة الحرة في اتجاهات وتيارات وأطروحات إيديولوجية مختلفة، فقد أثبتت التجربة أن المناقشة غير المنظمة المفتقرة إلى اتجاهات لها هياكلها لا تؤدي إلى مزيد من الديموقراطية بل إلى قليل جدًّا منها. وعندما توجد تيارات منظمة مختلفة يمكنها أن تطرح وتعارض على المكشوف خيارات مختلفة، فإن ذلك يمكن الجمهور من اتخاذ خيارٍ واعٍ ومدروس. والشيء الجوهري هو أن القرارات الرئيسية وحق اتخاذ القرارات يجب أن تكون من صلاحيات المجالس العمالية. وأنا أعتقد أن منع أعضاء المجالس العمالية من الدفاع عن أفكارهم لا هو ديموقراطي ولا هو اشتراكي.
إنكم تتساءلون: "ما الإيديولوجية؟" لقد ميز ماركس، كما تعلمون، بين النظرية والإيديولوجية. فالنظرية تحليل علمي أو إعادة إنتاج للواقع الاجتماعي. أما الإيديولوجية فهي تفسير زائف أو شبه زائف لهذا الواقع. ومما يؤسف له أن جزءً كبيرًا من الطبقة العاملة اليوم لايملك نظرية صحيحة، بل يتبع أشكالاً مختلفة من الإيديولوجية الزائفة. وإذا كنتم لا تصدقون ذلك، فإنكم بذلك تنسبون إلى المجتمع الرأسمالي القدرة على أن يزود 80 في المائة من السكان بالمعارف العلمية، في شروطه الاستغلالية والمحطة للفكر. إنني أنفي ذلك، إنني أعتقد أن من المستحيل تحقيق ذلك في شروط الرأسمالية (تصفيق).
س: هل للطلبة قيمة فعلية كقوة ثورية. وإذا كان الأمر كذلك، فما هي هذه القيمة؟
ج: قد يكون هناك بعض التشوش إزاء ما قلته. إنني لم أقل إن على الطلاب أن يصبحوا عمالاً لكي يكتسبوا وعيًا ثوريًّا. هذا يتعارض مع التجربة التاريخية. إنني آسف إذا كنت أتحدث كما لو كنت جَدًّا إلى حد ما؛ إننى لست حتى أبًا. إن الدور الثوري للطلاب موجود منذ وجود الحركة العمالية. وواقع أن بوسع الطلاب الثوريين إدخال الأفكار الثورية إلى الطبقة العاملة هو واقع اعترف به الاشتراكيون، ليس لينين وحده، وإنما كاوتسكي وأدلر واشتراكيون ديموقراطيون آخرون عديدون منذ حوالى مائة سنة. يمكن للطلاب أن يلعبوا دورًا مستقلاًّ - طبعًا يمكنهم. يمكن للطلاب أن يقدموا الدافع الأولي للفعل الثوري؛ طبعًا. يمكنهم اكتساب وعي ثوري؛ لايمكن لأحد أن ينكر ذلك. طالعوا تاريخ الحركة الاشتراكية في الثمانين أو التسعين سنة الماضية وسوف تجدون أن الطلاب قد لعبوا دورًا في لحظات عديدة الدور نفسه بالضبط الذي يلعبونه اليوم في عديد من البلدان قليلة التطور بل وفي البلدان الأكثر تقدمًا.
إن ماقلته هو أن الطلاب لا يظلون طلبة دائمًا. وهم لدى تخرجهم من الجامعة، إن لم يجدوا منظمة تمكنهم من مواصلة الاندماج بعناصر ثورية أخرى، فسوف يجدون أنفسهم عرضة لخطر الاندماج في وسط اجتماعي معادٍ. لماذا؟ لأن الكثيرين يدخلون وسطًا مختلفًا بالكامل عن الحياة الطلابية. إنهم يصبحون موظفين، عمالاً ذوى ياقات بيضاء، تقانيين، موظفين حكوميين. إنهم يحيون ويعملون بين أشخاص لهم أفكار مختلفة عن تلك الموجودة فى الوسط الطلابي ولديهم تحيزات محافظة شديدة ضد الاشتراكية، حيث توجد مغريات مادية. إن ما عنيته هو أنهم عندما يكفون عن أن يكونوا طلابًا، فإنهم يكونون بحاجة إلى منظمة ثورية لكي يتجنبوا فقدان وعيهم الثوري.
وبالإضافة إلى وعي الطلاب الثوري، هناك مسألة فعالية عملهم. لقد قلت إنه باستثناء مرحلة الاحتجاج الأولية والتأثير على نطاق محدود، فمن المستحيل القيام بعمل ثوري فعال (عمل، لا وعي) مالم تكونوا مرتبطين بالطبقة العاملة الصناعية. هذه مسألة قوة اجتماعية. فالعمال يتمتعون بطاقة هائلة من حيث كونهم قوة اجتماعية وذلك بسبب وضعهم الاستراتيجي في العملية الإنتاجية. والطلاب أيضًا لهم درجة معينة من القوة الاجتماعية اليوم، أكثر مما كانت لهم منذ عشرين أو خمسين سنة عندما كان بالإمكان إغلاق الجامعة لمدة خمس سنوات دون أن يؤدي ذلك إلى تغير أي شيء في اقتصاد البلاد، أما اليوم فإنه لايمكن لأي بلد صناعي تحمل إغلاق الجامعات لمدة خمس سنوات. هذا من شأنه خلق مشكلات ضخمة في القطاعات الصناعية المتقدمة تكنولوجيًّا.
لكن هذه القوة محدودة والطلاب لايمكنهم أن يشهدوا تحولاً اجتماعيًّا فعليًّا إلا إذا ارتبطوا بقوة اجتماعية أقوى كالطبقة العاملة. إن ما سعيت إلى تأكيده هو التفاعل الذي يمكن أن يوجد بين هاتين القوتين الاجتماعيتين اللامتكافئتين.
س: هل تؤمن بصلاحية التحليل الذي قدمه ماو للتناقضات الاجتماعية في مجتمع اشتراكي؟ هل التناقضات في هذا المجتمع تناقضات اجتماعية أم إيديولوجية؟ وهل مكنتنا خبرة الثورة الثقافية من أن نخطو خطوة أبعد من الحلول الديموقراطية الصورية بمراعاة التناقضات الفعلية ذات الطبيعة الاجتماعية والنشاط الفعلي للجماهير من أجل حل هذه التناقضات؟
ج: إنني شديد السعادة لهذا السؤال فقد كنت أترقب طويلاً الرد على سؤال كهذا يطرحه رفيق متأثر بالفكير الماوي. طبيعي أنني أعتقد أن التناقضات في المجتمعات الانتقالية التي ألغيت فيها الرأسمالية هي تناقضات اجتماعية من حيث طبيعتها. إن الاشتراكية تعني مجتمعًا لاطبقيًّا ولاوجود لمثل هذه المجتمعات اللاطبقية في أي مكان في العالم. الموجود هو مجتمعات تمر بعهد انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. أما النزاعات الإيديولوجية في هذه المجتمعات فهي ليست مجرد نزاعات إيديولوجية خالصة. لا يمكن لأي ماركسي أن يعتقد ذلك. وطبيعي أن لها جذورًا اجتماعية عميقة، وأنا على استعداد للاتفاق مع ماو على أن من الضروري التمييز بين نوعين من التناقضات الاجتماعية. التناقضات بين صفوف الطبقة العاملة، الكادحين، من ناحية، والتناقضات بين الطبقة العاملة والطبقات الاجتماعية الأخرى من ناحية أخرى.
إنني أختلف مع ماو لأنه يحزم العمال والفلاحين معًا. إن الفلاحين لا ينتمون إلى الطبقة نفسها التي ينتمي إليها العمال، ذلك غير ماركسي إلى حد بعيد، ولكن دعونا نترك ذلك جانبًا. على أي حال، عندما يتعلق الأمر بتشخيص هذه التناقضات، يخلق الرفاق الماويون تشويشًا هائلاً. إنهم، وليس الماركسيين التقليديين، هم الذين ينزعون إلى وضع علامة تطابق بين أي شكل من أشكال الخلاف السياسي أو الإيديولوجي أو الثقافي والصراع الطبقي. إنهم يقولون إنك إذا كتبت مسرحية غير أرثوذكسية أو أخرجت فيلمًا غير أرثوذكسي أو رسمت لوحة غير أرثوذكسية فإنك بذلك إنما تبدأ بالفعل صراعًا طبقيًا من أجل إعادة الرأسمالية.
إنني أنفي ذلك تمامًا. لقد أظهر التاريخ أن الطبقات التي يطاح بها يمكنها أن تستمر في ممارسة نفوذ إيديولوجي في المجتمع وسوف يكون بوسعها أن تتمتع بهذا النفوذ. وليس هذا بجديد اكتشفه ماو. بيد أن هذا النفوذ الإيديولوجي بحد ذاته لن يمكن الطبقات التي فات زمانها من استعادة حكمها السابق. إن أسبابًا اجتماعية واقتصادية لها ثقلها تمنع استعادة على هذا النحو. أما المسرحيات والإيديولوجيا، بل والدين نفسه، فليس بوسعه أن يقود إلى بعث النظام القديم.
وعلى سبيل المثال، فإن النبالة الفرنسية، الإقطاعية الفرنسية، قد أطيح بها اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا في الثورة الفرنسية. وقد حدثت عودة سياسية في عام 1815. بيد أنه بحلول ذلك الوقت، كان من المستحيل اقتصاديًّا واجتماعيًّا العودة إلى المجتمع الإقطاعي. وهناك دلائل قوية على أن الكنيسة الكاثوليكية ظلت المؤثر الإيديولوجي الرئيسي بين غالبية السكان الفرنسيين مائة سنة بعد الإطاحة بنفوذها السياسي. فهل أدى ذلك إلى إعادة إدخال الملكية الكنسية الكبيرة؟ إلى عودة حقوق النبالة؟ إلى عودة المجتمع الإقطاعي؟ كلا. إنه لم يكن بوسعه أن يؤدي إلى ذلك لأن الإطار الاجتماعي والاقتصادي الأساسي قد جعل ذلك مستحيلاً. إن المجتمع الفرنسي كانت لم تعد فيه طبقة اجتماعية، جماعة من الأشخاص الذين لهم مصالح مادية وقوة اقتصادية تمكنهم من استعادة النظام السابق على الثورة.
والآن دعوني أتساءل: هل توجد في الصين اليوم أي جماعة اجتماعية، سواء في الطبقة العاملة الصينية أو في الفلاحين الصينيين لها مصالح وقدرة على إعادة إدخال الرأسمالية؟ ينبغى إثبات ذلك أولاً ولايمكنكم افتراض أن ذلك على وشك الحدوث لمجرد أن بعض الناس يكتبون مسرحيات روائية أو أشعارًا رديئة. ينبغي لكم إثبات أن هناك قوة لها قوة ومصلحة طاغية في استعادة الرأسمالية.
إن المقصود فعلاً، من مثل هذا التفكير –وهذا أمر غير عادي بالنسبة لرفاق أفرزتهم المناقشة الإيديولوجية بين خروشوف وماو- هو أن من الممكن الانتقال تدريجيًّا وبشكل غير ملحوظ من الاشتراكية إلى الرأسمالية. أي أنه يجري رد الاعتبار لنظريات التطور السلمي والانتقال السلمي التي رفضت ذلك الرفض الساخط عندما عرضها الخروشوفيون بالنسبة لتاريخ التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وأنت في هذه الحالة، معذرة، تحريفيّ. إنك تحرف بشكل أساسي (تصفيق) النظرية الماركسية في الدولة التي تُعَلِّم أنه، لكي تنتقل سلطة الدولة من طبقة إلى أخرى، فإن مايحدث في حقل الإيديولوجية ليس هو الشيء الحاسم.
إن مايقرر التبدل النوعي من نظام اقتصادي إلى نظام آخر هو مايحدث في حقل العلاقات الاجتماعية، وهذا يعني أنه يتعين عليك إثبات أن هناك عشرات الملايين من الناس اليوم في الصين لهم مصلحة مادية في الإطاحة بمكتسبات الثورة تحبيذًا للرأسمالية. وما دمت لا تثبت ذلك، فإن كافة التفسيرات الأخرى عقيمة وغير مقنعة.
س: إذا تركنا جانبًا المسرحيات أو الاسكتشات الفلمية أو الدرامية، ألا توجد هناك اتجاهات موضوعية نابعة من السياسة الاقتصادية يمكنها إعادة الرأسمالية في الصين أو الإتحاد السوفيتي؟
ج: إنني أنفي بشدة وقوة أنه بالإمكان الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر بمجرد التطور الاقتصادي الموضوعي. تذكروا أن الماركسية تبدأ بتأكيد أن المجتمع لايمكنه أن يتغير إلا عبر الصراع الطبقي، أي لا يمكنه أن يتغير دون مواجهة وصراع حتى النهاية من جانب قوى اجتماعية ذات مصالح اجتماعية تفيد من تحويل المجتمع إلى مجتمع آخر. وهذا أكثر من عملية مجرد تطور إقتصادي موضوعي. ولا يمكن لا للنقاش الإيديولوجي ولا لتطور اقتصادي موضوعي كهذا أن يقود إلى عودة رأسمالية. بل إن ماو نفسه لايقول لنا أين ومتى وكيف حدثت العودة الرأسمالية في روسيا لأنه، لو فعل ذلك، لتعين عليه استخلاص استنتاجات مهمَّة عديدة على صعيد استراتيجي عالمي.
عندما وُجِد بالفعل خطر عودة رأسمالية في روسيا، بَيَّنَ لينين لماذا يوجد هذا الخطر، وفعل ذلك بوضوح وتحديد مثلما يتعين على الماركسي الكلاسيكي أن يفعل. لقد قال إنه، ما دام هناك إنتاج سلعي صغير على نطاق واسع، مادام هناك ملايين من الفلاحين المستقلين، الفلاحين الذين ينتجون ذاتيًّا، فإن بوسع أي من هؤلاء الفلاحين المنتجين ذاتيًّا أن يتحول إلى رأسمالي. هناك كان مصدر خطر العودة الرأسمالية. لكن ماو لا يمكنه قول ذلك بهذا الوضوح لأنه يبني جانبًا كبيرًا من استراتيجيته العالمية للثورة الاشتراكية بشكل محدد على دور هذه الطبقة الاجتماعية، الفلاحية، التى يمكنها تجسيد خطر العودة الرأسمالية مادامت مالكة خاصة لوسائل إنتاج. إن المشكلة الفعلية التي حاول ماو مواجهتها في الثورة الثقافية ليست مشكلة العودة الرأسمالية بل مشكلة البيروقراطية. وأيًّا كانت جوانبها السلبية، فإنها تمثل تأكيدًا مهمًّا للتحليل الماركسي.
في الصين، كما في الاتحاد السوفيتي والبلدان الأخرى التي تمر بعهد انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ما يصعد في الأفق بوصفه مشكلة المشاكل هو تنامي البيروقراطية. هذا ليس من اختراع تروتسكي. فعندما تحدث كل من ماركس ولينين عن دولة عمالية جديدة، أشارا إلى أن الخطر الرئيسي بالنسبة لتلك الدولة هو التشوه البيروقراطي. ذلك تحليل ماركسي كلاسيكي ومصطلحية ماركسية كلاسيكية.
وماو يحاول مواجهة هذه المشكلة وذلك شئ جيد. إنه ليس الأول في هذا الصدد. إن فيدل كاسترو وتيتو وتروتسكي ولينين – كلهم حاولوا مواجهة هذه المشكلة نفسها في أزمانهم وبوسائلهم. ولدينا الآن وفرة من الخبرة التاريخية التي تستطيع توجيهنا في هذا الصدد. إنني موافق على أن التعبئة الجماهيرية والنشاط السياسي للطبقة العاملة مقدمتان لنضال فعال ضد البيروقراطية. بيد أن الديموقراطية العمالية لاتقل أهمية عن النشاط الجماهيري لأنه في غيبة الديموقراطية العمالية، يمكن لرجل واحد أو لفريق صغير من الناس محاولة استخدام الجماهير ويمكن، قبل أن يتسنى لها تبين ذلك، أن تدفع من طرف إلى آخر.
حتى عام 1964، كان ليو شاو تشي بطلاً عظيمًا لدى الشعب الصيني، تشيد به الملايين على المستوى نفسه الذي تشيد به بماو تسي تونج. وإذا به بين عشية وضحاها يتحول إلى خروشوف الصين، "المتنفذ الأول الذي يريد إعادة الرأسمالية". الناس مطالبون بأن يؤمنوا يوم الإثنين أن الشيء أبيض ويوم الثلاثاء بأنه أسود. ولا حق لهم ولا إمكانية في أن يناقشوا لماذا ينبغي اعتبار أمر ما حقيقيًّا أو زائفًا.
لقد كتب ليو شاو تشي منذ 27 عامًا كتابًا لم يكن بالإمكان توجيه النقد إليه في الصين منذ سنة مضت. والآن يهاجم كتاب ليو شاو تشي لأنه لم يضمنه ديكتاتورية البروليتاريا. لكنكم إذا ما طالعتم "الديموقراطية الجديدة" لماو تسي تونج، والذي كتب في الوقت نفسه الذي كتب فيه مؤلف ليو شاو تشي، فستجدون أن كتاب ماو ليس خاليًا من الإشارة إلى ديكتاتورية البروليتاريا وحسب، بل إنه يرفضها قلبًا وقالبًا. هل هناك أي تحد صريح للدعاية الماوية، هل يملك أي إنسان في الصين اليوم الحق – أو الجرأة - لكي يشير علانية إلى ما قلته لتوي؟ مادام هذا الحق السياسي غير موجود، فإن عقبة جوهرية ضد مواجهة التبقرط سوف تظل قائمة. تلك هى التلاعب بالجماهير من جانب جماعات صغيرة من الأشخاص المتنفذين. إن الديموقراطية السياسية للطبقة العاملة هي مقدمة مطلقة للنشاط الجماهيري الحر وللتعبئة الجماهيرية الفعلية من أجل الحد من خطر البيروقراطية(تصفيق).
س: هل يمكن لمجتمع انتقالي أن يعود إلى الرأسمالية مثلما يمكنه التقدم إلى الاشتراكية وألا تشير سمات اقتصادية معينة في الاتحاد السوفييتى وبلدان أوروبا الشرقية إلى أن عملية عودة الرأسمالية قد قطعت شوطًا بعيدًا وإن لم تكن قد وصلت إلى نهايتها بعد؟
ج: لم أقل إن مجتمعًا يجتاز عهد انتقال لا يمكنه العودة إلى الرأسمالية. بل لقد قدمت مثالاً لذلك الخطر الملموس في زمن لينين. كل ما قلته هو أنه، لأجل إثبات أن مثل هذا الخطر موجود، فإنه لابد لكم من تعيين القوة الاجتماعية المحددة التي تحفز مصالحها الاقتصادية سياسات تؤدي في لحظة معينة إلى هذه النتيجة. ولايمكنكم ادعاء وجود هذه العودة في لحظة معينة كشيء ثابت بالفعل، ثم تشرعون بالاستشهاد بكافة أنواع الظواهر في البنية الفوقية كالقرارات السياسية والقرارات الأدبية والقرارات ذات الطبيعة الفنية أو العلمية، وترون في هذه الأمور انعكاسًا لشيء ينبغي بادئ ذي بدء إثباته في الحقل الاجتماعي.
في المنهجية الماركسية، يبدأ المرء أولاً بتحليل العلاقات الطبقية الموجودة التي تحدد نمط الإنتاج، ثم يستكشف انعكاسات هذه المصالح في البنية الفوقية. واعتقادي الشخصي هو أنه مادام المجتمع في مرحلة انتقال، فإن الخطر النظري، خطر إعادة الرأسمالية، يكون قائمًا. بيد أنه لمعرفة ما إذا كان هذا الخطر قد أصبح بالفعل أكبر أو أصغر، لابد من القيام بتحليل ملموس لعلاقة القوى الاجتماعية.
يقول الرفيق إنني مخطئ عندما أتحدث عن البيروقراطية في الاتحاد السوفييتي، فقد كان ينبغي لي الإشارة إلى الرأسمالية. هنا ينبغى لنا مناقشة علاقات الإنتاج الأساسية التي هي علاقات بين طبقات اجتماعية. لقد بين ماركس ألف مرة أن الفارق بين الاقتصاد الماركسي والاقتصاد البورجوازي هو أن الأخير يرى في العلاقة الاقتصادية علاقة أشياء، في حين أن الأول يرى علاقة قوى اجتماعية تتوسطها أشياء.
وبشكل أكثر تحديدًا، فقد بينت النظرية الماركسية أن العلاقة الرأسمالية للقوى هي أساسًا بين الملاك الخاصين لوسائل الإنتاج وطبقة أخرى مرغمة على بيع قوة عملها لملاك هذه الوسائل الإنتاجية. والحال أن الشخص الذي يحاول إثبات أن هناك عودة للرأسمالية في روسيا يتعين عليه أن يعتمد على فكرتين متعارضتين تمامًا بشكل واضح.
إنه أولاً يتحدث عن نمو المساحات الزراعية الخاصة. قل لي ماهو ثقل هذه المساحات الرزاعية الخاصة في الاقتصاد السوفييتي؟ هل ألبانيا بلد صناعي لأن الإنتاج الصناعي ينمو فيها؟ إذا كنت تنتج خمس دراجات بدلاً من واحدة، فهذا يعد نموًّا. ولكن ما هو ثقل الدراجات في مجمل الاقتصاد؟ إن المساحات الزراعية الخاصة في الزراعة في روسيا لا تقدم غير أقل من 5 فى المائة إلى الدخل القومي فهل يمكنك أن تنظر جديًّا إلى قطاع صغير كهذا كدليل على الطبيعة الرأسمالية لبلد من البلدان؟
الآن سأوجه سؤالاً بدوري: ماذا كان ثقل المساحات الزراعية الخاصة في سنة 1921 في زمن لينين؟ إنه لم يكن 5 في المائة بل 50 في المائة. ومع ذلك فإنك لاتسمي ذلك رأسماليًّا. ثانيًا، أنت تتحدث عن "حافز الربح"، بيد أن حافز الربح في حد ذاته وبذاته ليس تعريفًا مناسبًا لعلاقات الإنتاج. فالربح في ظل الرأسمالية ليس حافزًا، الربح في ظل الرأسمالية هو القاعدة التي تحكم مجمل الاقتصاد. والاستثمارات يحددها الربح.
فلتبين لي ما إذا كان الاتحاد السوفييتي قد ترك التخطيط الاقتصادي بحيث إن استثماراته تحددها اعتبارات الربح. هل يعني أنه إذا كان إنتاج السراويل والأحذية يحقق ربحًا أكثر من إنتاج التوربينات ومحطات الطاقة الضخمة، فإن إنتاج التوربينات ومحطات الطاقة الضخمة سوف يتقلص في حين أن إنتاج السراويل والأحذية سوف يتزايد. هذا ما لايمكنك إثباته، لأنه لا يتماشى مع الواقع.
لقد استخدم الربح كمجرد وسيلة صغرى لزيادة ما يعتقد البيروقراطيون أنه سوف يحسِّن عقلانية عملياتهم. أنا لست معه، أنا ضده. بيد أنه ينبغي الإقرار بأنه سمة صغرى للاقتصاد السوفييتي. أما السمة الرئيسية للاقتصاد السوفييتي، والتي يمكن لأي إنسان يريد دراسة سير عمل الاقتصاد رؤيتها على الفور، فهي لاتكمن في حافز الربح وإنما في طريقة تنظيم التخطيط.
من المؤكد أنها مفرطة في مركزيتها وقائمة على المصالح المادية لمجموعة ضيقة معينة، هي البيروقراطية. لكن من الذي يملك الآلات؟ ماهي علاقات الإنتاج؟ هل هي علاقات إنتاج بين ملاك لوسائل إنتاجية وعمال يبيعون قوة عملهم لهؤلاء الملاك؟ من الواضح أن لا. إن البيروقراطي يدين بوضعه وبسلطته لوظيفته، وليس لملكيته. وهو عندما يفقد وضعه، يفقد كل سلطة. إنه لا يحوز رأسمالاً. إنه ليس تجسيدًا لرأس المال. هو مجرد وظيفي. إذا كنت تسلم، كما تفعل بالفعل، بأن البيروقراطيين ليسوا طبقة، بأنهم فقط على طريق أن يصبحوا طبقة، فلا رأسمالية هناك. إذ لا وجود لرأسمالية دون طبقة من ملاك وسائل إنتاج (تصفيق).
لكنك لم تقل فقط إن الإتحاد السوفييتي بلدٌ رأسمالي، بل قلت كذلك إنه بلد إمبريالي. اعذرني، هذا كلام غير جاد. إن البيروقراطيين السوفييت ليست لهم مع أوروبا الشرقية العلاقات الاقتصادية نفسها التي للاحتكاريين مع البلدان التي يستغلونها. أرني تصدير رأس المال من روسيا إلى تشيكوسلوفاكيا. إنك تتكلم كأخلاقي بورجوازي، لا كماركسي! هل هناك أي بلد إمبريالي ليست له استثمارات في البلدان الكولونيالية؟ أليس للإمبريالية الأمريكية استثمارات ضخمة في فنزويلا؟ كيف ينهبون؟ إنهم ينهبون عن طريق الاستثمار وعن طريق مبادلة المواد الأولية بسلع صناعية.
والعلاقات السوفييتية- التشيكية على النقيض تمامًا من ذلك. روسيا تصدر مواد أولية إلى تشيكوسلوفاكيا وتشيكوسلوفاكيا تصدر سلعًا صناعية إلى روسيا. لكي تكون منسجمًا، كان عليك أن تقول إن الإمبريالية لا تنبثق من تصدير رأس المال، من التصنيع، بل من شئ آخر مختلف تمامًا. وهذا معناه هجر الماركسية.
إن الرفيق الذي يحاكم بهذه الطريقة عاجز عن تقديم تعريف منسجم للطبيعة الطبقية للاتحاد السوفييتي. إنه يتحدث عن عملية تشكل طبقة: وهو يقول إن هناك جماعة سوف تصبح طبقة؛ ويمضي إلى القول بأن الرأسمالية قد أعيدت بالفعل لكنه يعود ويقول إنها سوف تعاد. ثم يتكلم عن إمبريالية غير مرتبطة برأسمالية. بعبارة أخرى، هو لايملك تعريفًا متماسكًا وهو لا يمكنه امتلاك تعريف متماسك للاقتصاد السوفييتي وللمجتمع السوفييتي إذا بدأ بالابتعاد عن الإطار الأساسي للسوسيولوجيا الماركسية والاقتصاد الماركسي والذي يبين أنه لا وجود لرأسمالية من غير ملكية خاصة لرأس المال.
إنك بمجرد هجرك لهذه الأرضية الصلبة، سوف تنتهي من طرق جانبية عديدة، كما أثبت ذلك تاريخ الفكر الاشتراكي خاصة في الولايات المتحدة، إلى نفي أن أمريكا رأسمالية أو إلى تأكيد أن كلاًّ من الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتى لا يختلف أيهما عن الآخر من حيث الجوهر، وسوف تنتهي أخيرًا إلى أن هذا المجتمع [الولايات المتحدة] شر أصغر لأنه أكثر ديموقراطية وأكثر انفتاحًا.
عند مناقشة هذه المسألة، مسألة الانحطاط البيروقراطي في مواجهة العودة الرأسمالية، دعونا نتناول المثال المحدد ليوغوسلافيا في إطار السوسيولوجيا الماركسية. في يوغوسلافيا جماعات اجتماعية مختلفة: الفلاحون، الطبقة العاملة، البيروقراطية. بعض الناس يذهب بهم الشطط الفارغ إلى حد القول بأن دليل وجود الرأسمالية هو المجالس العمالية التي تعطي العمال حق إدراة وسائلهم الإنتاجية داخل المصنع. إذا كان هناك خطر عودة للرأسمالية اليوم في بلد كيوغوسلافيا، فليس ذلك بسبب وجود مجالس عمالية، ليس بسبب وسائل الإنتاج المؤممة، بل بسبب وجود قطاع خاص قوي في الاقتصاد. هناك أشخاص يجسدون مصالح هذا القطاع الخاص: الفلاحون الخاصون، الحرفيون الخاصون، التجار الخاصون، إلى جانب تكنوقراطيين في بعض أجزاء جهاز الدولة وإيديولوجيين في الجامعات يحاولون عقد ارتباطات مع مثل هذه القوى الاجتماعية. إن نتيجة الصراع الدائر بين هذه القوى المستندة إلى الملكية الخاصة والقوى التي تدافع عن الأشكال الاشتراكية لن تقررها سياسة تيتو الخارجية أو ما يكتب في الروايات والمسرحيات، وإنما الصراع بين القوى الاجتماعية المتنازعة.
هل تعتقد أن عمال يوغسلافيا الذين قاموا بثورة اشتراكية في عام 1945 ثم انتزعوا في عام 1948 حق إدارة وسائلهم الإنتاجية، سوف يسمحون لأي إنسان بانتزاع هذه السيطرة منهم؟ إنني أقول لا ولديَّ دليل معين على هذه المقاومة. لقد كان لمثل هذه المناقشة طابع مجرد ونظري نوعًا ما منذ ستة أشهر أو سنة خلت. بيد أن التطورات التي جرت خلال هذا الصيف قد جعلتها ملموسة. فعلى أساس سياسة اقتصادية رديئة حدثت بطالة متزايدة وعلى أساس سياسة خارجية خاطئة، كان هناك اتجاه للتكيف مع الإمبريالية الأمريكية.
ما الذى حدث عندئذ؟ لقد قاوم العمال. لقد قاوم الطلبة واحتلوا الجامعات لمدة عشرة أيام في يونيو/حزيران 1968. لقد دعوا إلى العودة إلى المساواة والتسيير الذاتي الكامل في مجمل الاقتصاد، لا على صعيد المصنع فقط. وبعد ذلك جاء مؤتمر النقابات حيث قال مئات من مندوبي العمال من كل مصانع البلاد، "إننا لا نقبل التفاوت المتزايد. إننا نريد مزيدًا من المساواة. إننا لا نريد تصدير الأحذية للجيش الأمريكي في فيتنام، إننا مع التضامن الأممي. ونحن لا نريد تسريح العمال. نحن مع العمالة الكاملة".
كل هذا يعني أن صراعًا اجتماعيًّا ضخمًا يدور. ولن يكون بالإمكان إعادة الرأسمالية إلا بعد سحق العمال والطلاب اليوغوسلاف في صراع صدامي. إنهم لن يتخلوا عن وسائلهم الإنتاجية المشتركة ونمط الإنتاج الجديد عن طيب خاطر تمامًا كما أن الرأسماليين لن يتخلوا عن نمطهم الإنتاجى دون صراع حتى الموت. إن العمال اليوغوسلاف واعون لمصالحهم الطبقية، حتى وإن كان بالإمكان خداعهم سياسيًّا. إنهم سوف يدافعون عن أنفسهم بقوة. وكلما كانت الديموقراطية الاشتراكية أوفر، وكلما كان التعبير عن النفس أوفر، كلما ازدادت قوة إمكانيات مقاومة العمال لهذه العودة.
أما أولئك الذين يعتقدون أن بالإمكان منع مثل هذه العودة في يوغوسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا عن طريق التدخل العسكري من الخارج، بتقويض الديموقراطية العمالية، بتقويض التعبير الحر للعمال وبفرض نظام ديكتاتوري يرفضه 99 فى المائة من الطبقة العاملة، فإنهم يقترفون خطأ مميتًا. إذا كان خطر العودة الرأسمالية سوف ينمو في تشيكوسلوفاكيا، فإن ذلك سيكون نتيجة للتدخل السوفييتي هناك الذى يمكنه أن يخلق مناخًا سياسيًّا مضادًّا للثورة على الأقل بين أجزاء من الشعب العامل. قبل هذا الغزو، كانت الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة التشيكوسلوفاكية مع الاشتراكية. وشكوكها في الاشتراكية هى نتيجة للتدخل السوفييتي، وليست سببًا لهذا التدخل (تصفيق).
س: ألا ينبغي للحوافز المعنوية أن تأخذ الأولوية على الحوافز المادية في بناء اقتصاد اشتراكي؟
ج: إنني بالتأكيد معارض للحوافز المادية المفرطة. لقد كتبت مقالاً نشر في كوبا خلال المناظرة بين تشي جيفارا وخصومه في عام 1964 حول هذه المسألة. وقد حبذت فيه بحزم شديد حوافز مادية محدودة للغاية - وذات طبيعة جماعية لا فردية. وهذا الموقف مماثل للموقف الذي تبناه الرفاق الكوبيون أنفسهم في هذه المسألة.
إن الرفيق الذي طرح هذا السؤال يبدو أنه يتجاهل حقيقتين جد أساسيتين. أولاً وقبل كل شيء، أن المحاكمة الأصلية المحبذة للحوافز المادية إنما تعود إلى لينين وليس إلى خروشوف. ويمكنك القول إن لينين كان مخطئًا؛ بيد أنه لا بد لك على الأقل من أن تملك قدرًا من النزاهة وتقول إنها تعود إلى لينين.
ثانيًا، لا ينبغي لك طمس الحقيقة التاريخية التي تتمثل في أن الحوافز المادية قد طبقت على أوسع نطاق ممكن في ظل ستالين. إن متغيرات الأجور في ظل ستالين هي أضخم متغيرات عرفها حتى الآن بلد غير رأسمالي. والواقع أن متغيرات الأجور قد انخفضت نوعًا ما منذ وفاة ستالين. إنها لا تزال جد كبيرة في اعتقادي. وأنا ضد متغير أجري يتجاوز حدًّا محدودًا معينًا. لقد بلغ المتغير الأجري في ظل ستالين1 إلى 50.
فماذا عن صين ماو؟ إن المتغير الأجري المعترف به في مجموعة المرسومات والقوانين الرسمية لجمهورية الصين الشعبية يبلغ 1 إلى 15، وهو في اعتقادي أكثر من ذلك بثلاثة أضعاف على الأقل. في هذا النوع من النقاش، ينبغى للمرء أن يكون موضوعيًّا في تعامله مع الحقائق القائمة وألا يقيم فضيحة كبرى حول بعض البلدان بينما يلزم جانب الصمت حول بلدان أخرى.
إنني شخصيًّا على ثقة من أن المتغير الأجري في تشيكوسلوفاكيا هو أقل من ذلك الموجود في الصين. وعلى الرغم من أنني لا أملك معطيات ملموسة، فإنني سوف أصاب بالدهشة إذا ما تكشف أنه يبلغ 1 إلى 15 في تشيكوسلوفاكيا. على أي حال، إنه كبير للغاية في كل هذه البلدان، وينبغي أن يكون خوض نضال منسجم من أجل المساواة أحد الأهداف الرئيسية للطلائع في هذه البلدان.
لكنه ينبغي لكم الاعتراف بالحقائق على نحو ماهي عليه لا خلق قضية خاصة بالنسبة لبعض البلدان وإغماض أعينكم عما يسود في بلدان أخرى أو فترات أخرى.


IIا . الدور المتغير للجامعة البورجوازية
على امتداد السنوات الخمس والعشرين الماضية، شهدت وظيفة الجامعة في الغرب تبدلاً تدريجيًّا. وفي هذه السيرورة، كانت الجامعة، إلى حد كبير، موضوعًا وليست هدفًا لتغير اجتماعي مبرمج، وهو موضوع يمكن اختصاره في صيغة "الانتقال من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة في تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي" أو بكلمات أقل "ظهور النيو رأسمالية".
لقد كانت وظيفة الجامعة خلال المرحلتين السابقتين في تاريخ الرأسمالية تتمثل بالدرجة الأولى في تزويد أذكى أبناء – و، بدرجة أقل، أيضًا بنات - الطبقة الحاكمة بالتعليم الكلاسيكي اللازم وتأهيلهم لإدارة الصناعة والبلد والمستعمرات والجيش إدارة فعالة.
إن تدريبًا على التفكير المنظم وحفز طرق للبحث المستقل وإرساء خلفية ثقافية مشتركة، والروابط غير الرسمية المستندة إلى هذه الخلفية، بين "الصفوات" في كل مجالات الحياة الاجتماعية (نظام "الرابطة الدراسية القديمة") –ذلك كان الدور الأولي للتعليم الجامعي بالنسبة للغالبية الواسعة من الطلاب.
أما التدريب المهني المتخصص فلم يكن غير نتاج فرعي. فحتى في العلوم الطبيعية، كان التركيز يوضع عامة على النظرية الخالصة. وقد أدى أسلوب تمويل التعليم العالي في الممارسة العملية إلى "احتكار" الطبقة الحاكمة "للمعرفة". والواقع أن معظم الخريجين الجامعيين كانوا مستقلين مهنيًّا، وكانوا أعضاء في المهن الحرة ورجال أعمال – أو مرتبطين ارتباطًا مباشرًا بأشخاص ذوي مكانة مستقلة.
وقد غيرت النيو رأسمالية كل ذلك تغييرًا أساسيًّا. إن سمتين من سمات النيو رأسمالية قد أنتجتا هذا التغير: (1) الطلب على العمل المتخصص تقانيًّا في الصناعة وفي جهاز الدولة الآخذ في التضخم؛ (2) ضرورة الاستجابة للسعي المتزايد إلى التعليم العالي، والذي بدأت الطبقة المتوسطة والموظفون الحكوميون والعمال ذوو الياقات البيضاء بل و – بدرجة أقل، العمال الماهرون ذوو الياقات الزرقاء، في السعي إليه كوسيلة لتحسين أحوالهم الاجتماعية، نتيجة لارتفاع المستوى المعيشي.
وهكذا عكس الانفجار الجامعي الذى ما زلنا نشهده طلبًا متزايدًا بشدة على العمل الثقافي وعرضًا متزايدًا لا يقل شدة.
ولم تكن الجامعة مهيأة لذلك، لا من حيث محتوى التعليم العالي نفسه، ولا من حيث هيكلها الأساسي المادي وتنظيمها الإداري. وقد نُظر إلى هذا الفشل للجامعة في التكيف مع متطلبات النيو رأسمالية ، دون أن تكون هذه النظرة غير صائبة، بوصفه أحد أسباب التمرد الطلابي العالمي. بيد أنه لمن طبيعة مجتمعنا القدرة على إجبار الجامعات على التكيف مع هذه الحاجات التي للطبقة الحاكمة. وفي إطار النيو رأسمالية ، فإن الإصلاح التكنوقراطي للجامعة – التحول من جامعة كلاسيكية إلى جامعة تكنوقراطية – لا مفر منه. إن التمرد الطلابي ليس مجرد رد فعل على فشل الجامعات الحالية في التكيف؛ إنه في الوقت نفسه رد فعل ضد المحاولة – التي لقيت نجاحًا كبيرًا حتى الآن- الرامية إلى تحقيق هذا التكيف على أساس الخضوع شبه الكامل لمطالب ومصالح النيو رأسمالية.
إن الصلة بين هذه الثورة الصناعية الثالثة – التي تسمى غالبًا بـ "الثورة التكنولوجية –العلمية"، والطلب المتزايد على العمل الثقافي والإصلاح الجامعي التكنوقراطي، هي صلة جلية للعيان. فالثورة الصناعية الثالثة تتميز إلى حد معين بإعادة إدماج واسعة للعمل الثقافى في الصناعة والإنتاج، بل وفي عملية العمل ، يرمز إليها أخصائي الإلكترونيات الذي يُشَغِّل عمليات الإنتاج المؤتمتة ويراقبها.
وهكذا، فإن "سوق عمل" فعلية للخريجين الجامعيين آخذة في التطور. ويتولى الباحثون عن الموهوبين فرز كل دفعة جديدة من خريجي الجامعات المهمة في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى واليابان ويجرى تطبيق الممارسة نفسها بشكل متزايد في البلدان الأوروبية الغربية. ويحدد قانون العرض والطلب أجور العمال الفكريين مثلما حَدَّدَ أجور العمال اليدويين لمائتي سنة.
هكذا تجرى عملية بلترة العمل الفكري. لأن البلترة لا تعني في المحل الأول (ولا حتى في بعض الأحوال) استهلاكًا محدودًا أو مستوى معيشة منخفضًا، وإنما اغترابًا متزايدًا، إخضاعًا متزايدًا للعمل لمطالب ليس لها بعد أي تماشٍ مع المواهب الخاصة أو تحقيق الحاجات الجوهرية للناس.
وحتى تنجز الجامعة وظيفة تدريب الاختصاصيين الذين تحتاجهم الشركات الكبرى، لابد من إصلاح التعليم العالي في اتجاه وظيفي. وقد "اكتشف" المتخصصون في النمو الاقتصادي أن أحد أسباب بطء نمو الناتج القومي الإجمالي في بريطانيا العظمى يتمثل في التأكيد المفرط على العلم النظري في الجامعات على حساب العلم التطبيقي. إن السعي الحثيث إلى تكييف التعليم العالي لتلبية حاجات عملية هو سعي يجري حفزه بشتى السبل – وذلك في الوقت نفسه الذي يسلِّم فيه أذكى سادة الاحتكارات الكبرى بأن البحث النظري الخالص هو في المدى الطويل أكثر فائدة من البحث الذى يترسم سياسات مقررة سلفًا، حتى في المجال "الاقتصادي الخالص".
إن الاتجاه إلى جعل الجامعة ذات طابع وظيفي إنما يجري دفعه إلى أقصى حد حين يجري إخضاع التعليم والبحث الأكاديمي لمشروعات محددة لشركات خاصة أو لهيئات حكومية (ويتوارد إلى الذهن في هذا الصدد ربط بعض المعاهد البريطانية والأمريكية بالبحث في الأسلحة البيولوجية، وأيضًا ألعاب الحرب التي تدرسها بعض المعاهد الأمريكية، وهي ألعاب تتعلق بالحروب الأهلية في بلد كولونيالي أو آخر). غير أنه ينبغي النظر إلى هذه الحالات القصوية على نحو ماهي عليه - أي اعتبارها أمثلة قصوية لا تمثل بأي حال جوهر عملية إضفاء الطابع الوظيفي، التي هي جوهر الجامعة المقومة تكنوقراطيًّا.
إن التخصص الشديد وإضفاء الطابع الوظيفي على العمل الثقافي وبلترة هذا العمل إنما تشكل المظهر الموضوعي للاغتراب المتزايد للعمل وهي تؤدي لا محالة إلى إدراك ذاتي متزايد للاغتراب. فالشعور بفقدان السيطرة على محتوى وتطور العمل الخاص للمرء هو شعور منتشر اليوم بين من يسمون بالاختصاصيين، بمن فيهم خريجي الجامعات، انتشاره بين العمال اليدويين.
وتوقع هذا الاغتراب بين الطلبة أنفسهم، في ارتباط مع السخط على الهيكل الاستبدادي للجامعة، يلعب دورًا مهمًّا كقوة محركة للتمرد الطلابي.
منذ ستين سنة خلت، كانت التبريرات المحافظة أو الليبرالية للنظام الاجتماعي القائم ذات قدرة كبيرة على الإقناع إذ كان من الصعب الشك في استقرار النظام حتى من جانب أشد نقاده جذرية. وفي أحسن الأحوال، لم تكن الثورة الاجتماعية مطروحة في جدول الأعمال إلا بالنسبة للبلدان قليلة التطور. أما بالنسبة للغرب نفسه، فقد كانت هدفًا مستقبليًّا غامضًا.
ومنذ ذلك الحين، أدت حربان عالميتان وأزمات اجتماعية واقتصادية عديدة وثورات مختلفة إلى تغيير هذه النظرة تغييرًا هائلاً. وإنه لعلى وجه التحديد لكون النظام الاجتماعي القائم أقل استقرارًا بكثير مما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى، فإن وظيفة التعليم البورجوازي لم تعد تتمثل بالدرجة الأولى في التبرير النظري وإنما في الإصلاح العملي والتدخل من أجل التغلب على أزمات معينة. بيد أنه لهذا الأسباب عينها، أصبح من الأيسر بكثير تحدي النظام الرأسمالي من الزاويتين النظرية والعملية على حد سواء في الجامعات مما كانت عليه الحال في الماضي. فهذا النظام ينظر إليه بوصفه مجرد شكل من أشكال ممكنة عديدة لا بوصفه واقعًا بديهيًّا.
وهكذا نجد أمامنا الوضع ثلاثي الأركان الخاص الذي أدى إلى صعود الحركة الطلابية. فمن زاوية، ثمة عدم رضا متزايد عن النظام القائم والذى لا يستطيع أحد بالكاد إنكار أنه يجتاز أزمة. والإصلاح النيو رأسمالي للجامعة، الذي يجري تنفيذه بطريقة استبدادية، والمفروض على الطلبة إلى حد بعيد، لا يمكنه إلا أن يزيد من هذا السخط.
ومن ناحية أخرى، فإن الهياكل الناقدة التقليدية، أي، الأحزاب السياسية اليسارية، و، أساسًا، الحركة العمالية، قد كفت عن لعب دروها، دور المعارض الجذري للمجتمع القائم، لأسباب لا يمكنني الخوض فيها هنا. وبما أن الطلبة الناقدين لا يجدون أي إمكانية لمعارضة ومواجهة جذريتين داخل هذه الهياكل، فإنهم يحاولون تحقيق ذلك خارج الأحزاب والبرلمان ووسائل الاتصال الجماهيري التى يجري التلاعب بها. بيد أنهم لكونهم لا يملكون الثقل الجماهيري أو الاجتماعي اللازم لتحويل المجتمع هم أنفسهم، فإن نشاطهم يقتصر على محاكاة ثورة اجتماعية كهذه لكي يضربوا مثلاً ينحصر في نوع من الإعلان.
وبالنسبة لبعض الراديكاليين الطلاب، فإن هذا الإعلان يتحول من وسيلة إلى هدف في حد ذاته. وبهذه الطريقة، على الرغم من لفظيتهم الراديكالية، فإنهم يصبحون ضحايا لأحدى الظواهر شديدة النموذجية لمجتمع قائم على تقسيم شديد للعمل، ظاهرة الوعي الجزئي ومن ثم الزائف. ويبذل راديكاليون طلاب آخرون محاولة للتصرف عقلانيًّا، أي أنهم يحاولون التصرف كمثل يُحتَذَي، بشكل مختلف، للطبقة العاملة، كمفجر يمكنه إحداث انفجار بين هذه الجماهير الأوسع. وقد بينت أحداث مايو/ أيار 1968 في فرنسا أن هذا ليس غير واقعي. بيد أن هذه الأحداث قد بينت أيضًا أن التمرد الطلابي كتمرد طلابي لا يمكنه أن يكون بديلاً عن طليعة ثورية للطبقة العاملة مثقَّفة سياسيًّا ومتماسكة تنظيميًّا.
هكذا يظهر أن الجامعات الحالية محاصرة بين ضغطين متنازعين. فمن ناحية، يجري دفع الإصلاح التكنوقراطي من الخارج لحساب الطبقة الحاكمة. ومن الناحية الأخرى، ينبثق تحد راديكالي من داخل الجامعات، لكنه في غياب تأييد من جانب قطاعات أخرى من المجتمع، يغرق في الطوباوية والعجز.
فهل هناك أي مخرج من هذه المعضلة؟ هل الطلاب – و"المثقفون" عامة - مقضي عليهم بأن يختاروا إما الإندماج في النظام الاجتماعي (ربما كان من الأنسب تسميته بالفوضى الاجتماعية!) اللاعقلاني واللاإنساني القائم أو الانخراط في إيماءات تمرد يائس من جانب أفراد أو جماعات صغيرة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تفترض رأيًا في قدرة المجتمع النيو رأسمالي على التغلب على أهم تناقضاته المتأصلة فيه. وخلافًا لماركيوز وآخرين فنحن نبدأ من الموقف القائل بأن أهم تناقض في المجتمع الرأسمالي – في مرحلة النيو رأسمالية كما في مرحلتيه السابقتين- هو التناقض بين رأس المال والعمل في العملية الإنتاجية.
ولهذا، فإننا على ثقة من أن العمال لا يمكن في الأمد الطويل إدماجهم في النيو رأسمالية، لأن التناقض الأساسي بين رأس المال والعمل سوف يعاود الظهور دومًا، سواء حدث ذلك في مجال الاستهلاك أم لم يحدث. وبالإضافة إلى ذلك، فإن دلائل عديدة تشير إلى أن مركز جاذبية الصراع الطبقي، في البلدان الغربية الصناعية، يتحول ببطء، ولكن بثبات، عن مسائل تقسيم الدخل القومي بين الأجور والأرباح إلى مسألة من يقرر ما ينتج وكيف ينبغي إنتاجه وكيف ينبغي تنظيم العمل لإنتاجه.
وإذا ما أثبتت الأحداث موقفنا – والكثير مما حدث في السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة في مصانع ثلاثة بلدان غربية (فرنسا، إيطاليا وبريطانيا العظمى) يظهر أنه يثبته في الواقع- فإن المعضلة المشار إليها لا تقول كل ما يمكن قوله في مسألة دور الجامعة في التغيير الاجتماعي المُبَرْمَج.
هناك مخرج من هذه المعضلة إذ لا تزال توجد قوة تملك القدرة على إحداث تغيير جذري للمجتمع. وعندما لا تسمح الجامعة المعاصرة لنفسها بالوقوع في مصيدة إضفاء الطابع التوظيفي النيو رأسمالي ، فإن بوسعها أيضًا الإفلات من الجانب الآخر للمعضلة – التمرد الكيخوتي*. إن بوسع الجامعة أن تكون مهد ثورة فعلية.
وينبغي لنا فورًا إدخال تحذير في هذه الحجة. إننا في أي وقت نتحدث فيه عن "الجامعة"، فإننا نقصد أناس الجامعة بشكل جماعي، أي المدرسين والطلاب. نحن لا نقصد الجامعة بوصفها مؤسسة. فالجامعة، بوصفها مؤسسة، مندمجة في الهيكل الاجتماعي القائم. ولا يمكن للطلاب والأساتذة والعمال تمويل ورعاية أي جامعات في التحليل الأخير طالما ظل فائض القيمة الاجتماعي غير مُشَرَّك، أي، طالما بقينا في مجتمع رأسمالي. وفي الأمد الطويل، فإن الجامعة بوصفها مؤسسة تظل مشدودة بأغلال ذهبية إلى سلطة الطبقة الحاكمة. ودون تحويل جذري للمجتمع نفسه، فإن الجامعة لا يمكنها أن تشهد أي تحويل جذري أكيد.
لكن ما هو مستحيل بالنسبة للجامعة كمؤسسة ممكن بالنسبة للطلاب كأفراد وفي جماعات. وما هو ممكن بالنسبة للطلاب كأفراد وجماعات يمكنه، على المستوى الجماعي، الانبثاق بشكل مؤقت كإمكانية بالنسبة للجامعة ككل. إن دور الطلاب كقوة محركة ومبادرة بالنسبة لإعادة تجديد المجتمع ليس جديدًا. فماركس ولينين وفيدل كاسترو، فى نهاية الأمر، كانوا مثقفين لا عمالاً يدويين.
إن البدء مرة أخرى شأن رواد الحركة العمالية الحديثة ونشر الوعى الإشتراكى الثورى المعادى للرأسمالية في صفوف الطبقة العاملة، هو اليوم ممكن بالنسبة للطلبة والمثقفين مثلما كان ممكنًا بالنسبة لهم خلال الأرباع الثلاثة الأخيرة لمائة سنة خلت. لكن هذه المهمة أشد صعوبة إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي تجرى فيها محاولة تحقيقها ولأن جبلاً من الإخفاقات وخيبات الأمل ينيخ بكلكله على وعي الجماهير الواسعة.
إلاَّ أنَّ هناك مؤشرات كثيرة على أن الأجيال الجديدة من العمال ذوي الياقات الزرقاء وذوي الياقات البيضاء لا تعاني من هذه الريبية بتلك الدرجة الكبيرة التي عند الجيل الأكبر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بالإمكان تطوير روابط بين الطلاب والعمال الشبان، مثلما حدث في بلدان غربية عديدة. فبمجرد التغلب على الصعوبة الأولية، تصبح المهمة أوتوماتيكيًّا أسهل مما في القرن التاسع عشر، لأن الشروط الموضوعية أكثر نضجًا.
إن ما يتعين على الجامعة تقديمه للعمال الشبان هو أولاً وقبل أي شيء آخر ثمرة الإنتاج النظري، أي، المعرفة العلمية، لا أشياء عقيمة كالنزعة الشعبوية المازوخية لدى بعض الطلبة الذين يريدون الذهاب "إلى العمال" بأيدٍ فارغة ورؤوس فارغة لكي يقدموا لهم عضلاتهم وحبالهم الصوتية. فما يحتاجه العمال أكثر من أي شيء آخر هو المعرفة، هو النقد الجذري للمجتمع القائم، هو التعرية المنهجية لكل الأكاذيب وأنصاف الحقائق التي تبتدعها وسائل الاتصال الجماهيري.
ووضع هذه المعرفة في كلمات تستطيع الجماهير فهمها ليس أمرًا سهلاً. لكن عملية التبسيط تعقب عملية استيعاب المعرفة الحقيقية. وإنه لفي هذا المجال الأخير يمكن لجامعة ناقدة فعلاً تقديم نقد للمجتمع القائم ككل ولأجزائه يكون جذريًّا وحاليًّا بشكل متزايد لكونه جادًّا ومدروسًا ومتضمنًا لكم هائل من المعطيات الواقعية.
والمعطيات الأساسية لمثل هذه المهمة، يمكن للطلاب والأكاديميين الحصول عليها بشكل أيسر ألف مرة مما هي الحال بالنسبة لأولئك الذين تواجههم مهمة كسب عيشهم في العالم المهني اليومي. إن جمع المعطيات الأساسية والتعامل معها يشكل خطوة عملية في اتجاه النقد الذاتي والتغيير الاجتماعي من جانب الجامعة المعاصرة.
لقد قلنا إن أهم إسهام، كنقطة بداية على الأقل، يمكن للطلاب تقديمه في اتجاه التحويل الجذري للمجتمع إنما يكمن في مجال الإنتاج النظري. بيد أنه لا حاجة هناك لاقتصارها على الإنتاج النظري الخالص. فبوسعها أن تكون جسرًا إلى التطبيق التجريبي العملي، أو البحث العملي التجريبي. وكلما تزايد عدد الطلاب واتسع التحدي الطلابي، اتسعت إمكانيات توحيد النظرية والممارسة العملية.
إننا نملك ذخرًا ثريًّا من الأدبيات حول مشكلة العمل المغرَّب – كتب 90 % منها فلاسفة أو علماء اجتماع او اقتصاديون عارفون، وكتب 10% منها عمال ثقفوا أنفسهم بأنفسهم. وقد حاول عدد قليل من القساوسة والرعاة الكنسيِّين أن يضيفوا إلى الدراية النظرية السابقة بهذه المشكلة تجربة عملية في المصانع.
لماذا لا ينبغي للطلاب العاملين في الطب والفيسيولوجيا والسيكولوجيا البدء بتطبيق مثل هذه التجارب، وعلى نطاق واسع، على خبراتهم الخاصة في مشروع حديث، وأساسًا على وصف خبرات زملائهم العمال وتحليلها؟ إن طلاب الطب الناقدين سوف يكون بوسعهم تحليل مشكلة الإرهاق، مشكلة الإحباط الناشئ عن العمل الآلي المغَرَّب، عن الكثافة المتزايدة أبدًا للعمل، بشكل أحسن من الأطباء الوضعيين – إذا ما جمعوا مهارة مهنية حقيقية واستيعاب للظواهر الاجتماعية في سياقها الكامل، وأغنوا ذلك بالخبرة الشخصية.
لكن هذ المثال مثال واحد فقط من أمثلة عديدة. إن تحويل وسائل الاتصال الجماهيري من أدوات لإنتاج الإذعان إلى أدوات لنقد المجتمع هو شيء يمكن اختباره بدقة ويمكن أن يغدو فعالاً للغاية. إن البوليس يستخدم أفلام التظاهرات لتيسير القمع. وأفلام الهواة الراديكالية – التي يستطيع عشرات الآلاف من الناس إنتاجها - يمكن استخدامها هي الأخرى في تدريب المتظاهرين على الدفاع الذاتي ضد القمع.
ويمكن استخدام التكنولوجيا المعاصرة في لحظات مختلفة عديدة كوسيلة لتعرية الهياكل القمعية القائمة وكوسيلة لتعجيل التحرر الذاتي للجماهير. هنا مجال نشاط غير مستغَلٍّ ويمثل تحديًا وهو مجال نشاطٍ الشرطُ الأوَّليُّ فيه بالنسبة للطلاب والأكاديميين من كل التخصصات العلمية هو: لتبدأوا أنتم أنفسكم بالتغلب على التناقض بين النظرية والممارسة العملية.
هنا ينبثق إسهام آخر يمكن للجامعة تقديمه للتحويل الجذري للمجتمع. فالجامعة، كمؤسسة دائمة، تظل خاضعة لتحكم الطبقة الحاكمة. بيد أنه حيثما يكتسب نضال المجموع الجامعي من أجل التسيير الذاتي اتساعًا يسمح بحدوث تحول مؤقت في هذا المجال، فإن الجامعة تصبح، لفترة قصيرة، مدرسة للتسيير الذاتي بالنسبة للشعب كله. ذلك ما حدث في السوربون في باريس في مايو/ أيار 1968؛ ذلك ما حدث، بين أماكن أخرى، في شيكاغو في مايو/ أيار 1970. إن هذه الأمثلة محدودة للغاية في اتساعها وأمدها. بيد أن جاذبية مثل هذه الأمثلة بالنسبة للجماهير الواسعة يمكن في ظروف مؤاتية أن تكون واعدة للغاية.
وبمعنى معين، فهذه هي المشكلة المركزية لـ "التغيير الاجتماعي المبرمج". برمجة لمن وعن طريق من؟ تلك هي المسألة. إن الحجة التي يسوقها خصوم التسيير الذاتي الديموقراطي في الجامعات كما في المصانع تدور حول الكفاءة. إذ يجري تقسيم المجتمع إلى أرباب عمل "أكفاء" وعمال "غير أكفاء". ولندع جانبًا مسألة ما إذا كانت "كفاءة" أرباب العمل تجيز لهم تبرير احتفاظهم بوظيفة اتخاذ القرار. إننا عندما نقارن هذه الكفاءة المزعومة مع النتائج، على الأقل فيما يتعلق بالمجتمع، فسنجد ولو أسبابًا قليلة للشك فيها.
على أن الحجة الحاسمة ضد هذا المفهوم لا تتأثر بحكم قيمة كهذا. فمع تطور العقول الإلكترونية والجامعة التي جرى إضفاء الطابع الوظيفي عليها، ينبثق نظام يسبر فيه التحكم في روافع القوة الاقتصادية، وتركز القوة الاقتصادية، جنبًا إلى جنب احتكار متزايد للوصول إلى تركز معلومات لا يقل فظاعة. ولأن الأقلية الاجتماعية نفسها تُحكم القبضة على السلطة والمعلومات بينما تصبح المعرفة العلمية أشد تخصصًا وجزئية، فإن فجوة متزايدة الاتساع تأخذ في التطور بين الكفاءة المهنية التفصيلية وتركز المعلومات الذى يسمح باتخاذ القرارات الاستراتيجية الممركزة.
إن بوسع أعضاء مكتب مديري شركة متعددة الجنسية ترك آلاف القرارات الصغيرة لـ "المهنيين الأكفاء". إلا أنه، بما أن المديرين وحدهم هم الذين يحصلون على الحصاد النهائي لعملية جمع المعلومات، فإنهم هم وحدهم "الأكفاء" بالنسبة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية المركزية.
إن التسيير الذاتي يتغلب على هذه الفجوة عن طريق تزويد الجماهير بالمعلومات اللازمة لتسليحها بالقدرة على فهم ما هو متضمن في القرارات المركزية الاستراتيجية. إن أي فرد من الجمهور يملك "كفاءة" في هذا التفصيل أو ذاك لا يلعب دورًا مشاركًا في اتخاذ هذه القرارات إلا عندما يكون التعاون لا التزاحم بين الأفراد هو القاعدة الاجتماعية.
وإذا ما بقي النظام الرأسمالي، على الرغم من الأزمة الهائلة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية والناشئة عن التقدم التكنولوجي، فإن الاغتراب المتزايد لـ "المهنيين المؤهلين" عن "الجماهير غير المؤهلة" لا مفر منه. إلاَّ أنه، إذا ما استعيض عن نظام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وقرارات الاستثمار المستقلة من جانب الشركات، والإنتاج السلعي المعمَّم، بتسيير ذاتي ممركز ومخطط على نحو ديموقراطي من جانب كل المنتجين والعمال، فإن مصلحة اجتماعية عامة تنبثق جَرَّاء إزالة "عدم الكفاءة" بوجه عام. وسوف تنعكس هذه المصلحة الاجتماعية في اتجاه نحو التعليم الأعلى المعمَّم.
إن الاستبعاد المتزايد للعمل غير الماهر من العملية الإنتاجية، واستبعاده من القطاع الثالث، أيضًا، هو مسألة وقت لا أكثر – إنما يجعل مثل هذا التعليم الأعلى الشامل ضرورة مطلقة فعلاً، حيث إنَّ قطاعًا متزايدًا من السكان سوف يكون مقضيًّا عليه بأن يوجد في وضعية عاطلين غير قابلين للتشغيل وسط ثروة اجتماعية ضخمة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإصلاح الجامعي التكنوقراطي وإضفاء الطابع الوظيفي على الجامعة – النزول بالتعليم الأعلى إلى درك نزعة مهنية مجزأة وشديدة التخصص وغير متكاملة – مايسميه الطلبة الألمان الراديكاليون FACHIDIOTISMUS [البلاهة المهنية]– قد تحول بشكل متزايد إلى انعدام كفاءة منظم.
إن أحد الاتهامات الأشد حدة التي يمكن توجيهها إلى الفوضى الاجتماعية القائمة هو أن مستوى التعليم الجامعي ينحطُّ بشكل ثابت بدلاً من أن يرتفع، وذلك في فترة تتسع فيها المعرفة العلمية بسرعة متفجرة. وهكذا، فإن التعليم الأعلى عاجز عن الاستغلال الكامل للإمكانية الثرية للقوة المنتجة العلمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه ينتج قوة عمل غير مؤهلة، ليس بالمعنى المطلق، طبعًا، وإنما بالمقارنة مع الإمكانيات التي يخلقها العلم.
إن بعض المتحدثين بلسان النيو رأسمالية يعلنون على الملأ ما يريدون، كواضعي برنامج الإصلاح الجامعي الألماني الغربي. ولذا فمن الطبيعي بالنسبة لهم أن يهاجموا ساخرين الطابع الليبرالي الزائد للجامعة الهومبولدتية** القديمة. إنهم يعترفون بأنه من وجهة نظرهم، أي، من وجهة نظر النيو رأسمالية، بأنه ينبغي تقليص حرية الطلاب في القراءة والدراسة وحضور المحاضرات التي يختارونها.
الإخضاع – لا إخضاع الإنتاج للحاجات الإنسانية بل إخضاع الحاجات الإنسانية للإنتاج - ذلك هو جوهر الرأسمالية عينه.
ولهذا، فإن التسيير الذاتي هو مفتاح التطورات الشاملة لكلٍّ من الكفاءة العلمية والقوة الإنتاجية الممكنة للعلم. إن مستقبل الجامعة ومستقبل المجتمع يتقاطعان هنا لكي يتداخلا في النهاية. وعندما يقال إن أناسًا عديدين ليسوا مؤهلين لتعليم جامعي، فمما لا شك فيه أن ذلك أمر بديهي ... في سياق مجتمعنا الحاضر. بيد أن هذه ليست مسألة لا أهلية مقررة فسيولوجيًّا أو وراثيًّا بل هي سيرورة طويلة لاختيار مسبق من جانب البيئة المنزلية والاجتماعية.
وعلى أي حال، فعندما نعتبر أن مجتمعًا يُخضع تطور الناس لإنتاج الأشياء إنما يوقف الهيراركية الحقيقية للقيم على رأسها، يمكننا أن نزعم أنه، باستثناء حالات هامشية، لا يوجد شيء حتميٌّ فيما يتعلق بهذه اللا أهلية. وعندما يعاد تنظيم المجتمع بشكل يسمح بإعطاء الأولوية لتعليم الناس على مراكمة الأشياء ويتحرك في الاتجاه المعاكس للاختيار المسبق والتزاحم الحاليين – أي يحيط كل طفل قليل الموهبة بعناية أكثر تسمح له بالتغلب على "إعاقته الطبيعية" – فإن تحقيق التعليم الأعلى الشامل لا يظهر مستحيلاً.
وهكذا، فإن التعليم الأعلى الشامل، وخفض يوم العمل إلى النصف، والتسيير الذاتي الشامل للاقتصاد، والمجتمع القائم على وفرة الخيرات الاستهلاكية هي الجواب على مشكلة القرن العشرين- ما الذي سوف يُعَلِّمُهُ المُعَلِّمُون؟ "من الذي سيراقب كلاب الحراسة؟". عندئذٍ سيصبح التطور الاجتماعي سيرورة أساسية من سيرورات التثقيف الذاتي لكل إنسان. عندئذٍ ستكتسب كلمة "التقدم" معنى واقعيًّا – عندما تمتلك البشرية القدرة على تقرير مصيرها الاجتماعى تقريراً واعيًا وبالاعتماد على نفسها هي فقط.

إشارات

* نسبة إلى دون كيخوته، بطل رواية سرفانتس الشهيرة .
** نسبة إلى فيلهيلم فون هومبولدت (1767-1835) الذي تولى إصلاح التعليم في بروسيا في أواخر العقد الأول وأوائل العقد الثاني من القرن التاسع عشر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024